محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

أجبنا عنه بعين هذا الجواب ، وقلنا بان الواجب هو الجامع بينهما لا خصوص هذا وذاك ، فاذن لو أتى المكلف بأحدهما وترك الآخر فلا يكون تاركاً للواجب.

وعلى الجملة فلا فرق بين الافراد العرضية والطولية من هذه الناحية أصلا ، فكما ان الواجب هو الجامع بين الافراد العرضية ، فكذلك هو الجامع بين الافراد الطولية ، فكما ان المكلف مخير في تطبيقه على أي فرد من افراده العرضية ، فكذلك هو مخير في تطبيقه على أي فرد من افراده الطولية ، ولا يكون تركه في ضمن فرد ، والإتيان به ضمن فرد آخر تركا للواجب من دون فرق في ذلك بين الافراد العرضية والطولية أصلا ، فاذن لا وجه لهذا الإشكال أبداً. واما في الثاني وهو الإشكال في إمكان وجود المضيق فبدعوى ان الانبعاث لا بد وان يتأخر عن البعث ولو انا ما ، وعليه فلا بد من فرض زمان يسع البعث والانبعاث معاً أعني الوجوب وفعل الواجب ولازم ذلك هو زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب ـ مثلا ـ إذا فرض تحقق وجوب الصوم حين الفجر فلا بد وان يتأخر الانبعاث عنه آنا ما وهو خلاف المطلوب ضرورة ان لازم ذلك هو خلو بعض الآنات من الواجب ، وإذا فرض تحقق وجوب الصوم قبل الفجر يلزم تقدم المشروط على الشرط وهو محال ، وعليه فلا بد من الالتزام بعدم اشتراطه بدخول الفجر لئلا يلزم تقدم المعلول على علته ، ولازم ذلك هو عدم إمكان وجود الواجب المضيق.

ويرد على ذلك أولا ان الملاك في كون الواجب مضيقاً هو ما كان الزمان المحدد له وقتاً مساوياً لزمان الإتيان بالواجب بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة ، واما كون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب أو مساوياً له فهو أجنبي عما هو الملاك في كون الواجب مضيقاً ، ومن هنا لا شبهة في تصوير الواجب المضيق والموسع على القول بالواجب المعلق ، مع ان

٦١

زمان الوجوب فيه أوسع من زمان الواجب ، ولن يتوهم أحد ولا يتوهم انه لا يتصور المضيق على هذه النظرية كما هو واضح. وثانياً ان تأخر الانبعاث عن البعث ليس بالزمان ليلزم المحذور المزبور ، بل هو بالرتبة كما لا يخفى. نعم العلم بالحكم وان كان غالباً متقدماً على حدوثه أي حدوث الحكم زماناً ، إلا انه ليس مما لا بد منه ، بداهة ان توقف الانبعاث عند تحقق موضوع البعث كالفجر في المثال المزبور ـ مثلا ـ على العلم به أي بالبعث رتبي ، وليس زمانياً كما هو واضح كتقدم العلم بالموضوع على العلم بالحكم.

ثم ان مقتضي القاعدة هل هو وجوب الإتيان بالموقت في خارج الوقت إذا فات في الوقت اختياراً أو لعذر أم لا مع قطع النّظر عن الدليل الخاصّ الدال على ذلك كما في الصلاة والصوم ، هذه هي المسألة المعروفة بين الأصحاب قديماً وحديثاً في أن القضاء تابع للأداء أو هو بأمر جديد فيها وجوه بل أقوال : الأول وجوب الإتيان به مطلقاً. الثاني عدم وجوبه كذلك. الثالث التفصيل بين ما إذا كانت القرينة على التقيد متصلة وما إذا كانت منفصلة ، فعلى الأول ان كانت القرينة بصورة قضية شرطية فتدل على عدم وجوب إتيانه في خارج الوقت بناء على ما هو المشهور من دلالة القضية الشرطية على المفهوم ، واما إذا كانت بصورة قضية وصفية فدلالتها على ذلك تبتنيان على دلالة القضية الوصفية على المفهوم وعدم دلالتها عليه. وعلى الثاني (وهو كون القرينة منفصلة) فلا تمنع عن إطلاق الدليل الأول الدال على وجوبه مطلقاً في الوقت وفي خارجه ، ضرورة ان القرينة المنفصلة لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأول في الإطلاق إلى التقييد ، بل غاية ما في الباب انها تدل على كونه مطلوباً في الوقت أيضاً ، فاذن النتيجة في المقام هي تعدد المطلوب بمعنى كون الفعل مطلوباً في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة ومطلوباً في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأول ، وعليه فإذا لم يأتي المكلف

٦٢

به في الوقت فعليه ان يأتي به في خارج الوقت ، وهذا معنى تبعية القضاء للأداء.

ولنأخذ بالنقد على هذا التفصيل وملخصه : هو انه لا فرق فيما نحن فيه بين القرينة المتصلة والمنفصلة ، بيان ذلك ان القرينة المتصلة كما هي تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان ، كذلك القرينة المنفصلة ، فانها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد هو المقيد من الأول ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. نعم فرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي ان القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الإطلاق ، ومعها لا ينعقد له ظهور ، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية ظهوره في الإطلاق دون أصله ، ولكن من المعلوم ان مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في مفروض الكلام ، ضرورة انه لا يجوز التمسك بالإطلاق بعد سقوطه عن الحجية والاعتبار ، سواء أكان سقوطه عنها بسقوط موضوعها وهو الظهور ، كما إذا كانت القرينة متصلة أم كان سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها. كما إذا كانت القرينة منفصلة ، فالجامع بينهما هو انه لا يجوز التمسك بهذا الإطلاق.

وعلى الجملة فالقرينة المنفصلة وان لم تضر بظهور المطلق في الإطلاق إلا انها مضرة بحجيته ، فلا يكون هذا الظهور حجة معها ، لفرض انها تكشف عن ان مراد المولي هو المقيد من الأول ، فاذن لا أثر لهذا الإطلاق أصلا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انها لا تدل على انه مطلوب في الوقت بنحو كمال المطلوب ، ليكون من قبيل الواجب في الواجب ، وإلا لانسد باب حمل المطلق على المقيد في تمام موارد القيود الثابتة بقرينة منفصلة ، سواء أكانت زماناً أو زمانية ، إذ على هذا لا بد من الالتزام بتعدد التكليف وان التكليف المتعلق بالمقيد غير التكليف المتعلق بالمطلق ، غاية الأمر ان المقيد أكمل الافراد ، مثلا الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع طهارة البدن أو اللباس أو مستقبلا إلى القبلة أو ما شاكل

٦٣

ذلك غير الأمر المتعلق بها على إطلاقها ، وعليه فلو أتى بالصلاة مثلا فاقدة لهذه القيود فقد أتى بالواجب وان ترك واجباً آخر وهو الصلاة المقيدة بهذه القيود ، ومن المعلوم ان فساد هذا من الواضحات الأولوية عند الفقهاء ، ولن يتوهم ذلك في تلك القيود ، ومن الطبيعي انه لا فرق بين كون القيد زماناً أو زمانياً من هذه الناحية أصلا ، ولذا لو ورد أعتق رقبة مطلقاً وورد في دليل آخر أعتق رقبة مؤمنة لا يتأمل أحد في حمل الأول على الثاني وان مراد المولى هو المقيد دون المطلق ، ولأجل ذلك لا يجزي الإتيان به ، وكيف كان فلا شبهة في ان ما دل على تقييد الواجب بوقت خاص كالصلاة أو نحوها لا محالة يوجب تقييد إطلاق الدليل الأول وينكشف عن ان مراد المولى هو المقيد بهذا الوقت دون المطلق ولا فرق في ذلك بين كون الدليل الدال علي التوقيت متصلا أو منفصلا وهذا واضح.

فالنتيجة انه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فكما ان الأولى تدل على تقييد الأمر الأول وان مراد المولى هو الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ في هذا الوقت لا مطلقاً ، فكذلك الثانية تدل على ذلك ، فاذن ليس هنا أمر آخر متعلق بالصلاة على إطلاقها ، ليكون باقياً بعد عدم الإتيان بها في الوقت على الفرض.

ولصاحب الكفاية (قده) في المقام تفصيل آخر وإليك نصّ كلامه. ثم انه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاق ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد بحسب تمام المطلوب لا أصله. وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وان لم يكن بتمام المطلوب ، إلا انه لا بد في إثبات انه

٦٤

بهذا النحو من الأدلة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت فتدبر جيداً.

توضيح ما أفاده (قده) هو ان التقييد بالوقت لا يخلو من ان يكون بدليل متصل أو منفصل ولا ثالث لهما ، اما على الأول (وهو ما إذا كان التقييد بدليل متصل) فلا يدل الأمر بالموقت على وجوب الإتيان به في خارج الوقت ، إذ على هذا يكون الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل وهي الحصة الواقعة في هذا الوقت الخاصّ ، وعليه فإذا لم يأت به المكلف في ذلك الوقت فلا دليل على وجوب الإتيان به في خارجه ، وهذا واضح ، واما على الثاني (وهو ما إذا كان التقييد بدليل منفصل) فلا يخلو من ان يكون له إطلاق بالإضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه أولا إطلاق له ، فعلى الأول لا يدل على وجوب الإتيان به في خارج الوقت ، لفرض ان ما دل على تقييده بزمان خاص ووقت مخصوص مطلق وبإطلاقه يشمل حال تمكن المكلف من الإتيان به في الوقت وعدم تمكنه منه ، ولازم هذا لا محالة سقوط الواجب عنه عند مضي الوقت ، وعدم ما يدل على وجوبه في خارج الوقت ، ولا فرق في ذلك بين ان يكون للدليل الأول إطلاق بالإضافة إلى الوقت وخارجه أم لم يكن له إطلاق ، كما لو كان الدليل الدال عليه لبياً من إجماع أو نحوه أو كان لفظياً ، ولكنه لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية ، والوجه في ذلك واضح على كلا التقديرين ، اما على تقدير عدم الإطلاق له فالامر ظاهر إذ لا إطلاق له ليتمسك به ، فاذن المحكم هو إطلاق الدليل المقيد ، واما على تقدير ان يكون له إطلاق فلما ذكرناه غير مرة من ان ظهور القرينة في الإطلاق يتقدم على ظهور ذي القرينة فيه فلا تعارض بينهما بنظر العرف أصلا ، وعلى الثاني (وهو ما إذا لم يكن له إطلاق بالإضافة

٦٥

إلى كلتا الحالتين) فالمقدار المتيقن من دلالته هو تقييد الأمر الأول بخصوص حال الاختيار والتمكن لا مطلقاً ، بداهة انه لا يدل على أزيد من ذلك ، لفرض عدم الإطلاق له ، وعليه فلا بد من النّظر إلى الدليل الأول هل يكون له إطلاق أم لا؟ فان كان له إطلاق فلا مانع من الأخذ به لإثبات وجوب الإتيان به في خارج الوقت.

وبكلمة أخرى ان مقتضى إطلاق الدليل الأول هو وجوب الإتيان بهذا الفعل كالصلاة مثلا أو نحوها مطلقاً أي في الوقت وخارجه ، ولكن الدليل قد دل على تقييده بالوقت في خصوص حال الاختيار ، ومن الطبيعي انه لا بد من الأخذ بمقدار دلالة الدليل ، وبما ان مقدار دلالته هو تقييده بخصوص حال الاختيار والتمكن من الإتيان به في الوقت فلا مانع من التمسك بإطلاقه عند عدم التمكن من ذلك لإثبات وجوبه في خارج الوقت ، ضرورة انه لا وجه لرفع اليد عن إطلاقه من هذه الناحية أصلا ، كما هو واضح.

ثم ان هذا الكلام لا تختص بالتقييد بالوقت خاصة ، بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل ، فان ما دل على اعتبار تلك القيود لا يخلو من ان يكون له إطلاق بالإضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه أو لا يكون له إطلاق كذلك ، والأول كالطهارة ـ مثلا ـ فان ما دل على اعتبارها في الصلاة واشتراطها بها كقوله عليه‌السلام «لا صلاة إلا بطهور» ونحوه مطلق وبإطلاقه يشمل صورة تمكن المكلف من الإتيان بالصلاة معها وعدم تمكنه من ذلك ، وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر بالصلاة عند عدم تمكن المكلف من الإتيان بها معها ، بل قد ذكرنا ان الطهارة من الحدث مقومة لها ، ولذا ورد في بعض الروايات انها ثلث الصلاة ، ومن هنا قوينا سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وعدم وجوبها عليه ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون للدليل الأول أيضاً إطلاق أولا ، وذلك

٦٦

لأن إطلاق دليل المقيد حاكم على إطلاق دليل المطلق فيقدم عليه ، كما هو واضح ، والثاني كالطمأنينة ـ مثلا ـ وما شاكل ذلك ، فان ما دل على اعتبارها في الصلاة لا إطلاق له بالإضافة إلى حالة عدم تمكن المكلف من الإتيان بها معها ، وذلك لأن الدليل على اعتبارها هو الإجماع ، ومن المعلوم ان القدر المتيقن منه هو تحققه وثبوته في حال تمكن المكلف من ذلك لا مطلقاً ، كما هو ظاهر وعليه فلا بد من أن ننظر إلى دليل الواجب ، فان كان له إطلاق فنأخذ به ونقتصر في تقييده بالمقدار المتيقن وهو صورة تمكن المكلف من الإتيان به لا مطلقاً. ولازم هذا هو لزوم الإتيان به فاقداً لهذا القيد ، لعدم الدليل على تقييده به في هذا الحال ، ومعه لا مانع من التمسك بإطلاقه لإثبات وجوبه فاقداً له وهذا الّذي ذكرناه لا يختص بباب دون باب ، بل يعم جميع أبواب الواجبات من العبادات نحوها. وخلاصة ما ذكرناه هي انه لا فرق بين كون القيد زماناً وزمانياً من هذه الناحية أصلا كما هو واضح ، هذا ما أفاده (قده) مع توضيح مني.

والإنصاف انه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص من الالتزام به. نعم بعض عبارته لا تخلو عن مناقشة وهو قوله (قده) وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك يكون بنحو تعدد المطلوب ... إلخ. وذلك لما عرفت من ان الدليل الدال على التقييد ظاهر في تقييد الواجب من الأول سواء أكان الدليل الدال عليه متصلاً أم كان منفصلا فلا فرق بين المتصل والمنفصل من هذه الناحية أصلا ، واما دلالته على كمال المطلوب في الوقت فهو يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلا فهو في نفسه ظاهر في تقييد أصل المطلوب لا كماله ، ومن هنا لم يتوهم أحد ولا يتوهم ذلك في بقية القيود بان يكون أصل الصلاة ـ مثلا ـ مطلوباً على الإطلاق وتقييدها بهذه القيود مطلوباً آخر على نحو كمال المطلوب

٦٧

كيف فان لازم ذلك هو جواز الإتيان بالصلاة فاقدة لتلك القيود اختياراً وهذا كما ترى. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه ان الدليل المقيد ظاهر في تقييد دليل الواجب من الابتداء ، ويدل على ان مراد المولى بحسب اللب والواقع هو المقيد دون المطلق ، ولا يفرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التقييد متصلا أو منفصلا وكون القيد زماناً أو زمانياً ، غاية الأمر إذا كان منفصلا ولم يكن له إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق فيدل على تقييده بحال دون آخر وبزمان دون زمان آخر وهكذا.

فالنتيجة في المقام هي ان مقتضي القاعدة سقوط الأمر عن الموقت بانقضاء وقته وعدم وجوب الإتيان به في خارج الوقت إلا فيما قامت قرينة على ذلك.

ثم ان فيما ثبت فيه القضاء لو ترك المكلف الواجب في الوقت فان أحرزنا ذلك وجداناً أو تعبداً بأصل أو أمارة ، فلا إشكال في وجوب قضائه والإتيان به في خارج الوقت بلا فرق في ذلك بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد ، وهذا واضح ولا كلام فيه ، والكلام إنما هو فيما إذا لم يحرز ذلك لا وجدانا ولا تعبداً ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا بد من فرض الكلام فيما إذا لم تجر قاعدة الحيلولة المقتضية لعدم الاعتبار بالشك بعد خروج الوقت ، فان مقتضاها عدم وجوب الإتيان به في خارج الوقت أو قاعدة الفراغ فيما إذا فرض كون الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده وتحققه في الوقت ، فان في مثله يحكم بصحته من ناحية تلك القاعدة وإلا فلا يجب الإتيان به في خارج الوقت ، فاذن لا بد من فرض الكلام فيما نحن فيه اما مع قطع النّظر عن جريانها ، أو فيما إذا لم تجريا ، كما إذا فرض ان شخصا توضأ بمائع معين فصلى ، ثم بعد مضي الوقت حصل له الشك في ان هذا المائع الّذي توضأ به هل كان ماء ليكون وضوئه صحيحا ،

٦٨

أو لم يكن ماء ليكون وضوئه فاسداً ، أو فرض انه صلى إلى جهة ثم بعد خروج الوقت شك في ان القبلة هي الجهة التي صلى إليها ، أو جهة أخرى. وهكذا ففي أمثال ذلك لا يجري شيء منهما اما قاعدة الحيلولة فلان موردها الشك في أصل وجود العمل في الخارج وتحققه ، لا فيما إذا كان الشك في صحته وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده ، فاذن لا يكون مثل هذين المثالين من موارد تلك القاعدة. واما قاعدة الفراغ فلما حققناه في محله من ان قاعدة الفراغ انما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة ، كما إذا شك في صحة الصلاة ـ مثلا ـ بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في ترك جزء أو شرط منها ، ففي مثل ذلك تجري القاعدة ، لأن صورة العمل غير محفوظة بمعنى ان المكلف لا يعلم انه أتى بالصلاة مع القراءة ـ مثلا ـ أو بدونها أو مع الطمأنينة أو بدونها. وهكذا ، وهذا هو مرادنا من ان صورة العمل غير محفوظة. واما إذا كانت محفوظة وكان الشك في مطابقة العمل للواقع وعدم مطابقته له كما في مثل هذين المثالين فلا تجري القاعدة ، لفرض ان المكلف يعلم انه أتى بالصلاة إلى هذه الجهة المعينة أو مع الوضوء من هذا المائع ولا يشك في ذلك أصلا ، والشك إنما هو في أمر آخر وهو ان هذه الجهة التي صلى إليها قبلة أو ليست بقبلة ، وهذا المائع الّذي توضأ به ماء أو ليس بماء ، ومن المعلوم ان قاعدة الفراغ لا تثبت ان هذه الجهة قبلة وان ما أتى به وقع إلى القبلة ومطابق للواقع ، لما عرفت من اختصاص القاعدة بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة ، واما إذا كانت كذلك ، وإنما الشك كان في مصادفته للواقع وعدم مصادفته فلا يكون مشمولا لتلك القاعدة ، وبما ان صورة العمل في هذين المثالين محفوظة كما عرفت ، وان ما أتى به المكلف في الخارج معلوم كماً وكيفاً ولا يشك فيه أصلا ، والشك إنما هو في مصادفته للواقع وعدم مصادفته له ، وقاعدة الفراغ لا تثبت المصادفة ، فعندئذ يقع الكلام في هذين

٦٩

المثالين وما شاكلهما وانه هل يجب قضاء تلك الصلوات خارج الوقت أم لا ، فاذن تظهر الثمرة بين القولين ، وذلك لأنه لو قلنا بكون القضاء تابعاً للأداء ومطابقاً للقاعدة فيجب قضاء تلك الصلوات.

والوجه في ذلك واضح وهو ان التكليف المتعلق بها معلوم ولا يشك في ذلك أصلا ، والشك إنما هو في سقوطه وفراغ ذمة المكلف عنه ، ومعه لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال ، لحكم العقل بان الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني. نعم المعلوم سقوطه إنما هو التكليف عن المقيد لاستحالة بقائه بعد خروج الوقت من ناحية استلزامه التكليف بالمحال واما سقوط التكليف عن المطلق فغير معلوم ، لفرض ان ما أتى به المكلف لا نعلم بصحته ليكون مسقطاً له ، فاذن يدخل المقام في كبرى موارد الشك في فراغ الذّمّة بعد العلم باشتغالها بالتكليف ومن المعلوم ان المرجع في تلك الكبرى هو قاعدة الاشتغال.

واما إذا قلنا بان القضاء بأمر جديد كما هو الصحيح ، لما ذكرناه من ان القرينة على التقييد ، سواء أكانت متصلة أم كانت منفصلة توجب تقييد الواجب من الأول فلا يمكن عندئذ التمسك بإطلاقه إلا في صورة واحدة ، كما تقدمت بشكل واضح ، وعلى هذا فلا يجب الإتيان بها في خارج الوقت ، وذلك لأن المكلف شاك عندئذ في أصل حدوث التكليف بعد خروج الوقت ، لفرض ان التكليف بالموقت قد سقط يقيناً اما من ناحية امتثاله في وقته وحصول غرضه واما من ناحية عدم القدرة عليه فعلا ، فاذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه.

فالنتيجة ان الثمرة تظهر بين القولين في المثالين المزبورين وما شاكلهما ، فانه على القول الأول أي القول بكون القضاء تابعاً للأداء فالمرجع فيهما وفي ما شاكلهما قاعدة الاشتغال ، كما تقدم بشكل واضح ، وعلى القول الثاني أي القول بكونه بأمر جديد فالمرجع في أمثالهما قاعدة البراءة ، كما عرفت الآن.

٧٠

وقد تحصل مما ذكرناه عدة أمور :

الأول ـ ان التقييد سواء أكان بمتصل أم بمنفصل ظاهر في التقييد من الأول وان مراد المولى هو المقيد لا غيره وحمله على تعدد المطلوب لا يمكن بلا قرينة تدل عليه من داخلية أو خارجية.

الثاني ـ ان لازم ذلك هو كون مقتضى القاعدة سقوط الواجب بسقوط وقته.

الثالث ـ ان نتيجة هذين الأمرين هو كون القضاء بأمر جديد ، وليس تابعاً للأداء ، كما هو واضح.

ثم انه فيما ثبت فيه وجوب القضاء كالصلاة والصوم ونحوهما إذا خرج الوقت وشك المكلف في الإتيان بالمأمور به في وقته فهل يمكن إثبات الفوت باستصحاب عدم الإتيان به أم لا وجهان مبنيان على ان المتفاهم العرفي من هذه الكلمة أعني كلمة الفوت هل هو أمر عدمي الّذي هو عبارة عن عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت ، أو أمر وجودي ملازم لهذا الأمر العدمي لا انه عينه ، فعلى الأول يجري استصحاب عدم الإتيان به في الوقت ، إذ به يثبت ذلك العنوان ويترتب عليه حكمه وهو وجوب القضاء في خارج الوقت ، وعلى الثاني فلا يجري إلا على القول بالأصل المثبت ، لفرض ان الأثر غير مترتب على عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت ، بل هو مترتب على عنوان وجودي ملازم له في الواقع وهو عنوان الفوت ، ومن المعلوم ان إثبات ذلك العنوان باستصحاب عدم الإتيان به من أوضح أنحاء الأصل المثبت ولا نقول به.

وعلى الجملة فمنشأ الإشكال في المقام الإشكال في ان عنوان الفوت الّذي هو مأخوذ في موضوع وجوب القضاء هل هو أمر وجودي عبارة عن خلو الوقت عن الواجب أو هو أمر عدمي عبارة عن عدم الإتيان به في الوقت؟ والصحيح هو انه عنوان وجودي ، وذلك للمتفاهم العرفي ، ضرورة انه بنظرهم ليس عين الترك

٧١

بل هو بنظرهم عبارة عن خلو الوقت عن الفعل وذهاب الواجب من كيس المكلف مثلا المتفاهم عرفاً من قولنا فات شيء من زيد هو الأمر الوجوديّ أعني ذهاب شيء من كيسه ، لا الأمر العدمي ، وهذا واضح ، فعلى هذا الضوء لا يمكن إثباته بالاستصحاب المزبور ولا أثر له بالإضافة إليه أصلا ، وعليه فيرجع إلى أصالة البراءة. هذا فيما إذا أحرز ان عنوان الفوت أمر وجودي أو عدمي. واما إذا لم يعلم ذلك وشك في أنه أمر وجودي ملازم لعدم الفعل في الوقت أو انه نفس عدم الفعل فهل يمكن التمسك بالاستصحاب المزبور لإثبات وجوب القضاء في خارج الوقت أم لا؟

الصحيح بل المقطوع به عدم إمكان التمسك به ، والوجه في ذلك واضح وهو ان المكلف لم يعلم ان المتيقن ـ وهو عدم الإتيان بالواجب في الوقت ـ هو الموضوع للأثر في ظرف الشك أو الموضوع للأثر شيء آخر ملازم له خارجاً ، فاذن لم يحرز ان رفع اليد عنه أي عن المتيقن السابق من نقض اليقين بالشك ، ومعه لا يمكن التمسك بإطلاق قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك ، لكون الشبهة مصداقية.

بقي هنا شيء وهو ان المكلف لو شك في أثناء الوقت انه صلى في أول الوقت أم لا فمقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الإتيان بالصلاة ، لأن الاشتغال اليقينيّ يقتضي الفراغ اليقيني ، ولكن المكلف إذا لم يأت بها إلى ان خرج الوقت ففي هذا الفرض اتفق الفقهاء على وجوب قضائها في خارج الوقت ، مع ان ـ مقتضى ما ذكرناه من ان استصحاب عدم الإتيان بها في الوقت لا يثبت عنوان الفوت ـ عدم وجوب القضاء لفرض ان عنوان الفوت في نفسه غير محرز هنا ، واستصحاب عدم الإتيان بها في الوقت لا يجدي ، والجواب عن هذا ظاهر وهو ان الشك في المقام بما انه كان قبل خروج الوقت فلا محالة يكون مقتضى قاعدة

٧٢

الاشتغال ـ والاستصحاب وجوب الإتيان بها ، وعلى ذلك فلا محالة إذا لم يأت المكلف به في الوقت فقد فوت الواجب ، ومعه لا محالة يجب قضائه لتحقق موضوعه وهو عنوان الفوت ، وهذا بخلاف ما إذا شك المكلف في خارج الوقت انه أتى بالواجب في وقته أم لا ، ففي مثل ذلك لم يحرز انه ترك الواجب فيه ليصدق عليه عنوان الفوت ، والمفروض ان استصحاب عدم الإتيان به غير مجد ، وهذا هو نقطة الفرق بين ما إذا شك المكلف في إتيان الواجب في الوقت وما إذا شك في إتيانه في خارج الوقت.

نتائج هذا البحث عدة أمور :

الأول ـ انه لا إشكال في إمكان الواجب الموسع والمضيق ، بل في وقوعهما خارجاً ، وما ذكر من الإشكال على الواجب الموسع تارة وعلى المضيق تارة أخرى مما لا مجال له ، كما تقدم بشكل واضح.

الثاني ـ ان ما ذكر من التفصيل بين ما كان الدليل على التوقيت متصلا وما كان منفصلاً ، فقد عرفت انه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا ، وقد ذكرنا انه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة من هذه الناحية أبداً ، فكما ان الأول تدل على التقييد من الأول وعلى وحدة المطلوب ، فكذلك الثانية ، كما سبق.

الثالث ـ ان الصحيح ما ذكرناه من ان التقييد بالوقت إذا كان بدليل متصل فيدل على ان الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل وهي الحصة الواقعة في زمان خاص ، واما إذا كان بدليل منفصل فان كان له إطلاق بالإضافة إلى حالتي التمكن وعدمه فيقيد به إطلاق دليل الواجب مطلقاً ، لحكومة إطلاق دليل المقيد على إطلاق دليل المطلق ، وان لم يكن له إطلاق فيقيد دليله في حال التمكن

٧٣

فحسب ، وفي حال عدمه نتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات وجوبه في خارج الوقت.

الرابع ـ ان مقتضى القاعدة هو سقوط الواجب بسقوط وقته إلا فيما قامت قرينة على خلاف ذلك.

الخامس ـ ان الثمرة تظهر بين القول يكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد فيما إذا شك بعد خروج الوقت في الإتيان بالمأمور به وعدمه أو في صحة المأتي به في الوقت وعدم صحته إذا لم يكن هناك أصل مقتض للصحة كقاعدة الفراغ أو نحوها ، فانه على الأول المرجع قاعدة الاشتغال وعلى الثاني قاعدة البراءة ، كما تقدم.

السادس ـ ان الصحيح هو القول بكون القضاء بأمر جديد وليس تابعاً للأداء فانه خلاف ظاهر دليل التقييد فلا يمكن الالتزام به إلا فيما قامت قرينة عليه السابع ـ انه لا يمكن إثبات الفوت الّذي علق عليه وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت إلا على القول بالأصل المثبت ، كما سبق.

الأمر بالأمر بفعل

أمر بذلك الفعل أم لا؟

توضيح ذلك انه بحسب مقام الثبوت والواقع يتصور على وجوه :

الأول ـ ان يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار انه فعل اختياري للمكلف فلا مانع من ان يقوم غرض المولى به وكونه متعلقاً لأمره

٧٤

كسائر أفعاله الاختيارية مثل الصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك. وعلى الجملة فلا مانع من ان يأمر الشارع بإيجاد أمر بشيء أو إيجاد نهى عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثاني ـ ان يكون قائماً بالفعل الصادر من المأمور الثاني فيكون الأمر الثاني ملحوظاً على نحو الطريقية من دون ان يكون له دخل في غرض المولى أصلا ، ولذا لو صدر الفعل من المأمور الثاني من دون توسط أمر من المأمور الأول لحصل الغرض ولا يتوقف حصوله على صدور الأمر منه فاذن ليس له شأن ما عدا كونه واقعاً في طريق إيصال أمر المولى إلى هذا الشخص. فهذا القسم في طرفي النقيض مع القسم الأول. فان غرض المولى في القسم الأول متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأول دون الفعل الصادر من الثاني ، فيكون المأمور به هو الأمر فقط ، وفي هذا القسم متعلق بالفعل دون الأمر بمعنى ان المأمور به هو الفعل والأمر طريق إلى إيصال أمر المولي إلى المكلف بهذا الفعل ، وهذا القسم هو الغالب والمتعارف من الأمر بالأمر بشيء لا القسم الأول.

الثالث ـ ان يكون الغرض قائماً بهما معاً بمعنى ان الفعل مطلوب من المأمور الثاني بالأمر من المأمور الأول لا مطلقاً بحيث لو اطلع المكلف من طريق آخر على أمر المولى من دون واسطة أمره لم يجب عليه إتيانه ، فوجوب إتيانه عليه منوط بان يكون اطلاعه على أمر المولى بواسطة أمره لا مطلقاً ، فاذن هذا القسم يكون واسطة بين القسم الأول والثاني ، ونقطة الفرق بين هذه الوجوه هي انه على الوجه الأول لا يجب الفعل على الثاني ، لفرض ان غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأول ، سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا ، فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرضي ، وعلى الوجه الثاني يجب الفعل عليه ولو فرض انه اطلع على

٧٥

أمر المولى به من طريق أخير غير الأمر من المأمور الأول ، وعلى الوجه الثالث يجب عليه الإتيان به إذا أمر به المأمور الأول لا مطلقاً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الظاهر من الأمر بالأمر بشيء هو القسم الثاني دون القسم الأول والثالث ضرورة انه المتفاهم من ذلك عرفاً ، فلو أمر المولى أحداً بان يأمر زيداً ـ مثلا ـ بفعل كذا الظاهر منه هو هذا القسم دون غيره. ومن هنا يظهر ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من انه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمراً به ، بل لا بد للدلالة عليه من قرينة لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لما عرفت من أنه دال على ذلك بمقتضى الفهم العرفي ، ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة.

ثم ان الثمرة المترتبة على هذا النزاع هي شرعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في الروايات من قوله عليه‌السلام : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» ونحوه مما ورد في أمر الولي للصبي ، فانه بناء على ما ذكرناه من ان الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشيء تدل تلك الروايات على شرعية عبادة الصبي ، لفرض عدم قصور فيها لا من حيث الدلالة كما عرفت ، ولا من حيث السند لفرض ان فيها روايات معتبرة.

قد يقال كما قيل انه يمكن إثبات شرعية عبادة الصبي بعموم أدلة التشريع كقوله تعالى : «أقيموا الصلاة» وقوله تعالى : «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم» وما شاكلهما ببيان ان تلك الأدلة بإطلاقها تعم البالغ وغيره ، فانها كما تدل على تشريع هذه الأحكام للبالغين ، كذلك تدل على على تشريعها لغيرهم ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، وحديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم لا يقتضي أزيد من رفع الإلزام ، لفرض ان هذا الحديث ورد في مورد الامتنان ، ومن المعلوم ان المنة إنما هي في رفع الحكم الإلزامي ، واما رفع

٧٦

الحكم غير الإلزامي فلا منة فيه أبداً ، فاذن هذا الحديث يرفع الإلزام عن عبادة الصبي فحسب لا أصل الحبوبية عنها ، وعلى هذا فتكون عباداته مشروعة لا محالة فالنتيجة انه مع قطع النّظر عن تلك الروايات يمكن إثبات مشروعية عباداته.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية وملخصها : انا قد ذكرنا غير مرة ان الوجوب عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز من لفظ أو نحوه ، ولا نعقل له معنى ما عدا ذلك ، وعلى هذا فليس في مورد تلك العمومات إلا اعتبار الشارع الصلاة والصوم والحج وما شاكلها على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بها أي بتلك العمومات ، غاية الأمر ان قامت قرينة من الخارج على الترخيص فينتزع منه الاستحباب وإلا فينتزع منه الوجوب ، وحيث انه لا قرينة على الترخيص في موارد هذه العمومات فلا محالة ينتزع منه الوجوب ، وقد عرفت انه لا شأن له ما عدا ذلك. وعلى هذا الضوء فحديث الرفع وهو قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» يكون رافعاً لذاك الاعتبار أي اعتبار الشارع هذه الأفعال على ذمة المكلف فيدل على ان الشارع لم يعتبر تلك الأفعال على ذمة الصبي ، وعليه فكيف يمكن إثبات مشروعية عباداته بهذه العمومات لفرض ان مفاده هو ان قلم الاعتبار والتشريع مرفوع عنه في مقابل وضعه واعتباره في ذمته ، فاذن تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على مشروعية عباداته بالكلية.

وبكلمة أخرى ان الأمر سواء أكان عبارة عن الإرادة أو عن الطلب أو عن الوجوب أو عن الاعتبار النفسانيّ المبرز في الخارج بمبرز ما بسيط في غاية البساطة وعلى هذا فمدلول هذه العمومات سواء أكان طلب هذه الأفعال أو وجوبها أو إرادتها أو اعتبارها في ذمة المكلف لا محالة يقيد بغير الصبي والمجنون وما شاكلهما بمقتضى حديث الرفع ، لفرض ان مفاد الحديث هو عدم تشريع مدلول تلك العمومات للصبي ونحوه ، فاذن كيف تكون هذه العمومات دالة على مشروعية

٧٧

عبادته من الصوم والصلاة وما شاكلهما. وتوهم ـ ان الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك والمرفوع بحديث الرفع هو المنع من الترك لا أصل الطلب بل هو باق ، وعليه فتدل العمومات على مشروعيتها ـ خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك اما أولا فلأنه تقدير تسليم كون الوجوب هو المجعول في موارد هذه العمومات إلا انه لا شبهة في أنه أمر بسيط ، وليس هو بمركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، وإلا لكان تركه محرماً وممنوعاً شرعاً مع ان الأمر ليس كذلك ، ضرورة ان تركه ليس بمحرم ، بل فعله واجب والعقاب إنما هو على تركه لا على ارتكاب محرم ، أو فقل : ان لازم ذلك هو انحلال وجوب كل واجب إلى حكمين : أحدهما متعلق بفعله والآخر متعلق بتركه ، وهذا باطل جزماً ، كما ذكرناه غير مرة.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلا. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان هذا مرفوع عن الصبي بمقتضى حديث الرفع ومن المعلوم انه بعد رفعه لا دلالة لتلك العمومات على مشروعية عباداته كما هو واضح ، واما ثانياً فلأنه على فرض تسليم ان الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، مع ذلك لا تتم هذه النظرية ، وذلك لأنها ترتكز على ان يبقى الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو خلاف التحقيق ، بل لا يعقل بقائه بعد ارتفاعه ، كيف فان الفصل مقوم له ، وعلى هذا فلا محالة يرتفع طلب الفعل بارتفاع المنع من الترك المقوم له ، واما إثبات الطلب الآخر فهو يحتاج إلى دليل ، فالعمومات لا تدل على ذلك كما هو ظاهر ، ومن هنا قد ذكرنا ان نسخ الوجوب لا يدل على بقاء الجواز أو الرجحان.

وقد تحصل من ذلك ان هذه النظرية إنما تتم فيما إذا كان الدليل على مشروعية هذه العبادات على نحو الإطلاق شيء ، والدليل على وجوبها ولزومها

٧٨

شيء آخر ليكون حديث الرفع ناظراً إلى الدليل الثاني ومقيداً لمدلوله دون الدليل الأول ، ولكن الأمر هنا ليس كذلك كما هو واضح.

لحد الآن قد تبين انه لا يمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بتلك العمومات أصلا. فالصحيح ان الدليل على مشروعيتها انما هو تلك الروايات فحسب ومع قطع النّظر عنها أو مع المناقشة فيها كما عن بعض فلا يمكن إثبات مشروعيتها أصلا كما عرفت.

ونتائج هذا البحث عدة نقاط :

الأولى ـ ان الأمر بالأمر بشيء يتصور بحسب مقام الثبوت على وجوه ثلاثة كما تقدم.

الثانية ـ ان ظاهر من هذه الوجوه بحسب مقام الإثبات الوجه الثاني وهو ما كان الغرض قائماً بالفعل لا بالأمر الصادر من المأمور الأول.

الثالثة ـ ان الثمرة المترتبة على هذا البحث هي مشروعية عبادات الصبيان على تقدير ظهور تلك الروايات في الوجه الثاني أو الثالث كما عرفت.

الرابعة ـ ان ما توهم من إمكان إثبات شرعية عباداتهم بالعمومات الأولية خاطئ جداً ، لما عرفت من ان تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على ذلك بالكلية بعد تقييدها بحديث الرفع بالبالغين.

الخامسة ـ ان الدليل على شرعية عبادات الصبي إنما هو الروايات المتقدمة أعني قوله عليه‌السلام : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» ونحوه.

٧٩

الأمر بشيء بعد الأمر به ظاهر

في التأكيد أو التأسيس

لا إشكال في ان الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس وإنما الإشكال فيما إذا كان مسبوقاً بأمر آخر فهل هو عندئذ ظاهر في التأسيس أو التأكيد إذا كانا مطلقين بان لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد أم لا وجوه : الظاهر هو الوجه الثاني ، ضرورة ان المتفاهم عرفاً من مثل قول المولى صل ، ثم قال «صل» هو التأكيد بمعنى ان الأمر الثاني تأكيد للأمر الأول ، وهذا واضح. نعم لو قيد الأمر الثاني بالمرة الأخرى ونحوها لكان دالا على التأسيس لا محالة ، فيكون المراد وقتئذ من الأمر الأول صرف وجود الطبيعة ومن الثاني الوجود الثاني منها ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فان محل الكلام فيما إذا كان الأمر الثاني متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأول من دون تقييده بالمرة الأخرى أو نحوها والا فلا إشكال في دلالته على التأسيس ، واما إذا لم يكونا مطلقين بان ذكر سببهما كقولنا : «ان ظاهرت فأعتق رقبة» و «ان أفطرت فأعتق رقبة» أو قولنا «ان نمت فتوضأ» و «ان بلت فتوضأ» وهكذا ، فهل الأمر الثاني ظاهر في التأكيد أو التأسيس فيه كلام سيأتي بيانه في بحث المفاهيم إن شاء الله تعالى بصورة مفصلة وخارج عن محل كلامنا هنا.

وعلى الجملة فمحل الكلام في المقام فيما إذا كان الأمر ان مطلقين ولم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد ففي مثل ذلك قد عرفت ان الظاهر من الأمر الثاني هو التأكيد دون التأسيس ، فانه قضية إطلاق المادة وعدم تقييدها بشيء.

٨٠