محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

الطبيعي ان مثل هذا غير داخل في مورد القاعدة.

وان شئت فقل ان ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان فان إيجاد المقدمة فيما نحن فيه أعني بها الدخول في الأرض المغصوبة يوجب سقوط الخطاب بترك الخروج. وفي مورد القاعدة يوجب فعلية الخطاب ، كما عرفت ، فاذن كيف يمكن دخول المقام تحت القاعدة.

الرابع ـ ان الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل وهذا يكشف عن كونه مقدوراً وقابلا لتعلق التكليف به. ومن المعلوم ان كلما كان كذلك أعني كونه واجباً ولو بحكم العقل لا يدخل في كبرى تلك القاعدة قطعاً ، ضرورة ان مورد القاعدة هو ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلق التكليف به لامتناعه ، واما إذا فرض كونه قابلا كذلك ولو عقلا فلا موجب لسقوط الخطاب المتعلق به شرعاً أصلا ، فاذن فرض تعلق الخطاب الوجوبيّ به مع فرض كونه داخلا في موضوع القاعدة فرضان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما ، وعليه فكيف يمكن كون المقام من صغريات القاعدة.

نتيجة جميع ما ذكره (قده) هي ان الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاخيتار.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) من الوجوه ان هذه الوجوه جميعاً تبتني على الاشتباه في نقطتين.

الأولى ـ توهم اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية والغفلة عن انه لا فرق في جريانها بين موارد التكاليف الوجوبية وموارد التكاليف التحريمية فهما من هذه الناحية على صعيد واحد ، والفارق هو ان ترك المقدمة في التكاليف الوجوبية غالباً بل دائماً يفضي إلى ترك الواجب وامتناع فعله في الخارج كمن ترك المسير إلى الحج ، فانه يوجب امتناع فعله ، وهذا بخلاف التكاليف

٣٨١

التحريمية فان في مواردها إيجاد المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه لا تركها ، مثلا الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه لا تركه فانه لا يوجب امتناع فعله فتكون موارد التكاليف التحريمية من هذه الناحية على عكس موارد التكاليف الوجوبية.

الثانية ـ توهم اختصاص جريان القاعدة بموارد الامتناع التكويني كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه ، وعدم جريانها في موارد الامتناع التشريعي ، فتخيل ان الامتناع العارض على الفعل المنتهى إلى اختيار المكلف وإرادته ان كان امتناعا تكوينياً فيدخل في موضوع القاعدة وان كان تشريعياً فلا يدخل فيه.

ولكن كلتا النقطتين خاطئة :

اما النقطة الأولى فلضرورة ان الملاك في جريان هذه القاعدة في مورد هو ان ما كان امتناع امتثال التكليف فيه منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته فلا فرق بين ان يكون ذلك التكليف تكليفاً وجوبياً أو تحريمياً ، وبلا فرق بين ان يكون امتناع امتثاله من ناحية ترك ما يفضي إلى ذلك كترك المسير إلى الحج ، أو من ناحية فعل ما يفضي إليه كالدخول في الأرض المغصوبة ، فكما انه على الأول يقال ان امتناع فعل الحج يوم عرفة بما انه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه ، فان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فكذلك على الثاني يقال ان امتناع ترك الغصب بما انه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا فرق بينهما في الدخول في موضوع القاعدة أصلا.

وبكلمة أخرى انه لا واقع موضوعي لهذه القاعدة ما عدا كون امتناع امتثال التكليف منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته ، فيقال ان هذا الامتناع

٣٨٢

بما انه مستند إلى اختياره فلا ينافي العقاب ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار ، هذا هو واقع تلك القاعدة. ومن الطبيعي انه لا فرق في ذلك بين التكليف الوجوبيّ والتحريمي أبداً. نعم تمتاز التكاليف التحريمية عن التكاليف الوجوبية في نقطة أخرى وهي ان في موارد التكاليف الوجوبية يستند امتناع فعل الواجب في الخارج كما عرفت على ترك المقدمة اختياراً ، وفي موارد التكاليف التحريمية يستند امتناع ترك الحرام كالمثال المتقدم وما شاكله إلى فعل المقدمة ، ولكن من المعلوم انه لا أثر لهذا الفرق بالإضافة إلى الدخول في موضوع القاعدة كما مر.

واما النقطة الثانية فلأنه لا فرق في الدخول في كبرى تلك القاعدة بين ان يكون الامتناع الناشئ من الاضطرار بسوء الاختيار تكوينياً كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وما شابه ذلك أو تشريعياً ناشئاً من إلزام الشارع بفعل شيء أو بتركه ، فان الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، ضرورة ان الميزان في جريان هذه القاعدة كما عرفت هو ما كان امتناع الامتثال مستنداً إلى اختيار المكلف ، ومن الطبيعي ان الامتثال قد يمتنع عقلا وتكويناً وقد يمتنع شرعاً. ومن المعلوم انه لا فرق بينهما من ناحية الدخول في موضوع القاعدة أصلا إذا كان منتهياً إلى الاختيار ، وهذا واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد جميع هذه الوجوه :

اما الوجه الأول فلأنه مبني على اختصاص القاعدة بموارد الامتناع التكويني ، ليختص جريانها بما إذا عرضه الامتناع في الخارج تكويناً وكان ذلك بسوء اختيار المكلف كالإتيان بالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وكحفظ النّفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق ـ مثلا ـ وما شابه ذلك ، وعليه فلا محالة لا تشمل مثل الخروج عن الدار المغصوبة ، لفرض انه غير ممتنع تكويناً

٣٨٣

ومقدور للمكلف عقلا فعلا وتركاً وان كان غير مقدور له تشريعاً ، ولكن قد عرفت انه لا وجه لهذا التخصيص أصلا ولا فرق في جريان هذه القاعدة بين ان يكون امتناع الفعل تكوينياً أو تشريعياً ، فكما انها تجري على الأول ، فكذلك تجري على الثاني.

وعلى هدى ذلك قد تبين ان الخروج عن الأرض المغصوبة في مفروض الكلام وما شاكله داخل في كبرى تلك القاعدة ، وذلك لأن الخروج وان كان مقدورا للمكلف تكويناً فعلا وتركاً ، الا انه لا مناص له من اختياره خارجاً والوجه فيه هو ان امره في هذا الحال يدور بين البقاء في الأرض المغصوبة والخروج عنها ولا ثالث لهما. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان التصرف فيها بغير الخروج بما انه محرم فعلا من جهة انه أهم المحذورين وأقوى القبيحين فلا محالة يحكم العقل بتعين اختيار الخروج والفرار عن غيره ومع هذا يمتنع النهي عنه بالفعل لأن حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلا الموجب لامتناع ترك الخروج تشريعاً لا يجتمع مع النهي عن الخروج أيضاً فالنتيجة انه لا يمكن النهي عنه في هذا الحال لامتناع تركه من ناحية إلزام الشارع بترك البقاء والتصرف بغيره كما هو واضح ، ولكن بما انه مستند إلى اختيار المكلف فلا ينافي العقاب فان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وعلى الجملة فمن دخل الأرض المغصوبة باختياره وإرادته وان كان قادرا على الخروج منها عقلا كما انه قادر على البقاء فيها كذلك ، فان ما هو خارج عن قدرته واختياره هو مطلق الكون فيها الجامع بين البقاء والخروج لا كل واحد منهما في نفسه ، الا ان حرمة التصرف فعلا بغير الخروج تستلزم لا محالة لزوم اختيار الخروج بحكم العقل فرارا عن المحذور الأهم. وعلى هذا فالنهي عن الخروج ممتنع لامتناع تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره ، لكن هذا

٣٨٤

تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره ، ولكن هذا الامتناع بما انه منته إلى اختياره فلا ينافي العقاب ، وهذا معنى كونه داخلا في موضوع القاعدة. فما أفاده (قده) في هذا الوجه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.

واما الوجه الثاني فلأنه مبتن على اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية ببيان ان المعتبر في دخول شيء في تلك القاعدة هو ان يكون ملاك الواجب تاماً في ظرفه سواء أكان المكلف أوجد مقدمته الوجودية أم لا ، وذلك كالحج في الموسم. فان ملاكه تام بعد حصول الاستطاعة وان لم توجد مقدمته في الخارج ، ففي مثل ذلك إذا ترك المكلف مقدمته كالمسير إليه فلا محالة امتنع الواجب عليه في ظرفه ويفوت منه الملاك الملزم ، وبما ان تفويته باختياره فلأجل ذلك يستحق العقاب. واما الخروج في مفروض الكلام بما انه لا ملاك لوجوبه قبل حصول مقدمته وهي الدخول ، لفرض ان له دخلا في ملاكه وتحقق القدرة عليه فلا يكون مشمولا لتلك القاعدة.

وغير خفي ما في ذلك ، فان فيه خلطاً بين جريان القاعدة في موارد التكاليف الوجوبية وجريانها في موارد التكاليف التحريمية وتخيل ان جريانها في كلا الموردين على صعيد واحد ، مع ان الأمر ليس كذلك لوضوح ان الكلام في دخول الخروج في موضوع القاعدة وعدم دخوله ليس من ناحية حكمه الوجوبيّ ، ليقال انه قبل الدخول لا ملاك له ليفوت بتركه فيستحق العقاب عليه إذا كان بسوء اختياره. بل من ناحية حكمه التحريمي ، وهذا لعله من الواضحات. ومن المعلوم انه من هذه الناحية داخل في كبرى القاعدة ، لما عرفت من ان حرمة التصرف فعلا بغير الخروج أوجبت بحكم العقل لزوم اختياره فرارا عن المحذور الأهم وامتناع تركه تشريعاً وان لم يكن ممتنعاً تكويناً ، ولكن بما انه منته إلى الاختيار فيستحق العقاب عليه ، لأن الامتناع بالاختيار

٣٨٥

لا ينافي الاختيار.

وعلى الجملة فقد ذكرنا ان التكاليف الوجوبية تمتاز عن التكاليف التحريمية في نقطة وهي ان في موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة غالباً أو دائماً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج تكويناً أو تشريعاً ، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة غالباً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج كذلك ، فهما من هذه الناحية على طرفي النقيض.

وعلى أساس تلك النقطة قد ظهر حال الخروج فيما نحن فيه ، فان له ناحيتين أعني ناحية حرمته وناحية وجوبه ، فمرة ننظر إليه من ناحية حرمته وأخرى من ناحية وجوبه. اما من ناحية حرمته فقد عرفت انه لا إشكال في دخوله في موضوع القاعدة.

ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قده) كيف غفل عن هذه الناحية ولم يتعرض لها في كلامه أبداً لا نفياً ولا إثباتاً وأصر على عدم انطباق القاعدة عليه ، مع انه من الواضح جدا انه لو التفت إلى هذه الناحية لالتزم بانطباق القاعدة عليه ، بداهة انه (قده) لا يفرق في جريان هذه القاعدة بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية ، لعدم الموجب له أبدا وهذا واضح. واما من ناحية وجوبه فعلى ما يراه (قده) من انه واجب شرعا من جهة دخوله في موضوع قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه فالامر كما أفاده ، لوضوح انه من هذه الناحية غير داخل في القاعدة ، لعدم الملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول ، ليفوت منه ذلك بترك هذه المقدمة ، ليستحق العقاب على تفويته إذا كان باختياره. هذا من جانب ، ومن جانب آخر انه بعد إيجاد مقدمته بالاختيار لا يفوت منه الواجب على الفرض ، ليستحق العقاب على تفويته ، فاذن لا يمكن ان يكون الخروج من هذه الناحية داخلا في كبرى القاعدة. ولكن سنبين عن قريب إن شاء الله

٣٨٦

تعالى ان هذه الناحية ممنوعة وان الخروج ليس بواجب شرعا وانما هو واجب بحكم العقل بمعنى ان العقل يدرك ان المكلف لا بد له من اختياره ولا مناص عنه من ناحية حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلا. وعليه فلا وجه لخروجه عن موضوع القاعدة.

أضف إلى ذلك انه على فرض تسليم وجوبه وان كان خارجا عنه ، الا انه لا شبهة في دخوله فيه من ناحية تحريمه ، كما عرفت ، فاذن لا وجه لإصراره (قده) لخروجه عنه الا غفلته عن هذه الناحية كما أشرنا إليه آنفا.

واما الوجه الثالث ـ فيرد عليه انه مبنى على الخلط بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام ، والغفلة عن نقطة ميزهما ، بيان ذلك هو ان إيجاد المقدمة في موارد التكاليف الوجوبية يوجب قدرة المكلف على إتيان الواجب وامتثاله وصيرورته قابلا لأن يتوجه إليه التكليف فعلا. واما في موارد التكاليف التحريمية فترك المقدمة يوجب قدرة المكلف على ترك الحرام. وعلى هذا ففي موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة المزبورة يوجب امتناع فعل الواجب في الخارج فيدخل في مورد القاعدة ، كما عرفت ، وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام ، ففيما نحن فيه الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع الخروج تشريعاً من ناحية حكم الشارع بحرمة التصرف بغيره فعلا ويوجب سقوط النهي عنه ، كما ان ترك الدخول فيها يوجب فعلية النهي عنه.

وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده (قده) مبني على خلط مقدمة الحرام بمقدمة الواجب.

واما الوجه الرابع ـ فقد ظهر بطلانه مما تقدم ، وملخصه : هو ان حكم العقل بلزوم اختيار الخروج دفعاً للمحذور الأهم وان كان يستلزم كونه مقدورا

٣٨٧

للمكلف تكوينا إلا انه لا يستلزم كونه محكوما بحكم شرعا ، لعدم الملازمة بين حكم العقل بلزوم اختياره في هذا الحال وإمكان تعلق الحكم الشرعي به. والوجه في ذلك هو ان حكم العقل وإدراكه بأنه لا بد من اختياره وان كان كاشفا عن كونه مقدورا تكوينا ، إلا انه مع ذلك لا يمكن للشارع ان ينهي عنه فعلا ، وذلك لأن منشأ هذا الحكم العقلي انما هو منع الشارع عن التصرف بغيره فعلا الموجب لعجز المكلف عنه بقاعدة ان الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، ومع ذلك لو منع الشارع عنه أيضا منعا فعليا لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، فاذن لا يمكن ان يمنع عنه فعلا ، كما هو واضح ، وهذا معنى سقوط النهي عنه وعدم إمكانه ، ولكن بما ان ذلك كان بسوء اختياره وإرادته فلا ينافي العقاب ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فما أفاده (قده) من دعوى الملازمة بين وجوب الخروج بحكم العقل وكونه قابلا لتعلق التكليف به خاطئة جدا ولا واقع لها أصلا. نعم هذه الدعوى تامة على تقدير القول بكون الخروج محكوما بالوجوب كما هو مختاره (قده).

إلى هنا قد تبين ان ما أفاده (قده) من الوجوه لإثبات ان الخروج غير داخل في كبرى تلك القاعدة لا يتم شيء منها.

واما الكلام في الدعوى الثالثة : (وهي كون المقام داخلا في كبرى قاعدة وجوب رد مال الغير إلى مالكه) فقد ذكر (قده) انه بعد بطلان دخول المقام في كبرى قاعدة ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالوجوه المتقدمة من ناحية ، وبطلان بقية الأقوال من ناحية أخرى لا مناص من الالتزام بكونه داخلا في موضوع قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه ، ببيان انه كما يجب رد المغصوب إلى صاحبه في غير هذا المقام ، يجب رده إلى مالكه هنا أيضا وهو يتحقق هنا بالخروج ، فاذن يكون الخروج مصداقا للتخلية بين المال ومالكه

٣٨٨

في غير المنقولات ، فيكون واجبا لا محالة عقلا وشرعا ، كما ان البقاء فيها على أنحائه محرم.

والوجه في ذلك هو ان الاضطرار متعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع بين البقاء والخروج لا بخصوص البقاء لتسقط حرمته ، ولا بخصوص الخروج ليسقط وجوبه ، ضرورة ان ما هو خارج عن قدرة المكلف انما هو ترك مطلق الكون فيها بمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج ، لا كل منهما ، ولأجل ذلك لا يمكن النهي عن مطلق الكون فيها ، ولكن يمكن النهي عن البقاء فيها بشتى أنحائه ، لأن المفروض انه مقدور للمكلف فعلا وتركا ، ومعه لا مانع من تعلق النهي به بالفعل أصلا. ومن هنا قلنا ان البقاء وهو التصرف فيها بغير الحركة الخروجيّة محرم ، ولا تسقط حرمته من ناحية الاضطرار لفرض عدم تعلقه به ، والخروج بما انه مصداق للتخلية بين المال وصاحبه فلا محالة يكون واجباً شرعاً ، وعليه فيكون المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير يكون بعض افراده واجباً وبعضها الآخر محرماً ، نظير ما إذا اضطر المكلف لرفع عطشه ـ مثلا ـ إلى شرب الماء الجامع بين الماء النجس والطاهر ، فانه لا يوجب سقوط الحرمة عن شرب النجس ، لفرض عدم الاضطرار إليه ، بل هو باق على حرمته ووجوب الاجتناب عنه.

وعلى الجملة فالخروج واجب بحكم الشرع والعقل من ناحية دخوله في كبرى تلك القاعدة أعني قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه ، وامتناع كونه داخلا في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ومن المعلوم ان عنوان التخلص والتخلية من العناوين المحسنة عقلا المطلوبة شرعاً من ناحية اشتمالها على مصلحة إلزامية ، واما غيره أي غير الخروج من أقسام التصرف فيبقى على حرمته ، كما عرفت.

٣٨٩

والجواب عن ذلك ان الحركات الخروجيّة مضادة لعنوان التخلية والتخلص ، ضرورة ان تلك الحركات تصرف في مال الغير حقيقة وواقعاً ومصداق للغصب كذلك ، ومعه كيف تكون مصداقاً للتخلية ، لوضوح ان التخلية هي إيجاد الخلإ في المكان وهو يضاد الاشغال والابتلاء به ، ومن الواضح جداً ان الحركات الخروجيّة مصداق لعنوان الاشغال والابتلاء ، فكيف يصدق عليه عنوان التخلص والتخلية ، فانهما من العناوين المتضادة فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر ، بداهة ان ظرف تحقق الخلاص وإيجاد الخلإ والفراغ بين المال ومالكه حال انتهاء الحركة الخروجيّة ، وعليه فكيف يعقل ان تكون تلك الحركات مصداقاً للتخلية ومعنونة بعنوان التخلص.

وبكلمة أخرى ان من يقول بهذه المقالة أي بكون الحركة الخروجيّة مصداقاً للتخلص والتخلية ان أريد بمصداقيتها لها بالإضافة إلى أصل الغصب هنا والتصرف في مال الغير ، فيرد ذلك ما عرفت الآن من انه ما دام في الدار سواء اشتغل بالحركات الخروجيّة أم لا فهو معنون بعنوان الابتلاء والاشغال بالغصب لا بعنوان التخلص والتخلية ، فهما عنوانان متضادان لا يصدقان على شيء واحد هذا إذا كان عنوان التخلص عنوانا وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ والخلإ بين المال وصاحبه ، كما هو الصحيح. واما إذا فرض انه عنوان عدمي وعبارة عن ترك الغصب فيكون عندئذ نقيضاً لعنوان الابتلاء ومن الطبيعي استحالة صدق أحد النقيضين على ما يصدق عليه الآخر ، وكيف كان فعنوان التخلص سواء أكان عنواناً وجودياً أو عدميا فهو مقابل لعنوان الابتلاء فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.

وان أريد بالإضافة إلى الغصب الزائد على ما يوازي زمان الخروج ، ببيان ان التصرف في مال الغير في هذا المقدار من الزمان مما لا بد منه فلا يتمكن

٣٩٠

المكلف من تركه ، ولأجل ذلك ترتفع حرمته ، واما الزائد على ما يوازي هذا الزمان فهو متمكن من تركه بالخروج عنها وقادر على التخلص عنه. فعندئذ لا محالة تقع الحركات الخروجيّة مصداقا للتخلية والتخلص بالإضافة إلى الغصب الزائد ، ومعه تكون محبوبة ومشتملة على مصلحة إلزامية فتجب ، فيرد على ذلك ان عنوان التخلص لا يصدق عليها بالإضافة إلى الغصب الزائد أيضا ، ضرورة ان صدق عنوان التخلص عن الشيء فرع الابتلاء به فما دام لم يبتلى بشيء فلا يصدق انه خلص عنه إلا بالعناية والمجاز ، والمفروض في المقام ان المكلف بعد غير مبتلى به ، ليصدق عليه فعلا انه خلص منه بهذه الحركات الخروجيّة. نعم بعد مضي زمان بمقدار يوازي زمان الخروج ان بقي المكلف فيها فهو مبتلى به لفرض بقائه وعدم خروجه ، وان خرج فهو متخلص عنه ، فعنوان التخلص عن الغصب الزائد يصدق عليه بعد الخروج وفي ظرف انتهاء الحركة الخروجيّة إلى الكون في خارج الدار لا قبله ، كما هو واضح. وعليه فكيف تتصف تلك الحركة بعنوان التخلص والتخلية.

ودعوى ان هذه الحركات وان لم تكن مصداقا لعنوان التخلية والتخلص لتكون واجبة بوجوب نفسي إلا انه لا شبهة في كونها مقدمة له فتكون واجبة بوجوب مقدمي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلا ، وذلك لأن تلك الحركات الخاصة أعني الحركات الخروجيّة مقدمة للكون في خارج الدار ولا يعقل ان تكون مقدمة لعنوان التخلص ، فان عنوان التخلص لا يخلو من ان يكون عنوانا وجوديا وعبارة عن إيجاد الفراغ بين المال وصاحبه كما هو الصحيح أو يكون امراً عدميا وعبارة عن عدم الغصب وتركه ، وعلى كلا التقديرين فهو ملازم للكون في خارج الدار وجوداً لا انه عينه. اما الثاني فواضح ، ضرورة ان ترك الغصب ليس عين الكون في خارج الدار ، بل هو ملازم له خارجا لاستحالة

٣٩١

ان يكون الأمر العدمي مصداقا للأمر الوجوديّ وبالعكس واما الأول فائضا كذلك لوضوح ان عنوان التخلص والتخلية ليس عين عنوان الكون فيه خارجا ومنطبقا عليه انطباق الطبيعي على فرده بل هو ملازم له وجوداً في الخارج هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا قد ذكرنا غير مرة ان حكم أحد المتلازمين لا يسري إلى الملازم الآخر فضلا إلى مقدمته.

فالنتيجة على ضوئهما هي انه لا يمكن الحكم بوجوب تلك الحركات من باب المقدمة أيضا ، فان ما هو واجب وهو عنوان التخلص ليست تلك الحركات مقدمة له وما كانت تلك الحركات مقدمة له وهو الكون في خارج الدار ليس بواجب ، ضرورة ان الكون فيه ليس من أحد الواجبات في الشريعة المقدسة ، لتكون مقدمته واجبة.

وبكلمة أخرى فقد عرفت ان عنوان التخلية اما أن يكون مضاداً للحركات الخروجيّة أو مناقضا لها ، وعلى كلا التقديرين لا يعقل ان تكون تلك الحركات مقدمة له ، لما ذكرناه في بحث الضد من استحالة كون أحد الضدين مقدمة للضد الآخر أو أحد النقيضين مقدمة لنقيضه ، كما تقدم هناك بشكل واضح. فلاحظ.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان عنوان التخلص متحد مع عنوان الكون في خارج الدار ومنطبق عليه انطباق الطبيعي على مصداقه ، فعندئذ وان كانت تلك الحركات مقدمة له أي لعنوان التخلية والتخلص ، إلا انه قد تقدم في بحث مقدمة الواجب انه لا دليل على ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، لتكون تلك الحركات واجبة بوجوبي مقدمي.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الخروج ليس بواجب لا بوجوب نفسي ، لعدم الملاك والمقتضى له. ولا بوجوب مقدمي ، لعدم ثبوت الصغرى أولاً ،

٣٩٢

وعلى تقدير ثبوتها فالكبرى غير ثابتة.

أضف إلى ذلك ان الخروج ليس عنوانا لتلك الحركات المعدة للكون في الخارج ، بل هو عنوان لذلك الكون فيه ، ضرورة انه مقابل الدخول ، فكما ان الدخول عنوان للكون في الداخل فكذلك الخروج عنوان للكون في الخارج ، فاذن لو صدق عليه عنوان التخلية والتخلص أيضا فلا يجدي في اتصاف تلك الحركات بالوجوب ، كما هو واضح فما أفاده (قده) من ان الخروج مصداق للتخلية بين المال وصاحبه لو سلمنا ذلك فلا يفيده أصلا ، لأن ذلك لا يوجب كون تلك الحركات محبوبة وواجبة ، لفرض انها ليست مصداقا لها ، غاية الأمر انها عندئذ تكون مقدمة للواجب ، ولكن عرفت ان مقدمة الواجب غير واجبة ولا سيما إذا كانت مبغوضة.

ومن هنا يظهر ان قياسه (قده) المقام بالاضطرار إلى الجامع بين المحلل والمحرم قياس في غير محله ، لما عرفت من ان الخروج ليس بواجب ، ليكون الاضطرار في المقام متعلقا بالجامع بين الواجب والحرام.

إلى هنا قد تبين بوضوح بطلان بقية الأقوال وصحة قول المحقق صاحب الكفاية (قده) وهو ان المقام داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، وقد ظهر وجهها مما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.

ثم ان له (قده) هنا كلاما آخر. وحاصله هو انا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون اذنه في حال من الحالات ولو كان ذلك بعنوان التخلية ورده إليه كالخروج عن الدار المغصوبة في المقام كما هو ليس ببعيد فغاية ما يوجب ذلك هو ان يكون حال الخروج هنا حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النّفس المحترمة ، بيان ذلك هو ان الشارع بما انه ينهى عن شرب الخمر مطلقا من أي شخص كان وفي اية حالة ولا يرضى بشربه أصلا ، لما فيه من المفسدة الإلزامية ، فمن الطبيعي انه لا يرضى بارتكاب المقدمة التي بها

٣٩٣

يضطر المكلف إلى شربه ، ولكن بعد ارتكاب تلك المقدمة في الخارج ولو باختياره واضطراره إلى شربه من ناحية توقف حفظ النّفس عليه لا محالة لا يقع هذا الشرب المتوقف عليه ذلك إلا محبوبا للمولى ومطلوبا له عقلا وشرعا وذلك كمن يجعل نفسه مريضا باختياره وإرادته ويضطر بذلك إلى شربه ، أو يأتي بمقدمة يضطر بها في حفظ بيضة الإسلام إلى قتل نفس محترمة ـ مثلا ـ وهكذا ولكن بعد جعل نفسه مضطراً إلى ذلك لا يقع الشرب المتوقف عليه حفظ الدين لا يقع في الخارج إلا محبوبا ومطلوبا. وما نحن فيه كذلك ، فان الشارع بما انه لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون اذنه مطلقا ولو كان ذلك بالخروج وبعنوان التخلية ورده إلى مالكه فلا محالة يحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج أعني بها الدخول ، فعندئذ يقع الدخول محرما من ناحية نفسه ومن ناحية كونه مقدمة للخروج ، واما الخروج بعده فيقع محبوبا ومطلوبا عقلا وشرعا.

وعلى الجملة فالخروج لا يخلو من ان يكون حاله حال ترك الصلاة فيكون مبغوضاً في حال دون آخر كما في حال الحيض والنفاس وما شاكل ذلك فانه يجوز للمرأة ان تفعل فعلا كان تشرب دواء يترتب عليه الحيض لتترك صلاتها ، أو يكون حاله حال شرب الخمر فيكون مبغوضاً في جميع الحالات ، ولذا يحرم التسبيب إليه ، فان كان من قبيل الأول فهو واجب نفساً من ناحية كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه ، وان كان من قبيل الثاني فهو واجب غيري من ناحية كونه مقدمة لواجب أهم وهو التخلية بين المال ومالكه ، فيكون حاله عندئذ حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النّفس المحترمة ، فكما انه بعد الاضطرار إليه بسوء اختياره واجب بوجوب غيري ومطلوب للشارع ، فكذلك الخروج بعد

٣٩٤

الدخول ، غاية الأمر ان المقدمة التي بها اضطر المكلف إلى شرب الخمر لحفظ النّفس المحترمة سائغة في نفسها ، ولكنها صارت محرمة من ناحية التسبيب والمقدمية ، والمقدمة التي بها اضطر إلى الخروج محرمة في نفسها مع قطع النّظر عن كونها مفضية إلى ارتكاب محرم آخر ومقدمة له ، ولكن من المعلوم انه لا دخل لذلك فيما نحن فيه أصلا ، بداهة انه لا فرق في وقوع شرب الخمر مطلوباً في هذا الحال بين كون المقدمة التي توجب اضطرار المكلف إليه سائغة في نفسها أو محرمة كذلك ، غاية الأمر على الثاني يكون العقاب من ناحيتين من ناحية حرمتها النفسيّة ومن ناحية التسبيب بها إلى ارتكاب محرم آخر.

فالنتيجة هي ان الخروج اما ان يكون ملحقاً بالقسم الأول ، وعلى هذا فيكون واجباً في نفسه ومطلوباً لذاته ولا يكون محرماً أبداً بمعنى ان التصرف في أرض الغير بالدخول والبقاء فيها محرم لا مطلقاً ولو كان بالخروج ، فانه واجب باعتبار كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه ، واما أن يكون ملحقاً بالقسم الثاني ، وعلى هذا فيكون واجباً غيرياً باعتبار انه مقدمة لواجب أهم ، وان كان محرماً في نفسه من ناحية انه تصرف في مال الغير وهو محرم مطلقاً على الفرض وكيف كان فهو على كلا التقديرين غير داخل في موضوع قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) وهي ان تلك الحركات أعني الحركات التي هي مقدمة للكون في خارج الدار خارجة عن كلا البابين ، فكما انها ليست من صغريات الباب الأول ، فكذلك ليست من صغريات هذا الباب. والوجه في ذلك ما تقدم من ان تلك الحركات بقيت على ما هي عليه من المبغوضية من دون ان تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية ، بداهة انها تصرف في مال الغير بدون اذنه ومصداق للغصب ، ومعه كيف تعرض عليها جهة محبوبية ، وقد

٣٩٥

سبق انها ليست مقدمة لواجب أيضاً لتعرض عليها الوجوب الغيري ، غاية ما في الباب ان العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية انها أخف القبيحين وأقل المحذورين ، وبما ان ذلك منته إلى اختيار المكلف فلا ينافي استحقاق العقاب عليها. وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت انها غير واجبة.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا عروض الوجوب الغيري لها فمن الطبيعي انه لا ينافي مبغوضيتها النفسيّة واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار. كما هو الحال في المقام ، ضرورة ان الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك ومحبوبية متعلقه ليقال انها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها بل هو ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها ومن المعلوم انها لا تنافي مبغوضيتها النفسيّة أصلا.

ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضاً ، وذلك لأن العقاب فيهما ليس على التسبيب والإتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل النّفس المحترمة ، والوجه في ذلك هو ان تلك المقدمة لو كانت محرمة في ذاتها ومبغوضة للمولى لاستحق العقاب على نفسها سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرم آخر أم لا واما لو لم تكن محرمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها فلا وجه لاستحقاق العقاب عليها أصلا ، بل يستحق العقاب عندئذ على ارتكاب المحرم كشرب الخمر ـ مثلا ـ أو قتل النّفس ، لفرض ان الاضطرار إلى ذلك منته إلى الاختيار ، بداهة انه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الّذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضاً للمولى ، بل كان محبوباً له من ناحية عروض الوجوب الغيري له على الفرض لا معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه أي التسبيب مبغوضاً ومحرماً لوضوح ان التسبيب إلى المحرم حرام ومبغوض ، لا التسبيب إلى غيره ، واما إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوباً فلا يعقل كون التسبيب إليه

٣٩٦

محرماً ، وهذا واضح ، فاذن لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل باعتبار ان الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منته إلى الاختيار فلا ينافي العقاب ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافى مبغوضيته في نفسه ، لفرض ان الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه ، بل هو ناش عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلا ، كما عرفت.

فالنتيجة ان هذين المثالين وما شاكلهما كالخروج جميعاً داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار وان الجميع بالإضافة إلى الدخول في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد وان العقل في جميع ذلك يرشد إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.

وقد تحصل من ذلك ان الصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الخروج أو ما شاكله ليس محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية فعلا ، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء الاختيار ، ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وان كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فراراً عن المحذور الأهم ، ولكن عرفت ان ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهياً إلى سوء اختياره ، كما هو مفروض المقام.

اما الكلام في المقام الثاني (وهو حكم الصلاة الواقعة حال الخروج) فيقع في عدة موارد :

الأول ـ ما إذا كان المكلف غير متمكن من الصلاة في خارج الدار أصلا لا مع الركوع والسجود ولا مع الإيماء لضيق الوقت أو نحوه.

الثاني ـ ان يتمكن من الصلاة مع الإيماء فيه ، ولا يتمكن من الصلاة مع الركوع والسجود.

٣٩٧

الثالث ـ ان يتمكن من الصلاة في الخارج مع الركوع والسجود لسعة الوقت.

اما الكلام في المورد الأول فيجوز له الصلاة حال الخروج ، ولكن يقتصر فيها على الإيماء بدلا عن الركوع والسجود وذلك لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ، ومعه لا محالة تنتقل الوظيفة إلى بدلهما وهو الإيماء ، هذا على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية. واما على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع وجوداً فمقتضى القاعدة الأولية عدم جواز إيقاع الصلاة حال الخروج ، لفرض ان الحركات الخروجيّة متحدة مع الصلاة خارجاً ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ، ولكن مقتضى القاعدة الثانوية هو لزوم الإتيان بها لأنها لا تسقط بحال ، ومرد ذلك إلى سقوط المبغوضية عن تلك الحركات بمقدار زمان تسع الصلاة فيه.

وبكلمة أخرى ان من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ولا يتمكن من الخروج عنها لمانع من سد باب أو نحوه إلى ان ضاق وقت الصلاة ، فعندئذ على القول بالجواز وتعدد المجمع لا إشكال في صحة الصلاة بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه ، لفرض ان مصداق المأمور به غير متحد مع مصداق المنهي عنه ، ومعه لا مانع من التقرب به أصلا وان كان المكلف مستحقاً للعقاب من ناحية ان تصرفه في مال الغير بدون اذنه منته إلى الاختيار. والإشكال إنما هو على القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الحركات الخروجيّة ، وحاصله ان الحرمة في المقام وان سقطت من ناحية الاضطرار ، ضرورة ان بقاء الحرمة في هذا الحال مع عدم تمكن المكلف من الترك أي ترك الحرام لغو محض وتكليف بما لا يطاق ، إلا ان مبغوضيتها

٣٩٨

باقية ، ومن المعلوم انها تمنع عن قصد التقرب ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض عند المولى وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة ، لفرض انها مبغوضة فيستحيل ان يكون مقرباً ، هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية ، فلو كنا نحن وهذا القاعدة ولم يكن هنا دليل آخر يدل على وجوب الصلاة وعدم سقوطها بحال لقلنا بسقوطها وعدم وجوبها في المقام ، ولكن من جهة دليل آخر وانها لا تسقط بحال نلتزم بوجوبها وعدم سقوطها في هذا الحال أيضاً ، ولازم ذلك هو سقوط المبغوضية بمعنى ان الصلاة في هذا الحال ليست بمبغوضة بل هي محبوبة فعلا وقابلة للتقرب بها ، ولكن لا بد عندئذ من الالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الحركات التي تكون مصداقاً للصلاة بمقدار زمان يسع الصلاة دون الزائد على ذلك ، فان الضرورات تتقدر بقدرها ، لوضوح ان ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال من ناحية وعدم إمكان الحكم بصحتها هنا مع فرض بقاء المبغوضية من ناحية أخرى أوجب الالتزام بسقوط تلك المبغوضية عن هذه الحركات الصلاتية لا محالة في زمان يسع لها فحسب ، لا مطلقاً. لعدم المقتضى لارتفاع المبغوضية عنها في الزائد على هذا المقدار من الزمان ، بل هي باقية على حالها من المبغوضية.

وان شئت فقل : ان المقتضى للالتزام بسقوط المبغوضية امران :

الأول ـ وجوب الصلاة في هذا الحال وعدم سقوطها عن المكلف على الفرض.

الثاني ـ عدم إمكان الحكم بصحة الصلاة مع بقاء المبغوضية ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض ، فعندئذ لو لم نلتزم بسقوط المبغوضية عنها في زمان يسع لفعلها للزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، ولأجل ذلك لا بد من الالتزام بسقوطها ، ومن المعلوم ان ذلك لا يقتضي إلا جواز التصرف بمقدار

٣٩٩

زمان يسع لفعل الصلاة فحسب ، واما الزائد عليه فلا مقتضى للجواز وارتفاع المبغوضية أصلا ، هذا بناء على وجهة نظر الأصحاب من القول بالجواز أو الامتناع في مسألة الاجتماع.

واما بناء على ما حققناه هناك من ان اجزاء الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً ما عدا السجدة ، باعتبار ان مجرد مماسة الجبهة الأرض لا يكفي في صدقها بل لا بد فيها من الاعتماد على الأرض ، وبدونه لا تصدق السجدة ، ومن المعلوم انه تصرف في مال الغير بدون اذنه وهو مبغوض للمولى فلا يمكن التقرب به. نعم نفس هيئة السجود ليست تصرفا فيه ، فانها من هذه الناحية كهيئة الركوع والقيام والقعود ، وقد ذكرنا ان هذه الهيئات التي تعتبر في الصلاة ليس شيء منها متحداً مع الكون في الأرض المغصوبة ومصداقا للغصب. نعم الحركات المتخللة بينها كالهوي والنهوض وان كانت تصرفا فيها ومصداقا له ، إلا انها ليست من اجزاء الصلاة ، فما هو من اجزائها غير متحد مع الغصب خارجا وما هو متحد معه ليس من اجزائها. وقد سبق الكلام في كل ذلك بشكل واضح ، فعندئذ لا مانع من الحكم بصحة الصلاة هنا أصلا ، وان قلنا بفسادها في غير حال الخروج من ناحية السجدة أو الركوع أو من ناحية مقدماتهما ، ومعه لا حاجة إلى التماس دليل آخر يدل على وجوبها في هذا الحال ، وذلك لأن الصلاة في حال الخروج في مفروض المقام ليست إلا مشتملة على التكبيرة والقراءة والإيماء بدلا عن الركوع والسجود. ومن الطبيعي انه ليس شيء منها تصرفا في مال الغير عرفا ومصداقا للغصب.

اما التكبيرة والقراءة فلأنهما من مقولة الكيف المسموع ، ومن الواضح انه لا صلة لها بالتصرف في مال الغير أصلا ، كما انه من الواضح انه لا يعد تموج الهواء وخرقه الناشئ من الصوت تصرفا.

٤٠٠