محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

يحكم باعتبارها في ظرف الجعل ، فانه لا وجه لتخصيص متعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة ، بل مقتضى إطلاقه هو الجامع بين المقدورة وغير المقدورة. وعليه فلا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع ، لفرض انطباق الطبيعة المأمور بها عليها عندئذ.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان اعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هو باقتضاء نفس التكليف ، ولكن من الواضح انه لا يقتضي إلا كون متعلقه مقدوراً في الجملة ، ولو باعتبار القدرة على بعض افراده ، لئلا يكون طلبه طلباً للمحال ، ولئلا يكون البعث نحوه بعثاً نحو الممتنع ، ضرورة انه إذا كان مقدورا كذلك صح البعث نحوه وصح طلبه ، ولا يكون بعثاً نحو الممتنع وطلباً له. وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في بحث الضد بصورة مفصلة.

ولو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلمنا ان التكليف يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم ، فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قده) من عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد ، وذلك لفرض ان الصلاة في الدار المغصوبة غير متحدة مع الغصب خارجا ، وان التركيب بينهما انضمامي لا اتحادي ، كما هو أساس هذا القول. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انها مقدورة عقلا وشرعا اما عقلا فواضح. واما شرعا فلفرض عدم انطباق كبرى : الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي على المقام ، وذلك لفرض ان الصلاة ليست ممنوعة شرعا وانها سائغة في نفسها ومقدورة تشريعاً ، والممنوع الشرعي هو ما إذا كان الشيء في نفسه ممنوعا ومنهيا عنه شرعا ، أو كانت له مقدمة محرمة وان لم يكن في نفسه محرما ، واما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا مانع من كونه مصداقا للمأمور به وفردا له وبما ان الصلاة في الدار المغصوبة على هذا القول أي القول بالجواز ليست بمحرمة على الفرض ولا لها مقدمة محرمة. غاية الأمر ان إيجادها فيها ملازم لإيجاد الحرام

٢٢١

فلا مانع من كونها مصداقا للمأمور به ، ولا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها بما هي عليها ومجرد ملازمة وجودها في الخارج لوجود الحرام لا يمنع عن ذلك ، بعد فرض ان وجودها مغاير لوجود الحرام خارجا.

فالنتيجة انه لو سلمنا اختصاص التكليف بخصوص الحصة المقدورة فمع ذلك لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع ، لفرض انها مقدورة عقلا وشرعا ، ومعه لا محالة تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها. وما ذكره (قده) من الكبرى وهي ان الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي لا ينطبق على ما نحن فيه.

ثم انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا انه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع من هذه الناحية أي من ناحية انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد ولكن يمكن تصحيحها من ناحية الالتزام بالترتب.

واما ما أفاده (قده) من ان الترتب لا يعقل في المقام ، بدعوى ان عصيان النهي الّذي هو شرط للأمر بالصلاة اما ان يتحقق في ضمن نفسها ، واما ان يتحقق في ضمن ضدها ، فعلى الأول يلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج وهو محال ، وعلى الثاني يلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجود ضده وتحققه فيه ، وهذا غير معقول.

فيرد عليه ما ذكرناه في بحث الضد ، وملخصه : هو ان المنهي عنه في المقام هو الكون في الأرض المغصوبة ، لأنه تصرف فيها حقيقة ومصداق للغصب كذلك ، لا الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك ، ضرورة ان شيئاً منها لا يكون مصداقا للغصب وتصرفا في مال الغير ، فالتصرف فيه انما هو الكون فيها. ومن الواضح جدا انه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان النهي عنه كأن يقول المولى لا تكن في أرض الغير وان كنت فيها فتجب عليك الصلاة ، فيكون الأمر بالصلاة معلقاً على عصيان النهي عن الكون فيها. ومن المعلوم انه لا يلزم

٢٢٢

من اشتراط الأمر بالصلاة به أحد المحذورين المزبورين ـ أعني بهما طلب الجمع بين الضدين ، واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج.

والوجه في ذلك ظاهر وهو ان ما يتحقق به الغصب هو الكون فيها الّذي هو من مقولة الأين. واما الأفعال الخاصة كالأكل والنوم والشرب وما شاكل ذلك فليست مصداقا للغصب ، ضرورة ان الأكل ليس مما يتحقق به الغصب وكذا النوم والشرب وما شابه ذلك في مفروض الكلام ، بل الغصب يتحقق بالكون فيها.

ومن الواضح انه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة به ولا يلزم شيء من المحذورين المذكورين ، اما عدم لزوم محذور طلب الجمع بين الضدين فلفرض ان الكون فيها ليس مضاداً لها ، بل هو ملازم معها وجودا ويجتمع معها خارجا. واما عدم لزوم محذور اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج ، فلأنه مبنى على ان الكون فيها متحد مع الصلاة خارجا ويكون عينها فيه ، ولكنك عرفت انه خلاف مفروض الكلام في المقام ، فان المفروض هو انه مغاير لها وجودا فان الكلام في المقام مبني على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية ، فاذن لا محذور أبدا.

ونتيجة ما ذكرناه هي انه لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع من ناحية الترتب.

ولو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلمنا انه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالترتب الا انه لا مانع من الحكم بصحتها من ناحية الملاك على وجهة نظره (قده) من تسليم اشتمالها على الملاك ، وذلك لأن ما أفاده (قده) من ان الملاك في المقام لا يكون مقرباً من جهة القبح الفاعلي غير تام ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة من ان الإيجاد عين الوجود في الخارج ذاتاً وحقيقة ، والاختلاف بينهما انما هو في الإضافة ، فالشيء الواحد باعتبار إضافته إلى الفعل وجود ، وباعتبار إضافته إلى

٢٢٣

الفاعل إيجاد ، ويترتب على ذلك ان الوجود إذا كان متعددا في الخارج فلا محالة يكون الإيجاد أيضاً متعدداً فيه ، ولا يعقل ان يكون واحدا ، وبما ان الوجود في مورد الاجتماع متعدد خارجا كما هو المفروض في المقام فلا محالة يكون الإيجاد أيضاً كذلك بمعنى ان المأمور به ، كما انه مغاير للمنهي عنه وجودا ، كذلك مغاير له إيجادا. وعليه فيكون إيجاد المأمور به بما هو محبوبا للمولى ، وليس فيه أي قبح أصلا ، والقبيح انما هو إيجاد المنهي عنه فحسب ، والمفروض ان قبحه لا يسرى إليه ، فاذن لا مانع من التقرب به من ناحية اشتماله على الملاك ، وان كان إيجاده في الخارج ملازما لإيجاد قبيح ومبغوض فيه ، الا انه لا يمنع من التقرب به أصلا ، لفرض ان الفعل في نفسه صالح للتقرب به من جهة اشتماله على الملاك ، وإيجاده في الخارج لا يكون قبيحاً ومبغوضاً عليه ، والقبيح انما هو إيجاد امر آخر مغاير له ـ وهو إيجاد المنهي عنه ـ غاية الأمر انه ملازم له خارجا ومن المعلوم ان مجرد ملازمته له لا يمنع عن الصحة. وعلى هذا فلا قبح فعلي ولا فاعلي.

فالنتيجة انه بناء على ما يراه (قده) من اشتماله على الملاك لا مناص من الحكم بالصحّة أصلا.

نعم بناء على وجهة نظرنا من انه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك فالحكم بالصحّة في المقام يبتني على الالتزام بأحد الأمرين الأولين : هما انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد في مورد الاجتماع. والقول بالترتب فيه.

واما الدعوى الثانية وهي صحة العبادة في مورد الاجتماع في صورة الجهل والنسيان على القول بالجواز وتعدد المجمع ماهية ووجودا ، فلان المفروض انه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل ، والتنافي بينهما انما هو في مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معا ، فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة. وعليه فإذا

٢٢٤

فرض كون أحد الحكمين أهم من الآخر تعين صرف القدرة في امتثاله ، وبذلك عجز عن امتثال الآخر.

ولكن من المعلوم ان تعجيزه عنه انما هو في ظرف وصوله إلى المكلف وكونه منجزاً عليه ليحكم العقل بلزوم امتثاله ، واما في ظرف كون المكلف جاهلا به فحيث ان العقل لا يحكم بلزوم امتثاله ، ولا يكون شاغلا للمكلف بامتثاله لا يكون معجزا له عن امتثال الآخر ، لفرض انه مع الجهل به قادر على امتثاله والمفروض انه مع القدرة عليه فعلي ، لأن المانع عن فعليته عدم القدرة على امتثاله ومع التمكن منه لا محالة يكون فعلياً بفعلية موضوعه وهو القدرة.

وان شئت فقل انه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل على الفرض والتنافي بينهما انما هو في مقام الفعلية والامتثال ، فإذا فرض جهل المكلف بأحدهما فلا مانع من فعلية الآخر بفعلية موضوعه وهو القدرة ، هذا في صورة الجهل.

واما في صورة النسيان فالامر أوضح من ذلك ، لفرض انه لا حرمة واقعاً في هذه الصورة. هذا على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده). واما على وجهة نظرنا فقد عرفت ان العبادة صحيحة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع واقعاً في صورة العلم بالحرمة فضلا عن صورة الجهل بها أو النسيان لها.

قال في المقدمة العاشرة ما إليك لفظه : «انه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً ولو في العبادات وان كان معصية للنهي أيضاً ، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر الا انه لا معصية عليه.

واما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر مطلقاً في غير العبادات ، لحصول الغرض الموجب له ، واما فيها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيراً ، فانه وان كان متمكنا مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها ،

٢٢٥

الا انه مع التقصير لا يصلح ان يتقرب به أصلا. فلا يقع مقربا ، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة كما لا يخفى.

واما إذا لم يلتفت إليها قصوراً وقد قصد القربة بإتيانه ، فالامر يسقط لقصد التقرب بما يصلح ان يتقرب به لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً ، لأجل الجهل بحرمته قصوراً ، فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً ، وان لم يكن امتثالا ، بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح ، لكونهما تابعين لما علم منهما ، كما حقق في محله. مع انه يمكن ان يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فان العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها ، وان لم تعمه بما هي مأمور بها ، لكنه لوجود المانع ، لا لعدم المقتضي. ومن هنا انقدح انه يجزي ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة ، وعدم كفاية الإتيان بمجرد المحبوبية ، كما يكون كذلك في ضد الواجب حيث لا يكون هناك امر يقصد أصلا. وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعا أو حكما يكون الإتيان بالمجمع امتثالا وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة ، غاية الأمر انه لا يكون مما يسعه بما هي مأمور بها لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية واما لو قيل بعدم التزاحم الا في مقام فعلية الأحكام لكان مما يسعه وامتثالا لأمرها بلا كلام.

وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقدم دليل الحرمة تخييراً أو ترجيحاً ، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا ، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع ، وقيل بالامتناع ، وتقديم جانب الحرمة حيث يقع صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنسيان ، لموافقته للغرض ، بل للأمر. ومن هنا علم ان الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة لا الانقياد ، ومجرد اعتقاد

٢٢٦

الموافقة. وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع ، بل الحكم إذا كان عن قصور مع ان الجل لو لا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة ، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر فلتكن من ذلك على ذكر».

نلخص ما أفاده (قده) في هذه المقدمة إلى عدة نقاط :

الأولى ـ انه لا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض بإتيان المجمع بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة على القول بالجواز مطلقاً في العبادات والتوصليات اما في التوصليات فواضح ، لأن الغرض منها على الفرض صرف وجودها وتحققها في الخارج ، ولا يعتبر فيها كيفية زائدة. واما في العبادات فلأجل انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد المأتي به في الخارج ـ وهو المجمع ـ وان استلزم ذلك معصية للنهي أيضاً ، وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة ، فانها تستلزم التصرف فيها ، وهو محرم الا انها حيث لم تكن متحدة مع الحرام على الفرض فلا يكون ارتكابه موجباً لفسادها ، فيكون كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة ، فكما انه لا يوجب بطلانها باعتبار انه غير متحد معها خارجا فكذلك الكون في الأرض المغصوبة لا يوجب فساد الصلاة فيها من جهة انه غير متحد معها.

الثانية ـ انه بناء على القول بالامتناع فعلى تقدير تقديم جانب الوجوب على جانب الحرمة فلا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض بإتيان المجمع عندئذ ، وذلك لأنه على هذا الفرض متمحض في كونه مصداقا للمأمور به دون المنهي عنه ولذا لا يكون الإتيان به وقتئذ معصية أيضاً. واما على تقدير تقديم جانب الحرمة على الوجوب فيما ان المجمع لا يكون حينئذ مصداقا للمأمور به ، ضرورة ان الحرام لا يعقل ان يكون مصداقا للواجب ، فلا يحصل الامتثال بإتيانه إذا كان الواجب عباديا ضرورة انه مع الالتفات إلى الحرمة لا يمكن قصد التقرب به المعتبر في صحته واما

٢٢٧

إذا كان توصلياً فيسقط امره بإتيانه ، لفرض ان الغرض منه يحصل بمجرد وجوده وتحققه في الخارج ولو كان في ضمن فعل محرم ، هذا إذا كان عالماً بالحرمة.

واما إذا كان جاهلا بها فمرة يكون جهله عن تقصير ، وأخرى عن قصور.

اما على الأول فتكون عبادته فاسدة ، والوجه في ذلك هو ان صحة العبادة ترتكز على ركائز :

١ ـ ان يكون الفعل في نفسه قابلا للتقرب.

٢ ـ ان يقصد المكلف التقرب به.

٣ ـ ان لا يكون صدوره منه قبيحاً ومبغوضاً ، ثم ان الركيزة الأولى والثانية وإن كانتا موجودتين هنا ، باعتبار ان المكلف بما انه كان جاهلا بالحرمة فيتمشى منه قصد القربة ، والمفروض ان الفعل لاشتماله على الملاك قابل لأن يتقرب به في نفسه الا ان الركيزة الثالثة غير موجودة هنا ، وذلك لأن الفعل وان كان في نفسه قابلا للتقرب من ناحية اشتماله على الملاك الا انه حيث كان فعلا مبغوضاً للمولى ، كما هو المفروض من ناحية ، وجهله كان عن تقصير من ناحية أخرى فلا يكون صدوره منه حسناً ، بل يكون قبيحاً ومبغوضا ، فاذن لا يمكن الحكم بصحة العبادة الفاقدة لتلك الركيزة.

واما على الثاني فتكون صحيحة وذلك لتوفر تلك الركائز فيه.

اما الركيزة الأولى فلان الفعل من ناحية اشتماله على الملاك قابل للتقرب به والجهل بالحرمة بما انه كان عن قصور فهو مانع عن فعلية الحرمة. ومن الواضح ان الحرمة غير الفعلية لا تمنع عن صحة العبادة وقابليتها للتقرب.

واما الركيزة الثانية فالمفروض ان المكلف متمكن من قصد القربة في هذا الحال.

واما الركيزة الثالثة فيما ان جهله كان عن قصور فلا محالة لا يكون صدور الفعل

٢٢٨

منه قبيحاً ، فاذن لا مانع من الحكم بصحة العبادة في هذا الفرض ، وان لم يتحقق عنوان الامتثال ، فان عنوان الامتثال انما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما تعلق به الأمر لا فيما إذا كان الحكم بصحته من جهة محبوبيتها ، كما في المقام. وقد ذكرنا ان سقوط الأمر لا يدور مدار حصول الامتثال ، بل هو يدور مدار حصول الغرض. ومن هنا ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي ان صحة العبادة لا تتوقف على قصد الأمر فحسب ، بل يكفي في صحتها إتيانها بقصد محبوبيتها ، أو اشتمالها على الملاك أو نحو ذلك.

الثالثة ـ انه يمكن ان يقال بحصول الامتثال في المقام حتى بناء على تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في الواقع ، لا للجهات المؤثرة فيها فعلا ، وذلك لأن العقل لا يرى تفاوتاً بين هذا الفرد وبقية الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها ، فكما انه يحصل الامتثال بإتيان غيره من افراد هذه الطبيعة فكذلك يحصل بإتيانه ، فلا فرق بينهما بنظر العقل من هذه الناحية أصلا.

الرابعة ـ ان عدم انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد يرتكز على تزاحم جهات المصالح والمفاسد في مقام تأثيرها في الأحكام الواقعية ، فانه على هذا حيث كانت جهة الحرمة أقوى من جهة الوجوب في الواقع ونفس الأمر ، فلا محالة هي المؤثرة فيها دون تلك. وعليه فلا يكون المجمع مصداقا للواجب. واما إذا فرض عدم المزاحمة بين تلك الجهات في الواقع ، وانه لا أثر لها ، والمزاحمة انما هي بين الجهات الواصلة في مقام فعلية الأحكام لكان المجمع بنفسه مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي ، ولكان الإتيان به امتثالا لأمرها ، وذلك لأن جهة الوجوب بما انها كانت واصلة إلى المكلف لفرض انها ملتفت إليها ، فهي المؤثرة دون جهة الحرمة ، لعدم الالتفات إليها.

وعلى الجملة فلا أثر للملاك الواقعي ولا تأثير له في الحكم الشرعي أبدا ،

٢٢٩

فالمؤثر انما هو الملاك الواصل والفعلي ـ وهو ما كان ملتفتاً إليه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المجمع على الفرض مشتمل على مناط كلا الحكمين معا ، غاية الأمر ان ملاك الحرمة بحسب الواقع أقوى من ملاك الوجوب. ولكن عرفت انه لا أثر لأقوائية الملاك بحسب وجوده الواقعي. ومن ناحية ثالثة ان الملاك الواصل إلى المكلف هو ملاك الوجوب ، فانه ملتفت إليه دون ملاك الحرمة.

فالنتيجة على ضوئها هي ان المؤثر ملاك الوجوب دون غيره ، ولازمه هو أن المجمع عندئذ يكون مصداقا للمأمور به فعلا ، من دون ان يكون محرما كذلك.

الخامسة ـ قد تقدم ان هذه المسألة تبتني على ان يكون لكل من متعلقي الأمر والنهي ملاك حكمه على كل من القولين ، وبذلك تمتاز هذه المسألة عن مسألة التعارض باعتبار ان مسألة التعارض تبتني على ان يكون لأحدهما مناط دون الآخر. وعلى هذا يترتب ان دليلي الوجوب والحرمة إذا كانا متعارضين وقدمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب تخييرا أو ترجيحاً ، فلا مجال وقتئذ للصحة أصلا وان فرض ان جهله بالحرمة كان عن قصور ، وذلك لفرض انه لا مقتضى للوجوب عندئذ في مورد الاجتماع أصلا ، ومعه يستحيل ان تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ضرورة استحالة ان يكون الحرام مصداقا للواجب. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، فانه على هذا يقع المجمع صحيحاً في موارد الجهل عن قصور وموارد النسيان ، وذلك لما عرفت من ان المجمع على هذا مشتمل على ملاك الوجوب ، فلا مانع من التقرب به إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور.

ومن هنا حكم الفقهاء بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور ، مع ان المشهور بينهم هو القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة.

٢٣٠

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط :

اما النقطة الأولى فما أفاده (قده) من صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً لا يمكن المساعدة عليه بإطلاقه ، وذلك لما تقدم من ان المسألة على هذا القول تدخل في كبرى باب التزاحم مطلقاً على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) وفيما إذا لم تكن مندوحة في البين على وجهة نظرنا. وعليه فلا بد من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب ومرجحاته ، فان كان الوجوب أهم من الحرمة أو محتمل الأهمية فيقدم عليها ، واذن فلا إشكال في صحة العبادة والإتيان بها بداعي امرها وكذا إذا كان الوجوب مساويا لها ، ولكن أخذنا بجانب الوجوب دون الحرمة ، وان كانت الحرمة أهم من الوجوب أو محتمل الأهمية فتقدم عليه ، فاذن تبتني صحة العبادة في محل الكلام على الالتزام بأحد امرين :

الأول ـ ان يقول بالترتب.

الثاني ـ باشتمال المجمع في هذا الحال على الملاك.

اما الأول ـ وهو الترتب ـ فقد أنكره (قده) وأصر على استحالته وعدم إمكانه. وعليه فلا يمكن تصحيح العبادة به على وجهة نظره.

واما الثاني فهو وان اعترف به ، وقد صحح العبادة بذلك في أمثال المورد الا انا قد ذكرنا غير مرة انه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك في هذا الحال وذلك لما عرفت من انه لا طريق لنا إلى ثبوت الملاك ومعرفته في مورد بعد سقوط الحكم عنه ، فانه كما يمكن ان يكون سقوطه من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضى له ، يمكن ان يكون من ناحية عدم المقتضى والملاك له في هذا الحال ، ولا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر ، بداهة ان الطريق إلى إحرازه منحصر في ثبوت الحكم وبعد سقوطه فلا طريق لنا إلى إحرازه أصلا.

نعم لو لم تكن مزاحمة بين الإطلاقين كما إذا كانت في البين مندوحة ، فعندئذ

٢٣١

تصح العبادة بإتيان المجمع بداعي الأمر بالطبيعة ، لفرض ان الطبيعة المأمور بها على هذا لم تكن مزاحمة مع الحرام ، والمزاحم له انما هو فردها. وعليه فلا مانع من الإتيان بهذا الفرد بداعي امرها أصلا. ولعل ما ذكره (قده) بقوله لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز .. إلخ ناظر إلى هذا الفرض. ولكن يرده انه لا وجه للاقتصار على هذا الفرض أصلا.

فالنتيجة ان ما أفاده (قده) من صحة العبادة لا يتم فيما إذا لم تكن مندوحة في البين ، وتقع المزاحمة بين الواجب والحرام ، وكان الحرام أهم أو محتمل الأهمية بناء على وجهة نظره (قده) من استحالة الترتب ، وذلك لفرض انه لا امر به في هذا الحال ، ليمكن الإتيان به بداعي امره ، ولا طريق لنا إلى اشتماله على الملاك ليمكن التقرب به من هذه الجهة ، مع ان هذا الفرض خارج عن مورد كلامه ، لأن المفروض في كلامه هو صحة العبادة بالأمر على الجواز لا بالملاك. وكيف كان فما أفاده (قده) لا يتم على إطلاقه ، فلا بد من التفصيل.

ومن هنا يظهر ان ما أفاده (قده) بقوله انه معصية للنهي أيضاً لا يتم مطلقاً. فانه انما يتم فيما إذا لم تكن مزاحمة بين الحكمين ، أو كانت مزاحمة ولكن كان الحرام أهم من الواجب أو محتمل الأهمية. واما إذا كان الواجب أهم منه أو محتمل الأهمية ، فلا معصية أصلا.

واما النقطة الثانية فقد تقدم ان أساس القول بالامتناع في هذه المسألة هو اتحاد متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليليهما ، لاستحالة ان يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً فاذن لا بد من الرجوع إلى قواعد ومرجحات باب المعارضة. وعليه فان قدمنا دليل الأمر على دليل النهي ترجيحاً أو تخييرا على القول به فلا إشكال في صحة العبادة بإتيان المجمع فانه على هذا مصداق للمأمور به فحسب ، ولا يكون

٢٣٢

بمنهي عنه في شيء. وان قدمنا دليل النهي على دليل الأمر فلا يصح الإتيان بالمجمع عندئذ ، لفرض انه منهي عنه فعلا ، ويستحيل ان يكون مصداقا للمأمور به ضرورة ان الحرام لا يعقل ان يكون مصداقا للواجب فيقيد إطلاق دليل الواجب بغير ذلك الفرد من دون فرق في ذلك بين ان يكون الواجب توصلياً أو تعبديا ضرورة استحالة ان يكون المحرم مصداقا له مطلقاً فان الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي اعتبار قصد القربة في الواجب العبادي دون التوصلي ، فاذن لا يصح الإتيان بالمجمع في مورد الاجتماع في التوصليات فضلا عن العباديات لفرض تقييد المأمور به بغير هذا الفرد فلا يكون هذا الفرد مصداقا له ليكون الإتيان به مجزيا فان اجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل والا فمقتضى القاعدة عدم الاجزاء ولا فرق من هذه الناحية بين التوصلي والتعبدي أصلا. نعم قد يعلم من الخارج ان الغرض من الواجب التوصلي يحصل بمطلق وجوده في الخارج ولو في ضمن فرد محرم وذلك كإزالة النجاسة عن البدن أو الثوب فان الغرض من وجوبها حصولها في الخارج وتحققها فيه ولو كان بماء مغصوب واما فيما إذا لم يعلم ذلك من الخارج فلا يحكم بصحة الواجب وسقوط الأمر عنه وحصول الغرض وذلك ككفين الميت ـ مثلا ـ فانه واجب توصلي فمع ذلك لا يحصل الغرض منه بتكفينه بالكفن المغصوب ولا يحكم بسقوط الأمر عنه بل هو من موارد اجتماع الأمر والنهي ومن هنا ذكرنا في بحث الواجب التوصلي والتعبدي ان الواجب التوصلي على أقسام : منها ـ ما لا يترتب الغرض على مطلق وجوده في الخارج ، بل يترتب على وجوده الخاصّ وهو ما إذا لم يكن في ضمن فرد محرم أو لم يصدر من المجنون أو الصبي والا فلا يحصل الغرض منه وذلك كتحنيط الميت ـ مثلا ـ فانه واجب توصلي ومع ذلك لو أتى به الصبي أو المجنون لم يكن مجزيا. فما أفاده (قده) من ان الواجب إذا كان توصلياً يحصل الغرض منه بإتيان المجمع لا يمكن تصديقه بوجه.

٢٣٣

وبكلمة أخرى قد سبق منا غير مرة ان القول بالامتناع يرتكز على وحدة المجمع وجودا وماهية. وعليه فحيث تقع المعارضة بين إطلاق دليلي الأمر والنهي فلا بد من الرجوع إلى مرجحاتها ، وبعد ملاحظة المرجحات إذا قدمنا إطلاق دليل النهي على إطلاق دليل الأمر ، فمعناه ان المجمع مبغوض للمولى ومحرم في الواقع فحسب ، وليس مصداقا للواجب واقعاً وفي نفس الأمر. هذا فيما إذا علمت الحرمة واضح ، وكذلك مع الجهل عن تقصير أو قصور فان الأحكام الواقعية ثابتة لمتعلقاتها في الواقع ، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها أبدا ، ضرورة انها لا تتغير بواسطة جهل المكلف بها فلو كان شيء حراما في الواقع وكان المكلف جاهلا بحرمته فلا تتغير حرمته بواسطة جهله بها وهذا واضح. ومن ناحية أخرى ان الحرام لا يعقل ان يكون مصداقا للواجب وان فرض كون المكلف جاهلا بحرمته بل معتقدا بوجوبه ، ضرورة ان الواقع لا ينقلب عما هو عليه.

فالنتيجة على ضوء ذلك هي انه لا إشكال في انه لا ينطبق الواجب على المجمع بناء على تقديم جانب الحرمة. فلا يسقط الأمر به بإتيان المجمع ، حتى إذا كان توصليا مع العلم بحرمته أو مع الجهل بها الا إذا علم من الخارج وفاؤه بالغرض وعلى ذلك يترتب فساد الإتيان بالمجمع كالصلاة في الدار المغصوبة مع العلم بمبغوضيته وحرمته ، بل مع الجهل بها ولو كان عن قصور ، ضرورة استحالة ان يكون الحرام مصداقا للواجب ، والمفروض ان الجهل بالحرمة لا يوجب تغيير الواقع وان كان عن قصور والعلم بوجوبه لا يوجب الأمر به في الواقع وارتفاع حرمته فاذن كيف يمكن الحكم بالصحّة في فرض الجهل بها عن قصور.

وان شئت فقل ان صحة العبادة ترتكز على ركيزتين :

الأولى ـ تحقق قصد القربة.

الثانية ـ كون الفعل في نفسه محبوبا وقابلا للتقرب به ، ومع انتفاء إحدى

٢٣٤

هاتين الركيزتين لا تقع العبادة صحيحة ، ضرورة ان الفعل إذا لم يكن محبوبا في نفسه ، فلا يمكن التقرب به فضلا عن كونه مبغوضاً في الواقع أو لو كان محبوباً كذلك ، ولكن المكلف لم يقصد القربة ، فحينئذ تقع العبادة فاسدة ، وفيما نحن فيه وان أمكن تحقق قصد القربة من المكلف باعتبار انه جاهل بالحرمة ، إلا ان المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع كالصلاة في الأرض المغصوبة على القول بالامتناع ووحدة المجمع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب لا يكون محبوباً في نفسه وصالحاً للتقرب به ، لتمحضه في الحرمة والمبغوضية في الواقع.

ومن المعلوم ان الحرام لا يمكن ان يقع مصداقا للواجب كما هو الحال في بقية موارد التعارض بالعموم من وجه ، مثل ما إذا فرض قيام الدليل على وجوب إكرام العالم ، وفرض قيامه أيضاً على حرمة إكرام الفاسق ، فتقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع ، وهو العالم الفاسق حيث ان مقتضى إطلاق الدليل الأول وجوب إكرامه ومقتضى إطلاق الدليل الثاني حرمة إكرامه ، فعندئذ لو قدمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب في مورد الاجتماع ، لخرج مورد الاجتماع ـ وهو إكرام العالم الفاسق عن كونه مصداقا للواجب واقعاً ، سواء أكان المكلف عالماً بالحرمة أو بموضوعها أم كان جاهلا بها كذلك عن قصور أو تقصير ، ضرورة ان الواقع لا يتغير بواسطة جهل المكلف به والاعتقاد بخلافه لما ذكرناه غير مرة من ان فعلية الأحكام في الواقع تابعة لفعلية موضوعاتها ، ولا دخل لعلم المكلف بها وجهله. وهذا واضح.

وكذا الحال فيما نحن فيه ، فانه بناء على تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب في مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ فالمجمع متمحض عندئذ في الحرمة والمبغوضية بحسب الواقع ، ولا يعقل حينئذ ان يكون مصداقا

٢٣٥

للمأمور به والواجب ، وان فرض ان المكلف جاهل بحرمته جهلا عن قصور ، غاية الأمر ان جهله بها كذلك يوجب كونه معذوراً وغير مستحق للعقاب على ارتكاب الحرام في الواقع ، هذا بناء على وجهة نظرنا من ان هذه المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض ، فتجري عليه أحكامه.

ولكن يمكن لنا المناقشة فيه على وجهة نظره (قده) أيضاً ، ببيان ان قصد الملاك انما يكون مقربا فيما إذا لم يكن مزاحماً بشيء ، ولا سيما إذا كان أقوى منه ، كما هو المفروض في المقام واما الملاك المزاحم فلا يترتب عليه أي أثر ، ولا يكون قصده مقربا ، بناء على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام للجهات الواقعية لا للجهات الواصلة وبما ان في مفروض الكلام ملاك الوجوب مزاحم بملاك الحرمة في مورد الاجتماع فلا يكون صالحاً للتقرب به.

وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول أي القول بالامتناع ، لا من ناحية الأمر وانطباق المأمور به بما هو على المأتي به في الخارج ، ولا من ناحية الملاك لفرض انه مزاحم بما هو أقوى منه.

واما النقطة الثالثة فيردها ان العقل يرى التفاوت بين هذا الفرد وبقية الافراد من ناحية ان هذا الفرد بما انه ليس مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي ولا تنطبق تلك الطبيعة عليه ، فلا يمكن إحراز انه واف بغرض الطبيعة المأمور بها ، ضرورة ان طريق إحراز وفائه بغرضها منحصر بانطباقها عليه ومع عدم الانطباق لا طريق لنا إلى ذلك أصلا ، لوضوح ان عدم الانطباق كما يمكن ان يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن ان يكون من ناحية عدم المقتضى له. ومن الطبيعي ان العقل على هذا لا يحكم بحصول الامتثال بإتيان المجمع وسقوط الأمر.

واما النقطة الرابعة فيرد عليها ان الأحكام الشرعية بناء على وجهة نظر

٢٣٦

العدلية تابعة لجهات المصالح والمفاسد الواقعية وهي مقتضية لجعلها على نحو القضايا الحقيقية ، واما فعلية تلك الأحكام فهي تابعة لفعلية موضوعاتها في الخارج ، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الفعلية أصلا.

وعلى هذا فلا معنى لما أفاده (قده) من التزاحم بين الجهات في مقام فعلية الأحكام بان يكون المؤثر في الحكم فعلا هو الجهة الواصلة دون غيرها ضرورة ان لازم ذلك هو دخل علم المكلف في فعلية الأحكام ، وهذا غير معقول ، لاستلزامه التصويب وانقلاب الواقع ، فان لازمه هو ان المكلف إذا كان عالماً بحرمة المجمع في مورد الاجتماع وانه مشتمل على مفسدة ، فالحرمة فعلية ، ولا أثر للوجوب عندئذ أصلا ، وإذا كان جاهلا بحرمته عن قصور وعالماً بوجوبه وانه مشتمل على مصلحة ، فالوجوب فعلي ، ولا أثر للحرمة ، وهذا معنى دخل علم المكلف في فعلية الأحكام. وعليه فلا محالة يلزم التصويب وانقلاب الواقع ومن الواضح جدا ان ذلك مما لم يلتزم به أحد حتى هو (قده) كيف فان لازم ذلك هو خروج المقام عن محل النزاع ضرورة انه في هذا الحال لا حرمة واقعاً ليقع الكلام في انها تجتمع مع الوجوب في مورد الاجتماع أم لا.

وبكلمة أخرى ان الأمر في الأحكام العقلية العملية كالحسن والقبح وان كان كما ذكر من انها تابعة للجهات الواصلة ، فلا يتصف الشيء بالحسن أو القبح العقلي في الواقع ، وانما يتصف به فيما إذا علم المكلف بجهة محسنة أو مقبحة له. والسر في ذلك هو انه لا واقع لحكم العقل بالحسن والقبح ما عدا إدراكه استحقاق الفاعل الذم على فعل والمدح على آخر. ومن المعلوم ان استحقاق الفاعل المدح أو الذم على صدور فعل منه انما يكون في فرض التفاته إلى الجهة المحسنة أو المقبحة له ، والا فلا يعقل اتصافه بذلك.

٢٣٧

ولكن الأمر في الأحكام الشرعية ليس كذلك ، ضرورة انها تابعة للجهات الواقعية في مقام الجعل بلا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك المقام أصلا. وفي مقام الفعلية تابعة لفعلية موضوعها وتحققه في الخارج ، ولا دخل لعلم المكلف بالحكم بفعليته أصلا ، كما انه لا يضر بها جهله ، فلو كانت الأحكام الواقعية تابعة للجهات الواصلة للزم التصويب وانقلاب الواقع لا محالة ، فعندئذ يخرج المقام عن محل النزاع ، فانه على هذا ليس في مورد الاجتماع حكمان ليتكلم في جواز اجتماعهما فيه وعدم جوازه ، بل حكم واحد فحسب ، فان المكلف إذا كان جاهلا بالحرمة جهلا عن قصور فلا حرمة في مورد الاجتماع واقعاً ، بل هو متمحض في الوجوب ، وان كان العكس فبالعكس ، كما هو واضح. ولكنك عرفت فساد هذا المبنى ، وان المؤثر في الأحكام انما هو الجهات الواقعية لا غيرها وعليه فمناط الحرمة في مورد الاجتماع بما انه كان أقوى ، كما هو المفروض فلا محالة يكون هو المؤثر ، ولا أثر لمناط الوجوب عندئذ أصلا ، سواء أكان المكلف عالما بالحرمة أم كان جاهلا بها عن تقصير أو قصور. فعلى جميع التقادير لا يكون المجمع واجباً اما على التقدير الأول والثاني فواضح كما اعترف هو (قده) بذلك واما على التقدير الثالث فلان الجهل لا يوجب انقلاب الواقع ، فالواقع باق على ما كان عليه ، وان ملاك الوجوب بما انه مزاحم بما هو أقوى منه فلا أثر له.

وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده (قده) في هذه النقطة لا يرجع إلى معنى محصل على وجهة نظره (قده) في باب الاجتماع فضلا عن وجهة نظرنا فيه.

واما النقطة الخامسة فقد ظهر فسادها مما تقدم من بيان ملاك باب الاجتماع وملاك باب التعارض وملاك باب التزاحم. فلا حاجة إلى الإعادة.

كما انه قد تبين على هدى ما ذكرناه ان ما نسب (قده) إلى المشهور من الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة

٢٣٨

على جانب الوجوب في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور لا يمكن تصديقه بوجه ، وذلك لأن حكمهم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع مبني على القول بالجواز وتعدد المجمع ولم يعلم من حالهم انهم حكموا بالصحّة حتى على القول بالامتناع ووحدة المجمع بل المعلوم منهم عكس ذلك يعنى انهم على هذا القول حكموا بالبطلان دون الصحة.

هذا تمام الكلام في الجاهل.

واما الكلام في الناسي للحكم أو الموضوع فيقع في مقامين :

الأول ـ فيما إذا كان نسيانه مستندا إلى سوء اختياره بان يكون المكلف مقصراً في ذلك.

الثاني ـ فيما لا يكون مستنداً إلى اختياره بل هو قاصر في ذلك ومعذور فيه.

اما الكلام في المقام الأول فالظاهر بطلان عبادته وفسادها ، وذلك كما إذا فرض ان المكلف غصب ثوبا أو دارا ثم نسي وصلى في ذلك الثوب أو الدار ، ففي هذا الحال وان لم يمكن توجيه التكليف بالحرمة إليه ، لاستحالة تكليف الناسي في حال نسيانه ، الا ان ملاك الحرمة باق وهو مبغوضية هذا التصرف باعتبار انه منته بالاخرة إلى اختياره ، فاذن لا مانع من الحكم باستحقاقه للعقاب من ناحية باعتبار انه منته إلى الاختيار. وفساد عبادته من ناحية أخرى باعتبار ان هذا التصرف مبغوض للمولى ، فلا يمكن التقرب به ، وهذا واضح.

واما الكلام في المقام الثاني فالظاهر بل المقطوع به ان عبادته صحيحة ، وذلك لفرض ان النسيان رافع للحرمة واقعاً ، فلا يكون المجمع في هذا الحال محرما كذلك ، ولا مبغوضا لفرض ان نسيانه كان عن قصور ، لا عن تقصير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المجمع إذا كان جائزا واقعا فلا مانع من شمول إطلاق دليل الأمر له ، ضرورة ان المانع من شموله لهذا الفرد هو دليل

٢٣٩

الحرمة وتقديمه على دليل الوجوب وبذلك يقيد إطلاق دليله ، فإذا فرض سقوط دليله واقعاً ، كما في المقام فلا مانع من شمول إطلاقه له أصلا.

وبتعبير آخر قد ذكرنا ان المعتبر في صحة العبادة امر ان أحدهما ان يقصد القربة والآخر ان يكون الفعل في نفسه قابلا للتقرب به ، والمفروض ان كلا الأمرين في المقام موجود.

اما الأول فلفرض ان المكلف قصد القربة واما الثاني فلفرض ان الفعل في نفسه سائغ واقعاً ، ومعه لا مانع من التقرب به بإتيانه بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، لفرض انها تشمله بعد سقوط دليل المقيد لها واقعاً ، وهذا ظاهر.

ومن هنا حكمنا بصحة الوضوء في الماء المغصوب نسيانا إذا كان عن قصور وذلك لفرض ان التصرف فيه جائز واقعا ، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له.

فالنتيجة ان ما نسب إلى المشهور من صحة الصلاة في الدار المغصوبة في حال نسيان الحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور متين جدا ولا مناص عنه. ولكن ما نسب إليهم من صحة الصلاة فيها في حال الجهل فقد عرفت انه غير تام.

لحد الآن قد تبين أن ما أفاده (قده) في هذه المقدمة من الثمرة لا يمكن إتمامه بدليل ، بل لا يترقب صدوره من مثله (قده).

وبعد ذلك نقول انه (قده) (المحقق صاحب الكفاية) (قده) قد اختار في المسألة القول بالامتناع ، ورتب ذلك القول على بيان مقدمات :

الأولى ـ ما لفظه : انه لا ريب في ان الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان ، وان لم يكن بينهما مضادة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائية

٢٤٠