محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

نعم إذا كان العنوان من العناوين الاشتقاقية فلا محالة يكون المجمع في مورد اجتماع اثنين منها واحداً وجوداً وماهية. كما انه إذا كان من المبادي المتأصلة والماهيات المقولية الحقيقية فلا محالة يكور المجمع فيه متعدداً كذلك. وأما في غير هذين الموردين فلا ضابط لوحدته ولا لتعدده أصلا ، بل لا بد من لحاظه في كل مورد لنحكم بالجواز أو الامتناع.

وأما النقطة الثامنة فالكلام فيها في صغرى تلك الكبرى وهي ملاحظة ان الصلاة هل يمكن ان تتحد مع الغصب خارجا أولا ، وقد عرفت ان شيخنا الأستاذ (قده) ذهب إلى عدم إمكان اتحادهما بدعوى ان الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أخرى ويستحيل اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة واحدة. ولكن الأمر ليس كذلك ، فان الصلاة وان كانت مركبه من مقولات متعددة ، إلا ان الغصب ليس من المقولات في شيء ، بل هو مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة ، كما أشرنا إليه. وعليه فيمكن اتحاده مع الصلاة.

فلنا دعويان : الأولى ـ ان الصلاة مركبة من مقولات متعددة والغصب ليس مقولة (الثانية) إمكان اتحادهما في الخارج. اما الأولى فلان الصلاة ليست حقيقة مستقلة ومقولة برأسها في قبال بقية المقولات كما هو واضح بل هي مركبة من مقولات عديدة : منها الكيف المسموع كالقراءة والأذكار. ومنها الكيف النفسانيّ كالقصد والنية. ومنها الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه قد برهن في محله ان المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها وعليه فلا يمكن ان يكون المركب من تلك المقولات مقولة برأسها لاعتبار الوحدة في المقولة ولا وحدة للمركب منها ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة أخرى فاذن ليست للصلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار ولذا لا مطابق لها في الخارج ما عدا هذه المقولات المؤلفة

٢٨١

الصلاة منها. واما الغصب فلأنه ممكن الانطباق على المقولات المتعددة. ومن المعلوم انه لا يمكن ان يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة فلو كان الغصب من الماهيات المقولية لاستحال اتحاده مع مقولة أخرى وانطباقه عليها لاستلزام ذلك تفصل شيء واحد بفصلين في عرض واحد واندراجه تحت ماهيتين نوعيتين وهو محال ، فاذن لا محالة يكون من المفاهيم الانتزاعية فقد ينتزع من الكون في الأرض المغصوبة الّذي هو من مقولة الأين وقد ينتزع من أكل مال الغير أو لبسه الّذي هو من مقولة أخرى .. وهكذا.

فالنتيجة انه لا يعقل ان يكون الغصب جامعاً ماهوياً لهذه المقولات فلا محالة يكون جامعاً انتزاعياً لها.

ودعوى انه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من مقولات متعددة وماهيات مختلفة وعليه فلا يمكن انتزاع مفهوم الغصب من تلك المقولات وان كانت صحيحة ولا مناص من الالتزام بها. الا ان الغصب لم ينتزع من هذه المقولات بأنفسها ، بل انتزاعه منها باعتبار عدم اذن المالك في التصرف بها ، ضرورة انه في الحقيقة منشأ لانتزاعه ، لا نفس التصرف بها بما هو ، والمفروض انه واحد بالعنوان ، وهذا ظاهر.

واما الدعوى الثانية فقد تقدم ان العنوان الانتزاعي قد يتحد مع العنوان الذاتي المقولي بمعنى ان منشأ انتزاعه في الخارج هو ذلك العنوان الذاتي لا غيره وفي المقام بما ان عنوان الغصب انتزاعي فلا مانع من اتحاده مع الصلاة خارجا أصلا.

ولكن الكلام في ان الأمر في الخارج أيضاً كذلك أم لا وهذا يتوقف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدة من المقولات ، لنرى ان الغصب يتحد مع هذه المقولات خارجا أو مع إحداها أولا.

٢٨٢

فنقول من هذه المقولات مقولة الكيف النفسانيّ وهي النية فانها أول جزء للصلاة بناء على ما حققناه في بحث الواجب التعبدي والتوصلي من ان قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر وليس اعتباره بحكم العقل ولا يشك أحد في انها ليست تصرفا في مال الغير عرفا ، لتكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقا له ، ضرورة ان الغصب لا يصدق على الأمور النفسانيّة كالنية والتفكر في المطالب العملية أو نحو ذلك من الأمور الموجودة في أفق النّفس ، وهذا من الواضحات الأولية فلا يحتاج إلى البيان.

ومنها التكبيرة التي هي من مقولة الكيف المسموع ولا شبهة في انها ليست متحدة مع الغصب خارجا ، ضرورة انه لا يصدق على التكلم في الدار المغصوبة انه تصرف فيها ، ليكون مصداقا للغصب ومنشأ لانتزاعه.

ودعوى ـ ان التكلم وان لم يكن تصرفا في الدار إلا انه تصرف في الفضاء باعتبار انه يوجب تموج الهواء فيه ، والمفروض ان الفضاء ملك للغير كالدار فكما ان التصرف فيها غير جائز ومصداق للغصب ، فكذلك التصرف فيه ـ خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك لأن الفضاء وان كان ملكا للغير والتصرف فيه غير جائز بدون اذن صاحبه ، الا ان التكلم كما انه لا يكون تصرفا في الدار كذلك لا يكون تصرفا في الفضاء ، ضرورة انه لا يصدق عليه انه تصرف فيه وعلى تقدير صدق التصرف عليه عقلا فلا يصدق عرفا بلا شبهة. ومن المعلوم ان الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير منصرفة عن مثل هذا التصرف فلا تشمله أصلا ، لأنها ناظرة إلى المنع عما يكون تصرفا عند العرف ، وما لا يكون تصرفا عندهم فلا تشمله وان كان تصرفا بنظر العقل كمسح حائط الغير باليد مثلا فانه ليس تصرفا عند العرف ، ولذا لا تشمله الأدلة ، فلا يكون محكوماً بالحرمة وان كان تصرفا عند العقل.

٢٨٣

والحاصل ان التكلم في الدار المغصوبة ليس تصرفا فيها ولا في قضائها لا عقلا ولا عرفا أولا. وعلى فرض كونه تصرفا فيه عقلا فلا ريب في انه ليس تصرفا عرفا ، ومعه لا يكون مشمولا لتلك الأدلة ثانياً.

ومن هنا لو نصب أحد مروحة في مكان توجب تموج الهواء في فضاء الغير فلا يقال انه تصرف في ملك الغير ، وهذا واضح.

ومن ذلك يظهر حال جميع أذكار الصلاة كالقراءة ونحوها ، ضرورة ان الغصب لا يصدق عليها.

وبكلمة أخرى ان الغصب هنا منتزع من ماهية مباينة لماهية التكلم في الخارج ، فان الغصب في المقام منتزع من الكون في الدار ، وهو من مقولة الأين ، والتكلم من مقولة الكيف المسموع فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت مقولة واحدة.

فالنتيجة ان التكبيرة وما شاكلها غير متحدة مع الغصب خارجا.

ومنها الركوع والسجود والقيام والقعود ، والصحيح انها أيضاً غير متحدة مع الغصب خارجا ، والوجه في ذلك هو ان هذه الأفعال من مقولة الوضع ، فانها هيئات حاصلة للمصلي من نسبة بعض أعضائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج. والوضع عبارة عن هيئة حاصلة للجسم من نسبة بعض اجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج وهذه الهيئات هي حقائق تلك الأمور التي تعتبر في الصلاة. ومن الواضح جدا ان تلك الهيئات ليست بأنفسها مصداقا للغصب ومتحدة معه في الخارج ومنشأ لانتزاعه ، ضرورة عدم صدق التصرف عليها بما هي ، لتكون كذلك ، بل يستحيل ان تتحد مع الغصب ، لفرض انه في المقام منتزع من الكون في الأرض المغصوبة وهو من مقولة الأين ، وتلك الهيئات من مقولة الوضع ، وعليه فيستحيل اتحادهما خارجا.

٢٨٤

ونتيجة ذلك هي ان هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها مع قطع النّظر عن مقدماتها من الهوي والنهوض مصداقا للغصب ومنشأ لانتزاعه.

وقد يتخيل في المقام انها من مقولة الفعل ، وليست من مقولة الوضع فاذن لا محالة تكون مصداقا للغصب وتصرفا في مال الغير.

ولكنه تخيل خاطئ جدا ، فانه ناش من الخلط بين ما يكون من قبيل الفعل الصادر بالإرادة والاختيار ، وما يكون من مقولة الفعل التي هي من إحدى المقولات التسع العرضية ، والهيئات المزبورة وان كانت من الأفعال الاختيارية الصادرة بالإرادة والاختيار ، إلا انها مع ذلك ليست من مقولة الفعل ضرورة انه لا منافاة بين ما يكون الشيء من قبيل الفعل الصادر بالاختيار ، ولا يكون من مقولته ، للفرق بين الأمرين ، وهو ان الملاك في كون الفعل اختيارياً هو صدوره من الإنسان بالإرادة والاختيار ، والملاك في كون الشيء من مقولته هو ان يكون حصوله بالتأثير على نحو التدريج. كتسخين المسخن ما دام يسخن ونحو ذلك ومن المعلوم ان أحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر بالكلية ولا مساس لأحدهما بالآخر أبدا ، ولذا لا يعتبر في كون شيء من مقولة الفعل ان يكون من الأفعال الاختيارية أصلا كما هو واضح.

وعلى الجملة فالفعل الاختياري لا يكون مساوقا لمقولة الفعل بل النسبة بينهما عموم من وجه فان الشيء قد يكون من مقولته ولا يكون اختياريا كالهيئات العارضة للأجسام الخارجية ، وقد يكون اختياريا وليس من مقولته ، بل من مقولة أخرى كمقولة الوضع أو الكيف أو نحوها.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجا ، لا من ناحية النية ، ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ، ولا من ناحية

٢٨٥

الركوع والسجود والقيام والقعود.

بقي في المقام أمران :

الأول ـ انه لا شبهة في ان الهوى إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام والجلوس تصرف في ملك الغير ، ويكون مصداقا للغصب ، ضرورة ان الحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرف فيها ، وبما ان الهوى والنهوض نحو من الحركة فلا محالة يكونان متحدين مع الغصب خارجا ومن مصاديقه وافراده ، الا ان الكلام في انهما من أجزاء الصلاة كبقية أجزائها أو من مقدماتها فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع ، لفرض ان الصلاة عندئذ متحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له ، ولو باعتبار بعض اجزائها ، ومعه لا بد من القول بالامتناع أي بامتناع الصلاة في الأرض المغصوبة ، لاستحالة ان يكون شيء واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معاً ، وعلى الثاني فلا مناص من القول بالجواز ، وذلك لأن الهوي والنهوض وان كانا تصرفا في ملك الغير ، إلا انهما ليسا من أجزاء المأمور به ، ليلزم اتحاده مع المنهي عنه ، بل هما من مقدمات وجوده في الخارج.

وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب ان حرمة المقدمة لا تنافي إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة ، واما إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، كما لو توقف إنقاذ الغريق مثلا على التصرف في مال الغير ، ولم يكن له طريق آخر يمكن إنقاذه منه فاذن لا بد من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم وأحكامه.

وعلى الجملة فالهوي الّذي هو مقدمة للركوع والسجود والنهوض الّذي هو مقدمة للقيام إذا كانا من أفعال الصلاة واجزائها يتعين القول بالامتناع في المسألة وإذا كانا من المقدمات يتعين القول بالجواز فيها ، ولذا لو فرض تمكن شخص من

٢٨٦

الركوع والسجود والقيام والجلوس بدونهما ، لكان مجزئاً لا محالة ، ولا يجب عليه الإتيان بهما ، لفرض عدم دخلهما في المأمور به لا جزء ولا شرطا.

وعلى هذا الضوء فلا بد من ان يدرس ناحية كونهما من اجزاء الصلاة أو من مقدماتها ، الصحيح هو انهما من المقدمات وذلك لأن الظاهر من أدلة جزئية الركوع والسجود والقيام والجلوس هو ان نفس هذه الهيئات جزء فحسب ، لا مع مقدماتها من الهوى والنهوض ، لفرض ان هذه العناوين اسم لتلك الهيئات خاصة لا لها ولمقدماتها معاً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المذكور في لسان الأدلة انما هو نفس تلك العناوين على الفرض ، لا هي مع مقدماتها.

فالنتيجة على ضوئهما هي ان المستفاد من تلك الأدلة ليس الا جزئية هذه العناوين فحسب دون مقدماتها كما لا يخفى ، وتمام الكلام في ذلك في محله.

وعلى هدى هذا البيان قد ظهر انه لا شبهة في صحة الصلاة في الدار المغصوبة إذا فرض انها لم تكن مشتملة على الركوع والسجود ذاتاً كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة ، وان ذكرنا في موضعه انها ليست بصلاة ، بل هي دعاء حقيقة ، أو عرضا كما إذا كان المكلف عاجزا عنهما وكانت وظيفته الصلاة مع الإيماء والإشارة بدلا عنهما ، لفرض ان الصلاة عندئذ كما انها ليست مصداقا للتصرف في مال الغير ، كذلك ليست متوقفة عليه ، وأما إذا كانت مشتملة على الركوع والسجود فوقتئذ تقع المزاحمة بين حرمة التصرف في مال الغير ووجوب الصلاة ، فلا بد من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة من تقديم الأهم أو محتمل الأهمية أو نحو ذلك على غيره ان كان ، والا فيتعين التخيير.

وعلى الجملة فعلى ما حققناه من ان الهوى والنهوض ليسا من أفعال الصلاة واجزائها لا مناص من القول بالجواز من هذه الناحية في المسألة. وعليه فإذا لم تكن مندوحة في البين تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة وحرمة التصرف ، كما عرفت.

٢٨٧

الثاني ـ ان الظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرد مماسة الجبهة الأرض ، بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها ، ومن المعلوم ان الاعتماد على أرض الغير نحو تصرف فيها ، فلا يجوز. وعليه فتتحد الصلاة المأمور بها مع الغصب المنهي عنه في الخارج ، فاذن لا مناص من القول بالامتناع ، ولا يفرق في ذلك بين كون ما يصح عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر ، ضرورة انه على كلا التقديرين يكون الاعتماد على أرض الغير ، وعلى هذا فلا يكفي في القول بالجواز مجرد الالتزام بكون الهوى والنهوض من المقدمات لا من الاجزاء ، بل لا بد من فرض عدم كون السجود على أرض الغير أيضاً.

ونتيجة ذلك هي جواز الاجتماع فيما إذا لم تكن الصلاة مشتملة على السجود ذاتاً كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة ، أو عرضا ، كما إذا كان المكلف عاجزا عنه أو فرض انه متمكن من السجود على أرض مباحة أو مملوكة ، كما إذا كان في انتهاء الأرض المغصوبة وفي غير هذه الصور لا بد من القول بالامتناع لفرض ان المأمور به فيها أي في هذه الصور متحد مع المنهي عنه خارجا وكون شيء واحد وهو السجود مصداقا للمأمور به والمنهي عنه وهو محال.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من انه لا يمكن ان تكون الحركة الواحدة مصداقا للصلاة والغصب معاً ، وذلك لأن ما أفاده (قده) يرتكز على نقطة واحدة وهي ان الغصب من مقولة برأسها وهي مقولة الأين. وعلى هذا فيستحيل اتحاده مع الصلاة خارجا.

ولكن قد عرفت ان هذه النقطة خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها أصلا ضرورة ان الغصب مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة ، وليس من المفاهيم المتأصلة والماهيات المقولية. وعليه فلا مانع من اتحاده مع الصلاة في الخارج أبدا بأن يكون منشأ انتزاعه بعينه ما تصدق عليه الصلاة ، بل قد مر انه

٢٨٨

متحد خارجا مع السجدة فيها ، ومع الهوى والنهوض بناء على كونهما من اجزائها كما ان ما أفاده (قده) من ان الصادر من المكلف في الدار المغصوبة حركتان إحداهما مصداق للغصب والأخرى مصداق للصلاة من الغرائب ، بداهة ان الصادر من المكلف في الدار ليس الا حركة واحدة وهي مصداق للغصب ، فلا يعقل ان تكون مصداقا للصلاة المأمور بها. على انه لو كانت هناك حركة أخرى تكون مصداقا لها في نفسها فلا محالة تكون مصداقا للغصب أيضاً ، لوضوح ان كل حركة فيها تصرف فيها ومصداق له ، فاذن كيف يمكن فرض وجود الحركتين فيها تكون إحداهما مصداقا للغصب فحسب ، والأخرى مصداقا للصلاة كذلك.

وخلاصة ما ذكرناه لحد الآن هي ان القول بالامتناع في مسألتنا هذه أعني الصلاة في الأرض المغصوبة يتوقف على الالتزام بأحد امرين :

الأول ـ ان نقول بكون الهوى والنهوض من أفعال الصلاة واجزائها لا من المقدمات ، وعلى هذا فلا بد من القول بالامتناع.

الثاني ـ ان نقول بان السجود لا يصدق على مجرد وضع الجبهة على الأرض بدون الاعتماد عليها ، فان الاعتماد عليها مأخوذ في مفهوم السجدة ، فلو وضع جبهته عليها بدون اعتماد لم تصدق عليه السجدة ، بل هو مماسة لها ، لا انه سجدة.

اما الأمر الأول فقد عرفت انهما ليسا من الأفعال والاجزاء ، بل هما من المقدمات ، فاذن من هذه الناحية لا مانع من القول بالجواز أصلا.

واما الأمر الثاني فقد عرفت ان الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة فلا تصدق السجدة بدون الاعتماد عليها ، وهذا واضح. وعليه فلا تجوز الصلاة المشتملة على السجدة في الأرض المغصوبة ، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للمأمور به ، كما انها إذا لم تكن مشتملة عليها فلا مانع من جوازها فيها

٢٨٩

أو إذا فرض ان المكلف متمكن من السجدة على الأرض المباحة أو المملوكة.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحد الآن قد أصبحت ان الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت مشتملة على السجود فلا مناص من القول بالامتناع ، واما إذا لم تكن مشتملة عليه ذاتاً أو عرضاً ، أو كان المكلف متمكناً منه على أرض مباحة أو مملوكة فلا مانع من القول بالجواز.

نتائج ما ذكرناه إلى الآن عدة نقاط :

الأولى ـ ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان مسألة الاجتماع ترتكز على ركيزة واحدة ، وهي ان يكون المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين معاً خاطئ جدا ، وذلك لما حققناه من ان البحث في هذه المسألة لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر ، بل يعم جميع المذاهب والآراء حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد مطلقاً.

والسر فيه ما ذكرناه من ان مرد البحث في هذه المسألة إلى البحث عن ان المجمع في مورد الاجتماع واحد وجودا وماهية أو متعدد كذلك ، فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع مطلقاً وعلى جميع المذاهب ، ضرورة ان استحالة اجتماع الضدين لا تختص بمذهب دون آخر ، وعلى الثاني لا بد من القول بالجواز بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللازم.

الثانية ـ ان ما ذكره (قده) من ان مسألة التعارض ترتكز على كون المجمع مشتملا على مناط أحد الحكمين في مورد الاجتماع أيضاً خاطئ. وذلك لأن البحث عن هذه المسألة كالبحث عن مسألة الاجتماع لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر ، ضرورة ان ملاك التعارض هو عدم إمكان جعل الحكمين معاً في مورد الاجتماع. ومن المعلوم ان هذا لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما فيه لوضوح استحالة جعلهما معاً لشيء واحد ، سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات

٢٩٠

المصالح والمفاسد والقول بعدمها ، فان خلاف الأشعري مع الإمامية انما هو في العقل العملي أعني به التحسين والتقبيح العقليين ، ولأجل ذلك أنكر مسألة التبعية لابتنائها على تلك المسألة أعني مسألة التحسين والتقبيح ، لا في العقل النظريّ أعني به إدراكه إمكان الأشياء واستحالتها ، والمفروض ان جعل الحكمين المتضادين لشيء واحد محال عقلا ، وكذا الحال في مسألة التزاحم ، فانها لا تختص بوجهة نظر دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء حتى مذهب الأشعري ، وذلك لما ذكرناه من ان مبدأ انبثاق المزاحمة بين الحكمين مع عدم التنافي بينهما في مقام الجعل انما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.

الثالثة ـ ان الدليل لا يكون متكفلا لفعلية الحكم أصلا ، ضرورة ان فعليته تتبع فعلية موضوعه في الخارج وأجنبية عنه بالكلية فان مفاده ـ كما ذكرناه غير مرة ـ ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية ، ولا نظر له إلى فعليته ووجوده في الخارج أصلا ، كما انه لا يمكن ان يكون الدليل متكفلا للحكم الاقتضائي وهو اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، ضرورة ان بيان ذلك ليس من شأن الشارع ووظيفته فان وظيفته بيان الأحكام الشرعية ، لا بيان مصالح الأشياء ومفاسدها ومضارها ومنافعها ، وبذلك ظهر ما في كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره) في المقدمة التاسعة فلاحظ.

الرابعة ـ ان ثمرة المسألة على القول بالجواز صحة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً ولو كان عالماً بالحرمة فضلا عما إذا كان جاهلا بها ، ولكن خالف في ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وقال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة ، وبصحتها في صورة الجهل بها والنسيان. وأفاد في وجه ذلك ما حاصله انه لا يمكن تصحيح العبادة بالأمر ، لفرض ان متعلق الأمر هو الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة ولا يمكن بالترتب ، لعدم جريانه في المقام ، ولا يمكن بالملاك ، لفرض ان

٢٩١

صدور المجمع منه قبيح ، ومع القبح الفاعلي لا تصح العبادة ، كما انها لا تصح مع القبح الفعلي.

فالنتيجة انه لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول فضلا عن القول بالامتناع ، ولكن قد تقدم ان نظريته (قده) هذه خاطئة جدا ولم تطابق الواقع أصلا ، لما عرفت من انه يمكن الحكم بصحتها من ناحية الأمر ، لما عرفت من إطلاق المتعلق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصة المقدورة. ومن ناحية الترتب ، لما ذكرناه هناك من انه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلا. ومن ناحية الملاك ، لما عرفت من عدم القبح الفاعلي بالإضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به.

الخامسة ـ قد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه تصح العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً أي في العبادات والتوصليات ، وان كان معصية للنهي أيضاً وتبطل على القول بالامتناع مع العلم بالحرمة ، وكذا مع الجهل بها إذا كان عن تقصير مع ترجيح جانب النهي ، وتصح إذا كان عن قصور. ولكن قد ذكرنا سابقاً عدم تمامية جميع ما أفاده (قده) فلاحظ.

السادسة ـ ان الصحيح في المقام هو ما ذكرناه من صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً أي بلا فرق بين كون المكلف عالماً بالحرمة أو جاهلا بها أو ناسياً ، وكذا بلا فرق بين كون الحرمة أهم من الوجوب أو بالعكس أو كونهما متساويين ، وباطلة على القول بالامتناع مع ترجيح جانب النهي مطلقاً أي من دون فرق بين العلم بالحرمة والجهل بها كان جهله عن قصور أو عن تقصير. نعم صحيحة على هذا الفرض في صورة واحدة وهي صورة النسيان ، كما انها صحيحة على هذا القول مع ترجيح جانب الوجوب.

السابعة ـ ان المحقق صاحب الكفاية (قده) قد اختار في المسألة القول

٢٩٢

بالامتناع بدعوى ان تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، بل المعنون واحد في مورد الاجتماع وجودا وماهية. ولكن قد عرفت ان ما أفاده لا يخرج عن مجرد الدعوى لفرض عدم إقامة برهان عليه ، ولأجل ذلك قلنا انه لا يتم الا على نحو الموجبة الجزئية.

الثامنة ـ ان شيخنا الأستاذ (قده) قد اختار في المسألة القول بالجواز بدعوى ان النسبة بين متعلقي الأمر والنهي إذا كانت عموما من وجه فلا محالة يكون التركيب بينهما انضمامياً لفرض ان جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الافتراق بعينها هي جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الاجتماع. وعليه فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة ، والا لزم ان لا تكون جهة صدقهما في مورد الاجتماع تلك الجهة التي كانت في مورد الافتراق وهذا خلف. وهذا بخلاف ما إذا كانت النسبة بالعموم من وجه بين موضوعي الحكمين كقولنا أكرم العالم ولا تكرم الفاسق حيث ان النسبة بين العالم والفاسق عموم من وجه فان التركيب بينهما في مورد الاجتماع لا محالة يكون اتحاديا وهو العالم الفاسق ، لانطباق كلا العنوانين عليه ، فلا يمكن ان يكون إكرامه واجباً وحراما معاً.

التاسعة ـ قد تقدم ان نظرية شيخنا الأستاذ (قده) انما تتم في المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية ، فان تعدد العنوان منها يستلزم تعدد المعنون في الخارج لا محالة ، لاستحالة ان يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحاديا واما إذا كان أحدهما عنواناً عرضياً والآخر ذاتياً أو كان كلاهما عنواناً انتزاعياً ، فلا يستلزم تعددهما تعدد المعنون ، بل يمكن ان يكون المعنون واحدا ويمكن ان يكون متعددا. ومن هنا قلنا انه لا ضابط للمسألة لا للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز بل لا بد من ملاحظة المجمع في كل مورد. لنرى انه واحد وجودا وماهية أو

٢٩٣

متعدد كذلك ، لنحكم على الأول بالامتناع وعلى الثاني بالجواز ، ولأجل ذلك الصحيح هو القول بالتفصيل في المسألة في مقابل القول بالامتناع والجواز مطلقاً.

نعم ما ذكره (قده) من ان النسبة بالعموم من وجه إذا كانت بين موضوعي الحكمين ، فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحاديا متين جدا ، كما سبق بشكل واضح.

العاشرة ـ ان الغصب عنوان انتزاعي ، وليس من الماهيات المقولية بداهة انه ينطبق على مقولات متعددة ، فلو كان مقولة بنفسه يستحيل ان ينطبق على مقولة أخرى.

الحادية عشرة ـ قد تقدم ان الصلاة بتمام اجزائها غير متحدة مع الغصب خارجا ، الا في السجدة حيث انها متحدة معه في الخارج ومصداق له ، وعلى هذا الضوء فالصلاة إذا لم تكن مشتملة عليها ذاتاً أو عرضا أو كانت السجدة على أرض مباحة مثلا أو مملوكة ، فلا مانع من القول بالجواز أصلا.

الثانية عشرة ـ قد سبق ان الهوى والنهوض من مقدمات الصلاة لا من اجزائها.

الثالثة عشرة ـ ان الصحيح عدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية التي يعبر عنها بالتشخصات مسامحة.

الرابعة عشرة ـ ان النسبة بالعموم من وجه لا تتصور بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض ، لفرض انهما متباينان ماهية ووجودا فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر. وقد تقدم ان النسبة كذلك انما تتصور بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وذاتي.

الخامسة عشرة ـ ان التركيب بين المادة والصورة حقيقي لا انضمامي ، خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) ، حيث يرى ان التركيب بينهما انضمامي ، ولكن قد

٢٩٤

عرفت ان نظره (قده) في ذلك خاطئ ، ولا يمكن تصديقه بوجه.

بقي الكلام في أمور :

الأول ـ التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب.

الثاني ـ التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة.

الثالث ـ التوضؤ أو الاغتسال من الإناء المغصوب.

الرابع ـ التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة.

الخامس ـ التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب.

اما الأول ـ فلا شبهة في القول بالامتناع وعدم جواز الوضوء أو الغسل منه ، ضرورة استحالة ان يكون المنهي عنه مصداقا للمأمور به ، ولا يمكن فيه القول بالجواز أبدا ، ولا مناص من تقديم دليل حرمة التصرف فيه على دليل وجوب الوضوء أو الغسل ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من ان وجوب الوضوء والغسل مشروط بوجدان الماء بمقتضى الآية المباركة ، وقد قلنا ان المراد منه وجوده الخاصّ من جهة القرينة الداخلية والخارجية وهو ما يتمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعا ، والمفروض في المقام ان المكلف لا يتمكن من استعماله شرعا وان تمكن عقلا ، ومعه يكون فاقدا له فوظيفة الفاقد هو التيمم دون الوضوء أو الغسل. وعليه فلا بد من الالتزام بفساد الوضوء أو الغسل به مطلقاً حتى في حال الجهل ، ضرورة ان التخصيص واقعي والجهل بالحرمة لا يوجب تغيير الواقع وصيرورة الحرام واجباً ولو كان عن قصور ، وهذا واضح.

نعم لو كان المكلف ناسياً لكون هذا الماء مغصوبا فتوضأ أو اغتسل به فلا إشكال في صحة وضوئه أو غسله إذا كان نسيانه عن قصور لا عن تقصير. والوجه في ذلك هو ان النسيان رافع للتكليف واقعاً فلا يكون الناسي مكلفا في الواقع وهذا بخلاف الجهل ، فانه رافع للتكليف ظاهرا. فيكون الجاهل مكلفاً في

٢٩٥

الواقع ، وعليه فترتفع حرمة التصرف في هذا الماء واقعاً من ناحية النسيان ، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له ، فان المانع عن شموله هو حرمة التصرف فيه ، والمفروض انها قد ارتفعت واقعاً من ناحية النسيان ، ومع ارتفاعها لا محالة يشمله لفرض عدم المانع منه حينئذ أصلا ومعه لا محالة يكون صحيحاً. نعم لو كان نسيانه عن تقصير كما هو الحال في أكثر الغاصبين ، فلا يمكن الحكم بصحته ، وذلك لأن الحرمة وان ارتفعت واقعاً من جهة نسيانه ، الا ان ملاكه باق وهو المبغوضية ، ومعه لا يمكن التقرب به.

فالنتيجة ان التوضؤ أو الاغتسال بهذا الماء غير صحيح في صورة الجهل ولو كان عن قصور ، وصحيح في صورة النسيان إذا كان كذلك. ولكن الشيخ الأستاذ (قده) في المقام كلام ، وهو انه (قده) مع التزامه بفساد العبادة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة مطلقاً ذهب إلى صحة الوضوء أو الغسل هنا بهذا الماء في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع عن قصور. ولعله (قده) استند في ذلك إلى أحد امرين :

الأول ـ دعوى ان الوضوء أو الغسل مشتمل على الملاك في هذا الحال.

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان صدوره من المكلف في هذا الحال حسن على الفرض ، ومعه لا مانع من التقرب به من ناحية اشتماله على الملاك.

وغير خفي ان هذه الدعوى خاطئة جدا حتى عنده (قده) ، ضرورة انه لا طريق لنا إلى إحراز ان الوضوء أو الغسل في هذا الحال مشتمل على الملاك ، لما ذكرناه غير مرة من انه لا طريق لنا إلى معرفة ملاكات الأحكام مع قطع النّظر عن ثبوتها ، فاذن لا يمكن الحكم بصحته من هذه الناحية.

الثاني ـ دعوى الإجماع على الصحة في هذا الفرض كما ذكرها صاحب مفتاح الكرامة (قده).

٢٩٦

ويردها أولا ـ ان الإجماع غير ثابت وانما هو إجماع منقول وهو ليس بحجة وعلى تقدير ثبوته فهو انما يكون حجة إذا كان تعبدياً لا فيما إذا كان محتمل المدرك أو معلوما ، ضرورة انه في هذا الحال لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام فلا يكون حجة والإجماع المدعى في المقام ، على تقدير تسليمه بما انه محتمل المدرك لاحتمال ان من بقول بصحة الوضوء أو الغسل هنا انما يقول به من جهة توهم اشتماله على الملاك ، أو من ناحية تخيل ان المؤثر في الحكم انما هو الجهات الواصلة دون الجهات الواقعية ، فاذن لا بد من النّظر في هذين الأمرين :

اما الأمر الأول فقد عرفت انه لا مجال له أصلا ، ضرورة انه لا طريق لنا إلى إحراز انه مشتمل على الملاك في هذا الحال كما مر آنفاً.

واما الأمر الثاني فقد نشأ من الخلط بين الجهات المؤثرة في الأحكام الشرعية والجهات المؤثرة في الأحكام العقلية ، فان المؤثر في الأحكام العقلية وهي الحسن والقبح انما هو الجهات الواصلة ، ضرورة ان العقل لا يحكم بحسن شيء وقبح شيء آخر ، إلا فيما إذا أحرز ما هو المؤثر فيهما ، لما ذكرناه من انه لا واقع موضوعي لهما ما عدا إدراك العقل استحقاق الفاعل المدح على فعل واستحقاقه الذم على آخر. ومن الواضح جدا ان العقل لا يحكم بذلك إلا إذا أحرز انطباق عنوان العدل عليه في الأول ، وانطباق عنوان الظلم في الثاني ، حيث ان حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل ذاتي وغير قابل للانفكاك أبدا ، ولا يحتاج إلى علة خارجة عن مقام ذاتهما ، ضرورة ان الذاتي غير قابل للتعليل بشيء ، من دون فرق في ذلك بين ان يكون الذاتي ذاتي باب البرهان ، أو ذاتي باب الكليات كالجنس والفصل ، وهذا واضح.

واما حكمه بقبح غيرهما من الأفعال الاختيارية أو حسنها فهو ليس بالذات بل من ناحية انطباق عنوان الظلم عليها أو العدل مثلا ضرب اليتيم إذا كان للتأديب

٢٩٧

انطبق عليه عنوان العدل ، وإذا كان للإيذاء انطبق عليه عنوان الظلم ، ولذا يحكم بقبحه على الأول وحسنه على الثاني ، وهذا واضح.

واما المؤثر في الأحكام الشرعية فهو الجهات الواقعية لا الجهات الواصلة ضرورة ان الأحكام الشرعية لو كانت تابعة لتلك الجهات أي الجهات الواصلة للزم التصويب وانقلاب الواقع ، فان معنى ذلك هو تبعية الأحكام لعلم المكلف وهذا معنى التصويب. وقد تقدم الكلام في ذلك من هذه الناحية بشكل واضح فلاحظ.

فالنتيجة انه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في هذا الحال ، لا من ناحية الملاك ، ولا من ناحية الإجماع ، بل الصحيح هو ما ذكرناه من فساده في هذا الحال أيضاً ، بداهة ان الجهل بالحرمة أو بموضوعها لا يغير الواقع وان كان عن قصور ، ولا يوجب صيرورة الحرام واجباً ، بل هو باق على حرمته غاية الأمر انه معذور في ارتكابه والتصرف فيه. ومن المعلوم ان الحرام لا يصلح ان يكون مقربا ومصداقا للواجب ، كما هو ظاهر.

واما الثاني (وهو التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة) فقد تقدم الكلام فيه من ناحية صحة الوضوء أو الغسل منها أو فساده في بحث الضد بصورة مفصلة ، ونتيجته هي انه لا إشكال في فساد الوضوء أو الغسل منها إذا كان على نحو الارتماس ، ضرورة ان نفس هذا التصرف محرم ، والمحرم لا يصلح ان يكون مصداقا للواجب ، هذا بناء على ان يكون مطلق التصرف فيها محرما. واما إذا قلنا بان المحرم فيها انما هو خصوص الأكل والشرب لا مطلق استعمالها والتصرف فيها فلا إشكال عندئذ في صحة الوضوء أو الغسل منها أصلا.

واما إذا كان على نحو الترتيب بان يغترف الماء منها غرفة غرفة ليتم وضوؤه أو غسله ، فبناء على ما حققناه من إمكان الترتب من ناحية ، وكفاية القدرة

٢٩٨

التدريجية على الواجبات المركبة من الاجزاء الطولية كالصلاة والوضوء والغسل وما شاكل ذلك من ناحية أخرى لا مانع من الحكم بصحته أصلا ، من دون فرق في ذلك بين صورة انحصار الماء فيها ، وصورة عدم انحصاره ، وتمكن المكلف من إفراغ الماء منها في إناء آخر بلا استلزامه التصرف فيها وعدم تمكنه منه ، على ما تقدم الكلام في جميع هذه النواحي بشكل واضح ، فلا نعيد.

نعم فرق بين الوضوء أو الغسل من الآنية كذلك أي بأخذ الماء منها غرفة غرفة أو بأخذه في ظرف آخر ، وبين الأكل والشرب على هذا النحو أي بان يأخذ الطعام أو الشراب من الآنية ويصب في (المشقاب أو الفنجان) ، فيأكل فيه أو يشرب ، حيث ان الأول ـ وهو الوضوء أو الغسل ـ ليس بمحرم ، والمحرم انما هو أخذ الماء منها الّذي هو مقدمة له والثاني ـ وهو الأكل والشرب ـ محرم ، والوجه فيه هو ان الملاك في حرمة الوضوء أو الغسل أو ما شابه ذلك منها كونه استعمالا للآنية بنفسه ، وفي الفرض المزبور بما انه ليس استعمالا لها كذلك ، ضرورة ان ما كان استعمالا لها انما هو أخذ الماء منها دونه فلأجل ذلك لا يكون محرما ومصداقا للتصرف فيها. وهذا بخلاف الملاك في حرمة الأكل والشرب منها ، فانهما محرمان سواء أكان بلا واسطة أم مع واسطة ، كما إذا صب الطعام من القدر في (الصيني أو المشقاب) فأكل فيه ، فانه وان لم يصدق عليه انه أكل في الآنية ، الا ان ذلك استعمال لها في الأكل وهذا المقدار كاف في حرمته ، وكذا إذا صب الشاي من السماور في الفنجان ، فانه لا يجوز شربه ، لصدق ان هذا استعمال للآنية في الشرب.

وعلى الجملة فالمحرم ليس خصوص الأكل والشرب في الآنية ، بل المحرم انما هو استعمالها في الأكل والشرب ولو كان استعمالها واقعاً في طريقهما كالأمثلة المزبورة هذا مقتضى إطلاق الروايات الواردة في المقام. واما التوضؤ أو الاغتسال فانه ان

٢٩٩

كان في الآنية كما إذا كان على نحو الارتماس فمحرم ، واما إذا كان بأخذ الماء منها في ظرف آخر أو غرفة غرفة فهو ليس بمحرم ، لعدم كونه عندئذ مصداقا للتصرف فيها. وتمام الكلام في ذلك في محله.

ومن هنا تظهر نقطة الفرق بين الأكل والشرب من آنية الذهب أو الفضة والأكل والشرب من الإناء المغصوب ، فانهما على الأول كما عرفت محرمان مطلقاً أي سواء أكان بلا واسطة أم معها ، وعلى الثاني فليسا بمحرمين مطلقاً ولو كانا مع واسطة وذلك لأنهما انما يكونان محرمين فيما إذا صدق عليهما انه تصرف فيه فلو أخذ الطعام منه وصب في ظرف آخر وأكل فيه فلا يكون أكله فيه محرما والوجه في ذلك ان المستفاد من الروايات هو حرمة استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب ولو كان استعمالها في طريقهما ، وهذا بخلاف الإناء المغصوب فان المحرم فيه انما هو تصرفه وعليه فإذا كان الأكل أو الشرب مصداقا له فهو محرم وإلا فلا ومن المعلوم انه انما يكون مصداقا له فيما إذا كان فيه ، واما إذا كان في غيره ، كما إذا أخذ الطعام منه وصبه في إناء آخر فأكل فيه فهذا ليس تصرفا فيه كما هو واضح.

واما إذا توضأ المكلف أو اغتسل منها بحيث كان وضوؤه أو غسله تصرفا فيها ، فهل يمكن القول بجواز اجتماع الأمر والنهي فيه ، بناء على القول بالجواز في المسألة أم لا قولان فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان من يقول بجواز الاجتماع فيها يقول به في المقام أيضاً ، وقد أفاد في تقريب ذلك ان الوضوء أو الغسل باعتبار نفسه الّذي هو فرد من افراد المقولة مأمور به ، وباعتبار إضافته إلى الآنية التي يحرم التصرف فيها منهي عنه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان استعمال الآنية ليس داخلا في إحدى المقولات التسع العرضية بل هو متمم لمقولة من المقولات كالأكل والشرب والتوضؤ وما شاكل ذلك.

٣٠٠