محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة ، واما كونهما لا بد ان يكونا متوافقين فيه فهو لم يثبت قطعاً لعدم الدليل عليه أصلا ، فاذن لا يمكن ابتناء النزاع في المسألة على هذا ، كما انه لا يمكن ابتناؤه على ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) وكيف كان فالعجب منه (قده) كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة ، وهي ان هذه الاعراض واللوازم ليست متعلقة للأمر على كلا القولين كما عرفت بشكل واضح.

ولعل منشأ غفلته عنها تخيل كون تلك اللوازم والاعراض من مشخصات المأمور به في الخارج ، ولكنك عرفت ان هذا مجرد خيال لا واقع له وان مثل هذا الخيال عن مثله (قده) غريب ، وذلك لما سبق من ان تلك الاعراض لا تعقل ان تكون من مشخصات الوجود خارجاً ، فان تشخص الوجود كما مر بنفسه لا بشيء آخر ، بل انها وجودات أخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في الخارج.

فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت ان النزاع المعقول في هذه المسألة هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) وعلى هذا فلا ثمرة للمسألة أصلا كما عرفت.

نلخص نتيجة البحث عن هذه المسألة في عدة خطوط :

الأول ـ ان النزاع المعقول في هذه المسألة إنما هو ابتناء ذلك على وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده فيه ، وإلا فقد عرفت ان النزاع فيها بظاهره لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.

الثاني ـ ان الصحيح هو وجود الطبيعي في الخارج ، وذلك لأجل ان اسناد الوجود إلى الفرد كما انه حقيقي ، كذلك اسناده إلى الطبيعي ، ضرورة انه لا فرق بين قولنا زيد موجود وقولنا الإنسان موجود ، ولا نعني بوجود الطبيعي في الخارج إلا ذلك ، بل لا نعقل لوجوده فيه معنى محصلا ما عدا كون

٢١

إضافة الوجود الخارجي إليه حقيقية ، كما ان إضافته إلى الفرد كذلك.

الثالث ـ ان الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، وتكفي شاهدا على ذلك مراجعة الوجدان في هذا الباب.

الرابع ـ ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) في هذه المسألة من ان مرد القول بتعلق الأمر بالطبيعة هو ان المأمور به نفس الطبيعي ومشخصاته تماماً خارجة عنه ، ومرد القول بتعلقه بالفرد هو ان المأمور به الفرد مع مشخصاته فتكون مشخصاته داخلة فيه ، وعلى هذا رتب ثمرة مهمة في مسألة اجتماع الأمر والنهي لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما عرفت من ان تشخص كل وجود بنفسه لا بوجود آخر ، ومجرد كون وجود ملازماً لوجود آخر في الخارج لا يوجب ان يكون تشخصه به. وعليه فلوازم وجود المأمور به خارجاً غير داخلة فيه وخارجة عن متعلق الأمر على كلا القولين كما سبق.

الخامس ـ انه لا ثمرة لهذه المسألة أصلا ولا يترتب على البحث عنها ما عدا ثمرة علمية.

النسخ

غير خفي ان الوجوب إذا نسخ فلا دلالة فيه على بقاء الجواز ، لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص ، والوجه في ذلك واضح وهو ان ما توهم دلالته عليه لا يخلو من ان يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ ، وشيء منهما لا يدل على هذا. اما الأول فلان مفاده إنما هو رفع الوجوب الثابت بدليل المنسوخ فلا يدل على أزيد من ذلك أصلا. واما الثاني فلان مفاده ثبوت الوجوب وقد ارتفع على الفرض ولا دلالة له على غيره.

ودعوى ان الوجوب ينحل إلى جواز الفعل مع المنع من الترك ، فالمرفوع

٢٢

بدليل الناسخ إنما هو المنع من الترك ، واما الجواز الّذي هو بمنزلة الجنس فلا دليل على ارتفاعه أصلا ، فاذن لا محالة يكون باقياً ، خاطئة جداً غير مطابقة للواقع في شيء ، وذلك لأن دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل ، لو تمت فانما تتم في المركبات الحقيقية كالإنسان والحيوان وما شاكلهما. واما في البسائط الخارجية فلا تتم أصلا ولا سيما في الأحكام الشرعية التي هي أمور اعتبارية محضة وتكون من أبسط البسائط ، ضرورة ان حقيقتها ليست إلا اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمة المكلف أو محروميته عنه. ومن هنا قلنا ان الوجود والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولا شرعياً ، فالمجعول إنما هو نفس ذلك الاعتبار ، غاية الأمر ان نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك فينتزع العقل منه الاستحباب وان لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب.

وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بان المرفوع بدليل الناسخ إنما هو فصل الوجوب دون جنسه ، ضرورة ان الوجوب ليس مجعولا شرعياً ، ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله ، بل المجعول إنما هو نفس ذلك الاعتبار. ومن الواضح جداً انه لا جنس ولا فصل له ، بل هو بسيط في غاية البساطة ، ولأجل ذلك فلا يتصف إلا بالوجود مرة وبالعدم مرة أخرى ولا ثالث لهما. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان حقيقة النسخ بحسب مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده بمعنى ان سعة الجعل من الأول ليست بأزيد من ذلك ، ومن هنا كان النسخ في الحقيقة تخصيصاً بحسب الأزمان في مقابل التخصيص بحسب الأفراد فلا يكون في الواقع رفع بل فيه دفع وانتهاء الحكم بانتهاء مقتضية. نعم بحسب مقام الإثبات وظاهر الدليل يكون رفعاً.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان معنى النسخ انتهاء اعتبار المجعول

٢٣

بانتهاء أمده ، والكاشف عن ذلك في مقام الإثبات إنما هو دليل الناسخ ، وعليه فلا موضوع للبحث عن انه بعد نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا ، ضرورة ان الوجوب والجواز بكلا معنييه ليسا من المجعولات الشرعية ، ليقع البحث عن انه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز أم لا؟ بل هما امران منتزعان بحكم العقل كما عرفت.

وقد تحصل من هذا البيان أمور : (الأول) انه لا موضوع لما اشتهر بين الأصحاب قديماً وحديثاً من انه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا؟ لما عرفت من ان الوجوب ليس مجعولا شرعياً ليقع الكلام في ذلك. (الثاني) انه لا موضوع لدعوى ابتناء النزاع في المسألة على إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل ، لما مر من ان الاعتبار بسيط في غاية البساطة فلا جنس ولا فصل له. (الثالث) انه لا مجال لدعوى استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب ، ضرورة ان هذه الدعوى ترتكز على ان يكون كل من الوجوب والجواز مجعولا شرعياً ، وقد عرفت خلافه وانهما امران انتزاعيان والمجعول الشرعي إنما هو اعتبار المولي لا غيره ، والمفروض انه قد ارتفع بدليل الناسخ ، فاذن لا موضوع للاستصحاب.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان الوجوب مجعول شرعاً فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز ، والوجه في ذلك. اما أولا فلان الوجوب امر بسيط وليس مركباً من جواز الفعل مع المنع من الترك ، وتفسيره بذلك تفسير بما هو لازم له لا تفسير لنفسه ، وهذا واضح. واما ثانياً فلو سلمنا ان الوجوب مركب إلا ان النزاع هنا في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدم بقائه ليس مبتنياً على النزاع في تلك المسألة أعني مسألة إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه ، وذلك لأن النزاع في تلك المسألة إنما هو في الإمكان والاستحالة العقليين ، واما

٢٤

النزاع في مسألتنا هذه انما هو في الوقوع الخارجي وعدم وقوعه بعد الفراغ عن أصل إمكانه ، وكيف كان فإحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الأخرى بالكلية.

واما دعوى جريان الاستصحاب في هذا الفرض بتقريب ان الجواز قبل نسخ الوجوب متيقن ، وبعد نسخه نشك في بقائه فنستصحب ، فمدفوعة ، فانه مضافاً إلى انه من الاستصحاب في الأحكام الكلية ، وقد ذكرنا غير مرة انه لا يجري فيها على وجهة نظرنا غير جار في نفسه في المقام ، وذلك لأنه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، لأن المتيقن لنا وهو الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع يقيناً بارتفاع الوجوب والفرد الآخر منه مشكوك الحدوث ، فاذن قد احتلت أركان الاستصحاب فلا يجري.

وقد تحصل مما ذكرناه انه بعد نسخ الوجوب لا دليل على ثبوت شيء من الأحكام غيره ، فاذن لا بد من الرجوع إلى العموم أو الإطلاق لو كان ، وإلا فإلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى.

ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدة أمور : (الأول) ان الوجوب إذا نسخ فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص ، بل قد عرفت ان الوجوب ليس مجعولا شرعياً والمجعول الشرعي إنما هو نفس الاعتبار القائم بالمعتبر ومعنى نسخه هو انتهاء ذلك الاعتبار بانتهاء أمده ، فاذن لا معنى للبحث عن هذا ولا موضوع له. (الثاني) ان ابتناء النزاع في المسألة على النزاع في إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه باطل ، فان الحكم حيث انه امر اعتباري بسيط في غاية البساطة فلا جنس له ولا فصل. (الثالث) انه بناء علي ما ذكرناه فلا مجال للتمسك بالاستصحاب في المقام مضافاً إلى انه من الاستصحاب في الحكم الكلي من ناحية ومن القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي من ناحية أخرى.

٢٥

الواجب التخييري

قد اختلف العلماء فيه إلى عدة آراء ومذاهب :

المذهب الأول ـ ان الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال مثلا ففي موارد التخيير بين القصر والإتمام لو اختار المكلف القصر ـ مثلا ـ فهو الواجب عليه ولو عكس فبالعكس ، وهذا المذهب لسخافته تبرأ منه كل من نسب إليه ، ولذا ذكر صاحب المعالم (قده) ان كل من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا المذهب إلى الآخر وتبرأ منه ، وكيف كان فلازم هذه النظرية هو ان الواجب يختلف باختلاف المكلفين ، بل باختلاف حالاتهم ، فلو اختار أحدهم في المثال المزبور القصر في مقام الامتثال والآخر التمام ، فالواجب على الأول هو القصر واقعاً ، وعلى الثاني هو التمام كذلك أو لو اختار أحدهم القصر في يوم والتمام في يوم آخر ، فالواجب عليه في اليوم الأول هو القصر وفي اليوم الثاني التمام ، وكذا الحال في كفارة شهر رمضان وما شاكلها. فالنتيجة هي ان وجوب الواجب في هذا الفرض واقعاً تابع لاختيار المكلف في مقام الامتثال بحيث لا وجوب له قبل اختياره في الواقع ونفس الأمر.

ويرده : (أولا) ـ انه مخالف لظواهر الأدلة الدالة على وجوب فعلين أو أفعال على نحو التخيير ، ولا تعين لما هو الواجب على المكلف في الواقع ونفس الأمر فما يختاره مصداق للواجب لا انه الواجب بعينه. (وثانياً) انه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف ، ضرورة ان لازم هذا القول كما عرفت هو اختلاف التكليف باختلاف المكلفين ، بل باختلاف حالاتهم ففي المثال المتقدم لو اختار أحدهم القصر ـ مثلا ـ والآخر التمام فيكون تكليف الأول واقعاً هو القصر والثاني هو التمام ، أو لو اختار أحدهم صوم شهرين متتابعين ـ مثلا ـ

٢٦

والآخر عتق الرقبة والثالث إطعام ستين مسكيناً فيكون الواجب على الأول واقعاً هو الصوم وعلى الثاني العتق وعلى الثالث الإطعام ، ومن الواضح جداً ان هذا مناف صريح لقاعدة الاشتراك في التكليف التي هي من القواعد الضرورية ، فاذن لا يمكن الالتزام بهذه النظرية أبداً. (وثالثاً) ان لازم هذا القول ان لا يكون وجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما وترك امتثاله وعصيانه ، ضرورة ان الوجوب إنما يتحقق باختيار المكلف إياه في مقام الامتثال كما هو المفروض ، واما قبل اختياره فلا وجوب واقعاً ليصدق عليه انه تركه وعصاه فيستحق العقوبة.

وان شئت فقل : ان لازم هذه النظرية هو ان وجوب كل منهما في الواقع مشروط باختيار المكلف إياه في ظرف الامتثال ، ولازمه هو انه لا وجوب له قبل اختياره ، ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، كما هو واضح فاذن لا موضوع للعصيان واستحقاق العقوبة عند ترك المكلف الإتيان بالجميع ، ضرورة ان إيجاد الشرط غير واجب عليه ، وهذا بديهي البطلان. (ورابعاً) انه إذا لم يكن شيء منهما واجباً في حال العصيان فلا يكون واجباً في حال الامتثال أيضاً ، والوجه في ذلك هو ان كلا من العصيان والامتثال وارد على موضوع واحد ، فيتحقق العصيان فيه مرة والامتثال مرة أخرى ، فإذا فرض انه لم يكن واجباً في حال العصيان فلا يعقل ان يكون واجباً في حال الامتثال مثلا الصلاة قصراً إذا لم تكن واجبة في حال عصيانها فلا محالة لا تكون واجبة في حال امتثالها أيضاً ضرورة انها اما ان تكون في الواقع واجبة أو ليست بواجبة فيه فلا ثالث لهما ، وعلى الأول فهي واجبة في كلتا الحالتين ، وعلى الثاني فهي غير واجبة كذلك لوضوح انه لا يعقل ان يكون وجوبها مشروطاً بامتثالها والإتيان بها في الخارج فان مرده إلى طلب الحاصل واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وهو غير معقول ،

٢٧

فالنتيجة ان هذه النظرية لا ترجع إلى معنى محصل أصلا.

المذهب الثاني هو ان يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجباً تعييناً ومتعلقاً للإرادة ، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر ، فيكون مرد هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الإتيان بالآخر.

وقد صحح هذه النظرية بعض مشايخنا المحققين قد هم بأحد نحوين : الأول ان يفرض ان لكل واحد منها مصلحة ملزمة قائمة به مثلا للصوم مصلحة إلزامية قائمة بنفسه وتقتضي إيجابه ، وكذا للعتق والإطعام ، فالقائم بها مصالح متباينة لا متقابلة بحيث لا يمكن الجمع بينها ، وبما ان تلك المصالح لزومية فلذا أوجب الشارع الجميع ، ولكن مصلحة التسهيل والإرفاق تقتضي تجويز الشارع ترك كل منها إلى بدل فلذا أجاز ترك كل منها عند الإتيان بالآخر وامتثال امره. ونتيجة ذلك هي انه إذا ترك الكل فلا يعاقب الأعلى ترك ما لا يجوز تركه وهو ليس إلا الواحد منها وإذا فعل الكل دفعة واحدة كان ممتثلا بالإضافة إلى الجميع واستشهد على ذلك بأنه ربما لا يكون إرفاق في البين فلذا أوجب الجمع بين الخصال كما في كفارة الإفطار بالحرام.

الثاني ـ ان يفرض ان الغرض المترتب على الخصال أعني الصوم والعتق والإطعام وان كان واحداً نوعياً وواحداً بالسنخ إلا ان الإلزامي من ذلك الغرض وجود واحد منه ، وبما ان نسبة كل منها إلى ذلك الوجود الواحد على السوية ، فلذا يجب الجميع لأن وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول ووجوب أحدها المعين ترجيح بلا مرجح. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى حيث ان وجوداً واحداً من ذلك الغرض لازم ، فلأجل ذلك يجوز ترك كل منها عند الإتيان بالآخر.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية بكلا تفسيريها.

٢٨

اما تفسيرها الأول فيرد عليه : أولا انه مخالف لظاهر الدليل حيث ان ظاهر العطف فيه بكلمة (أو) هو وجوب أحدهما أو أحدها لا وجوب الجميع ، كما هو واضح. (وثانياً) انا قد ذكرنا غير مرة انه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في شيء ما عدا تعلق الأمر به ، وحيث ان الأمر فيما نحن تعلق بأحد الطرفين أو الأطراف ، فلا محالة لا نستكشف إلا قيام الغرض به ، فاذن لا طريق لنا إلى كشف تعدد الملاك أصلا ، فيحتاج الحكم بتعدده وقيامه بكل منها إلى دعوى علم الغيب. (وثالثاً) انه لا طريق لنا إلى ان مصلحة التسهيل والإرفاق على حد توجب جواز ترك الواجب ، وعلى فرض تسليم انها تكون بهذا الحد فهي عندئذ تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع ، ضرورة ان مصلحة ما عدا واحد منها مزاحمة بتلك المصلحة أعني مصلحة التسهيل والإرفاق. ومن الواضح جدا ان المصلحة المزاحمة بمصلحة أخرى لا تدعو إلى جعل حكم شرعي أصلا وغير قابلة لأن تكون منشأ له ، فاذن إيجاب الجميع بلا مقتض. وعلى الجملة فمصلحة التسهيل والإرفاق لو كانت إلزامية فتمنع عن أصل جعل الوجوب لجميع الأطراف أو الطرفين لا انها توجب جواز ترك الواجب ضرورة انه لا أثر للمصلحة المزاحمة بمصلحة أخرى ويكون وجودها وعدمها سيان فاذن يكون إيجاب الجميع بلا داع وهو يستحيل ان يصدر من الحكيم فالنتيجة هي ان الواجب أحدها لا الجميع.

ثم انه على فرض إيجاب الجميع وعدم كون مصلحة التسهيل والإرفاق مانعة منه فلا موجب لسقوط وجوب بعضها بفعل الآخر ضرورة انه بلا مقتض وسبب فان سقوط وجوب الواجب بأحد أمور لا رابع لها (الأول) امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجاً الموجب لحصول غرضه فانه مسقط له لا محالة (الثاني) العجز عن امتثاله وعدم القدرة على الإتيان بمتعلقه في الخارج سواء أكان من ناحية العصيان أو غيره. (الثالث) النسخ ، والمفروض ان الإتيان بالواجب الآخر ليس

٢٩

شيئاً من هذه الأمور. ودعوى ـ انه إذا فرض ان وجوب كل منها مشروط بعدم الإتيان بالآخر فلا محالة يكون إتيانه مسقطاً له ـ مدفوعة بان الأمر وان كان كذلك على فرض ثبوت تلك الدعوى ، إلا انها غير ثابتة ، فانه مضافاً إلى عدم الدليل عليها انها مخالفة لظواهر الأدلة في المقام حيث ان الظاهر منها وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع بنحو الاشتراط أي اشتراط وجوب كل بعدم الإتيان بالآخر. (ورابعاً) لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان مصلحة التسهيل والإرفاق إلزامية وسلمنا أيضاً انها لا تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع وإنما توجب جواز ترك الواجب إلى بدل الّذي يكون مرده إلى تقييد وجوب كل منها بعدم الإتيان بالآخر ولكن لازم ذلك هو الالتزام في صورة المخالفة وعدم الإتيان بشيء منها باستحقاق العقاب على ترك كل منها ضرورة انه لا يجوز ترك الواجب بدون الإتيان ببدله وإنما يجوز الترك إلى بدل لا مطلقاً فإذا فرض ان المكلف ترك الصوم بلا بدل وترك العتق والإطعام كذلك فلا محالة يستحق العقاب على ترك كل منها.

فما أفاده شيخنا المحقق (قده) من انه في هذا الفرض يستحق عقاباً واحداً وهو العقاب على ما لا يجوز تركه وهو الواحد منها لا يرجع إلى معنى محصل ، وذلك لأن عدم استحقاقه العقاب على ترك البقية عند الإتيان بواحد منها من جهة ان تركها إلى بدل. وقد عرفت انه جائز وإنما لا يجوز تركها بلا بدل ، والمفروض ان عند ترك الجميع يكون ترك كل منها بلا بدل فيستحق العقاب عليه.

وبكلمة أخرى ان ترك كل واحد منها مقتض لاستحقاق العقاب لفرض انه ترك الواجب والمانع منه إنما هو الإتيان بالآخر ، فإذا فرض انه لم يأت به أيضاً وتركه فلا مانع من استحقاقه العقاب أصلا ، فيكون العقاب عندئذ على الجمع بين التركين أو التروك ، وقد مر نظير ذلك في بحث الترتب وقلنا هناك ان المكلف إذا ترك

٣٠

الأهم والمهم معاً فيستحق عقابين ويكون العقابان على الجمع بين ترك هذا وترك ذاك ، مع ان من الواضح جداً انه لا يمكن الالتزام بتعدد العقاب في المقام أبدا ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.

واما تفسيرها الثاني فيرده : أولا انه خلاف ظاهر الدليل ، فان الظاهر كما عرفت وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع. (وثانياً) انه لا طريق لنا إلى إحراز ان الغرض المترتب على الخصال واحد بالسنخ والنوع وان الإلزامي منه وجود واحد ، فانه يحتاج إلى علم الغيب. (وثالثاً) على تقدير تسليم ذلك إلا ان لازمه وجوب أحد تلك الخصال لا وجوب الجميع. ودعوى ـ ان وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول ، ووجوب أحدها المعين ترجيح بلا مرجح ، فلا محالة وجب الجميع ـ فاسدة ، وذلك لأنا لا نقول بوجوب أحدهما المردد في الواقع ، ليقال انه غير معقول ولا بوجوب أحدهما المعين ، ليكون ترجيحاً من غير مرجح بل نقول بوجوب أحدهما لا بعينه وهو غير أحدهما المردد في الواقع المعبر عنه بأحدهما المصداقي ، ضرورة ان الأول قابل لتعلق التكليف به دون هذا ، فهاهنا دعويان : (الأولى) ان أحدهما لا بعينه المعبر عنه بالجامع الانتزاعي قابل لتعلق التكليف به (الثانية) ان أحدهما المردد في الواقع غير قابل له.

اما الدعوى الأولى فلأنه لا يعتبر في متعلق التكليف الّذي هو امر اعتباري ان يكون جامعا ذاتيا بل يجوز ان يكون جامعا انتزاعيا وهو عنوان أحد الفعلين أو الأفعال ، كما سيأتي بيانه بشكل واضح.

واما الدعوى الثانية فلان المردد في الواقع والخارج محال في ذاته ، ضرورة انه لا ثبوت ولا وجود له فيه ، فاذن كيف يتعلق الأمر به ، وهذا واضح. فما أفاده شيخنا المحقق (قده) من ان الأمر في المقام لا يخلو من ان يتعلق بأحدهما المردد في الواقع وان يتعلق بأحدهما المعين فيه أو بالجميع ،

٣١

وحيث ان الأول والثاني غير معقول فيتعين الثالث ـ غير صحيح ، لما عرفت من ان هنا شقا رابعاً وهو تعلق الأمر بأحدهما لا بعينه المعبر عنه بالجامع الانتزاعي وهو قابل لتعلق التكليف به كما سنتعرض له عن قريب إن شاء الله ، غاية الأمر ان المكلف مخير في تطبيقه على هذا الفرد أو ذاك (ورابعا) على تقدير تسليم ان الواجب هو الجميع إلا ان لازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الجميع وعدم الإتيان بشيء منها ، ضرورة ان الجائز هو ترك كل منها إلى بدل لا مطلقا ، كما مر آنفا.

فالنتيجة ان هذا القول بكلا تفسيريه لا يرجع إلى معنى صحيح.

المذهب الثالث هو ما اختاره المحقق صاحب الكفارة (قده) وإليك نصّ كلامه : «والتحقيق ان يقال انه ان كان الأمر بأحد الشيئين بملاك انه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ولذا يسقط به الأمر كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح ان الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول ، وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان ان الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين. وان كان بملاك انه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوما ، كما هو واضح ، إلا ان يرجع إلى ما ذكرناه فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأول من ان الواجب هو الواحد الجامع بينهما لا أحدهما معينا ، مع كون كل واحد منهما مثل الآخر

٣٢

في انه واف بالغرض».

أقول : ما أفاده (قده) يرجع إلى عدة نقاط :

الأولى ـ ان الغرض في المقام إذا كان واحداً بالذات والحقيقة فلا محالة يكشف عن وجود جامع وحداني ذاتي بين الفعلين أو الأفعال بقاعدة ان الأمور المتباينة لا يمكن أن نؤثر أثراً واحداً بالسنخ ، فوحدة الغرض هنا تكشف عن جهة جامعة حقيقية بينها ، فيكون ذلك الجامع هو متعلق الوجوب بحسب الواقع والحقيقة ، وان كان متعلقه بحسب الظاهر هو كل واحد منها ، وعليه فيكون التخيير بينها عقلياً لا شرعياً ، فالنتيجة ان مرد هذه الفرضية إلى إنكار التخييري الشرعي كما لا يخفى.

الثانية ـ ما إذا كان الغرض متعدداً في الواقع ، وكان كل واحد منه قائماً بفعل ، إلا ان حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر ، فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج ، فعندئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل لا مطلقاً ، ضرورة انه بلا موجب ومقتض بعد فرض ان الغرضين المترتبين عليهما متضادان فلا يمكن تحصيل كليهما معاً ، وعليه فيكون التخيير بينهما شرعياً ، ضرورة ان مرد هذه الفرضية إلى وجوب هذا أو ذاك ، ولا نعني بالتخيير الشرعي إلا هذا.

الثالثة ـ ان الواجب ليس هو أحدهما لا بعينه لا مصداقاً أعني به الفرد المردد بحسب الواقع والخارج ، ولا مفهوماً أعني به الجامع الانتزاعي المنتزع منهما.

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط ، فنقول : ان هذه النقاط جميعاً خاطئة وغير مطابقة للواقع.

اما النقطة الأولى فقد ذكرنا في أول الكتاب عند البحث عن موضوع

٣٣

العلم ان هذه القاعدة أعني قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير إنما تتم في الواحد الشخصي من تمام الجهات دون الواحد النوعيّ ، ضرورة انه قد برهن في محله ان هذه القاعدة وقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد انما تتمان في الواحد بالشخص دون الواحد بالنوع ، والوجه في ذلك ملخصاً : هو ان كل معلول طبيعي يتعين في مرتبة ذات علته بقانون ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والمراد من التشخص هو تشخصه في مرتبة ذات علته ، ففي تلك المرتبة ما لم يتشخص لم يوجد في الخارج ، والمراد من التشخص في تلك المرتبة هو ان المعلول الطبيعي بما انه مرتبة نازلة من وجود علته فلا محالة يتشخص في مرتبة وجود علته بملاك انه كامن في ذاتها ومرتبة من مراتب وجودها ، وفي مرتبة نفسه يتشخص بوجوده الخاصّ ، وهذا هو المراد من تشخصه السابق واللاحق ، كما ان المراد من وجوبه السابق في قولهم الشيء ما لم يجب لم يوجد هو التشخص السابق وهو التشخص في مرتبة ذات العلة ووجودها ، كما ان المراد من وجوبه اللاحق هو تشخصه بوجوده الخاصّ. وعلى ضوء هذا الأساس لا يعقل تشخص معلول واحد شخصي في مرتبة ذات علتين مستقلتين ، فان مرد ذلك إلى تعدد الواحد الشخصي لفرض ان وجوده في مرتبة ذات هذه العلة يباين وجوده في مرتبة ذات العلة الأخرى ، وهو محال.

وبهذا البيان قد ظهر حال القاعدة الثانية أيضاً ، وذلك لأن لازم صدور معلولين من علة واحدة شخصية هو ان تكون في مرتبة ذاتها جهتان متباينتان لتؤثر بإحداهما في معلول وبالأخرى في آخر ، لما عرفت من أن كل معلول يتعين في مراتبه ذات علته وانه من مراتب وجودها ، فإذا فرض ان العلة واحدة شخصية من جميع الجهات امتنع تعين معلولين متباينين في مرتبة ذاتها ووجودها ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون كلاهما من مراتب وجودها ومتعيناً في ذاتها ، مثلا إذا كانت الحرارة من مراتب وجود النار فلا يعقل ان تكون البرودة من مراتب

٣٤

وجودها .. وهكذا.

وبكلمة أخرى ان لازم فرض تعين معلولين متباينين في مرتبة ذات العلة لا بد من فرض جهتين متباينتين فيها لا اشتراك بينهما أصلا ، ليكون المؤثر في أحدهما جهة وفي الآخر جهة أخرى بملاك قاعدة السنخية التي هي معتبرة بين العلل والمعاليل الطبيعية ، بداهة يستحيل ان يكون المؤثر فيهما جهة واحدة شخصية ، وهذا خلف.

وبعد ذلك نقول : ان ما ذكرناه من البرهان على استحالة صدور الواحد عن الكثير واستحالة صدور الكثير عن الواحد لا يجري في الواحد النوعيّ ، ضرورة انه لا مانع من صدور الكثير عن الواحد بالنوع ، فان مرده بحسب التحليل والواقع إلى صدور كل معلول شخصي عن فرد منه ، واسناد صدوره إلى الجامع باعتبار ذلك ، كما هو واضح. ومن المعلوم ان البرهان المزبور لا يمنع عن ذلك أصلا ، كما انه لا يمنع عن صدور الواحد النوعيّ عن الكثير ، فانه خارج عن موضوع تلك القاعدة ، حيث ان مرده إلى استناد كل فرد إلى علة أو كل مرتبة منه إليها ، كالحرارة المستندة إلى إشراق الشمس مرة ، وإلى النار مرة أخرى وإلى الغضب مرة ثالثة ، وإلى الحركة مرة رابعة ، وإلى القوة الكهربائية مرة خامسة .. وهكذا ، كما انه عند اجتماع تلك الأسباب والعلل على شيء يكون المؤثر في إيجاد الحرارة فيه هو المجموع لا كل واحد منها ، ولذا لو كان واحد منها لم يوجد فيه إلا مرتبة ضعيفة منها والمفروض ان المجموع قد أوجد فيه مرتبة شديدة تنحل إلى مراتب متعددة ، فيستند كل مرتبة منها إلى واحد منها لا الجميع ، ومن الواضح ان هذا خارج عن موضوع القاعدة المذكورة لاختصاصها كما عرفت بالواحد الشخصي من تمام الجهات ، وهذه الحرارة المستندة إلى الجميع ليست واحدة من تمام الجهات ، بل هي ذات مراتب متعددة وكل مرتبة منها

٣٥

يستند إلى علة.

أو فقل : انها واحدة بالنوع من هذه الناحية لا واحدة بالشخص ، فاذن لا يمكن دعوى ان المؤثر فيها هو الجامع بين تلك الأسباب لا كل واحد واحد منها ، فان هذه الدعوى مضافاً إلى انها خلاف الوجدان غير ممكنة في نفسها ، بداهة انه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين هذه الأسباب ، لأنها مقولات متعددة ، فان النار من مقولة الجوهر ، والقوة الكهربائية مثلا من مقولة الاعراض .. وهكذا ، وقد حقق في محله انه لا يمكن اندراج المقولات تحت مقولة أخرى ، فانها أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا يعقل وجود جامع ماهوي بينها وإلا لم يمكن حصر المقولات في شيء.

فالنتيجة ان الواحد النوعيّ لا يكشف عن وجود جامع وحداني أصلا ، وبما ان الغرض المترتب على الواجب التخييري ليس واحدا شخصياً ، بل هو واحد بالنوع فلا يكشف عن وجود جامع ما هوى بين الفعلين أو الأفعال ، هذا مضافاً إلى ان سنخ هذا الغرض غير معلوم لنا وانه واحد بالذات والحقيقة أو واحد بالعنوان ، ومن الواضح جدا ان الكاشف عن الواحد بالذات ليس إلا الواحد بالذات ، واما الواحد بالعنوان فلا يكشف إلا عن واحد كذلك ، وحيث انا لا نعلم بسنخ الغرض في المقام على فرض كونه واحداً فلا نعلم سنخ الجامع المستكشف منه انه واحد بالذات أو بالعنوان ، فاذن لا يثبت ما ادعاه من وجود جامع ذاتي بينهما.

وثانياً ـ ان ما أفاده (قده) لو تم فانما يتم فيما يمكن وجود جامع حقيقي بينهما كان يكونا فردين أو نوعين من طبيعة واحدة واما فيما إذا لم يمكن وجود جامع كذلك كما إذا كان كل منهما من مقولة على حدة فلا يتم أصلا ، ومن الواضح ان التخيير بين فعلين أو افعال لا يختص بما إذا كانا من مقولة واحدة بل

٣٦

كما يمكن ان يكونا كذلك يمكن ان يكون أحدهما من مقولة والآخر من مقولة أخرى أو ان يكون أحدهما امراً وجودياً والآخر امراً عدمياً ، ومن المعلوم انه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينهما في أمثال ذلك كما هو واضح.

وثالثا ـ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان ما أفاده (قده) صحيح إلا ان الجامع المزبور مما لا يصلح أن يكون متعلقاً للأمر ، ضرورة ان متعلق الأمر لا بد ان يكون امراً عرفياً ، قابلا للإلقاء إليهم. واما هذا الجامع المستكشف بالبرهان العقلي فهو خارج عن أذهانهم ، وغير قابل لأن يتعلق به الخطاب ، لوضوح ان الخطابات الشرعية المتوجهة إلى المكلفين على طبق المتفاهم العرفي ، ولا يعقل تعلق الخطاب بما هو خارج عن متفاهمهم ، وحيث ان هذا خارج عنه فلا يعقل تعلق الخطاب به.

واما النقطة الثانية فيرد عليها أولا انها مخالفة لظواهر الأدلة ، فان الظاهر من العطف بكلمة (أو) هو ان الواجب أحدهما لا كلاهما.

وثانياً ـ ان فرض كون الغرضين متضادين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج مع فرض كون المكلف قادراً على إيجاد كلا الفعلين فيه بعيد جداً ، بل هو ملحق بأنياب الأغوال ، ضرورة انا لا نعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المتضادة بين الفعلين ، فإذا فرض ان المكلف متمكن من الجمع بينهما خارجاً فلا مانع من إيجابهما معاً عندئذ.

وثالثاً ـ انا لو سلمنا ذلك فرضاً وقلنا بالمضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج. إلا أن من الواضح جداً انه لا مضادة بين تركيهما معاً فيتمكن المكلف من ترك كليهما بترك الإتيان بكلا الفعلين خارجاً. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان العقل مستقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، ولا يفرق بينه وبين تفويت الواجب الفعلي. ومن ناحية ثالثة ان فيما نحن فيه

٣٧

وان لم يستحق العقاب على ترك تحصيل أحد الغرضين عند تحصيل الآخر من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في الخارج ، إلا انه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي انه يستحق العقابين عند جمعه بين التركين ، لفرض انه مقدور له فلا يكون العقاب عليه عقاباً على ما ليس بالاختيار هذا نظير ما ذكرناه في بحث الترتب وقلنا هناك ان المكلف يستحق عقابين عند جمعه بين ترك الأهم والمهم معاً وانه ليس عقاباً على ما لا يكون بالاختيار ، لفرض ان الجمع بينهما مقدور له ، وفيما نحن فيه كذلك ، إذ لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب فيه أصلا ، فان المانع من العقاب على ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر هو عدم إمكان تحصيله بعد الإتيان به ، لفرض المضادة بينهما. واما العقاب على ترك كل منهما في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر فلا مانع منه أصلا ، لما عرفت من استقلال العقل باستحقاق العقاب على ترك الملاك الملزم ، والمفروض في المقام ان كلا من الملاكين ملزم في نفسه ، وعليه فلا محالة إذا ترك المكلف كليهما معاً يستحق عقابين : عقاباً على ترك هذا وعقاباً على ترك ذاك.

وبكلمة أخرى ان مقتضى كون كل من الغرضين ملزماً في نفسه هو وجوب كل من الفعلين ، غاية الأمر من جهة المضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج لا محالة يكون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا يمكن ان يكون الواجب في هذا الفرض هو أحدهما المعين ، لاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، فانه بعد فرض كون كل منهما مشتملا على الملاك الملزم في نفسه ، وانهما من هذه الناحية على نسبة واحدة ، فتخصيص الوجوب بأحدهما خاصة دون الآخر لا يمكن ، وكذا لا يمكن ان يكون الواجب هو أحدهما لا بعينه ، وذلك لأنه بعد فرض كون الغرض

٣٨

في المقام متعدداً لا موجب لأن يكون الواجب واحدا ، مع انه خلاف مفروض كلامه (قده).

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين قد أصبحت انه لا مناص من الالتزام بما ذكرناه وهو وجوب كل من الفعلين في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر غاية الأمر ان إطلاق وجوب كل منهما يقيد بعدم الإتيان بالآخر ، ولازم هذا هو ان المكلف إذا ترك كليهما معاً يستحق عقابين : عقاباً على ترك هذا وعقاباً على ترك ذاك ، لفرض ان وجوب كل منهما عندئذ فعلى من جهة تحقق شرطه وهو عدم الإتيان بالآخر ، وهذا مما لم يلتزم به أحد.

ورابعاً ـ ان الغرضين المزبورين لا يخلوان من ان يمكن اجتماعهما في زمان واحد بان تكون المضادة بين وجود أحدهما مترتباً على وجود الآخر لا مطلقاً وان لا يمكن اجتماعهما فيه أصلا ، فعلى الأول لا بد من الالتزام بإيجاب الشارع الجمع بين الفعلين أو الأفعال في زمان واحد فيما إذا تمكن المكلف منه. وإلا لفوت عليه الملاك الملزم ، وهو قبيح منه. ومن الواضح ان هذا خلاف مفروض الكلام في المسألة ، ومخالف لظواهر الأدلة ، فلا يمكن الالتزام به أصلا ، وعلى الثاني فلازمه هو ان المكلف إذا أتى بهما معا في الخارج وفي زمان واحد ان لا يقع شيء منهما على صفة المطلوبية. إذا وقوع أحدهما على هذه الصفة دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، ووقوع كليهما على تلك الصفة لا يمكن لوجود المضادة بينهما ، مع انه من الواضح البديهي ان المكلف إذ أتى بهما في زمان واجد يقع أحدهما على صفة المطلوبية ، ضرورة انه إذا جمع بين طرفي الواجب التخييري أو أطرافه وأتى بها دفعة واحدة امتثل الواجب وحصل الغرض منه لا محالة ، وهذا ظاهر. فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن ان ما ذكروه من الوجوه لتصوير الواجب التخييري لا يرجع شيء منها إلى معنى صحيح.

٣٩

الّذي ينبغي ان يقال في هذه المسألة تحفظا على ظواهر الأدلة هو ان الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية ، غاية الأمر ان متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني ، فهذا هو نقطة انطلاق الفرق بينهما وتخيل ـ انه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في المقام ، ضرورة انه ليس له واقع موضوعي غير تحققه في عالم الانتزاع والنّفس فلا يمكن ان يتعدى عن أفق النّفس إلى ما في الخارج ، ومن الواضح ان مثله لا يصلح ان يتعلق به الأمر ـ خيال خاطئ جدا ، بداهة انه لا مانع من تعلق الأمر به أصلا بل تتعلق به الصفات الحقيقية كالعلم والإرادة وما شاكلهما ، فما ظنك بالحكم الشرعي الّذي هو امر اعتباري محض ، وقد تقدم منا غير مرة من ان الأحكام الشرعية سواء أكانت وضعية أو تكليفية أمور اعتبارية ، وليس لها واقع ما عدا اعتبار الشارع ، ومن المعلوم ان الأمر الاعتباري ، كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكية أحد المالين للمشتري عند قول البائع بعت أحدهما ، بل وقع ذلك في الشريعة المقدسة كما في باب الوصية ، فانه إذا أوصى الميت بملكية أحد المالين لشخص بعد موته فلا محالة يكون ملكا له بعد موته ، وتكون وصيته بذلك نافذة ، وكذا لا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمة المكلف.

وعلى الجملة فلا شبهة في صحة تعلق الأمر بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، ومجرد انه لا واقع موضوعي له لا يمنع عن تعلقه به ، ضرورة ان الأمر لا يتعلق بواقع الشيء ، بل بالطبيعي الجامع ، ومن الواضح جدا انه لا يفرق فيه بين ان يكون متأصلا أو غير متأصل أصلا. وتخيل ـ ان الجامع الانتزاعي

٤٠