محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

انه مضطر إلى ترك الواجب لينتقل الأمر إلى بدله ، واما إذا كان الاضطرار إلى ترك الواجب في بعض الوقت دون بعضه الآخر فلا يصدق عليه انه مضطر إلى ترك الواجب. نعم يصدق عليه انه مضطر إلى ترك بعض افراده ، لفرض ان الواجب هو الجامع بين الحدين ، والمفروض ان الاضطرار لم يتعلق بتركه وما تعلق به الاضطرار لا يكون واجباً.

وقد تحصل من ذلك ان هذه الثمرة التي تظهر بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) نتيجة الاختلاف في نقطة واحدة ، وهي ان الركوع والسجود على وجهة نظره (قده) من التصرف الزائد ، وعلى وجهة نظرنا ليسا من التصرف الزائد.

اما المورد الثاني وهو ما إذا لم يتمكن المكلف من الصلاة في خارج الدار لضيق الوقت فلا إشكال في وجوب الصلاة عليه حال الخروج. لفرض ان الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن بما انه كان في مقام التخلص عن الغصب فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على خصوص الإيماء بدلا عن الركوع والسجود ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ولا مسوغ له ، ولأجل ذلك تنتقل الوظيفة من صلاة المختار إلى صلاة المضطر وهي الصلاة مع الإيماء والإشارة.

وان شئت فقل انه لا يجوز للمكلف في هذا الحال الركوع والسجود. اما عدم جواز السجود في هذا الحال فواضح ، وذلك لما تقدم من انه متحد مع الغصب خارجا باعتبار ان الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهومه والمفروض انه نحو تصرف فيها ، فاذن يتحد المأمور به مع المنهي عنه ، ومع الاتحاد لا يمكن الحكم بصحته ، لاستحالة ان يكون المحرم مصداقا للمأمور به. وعليه فلا محالة تكون وظيفته الإيماء دون السجدة. واما الركوع فهو وان لم يكن بنفسه تصرفا في مال الغير لما عرفت من انه عبارة عن هيئة حاصلة للمصلي من نسبة بعض

٣٦١

اجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج ، الا انه مستلزم للبقاء فيها وهو تصرف زائد على مقدار الضرورة ، فاذن تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة مع الركوع وبين حرمة التصرف في مال الغير فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة. ولكن بما ان وجوب الصلاة مع الركوع خاصة مشروط بالقدرة شرعا لما تقدم في بحث الضد من ان الأركان بعرضها العريض وان كانت غير مشروطة بالقدرة الشرعية إلا ان كل مرتبة منها مشروطة بها. فعليه تتقدم حرمة التصرف في مال الغير على وجوبه من ناحية ما ذكرناه من انه إذا وقعت المزاحمة بين ما هو المشروط بالقدرة شرعا وما هو المشروط بالقدرة عقلا فيتقدم ما هو المشروط بالقدرة عقلا على ما هو المشروط بها شرعا ، على تفصيل تقدم في مسألة الضد.

فالنتيجة هي وجوب الاقتصار على الإيماء في الصلاة للركوع والسجود.

نعم لو تمكن المكلف من الإتيان بهما في الصلاة من دون استلزامه للتصرف الزائد لوجب ذلك ، كما إذا فرض ان خروجه من الأرض المغصوبة بالسيارة أو الطيارة أو السفينة أو ما شاكل ذلك ، فان الركوع والسجود في مثل ذلك لا يستلزمان التصرف الزائد ، كما هو واضح ، فاذن تتعين الصلاة بها ولا يجوز الاقتصار على الإيماء لفرض انه بدل اضطراري عنهما ومع تمكن المكلف من الإتيان بهما لا تصل النوبة إلى بدلهما الاضطراري ، كما هو واضح.

نتيجة ما ذكرناه عدة نقاط :

الأولى ـ انه لا إشكال في سقوط الحرمة واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ، وليس حاله حال الجهل الرافع للتكليف ظاهراً لا واقعاً.

الثانية ـ انه لا شبهة في صحة العبادة فيما إذا لم تكن متحدة مع الفرد المحرم المضطر إليه ، لما عرفت من ان العبادة صحيحة على هذا الفرض فيما إذا كانت

٣٦٢

الحرمة باقية بحالها فضلا عما إذا سقطت.

الثالثة ـ ان الظاهر صحة العبادة فيما إذا فرض كونها متحدة مع المحرم المضطر إليه وذلك لما عرفت من ان المانع عن صحتها انما هو حرمتها ، فإذا فرض انها سقطت بالاضطرار أو نحوه واقعاً فلا مانع عندئذ من صحتها أصلا كما تقدم.

الرابعة ـ ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من ان دلالة النهي على حرمة شيء في عرض دلالته على تقييد المأمور به بعدمه ، وليست متقدمة عليها ، قد تقدم فساده بشكل واضح ، وقلنا هناك ان حرمة شيء وعدم وجوبه وان كان في رتبة واحدة بحسب مقام الثبوت والواقع لعدم ملاك لتقدم أحدهما على الآخر الا انهما بحسب مقام الإثبات والدلالة ليسا كذلك ، فان دلالة النهي على الحزمة في مرتبة متقدمة على دلالته على عدم الوجوب والتقييد ، بداهة ان الدلالة الالتزامية متفرعة على الدلالة المطابقية.

الخامسة ـ انه تظهر الثمرة بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه ، فانه بناء على وجهة نظرنا بما ان دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة فلا محالة تسقط بسقوط دلالته عليها. ومن المعلوم انه مع سقوط التقييد لا مانع من التمسك بالإطلاق. وبناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) بما ان دلالته على التقييد وعدم الوجوب في عرض دلالته على الحرمة ، فلا تسقط بسقوط تلك الدلالة ، ومع عدم السقوط لا يمكن التمسك بالإطلاق.

السادسة ـ قد تقدم ان رفع الحكم من ناحية الاضطرار بما انه يكون للامتنان فيدل على ثبوت المقتضى والملاك له ، والا فلا معنى للامتنان أصلا وهذا بخلاف رفع الحكم في غير موارد الامتنان ، فانه لا يدل على ثبوت مقتضية ضرورة انه كما يمكن ان يكون من جهة المانع مع ثبوت المقتضى له يمكن ان يكون

٣٦٣

من جهة عدم المقتضى له فلا دليل على انه من قبيل الأول. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد سبق ان هذا الملاك بما انه غير مؤثر في المبغوضية والحرمة فلا يمنع عن صحة العبادة وقصد التقرب بها.

السابعة ـ ان الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب في صورة الاضطرار إلى التصرف فيه صحيح مطلقاً أي بلا فرق بين وجود المندوحة وعدمه كما سبق.

الثامنة ـ ان الصلاة في الأرض المغصوبة لا تسقط عن المتوسط فيها بغير اختياره على القاعدة على وجهة نظرنا ، لما عرفت من ان الصلاة فيها مع الركوع والسجود ليست تصرفا زائدا على الكون فيها بدون الصلاة ، وعليه فلا موجب لسقوطها أصلا ، كما ان مقتضى القاعدة الأولية سقوطها عنه على وجهة نظر جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قده) ولكن القاعدة الثانوية تقتضي وجوب الإتيان بالباقي من الاجزاء والشرائط. والوجه فيه ما تقدم من ان الركوع والسجود بنظرهم من التصرف الزائد عرفا. فلا يجوز فاذن لا محالة يسقطان عنه ، ومع سقوطهما لا محالة يسقط الأمر عن الصلاة ، ولكن دل دليل آخر على وجوب الإتيان بها مع الإيماء بدلا عنهما.

التاسعة ـ ان كل جسم بشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ولا يختلف ذلك أي مقدار تحيزه وشغله المكان باختلاف هيئاته وأوضاعه عقلا وعرفا ، خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث انه قد فصل بين نظر العرف والعقل ، فذهب إلى ان اختلاف الجسم باختلاف الهيئات ليس تصرفا زائدا بالدقة العقلية ، ولكنه تصرف زائد بالنظر العرفي. ولكن قد عرفت فساده بشكل واضح.

العاشرة ـ ان الصلاة في حال الخروج لا بد فيها من الاقتصار على الإيماء بدلا عن الركوع والسجود ، لفرض انهما مستلزمان للتصرف الزائد على قدر

٣٦٤

الضرورة الا فيما إذا فرض انهما لا يستلزمان له ، كما إذا كان خروجه بالسيارة أو نحوها. ومن هنا تكون مشروعية هذه الصلاة أعني الصلاة مع الإيماء منوطة بعدم تمكن المكلف من إدراك الصلاة في الوقت في خارج الأرض ، والا فلا تكون مشروعة ، ضرورة ان المكلف مع التمكن من الإتيان بصلاة المختار لا يسوغ له الإتيان بصلاة المضطر ، وكذا منوطة بعدم تمكنه من الصلاة في الأرض المغصوبة.

وذلك اما على وجهة نظرنا فلما عرفت من انه متمكن فيها من الصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين من دون استلزامهما للتصرف الزائد ، ومعه لا محالة تكون وظيفته هي صلاة المختار دون صلاة المضطر. نعم لو أخرها ولم يأت بها إلى زمان خروجه عنها فوجب عليه الإتيان بصلاة المضطر ، وهي الصلاة مع الإيماء لفرض انها لا تسقط بحال ، ولكنه عصى في تأخيره وتفويت الواجب عليه ، الا إذا فرض ان تأخيره كان لعذر شرعي.

واما على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) فلأجل ان الصلاة حال الخروج تستلزم تفويت الاستقرار المعتبر فيها. ومن المعلوم ان المكلف إذا تمكن من الصلاة مع الاستقرار ، فلو صلى بدونه بطلت لا محالة. وعليه فلا يجوز له تأخيرها إلى زمان الخروج ، لاستلزام ذلك تفويت الاستقرار باختياره وهو غير جائز ، الا إذا كان التأخير مستندا إلى عذر شرعي. وعلى الجملة فالصلاة في حال الخروج إذا كانت مستلزمة لتفويت شرط من شرائطها كالاستقرار أو الاستقبال دون الصلاة في الدار فيجب إتيانها في الدار.

الحادية عشرة ـ قد ظهر مما تقدم انه بناء على وجهة نظرنا تصح الصلاة من المتوسط فيها بغير اختياره مطلقاً أي بلا فرق بين كون المكلف متمكناً من الصلاة في الوقت في خارج الدار وبين كونه غير متمكن منها كذلك ، اما على

٣٦٥

الثاني فواضح ، واما على الأول فلفرض انه متمكن من الإتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط ، ومعه لا موجب للتأخير والإتيان بها في خارج الدار.

نعم بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) وجب التأخير في هذا الفرض لأن المكلف على هذه النظرية لا يتمكن من صلاة المختار في الدار ، لفرض ان الركوع والسجود تصرف زائد عليها ، والانتقال إلى صلاة المضطر مع التمكن من صلاة المختار لا دليل عليه. إلى هنا انتهى الكلام في المقام الأول.

واما الموضع الثاني (وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار) فيقع الكلام فيه في موردين :

الأول ـ في حكم الخروج في حد نفسه.

الثاني ـ في حكم الصلاة الواقعة حاله أي حال الخروج.

اما المورد الأول فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال :

الأول ـ ان الخروج حرام بالفعل.

الثاني ـ انه واجب وحرام معاً كذلك ، اما انه واجب فمن ناحية انه اما ان يكون مقدمة للتخلص عن الحرام الّذي هو واجب عقلا وشرعا ومقدمة الواجب واجبة ، واما ان يكون من ناحية انه مصداق له أي للتخلص الواجب. واما انه حرام فمن ناحية انه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرم وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي ويظهر اختياره من المحقق القمي (قده) أيضاً ، وهذا القول يرتكز على امرين : الأول ـ دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار عقابا وخطاباً. الثاني ـ الالتزام بوجوب الخروج ، اما لأجل انه مقدمة للتخلص الواجب ، ومقدمة الواجب واجبة ، واما لأجل انه من مصاديقه وافراده.

الثالث ـ انه واجب فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار

٣٦٦

ولكن يجري عليه حكم المعصية واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول (قده).

الرابع ـ انه واجب فحسب ولا يكون محرما لا بالنهي الفعلي ، ولا بالنهي السابق الساقط ، واختار هذا القول شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ووافقه فيه شيخنا الأستاذ (قده).

الخامس ـ انه لا يكون فعلا محكوما بشيء من الأحكام الشرعية ، ولكنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، ويجري عليه حكم المعصية. نعم هو واجب عقلا من ناحية انه أقل محذورين وأخف قبيحين ، واختار هذا القول المحقق صاحب الكفاية (قده) فهذه هي الأقوال في المسألة :

ولنأخذ بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال :

اما القول الأول فهو واضح الفساد وذلك لاستلزام هذا القول التكليف بالمحال. بيان ذلك هو ان المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو من ان يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى المفروض ان البقاء فيها محرم ، فلو حرم الخروج أيضاً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال فاذن لا يعقل ان يكون الخروج محكوماً بالحرمة.

واما القول الثاني فهو أوضح فساداً من الأول ، وذلك ضرورة استحالة كون شيء واحد واجباً وحراما معا حتى على مذهب الأشعري الّذي يرى جواز التكليف بالمحال ، فان نفس هذا التكليف والجعل محال ، لا انه من التكليف بالمحال ، على ان وجوبه اما ان يكون مبنياً على القول بوجوب المقدمة بناء على كون الخروج مقدمة للتخلص الواجب ورد المال إلى مالكه. واما ان يكون مبنياً على كونه مصداقا للتخلص ولرد المال إلى مالكه. اما الأول فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب انه لا دليل على وجوب المقدمة شرعا. واما الثاني فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى ان الخروج ليس مصداقا لقاعدة رد المال إلى مالكه ، فاذن

٣٦٧

لا دليل على كون الخروج واجباً ، واما حرمته فهي مبنية على قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وخطاباً ، ولكن سيأتي بيان ان هذه القاعدة تنافي الخطاب ، ضرورة انه لا يمكن توجيه التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستنداً إلى سوء اختياره ، لكونه لغواً محضاً وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل ، وكيف كان فهذا القول غير معقول ، وعلى تقدير كونه معقولا فلا دليل عليه كما عرفت.

واما القول الثالث (وهو كون الخروج واجباً فعلا ومحرما بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه) فهو وان كان له بحسب الظاهر صورة معقولة ببيان ان الخروج بما انه تصرف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من ان يعاقب عليه ، لفرض انه مبغوض للمولى وان كان النهي عنه فعلا غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال ، وبما انه مصداق للتخلية ولرد المال إلى مالكه فلا مانع من كونه واجباً. فالنتيجة هي ان الخروج واجب فعلا ومنهي عنه بالنهي السابق ، الا انه بحسب الواقع والدقة العقلية ملحق بالقولين الأولين في الفساد والوجه في ذلك هو ان تعلق الأمر والنهي بشيء واحد محال وان كان زمان تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به ، فان ملاك استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه انما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا عبرة بوحدة زمان الإيجاب والتحريم وتعدده أصلا ، بداهة انه لا يعقل ان يكون شيء واحد في زمان واحد متعلقاً للإيجاب والتحريم معاً ، وان فرض ان زمان الإيجاب غير زمان التحريم ، والسر في ذلك واضح وهو ان الفعل الواحد في زمان واحد اما ان يكون مشتملا على مصلحة ملزمة ، واما ان يكون مشتملا على مفسدة كذلك فعلى الأول لا مناص من الالتزام بوجوبه ، وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بحرمته ولا يعقل إيجابه وتحريمه معاً ، كما هو واضح.

٣٦٨

تلخص ان العبرة انما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب ، فان كان واحداً يستحيل تعلق الأمر والنهي به وان كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان تعلق الآخر ، وان كان متعددا فلا مانع من تعلقهما به وان كان زمان تعلقهما واحدا كما إذا امر المولى يوم الخميس بإكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن إكرامه يوم السبت ، فانه لا محذور فيه أبدا.

نعم يمكن للمولى العرفي ان يأمر بشيء وينهى عنه في زمان آخر اشتباها أو بتخيل ان فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثم بان انه لا مصلحة بل فيه مفسدة مقتضية للتحريم ، الا انه لا أثر في مثل ذلك ، لأحد الحكمين أصلا ، بل هو صدر اشتباها وغفلة لا حقيقة وواقعاً.

وبكلمة أخرى فقد ذكرنا غير مرة ان الغرض من الأمر بشيء أو النهي عنه انما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال. ومن الواضح جدا ان الداعي انما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال في ظرفه. واما إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي ومع عدم حصوله يكون الأمر أو النهي لغوا محضاً فلا يترتب عليه أي أثر ، ومن المعلوم ان صدور اللغو من الحكيم مستحيل. وعليه فلا يمكن ان يكون فعل واحد مأمورا به ومنهياً عنه معاً ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضاً أعني ناحية المنتهى والامتثال.

وقد تحصل مما ذكرناه ان الخروج في مفروض الكلام ان كان مشتملا على مفسدة امتنع تعلق الأمر به وان كان مشتملا على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو من الزمان السابق ، لفرض ان المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه ، ومعه يستحيل ان ينهى عنه في ذلك الظرف. وقد عرفت ان العبرة في استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه انما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، فان

٣٦٩

كان واحدا يستحيل ان يكون متعلقاً للأمر والنهي معاً ، وان كان زمان النهي سابقاً على زمان الأمر أو بالعكس ، لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلا ، لفرض انه لا يرفع المحذور المزبور وان كان متعددا فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان واحد فضلا عن زمانين ، لعدم التنافي بينهما عندئذ أصلا ، لفرض ان الأمر تعلق به في زمان والنهي تعلق به في زمان آخر ، ولا مانع من ان يكون شيء واحد في زمان محكوما بحكم وفي زمان آخر محكوما بحكم آخر غيره.

مثال الأول ما إذا فرض ان المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة وامر به في يوم الجمعة ، فانه لا إشكال في استحالة ذلك ، ضرورة ان صوم يوم الجمعة لا يمكن ان يكون مأمورا به ومنهياً عنه معاً ، فانه ان كان فيه ملاك الوجوب امتنع تعلق النهي به مطلقاً ، وان كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.

ومثال الثاني ما إذا امر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك اليوم عن صوم يوم السبت ، فانه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.

فالنتيجة ان ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شيء واحد وإمكان اجتماعه انما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا اعتبار بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلا.

واما الأحكام الوضعيّة فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان حالها من هذه الناحية حال الأحكام التكليفية ، فكما ان المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده ، فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعيّة في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المعتبر وتعدده لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.

ومن هنا أشكل (قده) على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) في

٣٧٠

تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم (ره) وإليك نصّ ما أفاده : «فلا وجه للقول بالكشف بمعنى تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الإجازة فيما بعد ، نعم بمعنى الحكم بعد الإجازة بتحقق مضمونه حقيقة مما لا محيص عنه بحسب القواعد ، فلو أجاز المالك مثل الإجازة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها ، أو الزوج أو الزوجة عقد التمتع كذلك فيصح اعتبار الملكية حقيقة للمستأجر والزوجية لهما في تمام المدة التي قد انقضى بعضها ، بل ولو انقضى تمامها لتحقق منشأ انتزاعها.

فان قلت كيف يصح هذا وكان قبل الإجازة ملكا للمؤجر ولم يكن هناك زوجية ، الا ان يكون مساوقا لكون شيء بتمامه ملكا لاثنين في زمان واحد واجتماع الزوجية وعدمها كذلك ، قلت لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار ملكية لأحدهما في زمان غير زمان اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان ، لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد لكل منهما في زمانين ، وكذا الزوجية وعدمها».

وحاصل هذا الإشكال هو ما أفاده قده) من ان اختلاف زمان اعتبار الملكية للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملك واحد في زمان واحد فان اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الاخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين ، فان حكم الحاكم في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض ، كما هو واضح.

وغير خفي ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) في تعليقته على المكاسب هو الصحيح ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (قده).

والوجه في ذلك هو ان الأحكام الوضعيّة لا تشترك مع الأحكام التكليفية في ملاك الاستحالة والإمكان ، وذلك لأن الأحكام التكليفية بما انها تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات أخرى فلا يمكن ان يكون فعل في

٣٧١

زمان واحد محكوما بحكمين مختلفين كالوجوب والحرمة مثلا ، ولو كان تعلق أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر ، ضرورة ان هذا الفعل في هذا الزمان لا يخلو من ان يكون مبغوضاً للمولى أو ان يكون محبوبا له ولا ثالث لهما فعلى الأول يستحيل تعلق الأمر به ، وعلى الثاني يستحيل تعلق النهي به كما هو واضح ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعيّة ، فانها تابعة لجهات المصالح المفاسد النوعية في نفس جعلها واعتبارها. وعليه فلا يمكن ان تقتضي مصلحة في زمان اعتبار شيء ملكا لشخص ومصلحة أخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكا لآخر نعم لا مانع من ان تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان والمصلحة الأخرى في زمان آخر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه بان يكون زمان الاعتبارين مختلفاً وزمان المعتبرين واحدا كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في مسألة الفضولي عند البحث عن كون الإجازة ناقلة أو كاشفة.

ونتيجته هي ان القول بكون الإجازة ناقلة باطل ولا دليل عليه أصلا ، كما ان الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل ، بل هو غير معقول وهو ان تكون الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الإجازة فالإجازة كاشفة عنها فحسب ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأول ومن المعلوم ان هذا بلا موجب ودليل ، بل الدليل قام على خلافه ، ضرورة ان هذا العقد لم يكن عقدا للمجيز الا بعد إجازته ورضاه به ، ليكون مشمولا لأدلة الإمضاء ، ومع هذا كيف يحكم الشارع بملكية المال له وانتقاله إليه قبل ان يرضى به ويجيزه ، ولأجل ذلك قد التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر (ولا بأس بتسميته بالكشف الانقلابي) وهو الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقياً على ملك مالكه الأصلي قبل الإجازة وإلى زمانها ، واما إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضى به فهو ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل من حين العقد وزمانه ، والوجه في ذلك هو ان مفهوم

٣٧٢

الإجازة مفهوم تعلقي فكما انه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي وفي المقام بما ان إجازة المالك متعلقة بالعقد السابق ، إذ المفروض انه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقدا آخر. ومن المعلوم ان العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقة ، ولا مانع من انتساب الأمر السابق وهو العقد بواسطة الأمر اللاحق وهو الإجازة ، بداهة ان الانتساب والإضافة خفيف المئونة فيحصل بأدنى شيء وأقل مناسبة ، ولذلك أمثلة كثيرة في العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها ، فإذا صار هذا العقد عقدا له من حين صدوره فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين. ومن هنا قلنا ان الكشف بذاك المعنى مطابق للقاعدة فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.

ولكن قد يتخيل ان الكشف بهذا المعنى غير ممكن ، وذلك لاستلزامه كون المال الواحد في زمان ملكا لشخصين ، لفرض ان هذا المال باق في ملك مالكه الأصلي إلى زمان الإجازة حقيقة ، ومعه كيف يعقل ان يصير هذا المال ملكا للطرف الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الإجازة فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد في زمان فارد وهو غير معقول لأنه من اجتماع الضدين على شيء واحد.

وغير خفي ان هذا خيال خاطئ جدا وغير مطابق للواقع يقيناً ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة من ان الأحكام الشرعية جميعاً أمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ولذا قلنا انه لا مضادة بينها في أنفسها والمضادة بينها انما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.

وعلى هذا الضوء فبما ان في المقام زمان الاعتبار مختلف ، فان زمان اعتبار بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الإجازة وزمان اعتبار كونه ملكا للآخر بعدها وان كان زمان المعتبر فيهما واحدا فلا يلزم محذور التضاد ، فان محذور التضاد انما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضاً واحدا ، واما إذا كان

٣٧٣

متعددا كما في المقام فلا يلزم ذلك ، ضرورة انه لا مانع من ان تقتضي المصلحة الملزمة بعد الإجازة لاعتبار كون هذا المال ملكا له من حين العقد ، فان الاعتبار خفيف المئونة فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق ، كأن يعتبر المولى ملكية مال لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبدا ، كما انه قابل للتعلق بأمر لاحق ، كما في باب الوصية أو نحوها.

ومن هنا قلنا ان التعليق في باب العقود امر معقول في نفسه ، بل هو واقع كما في باب الوصية. فان الموصى حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقاً عليه والشارع أمضاه كذلك ، وكذا في بيع الصرف فان إمضاء الشارع وحكمه بالملكية فيه ، معلق على التقابض بين المتبايعين وان كان حكمهما (أي المتبايعين) بالملكية غير معلق على شيء.

فالنتيجة ان التعليق في العقود امر معقول ، ولذا كلما دل الدليل على وقوعه نأخذ به ، وانما لا نأخذ به من ناحية الإجماع القائم على بطلانه ، وكيف كان فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة ، كما انه لا مانع من تعلقه بالملكية اللاحقة ، بداهة انه لا واقع للملكية ولا وجود لها في الخارج على الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار ، فإذا كان هذا امرا ممكناً في نفسه فهو واقع في المقام لا محالة ، لأن مقتضى تعلق الإجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا المال ملكا له في الواقع من ذلك الزمان.

وبكلمة أخرى ان اعتبار الملكية بما انه تابع للملاك القائم به فهو مرة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن سابق كما فيما نحن فيه ، فان الاعتبار فعلى والمعتبر امر سابق ، وأخرى يقتضى اعتبار ملكية شيء في زمن متأخر كما في باب الوصية ، فان الاعتبار فيه فعلى والمعتبر امر متأخر ، وثالثة يقتضى اعتبار ملكية شيء في زمن فعلى ، فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلياً ، وهذا هو

٣٧٤

الغالب. ومن المعلوم ان جميع هذه الصور ممكن ، غاية الأمر ان وقوع الصورة الأولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في مورد مطابقاً للقاعدة كما في المقام ، لأن اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي لمن انتقل إليه تابع لإجازة المالك ، وبما ان الإجازة متعلقة بالعقد السابق كما هو مقتضى مفهومها فلا محالة يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من ذلك الزمان لا من حين الإجازة ، إذ من الواضح جدا ان الإجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة لاستناد ذلك العقد إلى المالك ، فلا بد من ان يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من حين العقد فان أدلة الإمضاء كقوله تعالى «أوفوا بالعقود» «وأحل الله البيع» ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الإجازة. والمفروض ان ما تعلقت به الإجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي ، فاذن تدل الأدلة على صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذاك الزمان فيكون زمان الاعتبار فعلياً وهو زمان الإجازة وزمان المعتبر سابقاً وهو زمان صدور العقد ، وهذا معنى ما ذكرناه من ان الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة ولا مناص من الالتزام به.

وقد تحصل من ذلك عدة أمور :

الأول ـ ان القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع ضرورة انه لا واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب ، فان انقلاب الواقع فرع ان يكون لها واقع ليقال ان الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه وهو محال. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان الاعتبار خفيف المئونة ، فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلا. فما توهم من ان المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا القول أيضاً فاسد جدا ولا أصل له أبدا كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم فلاحظ.

٣٧٥

الثاني ـ ان الكشف بهذا المعنى امر معقول في نفسه من ناحية ، ومطابق للقاعدة من ناحية أخرى ، ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل ، فإمكانه يكفي لوقوعه كما عرفت.

الثالث ـ ان ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعيّة في شيء واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه ، ولأجل ذلك يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعيّة مجديا في رفع محذور استحالة اجتماع اثنين منها في شيء في زمان واحد. واما في الأحكام التكليفية فلا أثر له أصلا ، كما تقدم. ومن هنا يظهر ان الصحيح هو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده).

واما القول الرابع وهو ما اختاره شيخنا الأستاذ تبعاً لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) فملخصه على ما أفاده هو ان المقام داخل في كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ولأجل ذلك يكون الخروج واجباً شرعا ولا يجري عليه حكم المعصية. نعم بناء على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار فالصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الخروج لا يكون محكوما بحكم شرعي فعلا ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار وهو المعصية ، فله (قده) دعاو ثلاث :

الأولى ـ ان الخروج لا يكون محكوما بحكم من الأحكام الشرعية فعلا ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

الثانية ـ ان المقام غير داخل في كبرى تلك القاعدة وليس من صغرياتها.

٣٧٦

الثالثة ـ انه داخل في كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه ولزوم التخلية بينه وبين صاحبه.

اما الدعوى الأولى فقد أفاد (قده) انه يكفي لإثباتها بطلان القولين السابقين أعني القول بكون الخروج واجباً وحراماً فعلا والقول بكونه واجباً فعلا وحراماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه. وقد تقدم بطلان كلا القولين.

اما القول الأول فلاستحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً. ودعوى ـ ان الخطاب التحريمي في المقام خطاب تسجيلي ، والغرض منه تصحيح عقاب العبد وليس خطاباً حقيقياً ، كما هو الحال في الخطابات المتوجهة إلى العصاة مع علم الآمر بعدم تحقق الإطاعة منهم ـ خاطئة جداً ، وذلك لأنه لا معنى للخطاب التسجيلي ، فان العبد ان كان مستحقاً للعقاب بواسطة مخالفة امر المولى أو نهيه مع قطع النّظر عن هذا الخطاب فيكون هذا الخطاب لغوا ولا فائدة له أصلا ، ومن المعلوم ان صدور اللغو من الحكيم محال وان لم يكن مستحقاً له في نفسه مع قطع النّظر عنه ، فكيف يمكن خطابه بهذا الداعي أي بداعي العقاب مع عدم قدرته على امتثاله. ضرورة ان هذا تعد من المولى على عبده وظلم منه فاذن لا يمكن الالتزام بالخطاب التسجيلي ، واما خطاب العصاة مع العلم بعدم تحقق الإطاعة منهم فهو خطاب حقيقي ، بداهة انه لا يعتبر في صحة الخطاب الحقيقي إلا إمكان انبعاث المكلف أو انزجاره في الخارج ، وهذا المعنى متحقق في موارد تكليف العصاة على الفرض ، فان العصيان انما هو باختيارهم ، فاذن قياس المقام بخطاب العصاة قياس مع الفارق ، وكيف كان فلا شبهة في بطلان هذا القول.

واما القول الثاني فقد عرفت امتناع تعلق الحكمين بفعل واحد في زمان

٣٧٧

واحد ولو كان زمان تعلق الإيجاب مغاير الزمان تعلق التحريم ، لما ذكرناه من ان ملاك الاستحالة والإمكان انما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده لا بوحدة زمان الإيجاب والتحريم وتعدده كما تقدم ذلك بشكل واضح.

واما الدعوى الثانية (وهي عدم كون المقام داخلا في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار) فقد استدل عليها بوجوه :

الأول ـ ان ما يكون داخلا في كبرى هذه القاعدة لا بد ان يكون مما قد عرضه الامتناع باختيار المكلف وإرادته كالحج يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره وقدرته وكحفظ النّفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق ونحوهما من الأفعال الاختيارية التي تعرض عليها الامتناع بالاختيار. ومن الواضح جداً ان الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك ، فانه باق على ما هو عليه من كونه مقدورا للمكلف فعلا وتركاً بعد دخوله فيها ، ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح.

نعم مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء بأقل مقدار يمكن فيه الخروج وان كان مما لا بد منه ولا يتمكن المكلف من تركه بعد دخوله فيها ، الا ان ذلك أجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج كما هو محل الكلام ، ضرورة ان الاضطرار إلى جامع لا يستلزم الاضطرار إلى كل واحد من افراده ، مثلا لو اضطر المكلف إلى التصرف في ماء جامع بين ماء مباح وماء مغصوب فهو لا يوجب جواز التصرف في المغصوب ، لفرض انه لا يكون مضطرا إلى التصرف فيه خاصة ، ليكون واقعاً لحرمته بل هو باق عليها لعدم الموجب لسقوطها ، فان الموجب له إنما هو تعلق الاضطرار به والمفروض انه غير متعلق به وإنما تعلق بالجامع بينه وبين غيره ، فاذن لا يجوز التصرف فيه. نعم يتعين عليه عندئذ التصرف في خصوص الماء المباح ورفع الاضطرار به وما نحن فيه من

٣٧٨

هذا القبيل ، فان الاضطرار إلى مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء لا يوجب الاضطرار إلى خصوص الخروج ، بل الخروج باق على ما هو عليه من كونه مقدوراً من دون ان يعرض عليه ما يوجب امتناعه. فالنتيجة ان الخروج ليس من مصاديق قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

الثاني ـ ان محل الكلام في هذه القاعدة انما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاماً في ظرفه ومطلقاً أي من دون فرق في ذلك بين ان تكون مقدمته الإعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة وان يكون وجوبه مشروطاً بمجيء زمان متعلقه أولا ، وذلك كوجوب الحج ، فانه وان كان مشروطاً بمجيء يوم عرفة بناء على استحالة الواجب المعلق ، إلا ان ملاكه يتم بتحقق الاستطاعة كما هو مقتضى قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فانه ظاهر في ان ملاك وجوبه في ظرفه صار تاماً بعد تحقق الاستطاعة ، ولا يتوقف على مجيء زمان متعلقه وهو يوم عرفة ، وعليه فمن ترك المسير إلى الحج بعد

وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه وان امتنع عليه الفعل عندئذ في وقته ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وكذا من ألقى نفسه من شاهق ، فانه يستحق العقاب عليه ، هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة ، ومن المعلوم ان هذا الملاك غير موجود في المقام بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة ، وذلك لأن الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن مشتملا على الملاك ، فالدخول فيها من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه ، ضرورة ان الداخل فيها هو الّذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره ، فاذن لا يمكن ان يكون الخروج داخلا في موضوع القاعدة. وعلى الجملة فمورد القاعدة كما عرفت

٣٧٩

ما إذا كان ملاك الحكم تاماً مطلقاً أي سواء أوجد المكلف مقدمته الوجودية أم لم يوجد كوجوب الحج ـ مثلا ـ فان ملاكه تام بعد تحقق الاستطاعة وان لم يوجد المكلف مقدمته في الخارج ، غاية الأمر انه إذا تركها امتنع عليه الحج فيدخل عندئذ في موضوع القاعدة ، وهذا بخلاف الخروج ، فانه لا ملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول في الأرض المغصوبة ، فيكون الدخول مما له دخل في تحقق الملاك فيه.

وعلى هذا الضوء يمتنع دخول الخروج في كبرى تلك القاعدة كما هو ظاهر.

الثالث ـ ان مناط دخول شيء في موضوع القاعدة هو ان يكون الإتيان بمقدمته موجباً للقدرة عليه ، ليكون الآتي بها قابلا لتوجيه التكليف إليه فعلا ، وهذا كالإتيان بمقدمة الحج ، فانه يوجب تحقق قدرة المكلف على الإتيان به وصيرورته قابلا لتوجيه التكليف به فعلا. واما إذا ترك المسير إليه ولم يأت بهذه المقدمة لامتنع الحج عليه ولسقط وجوبه ، ولكن بما ان امتناعه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه ، وهذا معنى كونه من صغريات تلك القاعدة. واما المقام فليس الأمر فيه كذلك. لأن الدخول وان كان مقدمة إعدادية للخروج وموجباً للقدرة عليه ، الا انه يوجب سقوط الخطاب عنه ، لا انه يوجب فعلية الخطاب به. والوجه فيه ما ذكروه من ان المكلف في هذا الحال يدور امره بين البقاء في الدار المغصوبة والخروج عنها ، ومن المعلوم ان العقل يلزمه بالخروج مقدمة للتخلص عن الحرام ، ولا يجوز له البقاء لأنه تصرف زائد.

وعلى هذا فلا محالة يضطر المكلف إلى الخروج عنها ولا يقدر على تركه تشريعاً وان كان قادراً عليه تكويناً ، ومعه لا يمكن للشارع ان ينهى عنه ومن

٣٨٠