محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

وقت الواجب ، كما إذا اضطر إلى إيجاد بعض تلك المحرمات إلى آخر وقته ، أو لا يكون مستوعباً له ، فعلى الأول لا محالة يسقط الأمر المتعلق بصرف الترك ، لعدم قدرته عليه ، فهو نظير ما إذا اضطر المكلف إلى ترك الصلاة ـ مثلا ـ في تمام وقتها ، فانه لا إشكال عندئذ في سقوط الصلاة عنه ، وعلى الثاني لا يسقط الأمر عنه بالضرورة لفرض ان الواجب هو الجامع ، لا خصوص الفرد المضطر إليه ، والمفروض انه مقدور للمكلف ، ومعه لا محالة لا يسقط عنه ، فيكون نظير ما لو اضطر المكلف إلى ترك الصلاة في بعض أوقاتها ، فانه لا إشكال في ان ذلك لا يوجب سقوط الأمر بالصلاة عنه ، لفرض ان الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى ، لا خصوص هذا الفرد المضطر إليه أو ذاك ، وهذا واضح.

وعلى الصورة الثانية (وهي ما كانت المصلحة قائمة بتمام تروك الطبيعة على نحو الانحلال والعموم الاستغراقي) فلا بد من الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ، ولا يجوز ارتكاب فرد آخر زائداً على هذا الفرد. والوجه فيه واضح ، وهو ان المجعول في هذه الصورة على الفرض أحكام متعددة بعدد تروك افراد هذه الطبيعة في الخارج ، فيكون ترك كل واحد منها واجباً مستقلا ومناطاً للإطاعة والمعصية. ومن الظاهر ان الاضطرار إلى ترك واجب لا يوجب جواز ترك واجب آخر ، وفي المقام الاضطرار إلى إيجاد فرد منها في الخارج لا يوجب جواز إيجاد فرد آخر منها .. وهكذا ، ضرورة ان سقوط التكليف عن بعض منها ـ لأجل اضطرار أو نحوه ـ لا يوجب سقوطه عن آخر وجواز عصيانه بعد ما كان التكليف المتعلق بكل منهما تكليفاً مستقلا غير مربوط بالآخر ، فانه بلا موجب. ومن المعلوم ان سقوط التكليف بلا موجب وسبب محال.

وعلى الصورة الثالثة (وهي ما كانت المصلحة قائمة بمجموع التروك الخارجية على نحو العموم المجموعي) لا محالة يسقط التكليف المتعلق بالمجموع المركب من

١٢١

هذه التروك ، لفرض انه تكليف واحد شخصي متعلق به ، فإذا فرض ان المكلف لا يقدر عليه لاضطراره إلى إيجاد بعض افراد هذه الطبيعة في الخارج ، ومعه لا يتمكن من ترك هذه الطبيعة فيه بجميع افرادها وإذا لم يتمكن منه فلا محالة يسقط التكليف عنه ، فيكون كما إذا تعلق التكليف بمجموع افراد هذه الطبيعة على نحو العموم المجموعي. فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، ضرورة انه لا فرق في الأحكام المترتبة على العموم المجموعي بين ان يكون هذا العموم ملحوظا بين تروك الطبيعة في الخارج ، وان يكون ملحوظا بين وجوداتها وافرادها فيه ، وهذا واضح.

وعلى ضوء ذلك لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه بل يجوز له إيجاد فرد ثان وثالث ... وهكذا ، لفرض ان الأمر المتعلق بمجموع تروكها قد سقط ، ومعه لا مانع من إيجاد البقية في الخارج أصلا. الا إذا فرض قيام الدليل على وجوب الباقي.

وقد تحصل من ذلك ان مقتضى القاعدة في أمثال المقام هو سقوط التكليف عن المجموع المركب بسقوط جزء منه أو قيده ، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل خارجي ، فان دل دليل من الخارج على وجوبه فهو ، والا فلا نلتزم به.

وعلى الصورة الرابعة (وهي ما كانت المصلحة قائمة بعنوان وجودي بسيط متولد من تروك هذه الطبيعة في الخارج) أيضاً يسقط التكليف المتعلق به ، وذلك لفرض ان هذا العنوان مسبب عن ترك جميع افراد هذه الطبيعة خارجا فإذا فرض اضطرار المكلف إلى إيجاد بعض افرادها في الخارج لا محالة لا يتحقق ذلك العنوان المعلول لترك جميعها ، لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة.

فالنتيجة من ذلك هي ان الثمرة تظهر بين الوجه الأول والثاني ، كما انها تظهر بينهما وبين الوجهين الأخيرين ، واما بينهما أي بين الوجهين الأخيرين فلا

١٢٢

تظهر ، كما عرفت.

الثاني ـ فيما لو شككنا في فرد انه من افراد الطبيعة التي كان المطلوب تركها أم لا.

فعلى الصورة الأولى لا يجب تركه ، لفرض ان المطلوب في هذه الصورة صرف تركها. والمفروض انه يتحقق بتركها آنا ما ، ومعه أي مع تركها آنا ما يجوز له إيجادها في الخارج في ضمن افرادها المتيقنة في بقية الآنات والأزمنة فضلا عن افرادها المشكوكة. وهذا ظاهر.

وعلى الصورة الثانية فيما ان مرد الشك في كون هذا الموجود فرداً له أو ليس بفرد له إلى الشك في تعلق التكليف به ، فلا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه ، لفرض انه شك في تكليف مستقل ، وهو القدر المتيقن من موارد الرجوع إليها.

وعلى الصورة الثالثة فيما ان المورد داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فلا محالة يرتكز جريان البراءة فيه وعدم جريانها على القول بجريان البراءة وعدمه في تلك المسألة ، فان قلنا فيها بجريان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر العقلية والنقليّة فنقول بها كذلك في المقام أيضاً ، وان لم نقل به فيها فلا نقول هنا أيضاً. وحيث انا قد اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة البراءة عن وجوبه عقلا وشرعا فلا مناص من الالتزام به في المقام.

وقد ذكرنا هناك انه لا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قده) من التفصيل بين البراءة الشرعية والعقلية ، فالتزم بجريان الأولى دون الثانية ، وذلك لأن ما توهم من المانع عن جريان البراءة العقلية هنا منحصر في امرين لا ثالث لهما.

أحدهما ـ دعوى ان العلم الإجمالي هنا غير منحل.

١٢٣

ثانيهما ـ دعوى وجوب تحصيل الغرض في المقام. ومن الواضح جداً ان كلا منهما لو تم ، فكما انه مانع عن جريان البراءة العقلية ، فكذلك مانع عن جريان البراءة الشرعية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

بيان ذلك ملخصاً هو انه لو بنينا على ان انحلال العلم الإجمالي في المقام يبتني على ان يثبت جريان البراءة الشرعية عن جزئية المشكوك فيه تعلق التكليف بالأقل على نحو الإطلاق وعدم دخل الجزء المشكوك فيه في الواجب ، لم يمكن إثباته بإجراء أصالة البراءة الشرعية عنها ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من ان الإطلاق كالتقييد امر وجودي ، فان الأول عبارة عن لحاظ الطبيعة لا بشرط ، والثاني عبارة عن لحاظها بشرط شيء. ومن المعلوم انهما امر ان متضادان ، فإذا دار امر التكليف بين تعلقه بالطبيعة على النحو الأول ، وتعلقه بها على النحو الثاني ، فأصالة البراءة عن تعلقه بها على النحو الثاني لا تثبت تعلقه بها على النحو الأول ـ وهو الإطلاق الأعلى القول بالأصل المثبت.

نعم لو كان الإطلاق امرا عدمياً عبارة عن عدم التقييد ، فأصالة البراءة عن التقييد تثبت الإطلاق ، الا ان هذا الفرض خاطئ وغير مطابق للواقع.

فالنتيجة هي ان البراءة الشرعية كالعقلية غير جارية.

وكذا لو بنينا على وجوب تحصيل الغرض في المقام ، فانه عندئذ لا أثر لجريان أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه ، لفرض انها لا تثبت كون الغرض المعلوم مترتباً على الأقل الأعلى القول بالأصل المثبت ، ومعه لا محالة نشك في حصوله بإتيانه. فاذن لا بد من الالتزام بإتيان الأكثر ، ليعلم بحصوله وتحققه في الخارج.

ونتيجة ذلك هي عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

١٢٤

ولكن قد ذكرنا في محله ان شيئاً من الأمرين لا يكون مانعاً عن إجراء البراءة الشرعية والعقلية. اما العلم الإجمالي فقد ذكرنا هناك ان انحلاله لا يتوقف على إثبات الإطلاق ، ليقال ان البراءة عن التقييد لا تثبت الإطلاق ، بل يكفى في انحلاله جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض لعدم جريانها في الطرف الآخر ، والمفروض ان الأمر في المقام كذلك ، وذلك لأن البراءة لا تجري عن الإطلاق ، لفرض انه توسعة للمكلف ولا ضيق فيه أصلا. ومن المعلوم ان البراءة سواء أكانت شرعية أم عقلية انما ترفع الضيق عن المكلف والكلفة عنه ، ليكون في رفعه منة عليه ، والفرض انه لا كلفة ولا ضيق في طرف الإطلاق أصلا فاذن تجري البراءة عن التقييد بلا معارض.

ومن المعلوم انه لا يفرق فيه بين البراءة الشرعية والعقلية ، بل كلتاهما تجري بملاك واحد وهو ان التقييد بما ان فيه كلفة زائدة ولم يقم بيان عليها من قبل الشارع ، والإطلاق لا كلفة فيه ، فلذا لا مانع من جريان البراءة عنه مطلقاً ، اما البراءة الشرعية فواضح. واما البراءة العقلية فلتحقق موضوعها هنا ـ وهو عدم البيان ـ ومعه لا محالة تجري ، كما هو ظاهر. فاذن لا وجه للتفرقة بينهما أصلا.

واما الغرض فلفرض انه لا يزيد عن التكليف ، بل حاله حاله ، وذلك لما ذكرناه مراراً من انه لا طريق لنا إلى إحرازه في مورد مع قطع النّظر عن ثبوت التكليف فيه. وعليه فلا محالة تدور سعة إحراز الغرض وضيقه مدار سعة التكليف وضيقه ، فلا يعقل ان يكون الغرض أوسع منه.

وعلى هذا فبما ان التكليف المتعلق بالأكثر غير واصل إلى المكلف ، لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي ، فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه في الواقع أيضاً غير واصل ، لفرض ان وصوله تابع لوصول التكليف ، فإذا فرض ان التكليف لم يصل فالغرض أيضاً كذلك. ومن الظاهر انه لا يجب تحصيل مثل هذا الغرض لا بحكم

١٢٥

العقل ولا بحكم الشرع ، لفرض انه لا يزيد عن التكليف ، والمفروض في المقام انه لا يجب امتثال هذا التكليف من جهة عدم تنجزه ووصوله ، فاذن لا مانع من قبل وجوب تحصيل الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الأكثر شرعا وعقلا كما هو واضح.

واما التكليف المتعلق بالأقل فبما انه واصل إلى المكلف ومنجز ، فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه واصلا أيضاً ، ومعه يجب تحصيله ، كما يجب امتثال التكليف المتعلق به.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الغرض المترتب على الأكثر بما انه مشكوك فيه من جهة ، ولم يقم برهان عليه من جهة أخرى ، فلا محالة لا يمنع عن جريان البراءة عن وجوبه.

ومن ذلك يظهر انه لا فرق بين البراءة الشرعية والعقلية ، فانه كما لا يمنع عن جريان الأولى ، كذلك لا يمنع عن جريان الثانية ، ضرورة ان مانعيته انما هي في فرض كون تحصيله واجباً بحكم العقل. وقد عرفت ان العقل لا يحكم بوجوب تحصيله ، الا فبما إذا وصل إلى المكلف لا مطلقاً.

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من التفكيك بين البراءة الشرعية والعقلية في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه. وتمام الكلام هناك.

واما الكلام في المقام الثاني (وهو بيان الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للوجوب الضمني) فائضاً تظهر الثمرة بينها في موردين :

الأول ـ فيما إذا اضطر المكلف إلى إيجاد بعض افراد الطبيعة كان المطلوب تركها في الخارج في ضمن واجب كالصلاة ـ مثلا ـ أو نحوها ، كما إذا اضطر إلى لبس الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

١٢٦

فعلى الصورة الأولى بما ان المطلوب هو صرف ترك هذه الطبائع في ضمنها وانها متقيدة به ، فلا محالة يحصل المطلوب بترك فرد ما منها في الخارج ، ولا يجب عليه ترك بقية افرادها ، وذلك كما عرفت من ان صرف الترك كصرف الوجود فكما ان صرف الوجود يتحقق بأول الوجودات ، فكذلك صرف الترك يتحقق بأول التروك ، فإذا حصل صرف الترك بأول الترك حصل الغرض ، ومعه يسقط الأمر فاذن لا امر بترك بقية افرادها ، بل لا مقتضى له ، لفرض انه قائم بصرف الترك لا بمطلقه كما ان عصيانه يتحقق بإيجاد أول فرد منها في الخارج في ضمن الصلاة ولو في آن.

وعلى الجملة فعلى هذه الصورة يكفي في صحة الصلاة ترك هذه الطبائع فيها آنا ما ، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بالصلاة ، بل لا مقتضى له. ويترتب على ذلك ان المانع عنها في هذه الصورة انما هو وجود هذه الطبائع في تمام آنات الاشتغال بها ، ولا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات أصلا.

والسر فيه واضح وهو ان المطلوب حيث كان صرف ترك هذه الطبائع في الصلاة ، فمن المعلوم انه يتحقق بترك لبسها آناً ما فيها ، وان لم يترك في بقية آنات الاشتغال بها ، لصدق صرف الترك عليه ، ومعه يحصل المطلوب ، ويسقط الأمر لا محالة ، ولازم ذلك هو ان المانع لبس هذه الأمور في جميع آنات الصلاة ، وهذا واضح.

وعلى الصورة الثانية (وهي كون المطلوب ترك جميع افراد هذه الطبائع في الصلاة على نحو الانحلال والعام الاستغراقي) وجب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ، وذلك لفرض ان الصلاة على هذا متقيدة بترك كل فرد من افرادها في الخارج على نحو الاستقلال ، ولازم ذلك هو ان وجود كل منها مانع مستقل عنها فلا تكون مانعيته مربوطة بمانعية فرد آخر .. وهكذا.

١٢٧

وبكلمة أخرى حيث ان المفروض في هذه الصورة هو ان ترك كل واحد من افراد هذه الطبائع مطلوب على نحو الاستقلال ، فلا محالة يكون وجود كل منها مانعاً مستقلا ، ضرورة انا لا نعني بالمانع الا ما يكون عدمه دخيلا في الواجب. وعلى هدى ذلك فإذا فرض ان المكلف اضطر إلى إيجاد فرد من افرادها وجب عليه الاقتصار على خصوص هذا الفرد المضطر إليه ولا يسوغ له إيجاد فرد آخر منها ، فلو أوجده لبطلت صلاته ، لفرض ان ترك كل منهما مطلوب مستقلا وانه زيادة في المانع.

ويترتب على ما ذكرناه انه يجب التقليل في افراد تلك الطبائع بالمقدار الممكن ، ويلزم الاقتصار على قدر الضرورة ، ولا يجوز ارتكاب الزائد.

وذلك كما إذا فرض نجاسة طرفي ثوب المكلف ـ مثلا ـ وفرض انه متمكن من إزالة النجاسة عن أحد طرفيه دون الطرف الآخر. كما إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لإزالة النجاسة عنه دون الآخر ، ففي مثل ذلك يجب عليه تقليل النجاسة وإزالتها عن أحد طرفي ثوبه ، لفرض ان كل فرد منها مانع مستقل ، وترك كل فرد منها مطلوب كذلك ، فإذا فرض ان المكلف اضطر إلى إيجاد مانع فلا يجوز له إيجاد مانع آخر .. وهكذا ، فان الضرورة تتقدر بقدرها فلو أوجد فردا آخر زائداً عليه لكان موجباً لبطلان صلاته.

وكذا إذا فرض نجاسة ثوبه وبدنه معاً فعندئذ إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لإزالة النجاسة عن أحدهما وجبت الإزالة بالمقدار الممكن.

وكذا إذا فرض نجاسة موضع من بدنه وفرض انه متمكن من إزالة النجاسة عن بعضها وجبت الإزالة الممكنة.

وكذا الأمر فيما إذا فرض نجاسة موضع من بدنه أو ثوبه ، ولكنه متمكن من تقليله بحسب الكم وجب تقليله .. وهكذا.

١٢٨

وعلى الجملة فالاضطرار إلى إيجاد مانع في الخارج لا يوجب سقوط الصلاة لفرض انها لا تسقط بحال ، كذلك لا يوجب سقوط مانعية فرد آخر ، لفرض ان كلا منها مانع مستقل.

ونتيجة ما ذكرناه هي وجوب التقليل في افراد النجس ، والميتة ، وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة من الافراد العرضية والطولية بالمقدار الممكن ولزوم الاقتصار على قدر الضرورة.

بل ان السيد العلامة الطباطبائي (قده) قد أفتى في العروة بوجوب التقليل حكما فضلا عن التقليل موضوعا ، كما إذا فرض تنجس الثوب بملاقاة البول المعتبر في طهارته تعدد الغسل ، ولكن كان عنده ماء بمقدار يكفي لغسلة واحدة ، أو كان هناك مانع عن الغسلة الثانية ، فيجب غسله مرة واحدة ، لأنه يوجب تخفيف النجاسة وزوال المرتبة الشديدة.

وغير خفي ان ما أفاده (قده) من وجوب تقليل النجاسة حكما لا يتم صغرى وكبرى.

اما بحسب الصغرى فلما ذكرناه غير مرة من ان الأحكام الشرعية ـ بشتى أنواعها واشكالها ـ أمور اعتبارية محضة ، وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ومن الطبيعي ان الأمور الاعتبارية لا تتصف بالشدة مرة وبالضعف مرة أخرى ، ضرورة انهما من الصفات العارضة على الأمور الخارجية والموجودات التكوينية ، كالسواد والبياض وما شاكلهما. واما الأمور الاعتبارية فالمفروض انه ليس لها واقع خارجي ووجود الا في عالم الاعتبار ، فهي لا تتصف في ذلك العالم الا بالوجود والعدم ، إذ انها عند اعتبار من له الاعتبار موجودة وعند عدم اعتباره معدومة.

وبعد ذلك نقول : ان النجاسة بما انها حكم شرعي فليس لها واقع موضوعي

١٢٩

ما عدا اعتبار الشارع لها للأشياء بالذات ، كما في الأعيان النجسة ، أو بالعرض ، كما في الأعيان المتنجسة ، لحكمة دعت إلى ذلك الاعتبار ، ومن المعلوم ان هذا الاعتبار لا يتصف بالشدة والضعف ، فلا يقال ان اعتبار نجاسة شيء عند ملاقاته للبول شديد واعتبار نجاسته عند ملاقاته للدم ـ مثلا ـ ضعيف ، ضرورة انه لا فرق بين الاعتبارين من هذه الناحية أصلا ، ولا يعقل اتصافهما بالشدة تارة وبالضعف أخرى.

وعلى الجملة فليس في المقام عند التحليل الا اعتبار الشارع نجاسة الثوب ـ مثلا ـ عند ملاقاته للبول ، واعتبار طهارته عند غسله في الماء مرتين مطلقاً ، أو في خصوص الماء القليل على الخلاف في المسألة ، فتكون ملاقاته للبول موضوعا لحكم الشارع بنجاسته ، وغسله في الماء مرتين موضوعا لحكمه بطهارته. ومن الواضح ان الموضوع ما لم يتحقق في الخارج لا يترتب عليه حكمه.

وعلى ضوء ذلك فلا أثر لتحقق الغسلة الواحدة بالإضافة إلى الحكم بالطهارة ما لم تتحقق الغسلة الثانية ، لفرض انها جزء الموضوع ، ولا أثر له ما لم يتحقق جزؤه الآخر أيضاً ، وعند تحقق الغسلة الثانية يتحقق الموضوع ، فيترتب عليه حكمه ـ وهو الطهارة في المثال كما انه ربما اعتبر الشارع في حصول الطهارة لشيء خصوصية أخرى زائداً على غسله بالماء ، وهي المسح بالتراب أو نحوه. ولكن من المعلوم ان كل ذلك لمصلحة يراها الشارع ، وليس امراً جزافا لاستحالة صدور الجزاف منه ، كما ان من الضروري انها لا توجب كون اعتبار النجاسة في مثل هذه الموارد أشد من اعتبارها في غيره من الموارد ، لما عرفت من ان الاعتبار ـ بما هو ـ لا يمكن ان يتصف بالشدة والضعف ، ضرورة انهما من صفات وعوارض الأمور الخارجية ، لا الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها في الخارج.

١٣٠

نعم يمكن اختلاف المعتبر في الشدة والضعف ، فيكون المعتبر نجاسة شديدة لشيء ونجاسة ضعيفة لشيء آخر ، كما ورد ذلك في الناصب انه أنجس من الكلب والخنزير ، الا ان ذلك أجنبي عن محل البحث وحصول ضعف في نجاسة المتنجس بغسله مرة واحدة.

وان شئت فقل ان الاعتبار ـ بما هو ـ وان كان غير قابل للاتصاف بالشدة تارة والضعف أخرى ، الا انه لا مانع من اعتبار الشارع نجاسة شديدة لشيء ونجاسة ضعيفة لآخر بملاك يقتضي ذلك ، فان هذا بمكان من الوضوح ولكن هذا غير ما نحن بصدده كما لا يخفى.

وقد يتخيل في المقام انه لا شبهة في تفاوت الأحكام الشرعية من حيث القوة والضعف والأهمية وعدمها ، ضرورة انها ليست في رتبة واحدة. وعلى نسبة فاردة ، كما هو ظاهر. وعليه فكيف يمكن نفي التفاوت بينها ، وعدم اتصافها بالشدة والضعف.

ولكن هذا الخيال خاطئ وغير مطابق للواقع ، وذلك لأن مركز نفى الشدة والضعف عن الأحكام الشرعية انما هو نفس الاعتبار الشرعي بما هو اعتبار. ومن المعلوم انه غير قابل للاتصاف بهما أبدا كما مر. واما اتصاف الحكم بكونه أهم من آخر وأقوى منه فانما هو باعتبار الملاك المقتضى له ، بمعنى ان ملاكه أقوى من ملاكه وأهم منه لا باعتبار نفسه ، ضرورة ان الأحكام الشرعية بملاحظة أنفسها في رتبة واحدة ، وعلى نسبة فاردة فليس هذا الاعتبار بما هو اعتبار أقوى وأهم من اعتبار آخر .. وهكذا ، فاذن يكون اتصافها بالأقوائية والأهمية انما هو بالعرض والمجاز ، لا بالذات والحقيقة ، والمتصف بهما بالذات والحقيقة انما هو ملاكات تلك الأحكام كما لا يخفى.

واما بحسب الكبرى فعلى تقدير تسليم الصغرى (وهي قبول النجاسة

١٣١

لوصف الشدة تارة ولوصف الضعف تارة أخرى) فلأنه لا دليل على وجوب تقليل النجاسة عن البدن أو الثواب بحسب الكيف وذلك لأن الأدلة ناظرة إلى مانعية الافراد بحسب الكم ، وان كل فرد من افراد النجس إذا كان في بدن الإنسان أو ثوبه مانع عن الصلاة ، ولا تكون ناظرة إلى مانعيتها بحسب الكيف ، وان شدتها زيادة في المانع.

وبتعبير آخر ان الأدلة تدل على الانحلال الكمي ، وان كل فرد من افراد هذه الطبيعة مانع ، ولا تدل على ان شدته مانع آخر زائداً على أصله ، ليجب رفعها عند الإمكان. وعليه فلا فرق بين الفرد الشديد والضعيف في المانعية بالنظر إلى الأدلة ، ولا تكون شدته زيادة في المانع بعد ما كان موجوداً في الخارج بوجود واحد. وعليه فالعبرة في وحدة المانع وتعدده انما هي بوحدة الوجود خارجا وتعدده ، فان كان في الخارج موجودا بوجود واحد فهو فرد واحد من المانع ، وان كان وجوده شديدا ، وان كان موجودا بوجودين فهو فردان من المانع .. وهكذا.

فالنتيجة هي انه لا دليل على وجوب التخفيف الحكمي والكيفي.

وعلى الصورة الثالثة (وهي ما كان المطلوب مجموع تروك الطبيعة على نحو العموم المجموعي) فلا يجب التقليل والاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه.

والوجه في ذلك واضح وهو ان المطلوب في هذه الصورة تقيد الصلاة بترك مجموع افراد هذه الطبائع في الخارج على نحو العام المجموعي ، وليس ترك كل منها مطلوبا مستقلا ، بل المجموع مطلوب بطلب واحد شخصي.

وعلى هذا فإذا فرض ان المكلف اضطر إلى إيجاد بعض افراد تلك الطبائع في الصلاة لا يقدر على إتيان الصلاة مقيدة بالقيد المزبور. وعليه فلا أثر لإيجاد فرد آخر غير هذا الفرد المضطر إليه ، ضرورة انه سواء أوجد فردا آخر غيره أم

١٣٢

لم يوجد ، فلا يقدر على الصلاة مع ذلك القيد.

وان شئت قلت ان مرد هذه الصورة إلى ان المانع عن الصلاة انما هو الوجود الأول ، ضرورة ان معه ينتفي القيد المذكور. ومن المعلوم انه مع انتفائه لا أثر للوجود الثاني والثالث .. وهكذا ، ولا يتصف شيء منهما بالمانعية ، لعدم المقتضى لهذا الاتصاف أصلا ، كما هو ظاهر. وعلى هذا يجوز له إيجاد فرد آخر بإرادته واختياره.

ويترتب على ذلك انه في الأمثلة المتقدمة لا يجب عليه التقليل ، بل له ان يصلى مع نجاسة ثوبه وبدنه مع فرض تمكنه من تطهير أحدهما وإزالة النجاسة عنه ، بل لو كان عنده ثوبان متنجسان يجوز له ان يصلى فيهما معاً عند اضطراره إلى الصلاة في أحدهما ، ولا يجب عليه الاقتصار فيها على أحدهما.

والسر فيه ما ذكرناه من ان الصلاة متقيدة بمجموع تروك افراد النجس أو الميتة أو ما لا يؤكل أو نحو ذلك على نحو العموم المجموعي ، ففيها تقييد واحد بالإضافة إلى مجموع التروك ، لا تقييدات متعددة. وعليه فإذا اضطر المكلف إلى الصلاة في شيء من افراد هذه الطبائع ، كأن اضطر إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو فيما لا يؤكل أو غير ذلك فلا محالة ينتفي ذلك القيد ، لعدم القدرة على إتيانها معه. ومن الواضح جدا انه لا يفرق في ذلك بين ان يقتصر المكلف على خصوص الفرد المضطر إليه أو يأتي بفرد آخر أيضاً ، كأن يلبس ثوباً متنجساً آخر زائداً على الفرد المضطر إليه باختياره وإرادته ، بداهة انه لا دخل للفرد الثاني أصلا ، فيكون وجوده وعدمه سيان ، لفرض ان عدمه بالخصوص غير دخيل في الواجب والدخيل فيه انما هو عدم المجموع والمفروض ان المكلف لا يقدر عليه ، فاذن يستحيل ان يتصف الفرد الثاني أو الثالث بالمانعية ، ومعه لا مانع من ان يأتي به باختياره وإرادته أصلا. كما ان المطلوب لو كان هو صرف الوجود يستحيل ان

١٣٣

يتصف الفرد الثاني أو الثالث بالمطلوبية. وهذا من الواضحات الأولية.

وعلى الصورة الرابعة (وهي ما كانت الصلاة متقيدة بعنوان وجودي بسيط متحصل من مجموع تروك هذه الطبائع) فالحال فيها هي الحال في الصورة الثالثة بمعنى ان المكلف إذا اضطر إلى الصلاة في شيء من افراد هذه الطبائع في الخارج كأن اضطر إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل ، فلا محالة لا يتحقق العنوان المزبور ، ولا يقدر المكلف على الصلاة مع هذا القيد ، ضرورة انه مسبب عن مجموع تروك الطبيعة ومعلول لها ومع الإخلال بواحد منها لا محالة لا يوجد ، بداهة استحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة.

وعلى الجملة فالصلاة لم تكن متقيدة بنفس تروك تلك الطبائع على الفرض ، بل هي متقيدة بعنوان متولد من تلك التروك في الخارج ، فلا شأن لهذه التروك الا كونها محصلة لقيد الواجب ـ وهو الصلاة في مفروض الكلام ـ ومقدمة لحصوله ، والا فهي أجنبية عما هو مراد الشارع وليست بمطلوبة له ، فإذا فرض ان لمجموع هذه التروك دخلا في تحقق هذا العنوان ، بحيث يكون دخل كل منها فيه بنحو جزء السبب والمؤثر لا تمامه ، فلا محالة ينتفي ذلك القيد بانتفاء واحد منها وانقلابه إلى الوجود باضطرار أو نحوه.

وعليه فلا أثر لانقلاب ترك الفرد الثاني أو الثالث .. وهكذا إلى الوجود أصلا ، وذلك لفرض ان ترك كل منها ليس مطلوبا ، والمطلوب انما هو تقيد الصلاة بالعنوان المذكور ، وهو منتف في هذا الحال سواء أوجد المكلف فرداً آخر زائداً على هذا الفرد المضطر إليه أم لا ، فاذن لا يجب الاقتصار على خصوص هذا الفرد ، ويجوز له إيجاد فرد آخر باختياره.

وقد تحصل من ذلك انه لا فرق بين هذه الصورة والصورة الثالثة بحسب النتيجة ، وهي عدم وجوب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه.

١٣٤

نعم بينهما فرق في نقطة أخرى وهي ان في الصورة الثالثة كانت الصلاة متقيدة بنفس التروك الخارجية بعنوان العموم المجموعي ، وفي هذه الصورة متقيدة بعنوان وجودي متحصل منها.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان في الصورة الأولى لا يجب على المكلف الا ترك هذه الطبائع أعني ترك لبس النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة آنا ما ولا يلزم تركها في جميع آنات الاشتغال بها ، وذلك لما عرفت من ان المطلوب في هذه الصورة هو صرف تركها وهو على الفرض يتحقق بتركها آناً ما ، كما هو واضح. وفي الصورة الثانية يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ولا يجوز له إيجاد فرد آخر زائداً عليه ولا لبطلت صلاته لفرض انه مانع مستقل ولم يضطر إليه. وفي الصورة الثالثة والرابعة لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ، بل يجوز له إيجاد الفرد الثاني والثالث .. وهكذا باختياره.

الثاني ما إذا شككنا في مانعية شيء عن الصلاة ـ مثلا ـ لشبهة موضوعية فان كان هناك أصل موضوعي يمكن ان تحرز به المانعية أو عدمها ، كما إذا شككنا في طهارة ثوب أو نجاسته ، وجرى فيه استصحاب النجاسة أو قاعدة الطهارة ، فلا كلام فيه ولا إشكال. واما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي ، كما لو شككنا في مانعية ثوب عن الصلاة ـ مثلا ـ من جهة الشك في انه متخذ من اجزاء ما لا يؤكل لحمه أو غير متخذ منه ، ففي مثل ذلك لا أصل موضوعي يحرز به أحد الأمرين مع قطع النّظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي فيه ، أو العدم النعتيّ المحرز لعدم كونه متخذا من اجزاء ما لا يؤكل.

بيان ذلك هو انا إذا بنينا في تلك المسألة ـ أعني مسألة اللباس المشكوك فيه ـ على جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتيّ فيها بالتقريب الآتي ، كما هو مختارنا في هذه المسألة فهي خارجة عن مفروض كلامنا ، إذ بهذا

١٣٥

الاستصحاب نحرز ان هذا اللباس غير متخذ من اجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فلا يبقى لنا شك عندئذ في مانعيته أصلا.

اما تقريب جريانه على النحو الأول في هذه المسألة هو أن مادة هذا الثوب في زمان لم تكن موجودة يقيناً ، ضرورة انها ليست أزلية ، وكذا اتصافها بكونها من اجزاء ما لا يؤكل ، لوضوح انه امر حادث مسبوق بالعدم ، ثم وجدت مادته ، وبعد وجودها لا محالة نشك في اتصافها بالوصف المزبور وان هذا الاتصاف تحقق في الخارج أم لا ، فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم اتصافها به ، وبذلك نحرز ان مادة هذا الثوب ليست من اجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فاذن لا مانع من الصلاة فيه ، إذ المفروض جواز الصلاة في ثوب لم يكن من اجزاء ما لا يؤكل وهذا ثوب لم يكن منها ، اما كونه ثوبا فبالوجدان ، واما انه ليس من اجزاء ما لا يؤكل فبالتعبد. فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم موضوع الأثر.

وعلى الجملة فهنا امران كلاهما مسبوق بالعدم ـ أحدهما ـ مادة هذا الثوب واجزائه الأصلية ثانيهما ـ اتصافها بكونها من اجزاء ما لا يؤكل.

اما الأمر الأول ـ فقد تحقق في الخارج ووجدت مادة هذا الثوب.

واما الأمر الثاني ـ فهو مشكوك فيه فانا نشك في ان تلك المادة والاجزاء هل وجدت متصفة بهذه الصفة أو لم توجد كذلك ، فالذي نتيقن به هو وجود تلك المادة في الخارج ، واما اتصافها بهذه الصفة فهو مشكوك فيه ، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدمه ، للشك في انتقاض هذا العدم إلى الوجود ، فنستصحب بقاءه على حاله ، وبذلك نحرز ان مادة هذا الثوب لم تؤخذ من اجزاء ما لا يؤكل ، فلا مانع عندئذ من إيقاع الصلاة فيه. وتمام الكلام في محله.

واما تقريب جريانه على النحو الثاني في هذه المسألة هو ان مادة هذا الثوب في زمان كانت موجودة ، ولم تكن في ذلك الزمان جزءاً لما لا يؤكل وهو زمان

١٣٦

كونها نباتاً ـ مثلا ـ ثم نعلم بانتقالها من الصورة النباتية وصيرورتها جزء للحيوان ولكن لا نعلم انها صارت جزء للحيوان غير المأكول أم لا ، وحيث انا نعلم بعدم كونها جزء له في حال كونها نباتاً ، ثم بعد ذلك نشك في انها صارت جزء له أم لا ، فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم صيرورتها جزء له ، وبذلك نحرز أن مادة هذا الثوب ليست من اجزاء ما لا يؤكل.

ودعوى ان هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم انتقالها من الصورة النباتية وصيرورتها جزء للحيوان المأكول ـ خاطئة جدا ، وذلك لأن هذا الاستصحاب غير جار في نفسه ، ليعارض الاستصحاب المزبور ، لعدم ترتب أثر شرعي عليه الا على القول بالأصل المثبت ، فان الأثر الشرعي ـ وهو صحة الصلاة انما يترتب على عدم كونها جزء من غير المأكول ، لا على كونها جزء من المأكول كما ان بطلانها انما يترتب على كونها جزء من غير المأكول لا على عدم كونها جزء من المأكول. وهذا واضح ، فاذن لا وجه لهذه الدعوى أصلا.

فالنتيجة هي انه بناء على ما حققناه في تلك المسألة من جريان استصحاب العدم الأزلي فيها أو العدم النعتيّ بالتقريب المزبور ، لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي من أصالة البراءة أو الاشتغال. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه قد مر ان محل الكلام في المقام انما هو فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي.

ويترتب على ضوئهما ان هذه المسألة ـ بناء على هذه النظرية ـ خارجة عن محل الكلام.

نعم لو بنينا فيها على عدم جريان هذا الاستصحاب أعني استصحاب العدم الأزلي والعدم النعتيّ معاً ، فتدخل المسألة في محل الكلام ، ولا بد عندئذ من الرجوع إلى الأصل الحكمي من أصالة البراءة أو الاحتياط. ومن الواضح انه يختلف باختلاف الصور المتقدمة ، بيان ذلك :

١٣٧

اما على الصورة الأولى ، فبما ان المطلوب هو صرف ترك لبس النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة ، والمفروض حصوله بترك فرد ما من هذه الطبائع في الخارج آنا ما حال الصلاة ، فعندئذ ان تمكن المكلف من ترك هذه الطبائع انا ما فيها فلا مانع بعد ذلك من إيجاد افرادها المتيقنة فيها فضلا عن الافراد المشكوك فيها ، وان لم يتمكن من تركها آنا ما فيها فلا محالة تبطل صلاته لما مر من ان المانع على هذه الصورة انما هو وجود هذه الطبائع في تمام آنات الاشتغال بها أي بالصلاة ، وعليه فإذا صلى في هذا الثوب المشكوك فيه بان لبسه في تمام آنات الاشتغال بها كما هو مفروض الكلام فحينئذ ان كان هذا الثوب نجساً في الواقع فهو مانع عنها لا محالة ، وان لم يكن نجساً فلا يكون مانعاً وحيث انا لا نعلم انه نجس أو ليس بنجس ، فطبعا نشك في مانعيته ، ولا مانع عندئذ من الرجوع إلى البراءة عنها الشرعية والعقلية ، بناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

واما على الصورة الثانية (وهي ما كان ترك كل فرد من افراد هذه الطبائع مطلوبا في الصلاة على نحو الاستقلال فالمقام داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لأن مرد الشك فيها عندئذ إلى الشك في انطباق الواجب وهو الصلاة المقيدة بعدم إيقاعها فيما لا يؤكل والميتة والنجس وما شابه ذلك على الصلاة المأتي بها في هذا الثوب في الخارج ، وعدم انطباقه الا على خصوص المقيدة بعدم وقوعها في هذا الثوب المشتبه. فعلى الأول يكون الواجب هو الأقل ـ وهو المطلق من حيث تقيده بعدم وقوعه في هذا الثوب وعدم تقيده به.

وعلى الثاني يكون هو الأكثر ـ وهو المقيد بعدم وقوعه في هذا الثوب المشكوك فيه.

وبما انا لا نعلم ان الواجب في المقام هو الأقل أو الأكثر فيدخل في تلك

١٣٨

المسألة ، ويبتني القول بالرجوع إلى البراءة أو الاحتياط فيه على القول بالرجوع إلى البراءة أو الاحتياط فيها وحيث قد انا اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر الشرعية والعقلية ، فنقول بها في المقام أيضاً.

وقد تقدم ملخصاً ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) من التفصيل بين البراءة الشرعية والعقلية لا يرجع إلى معنى صحيح.

ويترتب على ما ذكرناه انه لا مانع من الصلاة في هذا الثوب المشتبه المردد بين كونه من المأكول أو غيره. ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثالثة أيضاً ، لأن مرجع الشك فيها أيضاً عندئذ إلى الشك في انطباق الواجب ـ وهو الصلاة في مفروض الكلام ـ على هذا الفرد المأتي به في الخارج ـ وهو الصلاة في هذا الثوب المشتبه ـ وعدم انطباقه عليه. فعلى الأول يكون الواجب هو الأقل يعني الطبيعي اللا بشرط. وعلى الثاني يكون هو الأكثر يعني الطبيعي بشرط شيء ، وحيث انا لا نعلم ان الواجب هو الأقل أو الأكثر ، فيدخل في كبرى تلك المسألة. وقد عرفت ان المختار فيها على وجهة نظرنا هو جريان أصالة البراءة عن التقييد ، لأنه كلفة زائدة ، ولم يقم برهان عليها ، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه العقلية والشرعية. وكذا الحال فيما نحن فيه.

وقد تحصل من ذلك انه لا فرق بين الصورة الثانية والصورة الثالثة من هذه الناحية أصلا ، فان المقام على كلتا الصورتين داخل في كبرى تلك المسألة ويكون من صغرياتها.

نعم فرق بينهما من ناحية أخرى وهي ان الصلاة بناء على الصورة الثانية متقيدة بترك كل فرد من افراد هذه الطبائع في الخارج على نحو الاستقلال وبناء على الصورة الثالثة متقيدة بمجموع تروك افراد هذه الطبائع في الخارج بنحو الارتباط. وعليه فيكون ترك هذا الفرد المشتبه على تقدير كونه نجساً ـ مثلا ـ

١٣٩

في الواقع تركا لمانع مستقل على الصورة الثانية. وجزء من التروك المطلوبة على الصورة الثالثة.

ومن هنا يظهر انه لا ثمرة بين هاتين الصورتين من هذه الناحية أصلا.

ونتيجة ما ذكرناه هي انه مع قطع النّظر عما ذكرناه من الأصل الموضوعي في مسألة اللباس المشكوك فيه يرتكز جواز الصلاة فيه على القول بجريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فان قلنا بالبراءة فيها ـ كما هو الصحيح ـ تجوز الصلاة فيه ، سواء أكانت مانعية ما لا يؤكل لحمه انحلالية أم غير انحلالية وان لم نقل بالبراءة فيها فلا تجوز الصلاة فيه كذلك أي سواء أكانت مانعيته انحلالية أم لم تكن.

ومن ذلك يظهر فساد ما قد يتوهم ان جواز الصلاة في اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل يبتنى على ان تكون مانعيته انحلالية ، واما إذا لم تكن انحلالية فلا تجوز الصلاة فيه ، ووجه الظهور ما عرفت من ان مانعيته سواء أكانت انحلالية أم لم تكن ، فعلى كلا التقديرين تدخل هذه المسألة أعني مسألة اللباس المشكوك في كبرى تلك المسألة أي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فلا فرق بين الصورتين من هذه الناحية أصلا. وعليه فيبتني جريان البراءة أو الاحتياط فيها على جريان البراءة أو الاحتياط في تلك المسألة ، لا على الانحلالية وعدمها فلا أثر لهما في المقام أصلا.

نعم انما يكون أثر لهما أي للانحلال وعدمه في التكاليف الاستقلالية ، لا في التكاليف الضمنية ، كما في المقام ، فانه لا أثر لكون تروك هذه الطبيعة ملحوظة على نحو الانحلال في مقام جعل الحكم أو على نحو العموم المجموعي ، فانها على كلا الفرضين داخلة في كبرى تلك المسألة ، كما مر. وهذا بخلاف التكاليف الاستقلالية فانها على نحو تقدير كونها مجعولة على نحو الانحلال والاستغراق بالإضافة

١٤٠