محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

لا يصلح ان يكون متعلقاً للتكليف ، ضرورة ان التكليف تابع لما فيه المصلحة أو المفسدة ، ومن الواضح جداً انه لا مصلحة في ذلك المفهوم الانتزاعي ، والمصلحة إنما هي في فعل المكلف الصادر منه في الخارج ، فاذن لا محالة يكون التكليف متعلقاً به لا بالعنوان المزبور. وعليه فلا بد من الالتزام بأحد الوجوه المزبورة ـ خاطئ جدا وغير مطابق للواقع ، وذلك لعدم الطريق لنا إلى معرفة سنخ الغرض الداعي إلى إيجاب شيء أو تحريمه ، ولا نعلم ما هو سنخه؟ نعم نعلم من امر الشارع بشيء أو نهيه عن آخر ان في الأول مصلحة تقتضي إيجابه وفي الثاني مفسدة تقتضي تحريمه ، ولكن لا نعلم سنخ تلك المصلحة وسنخ تلك المفسدة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه يجب علينا التحفظ على ظواهر الأدلة ، وتعيين الحكم ومتعلقه بها. ومن ناحية ثالثة انا نعلم ان الإتيان بمتعلق الوجوب في الخارج محصل للمصلحة الداعية إلى إيجابه ، ولا يبقى مجال لها بعده.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي انه لا بد من الالتزام بان متعلق الوجوب في موارد الواجبات التخييرية هو العنوان الانتزاعي من جهة ظهور الأدلة في ذلك ، ضرورة ان الظاهر من العطف بكلمة (أو) هو وجوب أحد الفعلين أو الأفعال ، وعلى هدى ذلك نعلم ان الغرض الداعي إلى إيجابه قائم به ، لفرض انه لا طريق لنا إلى إحرازه ما عداه ، كما انا نعلم بحصول هذا الغرض وتحققه في الخارج بإتيانه في ضمن أي من هذين الفعلين أو الأفعال شاء المكلف إتيانه فيه.

وبكلمة أخرى ان المستفاد من الأدلة بحسب المتفاهم العرفي هو ان متعلق الوجوب الجامع الانتزاعي ، ومن الواضح ان مرد ذلك بحسب التحليل العامي إلى عدم دخل شيء من خصوصية الطرفين أو الأطراف فيه ، ولتوضيح ذلك

٤١

نأخذ مثالا وهو ما إذا أوجب المولى إطعام ستين مسكيناً أو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة ، كما في كفارة صوم شهر رمضان ، فلا محالة يكون مرد هذا إلى عدم دخل شيء من خصوصياتها في غرض المولى الداعي إلى الأمر بأحدها لفرض انه يحصل بإتيان كل منها في الخارج. هذا من جانب. ومن جانب آخر المفروض ان الغرض لم يقم بكل واحد منها وإلا لكان كل منها واجباً تعيينياً ومن جانب ثالث ان وجوب أحدها المعين في الواقع لا يمكن بعد ما كان الجميع في الوفاء بغرض المولى على نسبة واحدة.

ونتيجة ذلك لا محالة هي وجوب الجامع بين هذه الأمور ، وان الغرض الداعي له يحصل بإتيانه في ضمن إيجاد أي فرد منها شاء المكلف إيجاده ، لوضوح ان مرد وجوب الجامع بالتحليل إلى عدم دخل شيء من خصوصيات هذه الأمور ، وان الغرض المزبور يترتب على فعل كل منها في الخارج من دون خصوصية لهذا وذاك أصلا ، وهذا امر معقول في نفسه ، بل واقع في العرف والشرع ، فان غرض المولى إذا تعلق بأحد الفعلين أو الأفعال فلا محالة يأمر بالجامع بينهما وهو أحدهما لا بعينه ، مع عدم ملاحظة خصوصية شيء منها.

ومن هنا يظهر ان مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما هو موجود في النّفس ولا يتعدى عن أفقها إلى أفق الخارج ضرورة انه غير قابل لأن يتعلق به الأمر أصلا وان يقوم به الغرض ، بل مرادنا من تعلق الأمر به بما هو منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج ، ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلف ، فله ان يطبق على هذا ، وله ان يطبق على ذاك. ولعل منشأ تخيل انه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي هو تعلقه به على النحو الأول دون الثاني. وقد تحصل من ذلك انه لا مانع من ان يكون المأمور به هو العنوان الانتزاعي على النحو المزبور ، لا من ناحية الأمر

٤٢

ولا من ناحية الغرض كما عرفت.

أضف إلى ما ذكرناه انه يمكن تعلق الصفة الحقيقية بأحد امرين أو أمور فما ظنك بالأمر الاعتباري ، وذلك كما إذا علمنا إجمالا بعدالة أحد شخصين مع احتمال ان يكون الآخر أيضاً عادلا ولكن كان في الواقع كلاهما عادلا ، ففي مثل ذلك لا تعين للمعلوم بالإجمال حتى في علم الله ، ضرورة انه لا واقع له غير هذا المفهوم المنتزع ، فلا يمكن ان يقال ان المعلوم بالإجمال عدالة هذا دون عدالة ذاك أو بالعكس لفرض ان نسبة المعلوم بالإجمال إلى كل واحد منهما على حد سواء.

وبكلمة واضحة انا قد ذكرنا في محله انه لا واقع ولا تعين للمعلوم بالإجمال مطلقاً ، اما في مثل المثال المزبور فواضح. واما فيما إذا فرض ان أحدهما عادل في الواقع وعلم الله دون الآخر ففي مثل ذلك أيضاً لا تعين له ، ضرورة ان العلم الإجمالي لم يتعلق بعدالة خصوص هذا العادل في الواقع. وإلا لكان علماً تفصيلياً وهذا خلف ، بل تعلق بعدالة أحدهما. ومن الواضح جدا انه ليس لعنوان أحدهما واقع موضوعي وتعين في عالم الخارج. بل هو مفهوم انتزاعي في عالم النّفس. ولا يتعدى عن أفق النّفس إلى ما في الخارج. وله تعين في ذلك العالم. لا في عالم الواقع والخارج ومن المعلوم ان متعلق العلم هو ذلك المفهوم الانتزاعي لا ما ينطبق عليه هذا المفهوم. لفرض انه متعين في الواقع وعلم الله والعلم لم يتعلق به. وإلا لكان علماً تفصيلياً لا إجمالياً.

فالنتيجة قد أصبحت من ذلك انه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية كالعلم والإرادة وما شاكلهما بالجامع الانتزاعي الّذي ليس له واقع ما عدا نفسه فضلا عن الأمر الاعتباري.

ومن هنا يتبين انه لا فرق بين الواجب التعييني والواجب التخييري إلا في

٤٣

نقطة واحدة ، وهي ان متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة كالصلاة والصوم والحج وما شاكلها. وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما. واما من نقاط أخرى فلا فرق بينهما أصلا ، فكما ان التطبيق في الواجبات التعيينية بيد المكلف ، فكذلك التطبيق في الواجبات التخييرية وكما ان متعلق الأمر في الواجبات التعيينية ليس هو الافراد كذلك متعلق الأمر في الواجبات التخييرية.

بقي هنا شيء وهو انه هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر أم لا؟ وجهان فذهب بعضهم إلى عدم إمكانه بدعوى انه مع تحقق الأقل في الخارج وحصوله يحصل الغرض ، فاذن يكون الأمر بالأكثر لغواً فلا يصدر من الحكيم.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك نصّ كلامه : لكنه ليس كذلك ، فانه إذا فرض ان المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الّذي في ضمنه ، بمعنى ان يكون لجميع اجزائه حينئذ دخل في حصوله وان كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به أيضاً فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص ، فان الأكثر بحده يكون مثله على الفرض ، مثل ان يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مرتباً على الطويل إذا رسم بماله من الحد لا على القصير في ضمنه ، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ، ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الإمكان. ان قلت هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في ضمنه وجود على حدة كالخط الطويل الّذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين ، لكنه ممنوع فيما إذا كان له في ضمنه وجود كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه ، فان الأقل قد وجد بحده وبه يحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله فيكون زائداً على الواجب

٤٤

لا من اجزائه ، قلت لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فانه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ومعه كان مترتباً على الأكثر بالتمام. وبالجملة إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحده مما يترتب عليه الغرض فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقلياً ان كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك عرضان على ما عرفت. نعم لو كان الغرض مترتباً على الأقل من دون دخل للزائد لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره مستحبا كان أو غيره حسب اختلاف الموارد فتدبر جيدا.

نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى ـ انه لا مانع من الالتزام بالتخيير بين الأقل والأكثر فيما إذا كان كل منهما بحده محصلا للغرض ، وعليه فلا يكون الأقل في ضمن الأكثر محصلا له ، ومعه لا مانع من الالتزام بالتخيير بينهما ، وبكلمة أخرى ان الغرض إذا كان مترتباً على حصة خاصة من الأقل وهي الحصة التي لا تكون في ضمن الأكثر (بشرط لا) لا على الأقل مطلقا فلا مناص عندئذ من الالتزام بالتخيير بينهما أصلا ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر كتسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات أربع ، وان لا يكون له وجود كذلك كالخط القصير في ضمن الخطّ الطويل ، والوجه فيه ما عرفت من ان الغرض إنما يترتب على حصة خاصة من الأقل ، وعليه فكما انه لا أثر لوجود الخطّ القصير في ضمن الخطّ الطويل ، ولا يكون محصلا للغرض ، فكذلك لا أثر لوجود تسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث ، لفرض ان الغرض إنما يترتب عليها فيما إذا لم تكن في ضمنها لا مطلقا ، وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بالتخيير بينهما.

الثانية ـ ان الغرض إذا كان واحد فيكون الواجب هو الجامع بينهما ،

٤٥

لفرض ان المؤثر في الواحد لا يكون إلا الواحد بالسنخ ، وحيث ان الغرض واحد على الفرض فالمؤثر فيه لا بد ان يكون واحدا ، لاستحالة تأثير الكثير في الواحد ، وذلك الواحد هو الجامع بينهما ، فاذن لا محالة يكون الواجب هو ذلك الجامع لا غيره ، وعليه فيكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً. واما إذا كان متعدداً فالتخيير بينهما شرعي كما تقدم.

الثالثة ـ ان الغرض إذا كان مترتباً على خصوص الأقل من دون دخل للزائد فيه أصلا فلا يكون الأكثر عدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره سواء أكان ذلك الغير استحباباً أو غيره.

ولنأخذ بدرس هذه النقاط :

اما النقطة الأولى فهي وان كانت في غاية الصحة والمتانة في نفسها ، إلا انها خاطئة بالإضافة إلى مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لأن ما فرضه صاحب الكفاية (قده) وان كان تخييراً بينهما صورة ، إلا ان من الواضح جداً انه بحسب الواقع والحقيقة تخيير بين المتباينين وذلك لفرض ان الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فإذا فرض ان الأقل مأخوذ بشرط لا كما هو مفروض كلامه لا محالة يكون مبايناً للأكثر المأخوذ بشرط شيء ضرورة ان الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر بحسب الواقع والدقة العقلية ، بل هو من التخيير بين المتباينين ، وعليه فما فرضه (قده) من التخيير بينهما خارج عن محل الكلام ولا إشكال في إمكانه بل وقوعه خارجاً في العرف والشرع ، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان الغرض مترتباً على وجود الأقل مطلقاً أي ولو كان في ضمن الأكثر ، بان يكون مأخوذاً لا بشرط ، ومن الواضح جداً ان التخيير بينهما في هذا الفرض غير معقول. ضرورة انه كلما تحقق الأقل يحصل به الغرض ،

٤٦

ومعه يكون الأمر بالزائد لغواً محضاً.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه ان الأقل ان كان مأخوذاً بشرط لا فالتخيير بينه وبين الأكثر وان كان امرا معقولا ، إلا انه بحسب الواقع داخل في كبرى التخيير بين المتباينين لا الأقل والأكثر ، كما عرفت وان كان مأخوذا لا بشرط فلا يعقل التخيير بينه وبين الأكثر ، ضرورة انه بمجرد تحقق الأقل ولو في ضمن الأكثر يحصل الغرض ، ومعه لا يبقى مجال للإتيان بالأكثر أصلا ، فاذن جعله في أحد طرفي التخيير يصبح لغوا محضاً فلا يصدر من الحكيم. وعلى ضوء هذا البيان ان أراد القائل باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الأول الّذي هو تخيير شكلي بينهما لا واقعي موضوعي ، فيرده ما ذكرناه من انه لا شبهة في إمكانه بل وقوعه خارجاً ، لما عرفت من انه ليس تخييرا بين الأقل والأكثر. بل هو تخيير في الحقيقة بين المتباينين. وان أراد باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الثاني فالامر كما ذكره.

ومن هنا يظهر ان التخيير بين القصر والتمام في الأمكنة الأربعة ليس تخييرا بين الأقل والأكثر واقعاً وحقيقة ، وان كان كذلك بحسب الشكل ، وذلك لأن صلاة القصر مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الثانية وعدم زيادة ركعة أخرى عليها ، وصلاة التمام مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الرابعة وعدم الاقتصار بها ، فهما من هذه الناحية أي من ناحية اعتبار الشارع ماهيتان متباينتان ، فالتخيير بينهما لا محالة يكون من التخيير بين امرين متباينين لا الأقل والأكثر ، ضرورة ان الأثر لا يترتب على الركعتين مطلقاً ولو كانتا في ضمن أربع ركعات ، وانما يترتب عليهما بشرط لا وهذا واضح. واما التسبيحات الأربع فالمستفاد من الروايات هو وجوب إحداها لا جميعها ، فاذن لا يعقل التخيير بين الواحدة والثلاث ، ضرورة ان الغرض مترتب على واحدة منها ،

٤٧

فإذا تحققت تحقق الغرض ، ومعه لا يبقى مجال للإتيان بالبقية أصلا. نعم. الإتيان بها مستحب فإذا أتى المكلف بثلاث فقد أتى بواجب ومستحب. وعلى الجملة فحال التسبيحتين الأخيرتين حال القنوت وبقية الأذكار المستحبة في الصلاة.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه ان التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول وما نراه من التخيير بينهما في العرف والشرع تخيير شكلي لا واقعي موضوعي فان بحسب الواقع ليس التخيير بينهما بل بين امرين متباينين كما مر.

واما النقطة الثانية فقد تقدم الكلام فيها وفي النقد عليها بشكل واضح فلا نعيد.

واما النقطة الثالثة فالامر وان كان كما أفاده (قده) إلا ان مردها إلى عدم تعقل التخيير بين الأقل والأكثر على ما ذكرناه ، كما هو واضح.

ونتيجة هذا البحث في عدة خطوط :

الأول ـ ان القول في المسألة بان الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال دون غيره باطل جدا وغير مطابق للواقع قطعاً ، وقد دلت على بطلانه وجوه أربعة : (١) انه مخالف لظاهر الدليل. (٢) انه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف (٣) انه يستلزم عدم الوجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما في مقام الامتثال. (٤) انه إذا لم يكن شيء واجبا حال عدم الامتثال لم يكن واجباً حال الامتثال أيضاً.

الثاني ـ ان شيخنا المحقق (قده) قد وجه القول بان كل منهما واجب تعييناً. غاية الأمر ان وجوب كل منهما يسقط بإتيان الآخر بتوجيهين : (١) ان يفرض قيام مصلحة لزومية بكل منهما. ولأجل ذلك أوجب الشارع الجميع. ولكن مصلحة التسهيل تقتضي جواز ترك كل منهما إلى بدل (٢) ان يفرض ان المصلحة المترتبة على كل منهما وان كانت واحدة بالنوع. إلا ان

٤٨

الإلزامي من تلك المصلحة وجود واحد وبما ان نسبته إلى الجميع على حد سواء ، فلذا أوجب الجميع ، وقد ناقشنا في كلا هذين التوجيهين بشكل واضح وقدمنا ما يدل على عدم صحتهما كما سبق.

الثالث ـ ان ما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الغرض ان كان واحدا فالواجب هو الجامع بين الفعلين أو الأفعال ، ويكون التخيير بينهما عقلياً ، وان كان متعددا فالواجب هو كل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر لا يمكن المساعدة عليه ، فان الفرض الأول يرتكز على ان يكون المقام من صغرى قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير ، وقد مرت المناقشة فيه من وجوه :

(١) اختصاص تلك القاعدة بالواحد الشخصي وعدم جريانها في الواحد النوعيّ. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الغرض في المقام واحد نوعي لا شخصي فالنتيجة على ضوئهما هي عدم جريان القاعدة في المقام. (٢) ان الدليل أخص من المدعى لعدم تعقل الجامع الذاتي في جميع موارد الواجبات التخييرية كما سبق. (٣) ان مثل هذا الجامع لا يصلح ان يتعلق به التكليف ، لأن متعلقه لا بد ان يكون جامعاً عرفياً. واما الفرض الثاني فهو يرتكز على ان يكون الغرضان المفروضان متضادين وقد عرفت المناقشة فيه أيضاً من وجوه : (١) انه خلاف ظاهر الدليل. (٢) ان كون الغرضين متضادين مع عدم التضاد بين الفعلين ملحق بأنياب الأغوال. (٣) انه يستلزم استحقاق المكلف عقابين عند ترك الفعلين معاً ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، كما سبق.

الرابع ـ ان الواجب في موارد الواجبات التخييرية هو أحد الفعلين أو الأفعال ، والوجه فيه هو ان الأدلة بمقتضى العطف بكلمة (أو) ظاهرة في ذلك ولا بد من التحفظ على هذا الظهور ،

الخامس ـ انه لا مانع من تعلق الأمر بعنوان أحدهما بل قد تقدم انه

٤٩

لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية به كالعلم والإرادة وما شاكلهما فضلا عن الأمر الاعتباري.

السادس ـ ان الغرض قائم بهذا العنوان الانتزاعي ، ولا مانع منه أصلا ، وذلك لفرض انه لا طريق لنا إلى إحرازه في شيء ما عدا تعلق الأمر به ، كما انه لا طريق لنا إلى معرفة سنخه.

السابع ـ انه لا فرق بين الواجب التخييري والواجب التعييني إلا في نقطة واحدة ، وهي ان متعلق الوجوب في الأول الجامع الانتزاعي ، وفي الثاني الجامع الذاتي واما من نقاط أخر فلا فرق بينهما أصلا.

الثامن ـ ان التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول ، وما نراه من التخيير بين القصر والتمام وما شاكلهما تخيير شكلي وصوري لا واقعي وحقيقي ، فانه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين ، لفرض ان القصر في اعتبار الشارع مباين للتمام. فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر ، بل هو من التخيير بين المتباينين .. وهكذا.

التاسع ـ انه لا فرق في جواز التخيير بين الأقل والأكثر وامتناعه بين ان يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر أم لا؟

الواجب الكفائي

لا يخفى ان الأمر الوارد من قبل الشرع كما انه بحاجة إلى المتعلق ، كذلك هو بحاجة إلى الموضوع ، فكما انه لا يمكن تحققه ووجوده بدون الأول ، فكذلك لا يمكن بدون الثاني ، ولا فرق في ذلك بين وجهة نظر ووجهة نظر آخر ، فان حقيقة الأمر سواء أكانت عبارة عن الإرادة التشرعية أم كانت عبارة عن الطلب الإنشائي كما هو المشهور أم كانت عبارة عن البعث والتحريك كما

٥٠

عن جماعة أم كانت عبارة عن الأمر الاعتباري النفسانيّ المبرز في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو نحوها كما هو المختار عندنا ، على جميع هذه التقادير بحاجة إلى الموضوع كحاجته إلى المتعلق. اما على الأول فواضح ، وذلك لأن الإرادة لا توجد في أفق النّفس بدون المتعلق لأنها من الصفات الحقيقية ذات الإضافة فلا يعقل ان توجد بدونه ، فالمتعلق إذا كان فعل نفسه فهي توجب تحريك عضلاته نحوه ، وان كان فعل غيره فلا محالة يكون المراد منه ذلك الغير ، بمعنى ان المولى أراد صدور هذا الفعل منه في الخارج. واما على الثاني فائضاً كذلك ، ضرورة ان الطلب كما لا يمكن وجوده بدون المطلوب ، كذلك لا يمكن وجوده بدون المطلوب منه ، لأنه في الحقيقة نسبة بينهما وهذا واضح. واما على الثالث فلان البعث نحو شيء لا يمكن ان يوجد بدون بعث أحد نحوه والتحريك نحو فعل لا يمكن ان يتحقق بدون متحرك ، ضرورة ان التحريك لا بد فيه من محرك ومتحرك وما إليه الحركة من دون فرق في ذلك بين ان تكون الحركة حركة خارجية وان تكون اعتبارية ، كما هو واضح. واما علي الرابع فائضاً الأمر كذلك ، لما عرفت من ان معنى الأمر هو اعتبار الفعل علي ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز.

ومن المعلوم انه كما لا يمكن ان يتحقق في الخارج بدون متعلق ، كذلك لا يمكن ان يتحقق بدون فرض وجود المكلف فيه كما هو واضح. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الواجبات الكفائية تمتاز عن الواجبات العينية في نقطة. وهي ان المطلوب في الواجبات العينية يتعدد بتعدد افراد المكلف وينحل بانحلاله ، فيكون لكل مكلف تكليف مستقل فلا يسقط عنه بامتثال الآخر .. وهكذا من دون فرق بين ان يكون الفعل في الواقع ومقام الثبوت ملحوظاً على نحو الإطلاق والسريان أو ملحوظاً على نحو الإطلاق والعموم

٥١

البدلي الّذي يعبر عنه بصرف الوجود ، أو ملحوظاً على نحو الإطلاق والعموم المجموعي ، ضرورة ان التكليف في جميع هذه الصور ينحل بانحلال افراد المكلف ويتعدد بتعددها ، فلا فرق بينها من هذه الناحية أبدا ، فالجميع من هذه الجهة على صعيد واحد. نعم فرق بينها من ناحية أخرى وهي ان التكليف ينحل بانحلال متعلقه أيضاً مع الأول دون الثاني والثالث. وسيجيء تفصيل ذلك بشكل واضح في مبحث النواهي إن شاء الله تعالى فلاحظ. وهذا بخلاف الواجبات الكفائية فان المطلوب فيها واحد ولا يتعدد بتعدد افراد المكلف في الخارج ، ولأجل ذلك وقع الكلام في تصوير ذلك وانه كيف يعقل ان يكون الفعل الواحد مطلوباً بطلب واحد من الجميع.

وما قيل أو يمكن ان يقال في تصويره وجوه :

الأول ـ ان يقال ان التكليف متوجه إلى واحد معين عند الله ، ولكنه يسقط عنه بفعل غيره لفرض ان الغرض واحد ، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

ويرده : أولا ان هذا خلاف ظواهر الأدلة فان الظاهر منها هو ان التكليف متوجه إلى طبيعي المكلف لا إلى فرد واحد منه المعين في علم الله ، كما هو واضح. (وثانيا) لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره ، فانه على خلاف القاعدة فيحتاج إلى دليل وإذا لم يكن دليل فمقتضى لقاعدة عدم السقوط. ودعوى ان الدليل في المقام موجود لفرض ان التكليف يسقط بإتيان بعض افراد المكلف وان كانت صحيحة من هذه الناحية ، إلا انه من المعلوم ان ذلك من ناحية ان التكليف متوجه إليه ويعمه ، ولذا يستحق الثواب عليه لا من ناحية انه يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو ظاهر.

(وثالثا) ان مثل هذا التكليف غير معقول ، وذلك لأن المفروض ان توجه هذا

٥٢

التكليف إلى كل واحد من افراد المكلف غير معلوم فيكون كل منها شاكاً في ذلك ، ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه عقلا وشرعاً. لفرض ان الشك في أصل ثبوت التكليف وهذا هو القدر المتيقن من موارد جريان البراءة. وعلى هذا فلا يمكن ان يصل هذا التكليف إلى المكلف أصلا ، لما ذكرناه من ان وصول التكليف يتوقف على وصول الكبرى والصغرى له معاً ، والمفروض في المقام ان الصغرى غير واصلة ، ضرورة ان من كان مكلفاً بهذا التكليف في الواقع غير معلوم وانه من هو؟

ومن الطبيعي ان جعل تكليف غير قابل للوصول إلى المكلف أصلا لغو محض فلا يترتب عليه أي أثر ، ومن المعلوم ان صدور اللغو من الحكيم مستحيل ، فاذن يستحيل ان يكون موضوعه هو الواحد المعين عند الله كما انه لا يمكن ان يكون موضوعه هو الواحد المعين مطلقاً حتى عند المكلفين ، وذلك لأنه مضافاً إلى كونه مفروض العدم هنا يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجح ، فان نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد ، وعليه فتخصيص الواحد المعين منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص.

الثاني ـ ان يقال : التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع بدعوى انه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الأمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً ، كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.

ويرد على ذلك أولا ان لازم هذا هو عدم حصول الغرض وعدم سقوط التكليف بفعل البعض ، لفرض ان الفعل مطلوب من مجموع المكلف على نحو العموم المجموعي ، والغرض مترتب على صدوره من مجموعهم على نحو الاشتراك

٥٣

وعليه فمن الطبيعي انه لا يسقط بفعل البعض ولا يحصل الغرض به ، وهذا ضروري الفساد ولن يتوهم أحد ولا يتوهم ذلك. (وثانياً) ان هذا لو تم فانما يتم فيما إذا كان التكليف متوجهاً إلى صرف وجود مجموع افراد المكلف الصادق على القليل والكثير دون مجموع أفراده المتمكنين من الإتيان به ضرورة ان بعض الواجبات الكفائية غير قابل لأن يصدر من المجموع فاذن كيف يمكن توجيه التكليف به إلى المجموع ، وعلى كل فهذا الوجه واضح الفساد.

الثالث ـ ان يقال ان التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان ، غاية الأمر ان وجوبه على كل مشروط بترك الآخر.

ويرده مضافاً إلى انه بعيد في نفسه. فان الالتزام بوجوبه أولا واشتراطه بالترك ثانياً تبعيد للمسافة فلا يمكن استفادته من الأدلة ، ان الشرط لو كان هو الترك في الجملة فلازمه هو ان المكلف لو ترك في برهة من الزمان ولو بمقدار دقيقة واحدة فقد حصل الشرط وتحقق ، ومن المعلوم انه إذا تحقق يجب على جميع المكلفين عيناً. وهذا خلف. ولو كان الشرط هو الترك المطلق فلازمه هو انه لو أتى به جميع المكلف لم يحصل الشرط ـ وهو الترك المطلق ـ وإذا لم يحصل فلا وجوب لانتفائه بانتفاء شرطه على الفرض ، فاذن لا معنى للامتثال وحصول الغرض. ضرورة انه على هذا الفرض لا وجوب في البين ليكون الإتيان بمتعلقه امتثالا وموجباً لحصول الغرض في الخارج ، على انه لا مقتضى لذلك والوجه فيه هو ان الغرض بما انه واحد وقائم بصرف وجود الواجب في الخارج فلا بد ان يكون الخطاب أيضاً لذلك ، وإلا لكان بلا داع وغرض. وهو محال.

نعم لو كانت هناك أغراض متعددة بعدد افعال المكلفين. ولم يمكن الجمع

٥٤

بينها واستيفائها معاً لتضادها. فعندئذ لا محالة يكون التكليف بكل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر على نحو الترتب ، وقد ذكرنا في بحث الضدان الترتب كما يمكن بين الحكمين في مقام الفعلية والامتثال ، كذلك يمكن بين الحكمين في مقام الجعل والتشريع ، فلا مانع من ان يكون جعل الحكم لأحد الأمرين مترتباً على عدم الإتيان بالآخر.

وغير خفي ان هذا مجرد فرض لا واقع له أصلا اما أولا فلان هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فان المفروض في محل الكلام هو ما إذا كان الغرض واحداً بالذات ، وفرض تعدد الغرض بتعدد افعال المكلفين فرض خارج عن مفروض الكلام. واما (ثانياً) فلان فرض التضاد بين الملاكات مع عدم التضاد بين الأفعال يكاد يلحق بأنياب الأغوال ، بداهة انه لا واقع لهذا الفرض أصلا ، على انه لو كان له واقع فلا طريق لنا إلى إحراز تضادها وعدم إمكان الجمع بينها مع عدم التضاد بين الأفعال. واما (ثالثاً) فلان فرض تعدد الغرض انما يمكن فيما إذا كان الواجب متعدداً خارجاً ، واما إذا كان الواجب واحداً كما هو المفروض في المقام كدفن الميت وكفنه وغسله وصلاته ونحو ذلك فلا معنى لأن تترتب عليه أغراض متعددة ، فلا محالة يكون المترتب عليه غرضاً واحداً ، بداهة انه لا يعقل ان يكون المترتب على واجب واحد عرضين أو أغراض كما هو واضح فالنتيجة ان هذا الوجه أيضا فاسد.

الرابع ـ ان يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود ، وهذا الوجه هو الصحيح ، بيان ذلك هو ان غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة وأخرى بمطلق وجودها ، كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين وأخرى بصدوره عن صرف وجودهم ، فعلى الأول الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر .. وهكذا ، وعلى الثاني

٥٥

فالواجب كفائي بمعنى انه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد واحد منهم ، ويسقط بفعل بعض عن الباقي ، وهذا واقع في العرف والشرع ، ولا مانع منه أصلا ، اما في العرف فلأنه لا مانع من ان يأمر المولى أحد عبيده أو خدامه بإيجاد فعل ما في الخارج من دون ان يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص هذا وذاك ، ولذا أي واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة كما إذا امر أحدهم بإتيان ماء مثلا ليشربه ، فانه من المعلوم ان أي واحد منهم قام به فقد وفي بغرض المولى. واما في الشرع فائضاً كذلك ، ضرورة انه لا مانع من ان يأمر الشارع المكلفين بإيجاد فعل في الخارج كدفن الميت ـ مثلا ـ أو كفنه أو ما شاكل ذلك من دون ان يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم ، بل المطلوب وجوده في الخارج من أي واحد منهم كان ، فان نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على السوية ، فعندئذ تخصيص الواحد المعين منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح ، وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع انه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة ، كما عرفت ، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وموجب ، إذ بعد كون الغرض واحداً يحصل بفعل واحد منهم فوجوب تحصيله على الجميع لا محالة يكون بلا مقتض وسبب ، فاذن يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود ، ويترتب على ذلك انه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض لا محالة وسقط الأمر ، لفرض ان صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم ، كما إذا صلوا على الميت ـ مثلا ـ دفعة واحدة كان الجميع مستحقاً للثواب ، لفرض ان صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك ، واما لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقاً للعقاب ، فان صرف الوجود يصدق على وجود كل منهم من ناحية

٥٦

والمفروض ان كلا منهم قادر على إتيانه من ناحية أخرى.

فالنتيجة هي ان الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمة واحد من المكلفين لا بعينه الصادق على هذا وذاك نظير ما ذكرناه في بحث الواجب التخييري من ان الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك لا خصوص أحدهما المعين ، فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلا من ناحية ان الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم وفي الواجب الكفائي موضوعه.

بقي هنا فرع ذكره شيخنا الأستاذ (قده) هو انه إذا فرضنا شخصين فاقدي الماء فتيمما ، ثم بعد ذلك وجدا ماء لا يكفي إلا لوضوء أحدهما فهل يبطل تيمم كل منهما أو لا يبطل شيء منهما أو يبطل واحد منهما لا بعينه دون الآخر وجوه قد اختار (قده) الوجه الأول ، وأفاد في وجه ذلك ان في المقام أموراً ثلاثة : (الأول) الأمر بالوضوء. (الثاني) الأمر بالحيازة. (الثالث) القدرة على الحيازة ، لا إشكال في ان وجوب الوضوء مترتب على الحيازة الخارجية وكون الماء في تصرف المكلف ، ليصدق عليه انه واجد له فعلا ، واما وجوب الحيازة على كل منهما فمشروط بعدم سبق الآخر وحيازته ، وإلا فلا وجوب ، كما هو واضح وعلى هذا فلا يمكن وجوب الوضوء على كل منهما فعلاً ، لفرض ان الماء لا يكفى إلا لوضوء أحدهما ، ولكن بطلان تيممها لا يترتب على وجوب الوضوء لهما فعلا ، بل هو مترتب على تمكن المكلف من استعمال الماء وقدرته عليه عقلا وشرعاً ، والمفروض ان القدرة على الحيازة بالإضافة إلى كليهما موجودة فعلا ، ضرورة ان كلا منهما متمكن فعلا من حيازة هذا الماء في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر ، وعدم كفاية الماء إلا لوضوء واحد إنما يكون منشأ لوقوع التزاحم بين فعلية حيازة هذا وذاك خارجاً لا بين القدرة على الحيازة ، لما عرفت من انها

٥٧

فعلية بالإضافة إلى كليهما معاً من دون أي تناف في البين.

وعلى الجملة فبما ان بطلان التيمم في الآية المباركة أو نحوها منوط بوجدان الماء وقد ذكرنا ان المراد منه القدرة على استعماله عقلاً وشرعاً فلا محالة يبطل تيمم كل منهما ، لفرض انه واجد للماء ومتمكن من استعماله كذلك ، وهذا لا ينافي وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء خارجاً وذلك لفرض ان يتمم كل مكلف مشروط بعدم الوجدان ، فإذا كان واجداً وقادراً على الاستعمال لا محالة يفسد تيممه ، ولا فرق فيه بين وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء وعدم وقوعه أصلاً ، كما هو واضح.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) وهي ان هذين الشخصين لا يخلوان من ان يتسابقا إلى أخذ هذا الماء المفروض وجوده أم لا ، فعلى الأول ان كان كل منهما مانعاً عن الآخر ، كما إذا فرض كون قوة أحدهما مساوية لقوة الآخر فتقع الممانعة بينهما والمزاحمة إلى ان يضيق الوقت فلا يتمكن واحد منهما من الوصول إلى الماء ، فعندئذ لا وجه لبطلان تيممها أصلا ولا لبطلان تيمم أحدهما ، لفرض عدم تمكنهما من استعمال الماء ، وإذا كان أحدهما أقوى من الآخر فالباطل هو تيمم الأقوى دون الآخر ، اما بطلان تيمم الأقوى ، فلفرض انه واجد للماء فعلا ، واما عدم بطلان تيمم الآخر ، فلكشف ذلك عن عدم قدرته على الوضوء أو الغسل وانه باق على ما كان عليه من عدم الوجدان ، وعلى الثاني فيبطل كلا التيممين معاً ، والوجه في ذلك هو ان كلا منهما قادر على حيازة هذا الماء واستعماله في الوضوء أو الغسل من دون مانع من الآخر ، لفرض عدم تسابقهما إلى أخذه وحيازته ولو لأجل عدم المبالاة بالدين ، وعليه فيصدق على كل منهما انه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً ، ومعه لا محالة يبطل كلا التيممين معاً ، وقد ذكرنا في محله ان وجوب الوضوء وبطلان التيمم في الآية المباركة مترتبان

٥٨

على وجدان الماء ، فإذا كان المكلف واجداً له وجب الوضوء وبطل تيممه وإلا فلا ، وهذا واضح ، ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قده) كيف فصل بين بطلان التيمم وعدم وجوب الوضوء مع ان وجوب الوضوء لا ينفك عن بطلان التيمم كما هو مقتضى الآية الكريمة ، كما انه لا وجه لما ذكره (قده) من بطلان تيمم كليهما معاً لما عرفت من انه لا بد من التفصيل في ذلك.

ونتيجة هذا البحث عدة نقاط :

الأول ـ ان الأمر كما انه لا يمكن تحققه بدون متعلق كذلك لا يمكن تحققه بدون موضوع على جميع المذاهب والآراء.

الثانية ـ انه كما يمكن لحاظ متعلق الحكم تارة على نحو العموم الاستغراقي وأخرى على نحو العموم المجموعي ، وثالثاً على نحو صرف الوجود يمكن لحاظ الموضوع أيضاً كذلك بان يلحظ تارة على نحو العموم الاستغراقي ، وأخرى على نحو العموم المجموعي ، وثالثاً على نحو صرف الوجود.

الثالثة ـ ان الواجب الكفائي ثابت على ذمة أحد المكلفين لا بعينه الّذي عبر عنه بصرف الوجود لا على ذمة جميع المكلفين ولا على ذمة مجموعهم ولا على ذمة الواحد المعين كما عرفت.

الرابعة ـ ان فرض تعدد الملاك فرض خارج عن محل الكلام ، مع انه لا شاهد عليه أصلا كما مر.

الخامسة ـ ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من بطلان تيمم شخصين كانا فاقدي الماء ، ثم وجدا ماء لا يكفي إلا لوضوء أحدهما فحسب مطلقاً لا وجه له أصلا كما سبق ، كما انه لا أصل لما ذكره (قده) من التفصيل بين بطلان التيمم وعدم وجوب الوضوء.

٥٩

الواجب الموسع والمضيق

ينقسم الواجب باعتبار تحديده بزمان خاص وعدم تحديده به إلى موقت وغير موقت ، وينقسم الموقت باعتبار زيادة الزمان المحدد له على الزمان الوافي بإتيان الواجب فيه وعدم زيادته عليه إلى موسع ومضيق ، والأول كالصلوات اليومية ، فان وقتها زائد على زمان فعلها فيتمكن المكلف من الإتيان بها في وقتها مرات عديدة كما هو واضح ، والثاني كصوم شهر رمضان أو نحوه ، فان الزمان المحدد له مساو لزمان الإتيان به بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة.

قد يشكل في إمكان الواجب الموسع تارة ، وفي المضيق أخرى ، اما في الأول فبدعوى انه يستلزم جواز ترك الواجب في أول الوقت وهو ينافي وجوبه كيف فان الواجب ما لا يجوز تركه ، فإذا فرض انه واجب في أول الوقت كيف يجوز تركه.

وغير خفي ما فيه من المغالطة ، وذلك لأن الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى المعرى عنه جميع خصوصيات الافراد من العرضية والطولية ، والواجب على المكلف هو الإتيان بهذا الجامع بين هذين الحدين لا في كل آن ووقت ، ليكون تركه أول الوقت تركا للواجب ولو أتى به في آخر الوقت ، بل تركه فيه ترك لفرده وهو ليس بواجب على الفرض ، ولذا لو ترك المكلف الصلاة في أول الوقت وأتى بها في آخر الوقت فلا يقال انه ترك الواجب ، وقد تقدم نظير هذا الإشكال في الواجب التخييري أيضاً فيما إذا فرض ان كل واحد من الفعلين واجب فكيف يجوز تركه مع الإتيان بالآخر ، مع انه لا يجوز ترك الواجب ، وقد

٦٠