محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

واما الإيماء للركوع والسجود فائضاً كذلك ، ضرورة انه لا يعد تصرفاً في ملك الغير عرفاً ، ليكون مبغوضاً. نعم لا تجوز الصلاة في هذا الحال مع الركوع والسجود لاستلزامهما التصرف الزائد وهو غير جائز ، فاذن لا محالة تنتقل الوظيفة إلى الإيماء كما عرفت.

فالنتيجة ان الصلاة مع الإيماء في حال الخروج صحيحة مطلقاً من دون حاجة إلى التماس دليل آخر ، ومع الركوع والسجود باطلة.

واما الكلام في المورد الثاني (وهو ما إذا لم يكن المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الأرض المغصوبة إلا مع الإيماء للركوع والسجود) فقد ظهر انه على القول بالجواز في المسألة وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية كما حققناه الآن فلا إشكال في صحة الصلاة حال الخروج ، بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه. والوجه في هذا واضح وهو ان الصلاة حال الخروج ليست مصداقاً للغصب وتصرفاً في مال الغير على الفرض هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انها لا تستلزم التصرف الزائد على نفس الخروج لفرض انها غير مشتملة على الركوع والسجود المستلزمين له. ومن ناحية ثالثة ان المكلف غير قادر على الصلاة التامة الاجزاء والشرائط في خارج الدار ، لتكون هذه الصلاة أعني الصلاة مع الإيماء حال الخروج غير مشروعة في حقه ، لأنها وظيفة العاجز دون القادر.

فالنتيجة على ضوء ذلك هي انه لا مناص من الالتزام بصحة هذه الصلاة في هذا الحال أعني حال الخروج. واما بناء على القول بالامتناع وفرض اتحاد الصلاة مع الغصب خارجاً فلا تجوز الصلاة حال الخروج ، بل لا بد من الإتيان بها خارج الدار ، وذلك لفرض انها مصداق للغصب ومبغوض للمولى ، ومعه لا يمكن التقرب بها لاستحالة التقرب بما هو مبغوض.

٤٠١

واما الكلام في المورد الثالث (وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة التامة الاجزاء والشرائط) في خارج الدار فلا إشكال في لزوم إتيانها في الخارج وعدم جواز إتيانها حال الخروج ولو على القول بالجواز في المسألة. والوجه في ذلك ظاهر وهو ان المكلف لو أتى بها في هذا الحال لكان عليه الاقتصار على الإيماء للركوع والسجود ، ولا يجوز له الإتيان بها معهما ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة وهو غير جائز ، فاذن لا بد من الاقتصار على الإيماء ، ومن الواضح جداً ان من يتمكن من المرتبة العالية من الصلاة وهي الصلاة مع الركوع والسجود لا يجوز له الاقتصار على المرتبة الدانية وهي الصلاة مع الإيماء ، ضرورة انها وظيفة العاجز عن المرتبة الأولى ، واما وظيفة المتمكن منها فهي تلك المرتبة لا غيرها ، لوضوح انه لا يجوز الانتقال من هذه المرتبة أعني المرتبة العالية إلى غيرها من المراتب إلا في صورة العجز عن الإتيان بها.

وان شئت فقل ان الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة الجامع بين المبدأ والمنتهى ، والمفروض ان المكلف قادر على إتيان هذا الطبيعي بينهما ، ومعه لا محالة لا تنتقل وظيفته إلى صلاة العاجز والمضطر وهي الصلاة مع الإيماء كما هو واضح. هذا على القول بالجواز. واما على القول بالامتناع فالامر أوضح من ذلك ، لأنه لو قلنا بجواز الصلاة حال الخروج في هذا الفرض أي فرض تمكنه من صلاة المختارة في خارج الدار على القول بالجواز فلا نقول به على هذا القول ، لفرض ان الصلاة على هذا متحدة مع الغصب خارجاً ومصداق له ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، بداهة استحالة التقرب بالمبغوض.

وعلى الجملة فالمانع على القول بالامتناع امران : أحدهما مشترك فيه بينه وبين القول بالجواز وهو ان الصلاة مع الإيماء ليست وظيفة له ، وثانيهما مختص به وهو ان الصلاة على هذا القول متحدة مع الحركة الخروجيّة التي هي مصداق

٤٠٢

للغصب ، ومعه لا يمكن ان تقع مصداقاً للمأمور به.

ثم لا يخفى ان الصلاة في حال الخروج مع عدم التمكن منها مع الركوع والسجود في الخارج على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) تقع صحيحة مطلقاً أي بلا فرق في ذلك بين القول بالامتناع في المسألة والقول بالجواز ، وذلك لأن الحركات الخروجيّة على وجهة نظره (قده) محبوبة للمولى وواجبة من ناحية انطباق عنوان التخلية عليها ، وعلى هذا فلا محالة تقع الصلاة صحيحة ، وان كانت متحدة مع تلك الحركات خارجاً ، لفرض انها ليست بمبغوضة لتكون مانعة عن صحتها والتقرب بها ، بل هي محبوبة. نعم لو استلزمت الصلاة في هذا الحال تصرفاً زائداً فلا تجوز ، وهذا واضح.

فالنتيجة ان نظريتنا تفترق عن نظرية شيخنا الأستاذ (قده) في الصلاة حال الخروج. فان الحركات الخروجيّة على وجهة نظرنا مبغوضة وموجبة لاستحقاق العقاب عليها ، ولذا تقع الصلاة فاسدة في صورة اتحادها معها خارجاً ، وعلى وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) محبوبة وتقع الصلاة في هذا الفرض صحيحة هذا تمام الكلام في مسألة الاضطرار.

بقي هنا أمور :

الأول ـ انا قد ذكرنا ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية من صغريات كبرى باب التعارض ، كما انها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات كبرى باب التزاحم وقد تقدم الكلام في هاتين الناحيتين بصورة واضحة فلا نعيد ، كما انه تقدم

٤٠٣

النقد على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) في ضمن المقدمة الثامنة والتاسعة والعاشرة فلا حاجة إلى الإعادة.

الثاني ـ انه على القول بالامتناع في المسألة فهل هناك مرجح لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب أو بالعكس أو لا يكون مرجح لشيء منهما ، هذا فيما إذا لم يكن دليل من الخارج على تقديم أحدهما على الآخر كإجماع أو نحوه وإلا فلا كلام. وقد ذكروا لترجيح جانب النهي على جانب الأمر وجوهاً :

منها ـ ان دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر ، وذلك لأن الإطلاق في طرف دليل النهي شمولي ، ضرورة ان حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه بمقتضى قوله عليه‌السلام لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه ونحوه لا تختص بمال دون مال وبتصرف دون آخر ، فهي تنحل بحسب الواقع بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج ففي الحقيقة تكون نواه متعددة بعدد افراد الموضوع والمتعلق ، فيكون كل تصرف محكوماً بالحرمة على نحو الاستقلال من دون ارتباط حرمته بحرمة تصرف آخر .. وهكذا ، وهذا بخلاف الإطلاق في طرف دليل الأمر ، فانه بدلي ، وذلك لأن الأمر المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشيء يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج بعد استحالة ان يكون المطلوب هو تمام وجودها. ومن المعلوم ان صرف الوجود يتحقق بأول الوجود فيكون الوجود الثاني والثالث وهكذا غير مطلوب ، وهذا معنى كون الإطلاق في طرف الأمر بدلياً ، وقد بينا السر في ان الإطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي والإطلاق في طرف النواهي المتعلقة بها شمول في أول بحث النواهي بصورة مفصلة فلاحظ ، ولذلك أي لكون الإطلاق في طرف النهي شمولياً ، وفي طرف الأمر بدلياً ذكروا ان الإطلاق الشمولي يتقدم على الإطلاق البدلي في مقام المعارضة ، وذهب

٤٠٤

إليه شيخنا العلامة الأنصاري (قده) وتبعه على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) واستدل عليه بوجوه ثلاثة : وقد تقدمت تلك الوجوه مع المناقشة عليها بصورة مفصلة في بحث الواجب المشروط وملخصها : ـ

١ ـ ان تقديم الإطلاق البدلي على الإطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله وهذا بخلاف تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، فانه لا يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله لفرض ان مدلوله واحد وهو محفوظ ، غاية الأمر ان ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على افراده.

٢ ـ ان ثبوت الإطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة أخرى زائداً على كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف ، وهي إحراز تساوى افراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها ، وهذا بخلاف الإطلاق الشمولي ، فانه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة ، وبتلك المقدمات يتم الإطلاق وسريان الحكم إلى جميع افراده ، وان كانت الافراد مختلفة من جهة الملاك المقتضى لجعل الحكم عليها. ومن المعلوم انه مع وجود الإطلاق الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الافراد في الوفاء بالغرض ، وهذا معنى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع ، لفرض عدم ثبوت الإطلاق له بالإضافة إلى هذا الفرد.

٣ ـ ان حجية الإطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف عن حكم العقل بالتخيير ، والإطلاق الشمولي يصلح ان يكون مانعاً فلو توقف عدم مانعيته على وجود الإطلاق البدلي لدار.

ولنأخذ بالمناقشة عليها اما الوجه الأول فيرد عليه (أولا) ـ ان العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنما تكون بقوته ، ومجرد ان تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا يكون موجباً للتقديم.

٤٠٥

(وثانياً) ـ أن الحكم الإلزامي في مورد الإطلاق البدلي وان كان واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة ، إلا ان الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من افرادها وذلك لأن لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أي فرد من افرادها شاء تطبيقها عليه ، فالعموم بالإضافة إلى هذا الحكم أعني الحكم الترخيصي شمولي لا محالة ، فاذن كما يستلزم تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض مدلوله ، كذلك يستلزم تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض مدلوله. وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.

واما الوجه الثاني فيرده ان التخيير الثابت في مورد الإطلاق البدلي ليس تخييراً عقلياً ، بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد خاص ، وبذلك يحرز تساوى الافراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى مقدمة أخرى خارجية ، ولذلك لو شك في تعيين بعض الافراد لاحتمال ان الملاك فيه أقوى من الملاك في غيره يدفع ذلك الاحتمال بالإطلاق ، فالإطلاق بنفسه محرز للتساوي بلا حاجة إلى شيء آخر. وعليه فلا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي عليه بل تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع ، فان مقتضى الإطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أي فرد من افرادها شاء تطبيقها عليه وهو يعارض مقتضى الإطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.

وعلى الجملة فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه ان ثبوت الإطلاق للمطلق البدلي يحتاج إلى مقدمة أخرى زائداً على مقدمات الحكمة ، وهي إحراز تساوى افراده في الوفاء بالغرض ، وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي ، فانه لا يحتاج إلى مقدمة زائدة على تلك المقدمات ، فاذن هو مانع عن ثبوت الإطلاق له أي للمطلق البدلي بالإضافة إلى مورد الاجتماع ، ضرورة انه بعد كون مورد الاجتماع مشمولا للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز انه واف بغرض الطبيعة المأمور

٤٠٦

بها كبقية افرادها ، وهذا معنى عدم إحراز تساوي افرادها مع وجود الإطلاق الشمولي.

ولكن تلك النقطة خاطئة جداً لأنها ترتكز على كون التخيير بين تلك الافراد عقلياً ، ولكن عرفت ان التخيير شرعي مستفاد من الإطلاق وعدم تقييد الشارع الطبيعة بحصة خاصة ، فاذن نفس الإطلاق كاف لإحراز التساوي وإلا لكان على المولى التقييد ونصب القرينة ، والعقل وان احتمل وجدانا عدم التساوي إلا انه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الإطلاق الكاشف عن التساوي.

ومن هذا البيان تظهر المناقشة في الوجه الثالث أيضا وذلك لأن هذا الوجه أيضاً يبتني على كون التخيير عقلياً ، ولكن بعد منع ذلك وان التخيير شرعي مستفاد من الإطلاق فان مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أي فرد من افرادها شاء تطبيقها عليه. ومن المعلوم ان حجية هذا لا تتوقف على أي شيء ما عدا مقدمات الحكمة ، فاذن لا محالة يعارض هذا الإطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في الواقع وعدم صدوره من الشارع.

وقد تحصل من ذلك ان هذه الوجوه بأجمعها خاطئة ولا واقع موضوعي لها أصلا.

فالصحيح هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قده) من انه لا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي على البدلي ، وذلك لأن ثبوت كلا الإطلاقين يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض ، ضرورة انه لا مزية لأحدهما بالإضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلا ، فاذن الحكم بجريان مقدمات الحكمة في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح ، وعليه فيسقط كلا الإطلاقين معاً بمعنى ان مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا ولا

٤٠٧

في طرف ذاك ، وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة ، ومجرد كون الإطلاق في أحدهما شمولياً وفي الآخر بدلياً لا يكون سبباً للترجيح بعد ما كان الإطلاق فيه أيضاً شمولياً بالدلالة الالتزامية كما عرفت.

نعم العموم الوضعي يتقدم على المطلق سواء أكان شمولياً أو بدلياً. والوجه فيه واضح وهو ان سراية لفرض الحكم في العموم الوضعي إلى جميع افراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وانها فعلية ، لأنها معلولة للوضع لا لتلك المقدمات ، وهذا بخلاف إطلاق المطلق ، فانه معلول لإجراء تلك المقدمات وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلا. وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن يكون قرينة على التقييد ، ومعه لا تجري المقدمات ، إذ من المقدمات عدم نصب قرينة على الخلاف ومن المعلوم ان العام صالح لذلك. ومن هنا قالوا ان دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه ان مجرد كون الإطلاق في طرف النهي شمولياً وفي طرف الأمر بدلياً لا يكون سبباً لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم والشمول مستندا إلى الوضع ، فاذن هذا الوجه باطل.

ومنها ـ ان الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انهم ذكروا انه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

فالنتيجة على ضوئهما هي انه لا بد في المقام من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، لكونه من صغريات تلك القاعدة.

وغير خفي ان هذا الاستدلال من الغرائب جدا ، وذلك لأنه على فرض تسليم تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزماً ، بداهة انه على القول

٤٠٨

بالامتناع ووحدة المجمع وجودا وماهية فهو اما مشتمل على المصلحة دون المفسدة ، أو بالعكس ، فان قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه ، وان قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه ، فليس في مورد الاجتماع مصلحة ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، ولا موضوع عندئذ لتلك القاعدة ، وموضوع هذه القاعدة وموردها هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الأولى وجلب الثانية معاً فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، فيقال ان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فهذه القاعدة لو تمت فانما تتم في باب التزاحم ، بناء على وجهة نظر العدلية فحسب لا مطلقاً ، واما في باب التعارض فلا تتم أصلا وقد تقدم ان المسألة أي مسألة الاجتماع على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض. على انه لا أصل لهذه القاعدة في نفسها ، لعدم الدليل عليها أصلا لا من العقل ولا من الشرع ، بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد فقد يقدم جانب المفسدة على جانب المنفعة ، وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة. وهكذا.

أضف إلى ذلك ان هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها أولوية قطعية لا ظنية ، فهي لا صلة لها بالاحكام الشرعية أصلا ، وذلك لوجهين :

الأول ـ ان المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرة غالباً والظاهر ان هذه القاعدة إنما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة أخرى ان الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار ، وانما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها. ومن المعلوم ان المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة. ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها ، وبدنية كالجهاد وما شاكله

٤٠٩

كما ان في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية. مع ان الأولى تابعة لمصالح كامنة فيها والثانية تابعة لمفاسد كذلك ، فاذن لا موضوع لهذه القاعدة بالإضافة إلى الأحكام الشرعية أصلا.

الثاني ـ ان وظيفة المكلف عقلا إنما هي الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بعد ثبوت التكليف شرعاً ، واما دفع المفسدة بما هي أو استيفاء المصلحة كذلك فليس بواجب لا عقلا ولا شرعاً ، فلو علم المكلف بوجود مصلحة في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع لا يجب عليه استيفاء الأولى ولا دفع الثانية ، واما مع العلم بثبوته فالواجب عليه هو امتثال ذلك التكليف لا غيره فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنما هو أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب ، لا إدراك الواقع بما هو ، واستيفاء المصالح ودفع المفاسد.

وعلى هذا فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية هذه القاعدة ، بل لا بد من الرجوع إلى مرجحات وقواعد أخر لتقديم أحدهما على الآخر ان كانت ، وإلا فيرجع إلى الأصول العملية.

ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي (قده) في المقام حيث انه أجاب عن هذا الدليل بأنه مطلقاً ممنوع ، لأن في ترك الواجب أيضاً مفسدة ، فاذن لا يدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك.

ووجه الغرابة واضح ، ضرورة انه لا مفسدة في ترك الواجب كما انه لا مصلحة في ترك الحرام ، فالمصلحة في فعل الواجب من دون ان تكون في تركه مفسدة ، كما ان المفسدة في فعل الحرام من دون ان تكون في تركه مصلحة وإلا لكان اللازم ان ينحل كل حكم إلى حكمين أحدهما متعلق بالفعل والآخر

٤١٠

متعلق بالترك. ولازم هذا ان يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام ، لفرض ان ترك الواجب محرم ولا نظن ان يلتزم بذلك أحد حتى هو (قده) كما هو واضح.

ومنها ـ الاستقراء بدعوى انا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها نجد ان الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب.

فمن جملة تلك الموارد حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار ، فان امر المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها ، ولكن الشارع غلب جانب الحرمة على جانب الوجوب وامر بترك الصلاة فيها.

ومنها ـ الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين ، فان الأمر يدور حينئذ بين حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه ، ولكن الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب وامر بإهراق الماءين والتيمم للصلاة. ومنها ـ غير ذلك. ومن مجموع ذلك نستكشف ان تقديم جانب الحرمة امر مطرد في كل مورد دار الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون أخرى وبباب دون آخر.

ويرد عليه (أولا) ان الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص فضلا عن التام ، فان الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والافراد وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية في قبال الاستقراء التام الّذي هو عبارة عن تتبع تمام الافراد ، ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية ، ومن الواضح جداً ان الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين. و(ثانياً) ان الأمر في هذين الموردين أيضاً ليس كذلك وان الحكم بعدم الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة.

بيان ذلك اما في مورد الاستظهار فلان الروايات الواردة فيه في باب الحيض

٤١١

والنفاس مختلفة غاية الاختلاف ولأجل اختلاف تلك الروايات والنصوص في المسألة اختلفت الأقوال فيها فذهب بعضهم كالمحقق صاحب الكفاية (قده) والسيد العلامة الطباطبائي (قده) في العروة إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه وجعل المحقق صاحب الكفاية (قده) اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب وعدم اهتمام الشارع بالاستظهار كما جعل (قده) اختلاف النصوص قرينة على عدم الإلزام في غير هذا المورد أيضاً ، منها مسألة الكره وعلى الجملة فهذا من الأصل المسلم عنده (قده) ففي كل مسألة كانت النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة ـ مثلا ـ ولم تكن قرينة من الخارج على ان الحكم في المسألة إلزاميّ جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم فيها إلزامياً. واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام ، وهذا هو الصحيح في نظرنا وانه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات ، وقد ذكرنا نظير ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة وقلنا في تلك المسألة أيضاً بوجوب واحدة منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين ، بمعنى ان للمكلف ان يقتصر على الواحدة وله ان يأتي بالبقية أيضاً وهو الأفضل.

وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام.

وذهب جماعة أخرى إلى وجوبه عشرة أيام ، هذه هي الأقوال في المسألة ومن الواضح جداً ان شيئاً من هذه الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة أعني قاعدة وجوب تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.

اما على القول الأول فواضح ، لأن النصوص على هذا القول محمولة على الاستحباب أي استحباب الاستظهار لا وجوبه. فلم يقدم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب.

وأما على القول الثاني فالامر أيضاً كذلك ، لأن إيجاب الاستظهار إذا

٤١٢

كان من جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة أيام ، ولم يختص بيوم واحد ، ضرورة ان احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم الأول كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث وهكذا فاختصاص وجوبه بيوم واحد منها قرينة على انه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.

واما على القول الثالث فلان حاله حال القول الثاني من هذه الناحية ، إذ لو كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام ، لبقاء احتمال الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضاً.

واما على القول الرابع فقد يتوهم ان الروايات على هذا القول تدل على تلك القاعدة ، ولكنه من المعلوم انه توهم خاطئ جداً ، وذلك لأن مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لا تكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها ، فلعله بملاك آخر مثل قاعدة الإمكان ونحوها. على ان هذا القول ضعيف في نفسه فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية.

أضف إلى ذلك ان الاستشهاد يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض والنفساء ذاتاً ، إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار مردداً بين الحرمة والوجوب ، فإيجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبياً عن القاعدة المزبورة بالكلية.

واما المورد الثاني (وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين) فقد ظهر حاله مما تقدم ، فان عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، بل هو من ناحية النص الخاصّ الّذي ورد فيه الأمر بإهراقهما والتيمم والا فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة ، إذ بذلك يحرز المكلف ان إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية ، ومن المعلوم انه

٤١٣

مع التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه.

أضف إلى ذلك ان حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة ، بل هي حرمة تشريعية وهي خارجة عن موضوع القاعدة ضرورة ان موضوعها هو دوران الأمر بين الحرمة الذاتيّة والوجوب ، واما الحرمة التشريعية فهي تابعة لقصد المكلف والا فلا حرمة بحسب الواقع ، وكيف كان فلا أصل لهذه القاعدة أصلا.

لحد الآن قد تبين انه لا يرجع شيء من الوجوه التي ذكروها لترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب إلى محصل.

فالصحيح هو ما حققنا سابقاً من ان المسألة على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع تدخل في كبرى باب التعارض ولا بد عندئذ من الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب ، فان كان هناك ترجيح لأحدهما على الآخر فلا بد من العمل به والا فالمرجع هو الأصول العملية.

نعم قد تكون في بعض الموارد خصوصية تقتضي تقدم الحرمة على الوجوب وان كان شمول كل منهما لمورد الاجتماع مستفاداً من الإطلاق ، وذلك كإطلاق دليل وجوب الصلاة مع إطلاق دليل حرمة الغصب ، فان عنوان الغصب من العناوين الثانوية ، ومقتضى الجمع العرفي بين حرمته وجواز فعلى بعنوانه الأولى في مورد الاجتماع حمل الجواز على الجواز في نفسه وبطبعه غير المنافي للحرمة الفعلية ، وذلك نظير ما دل على جواز أكل الرمان بالإضافة إلى دليل حرمة الغصب ، فان النسبة بينهما وان كانت نسبة العموم من وجه الا انه لا يشك في تقديم حرمة الغصب ، لما ذكرناه.

الرابع ـ انه إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب الحرمة على الوجوب أو بالعكس فهل يمكن الحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع على هذا القول أعني

٤١٤

القول بالامتناع أم لا فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه لا مانع من الحكم بالصحّة أي صحة الصلاة من ناحية جريان أصالة البراءة عن حرمتها ، ومعه لا مانع من الحكم بالصحّة أصلا ، ضرورة ان المانع عنه إنما هو الحرمة الفعلية ، وبعد ارتفاع تلك الحرمة بأصالة البراءة فهي قابلة للتقرب بها ، ومعه لا محالة تقع صحيحة ، ولا يتوقف جريان البراءة عنها على جريانها في موارد الشك في الاجزاء والشرائط ، بل ولو قلنا بعدم جريانها في تلك الموارد تجري في المقام. والوجه في ذلك هو ان المورد ليس داخلا في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لفرض انه ليس هنا شك في مانعية شيء عن المأمور به واعتبار عدمه فيه ، بل الشك هنا في ان هذه الحركات الصلاتية التي هي مصداق للغصب وتصرف في مال الغير هل هي محرمة فعلا أو لا فالشك إنما هو في حرمة هذه الحركات فحسب ، ومعه لا مانع من جريان البراءة عنها وان قلنا بالاشتغال في تلك المسألة. نعم المانعية في المقام عقلية ، ضرورة ان مانعية الحرمة عن الصلاة ليست مانعية شرعية ليكون عدم حرمتها قيداً لها بل مانعيتها من ناحية ان صحتها لا تجتمع مع الحرمة ، لاستحالة اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخارج ، وعلى هذا فالحرمة مانعة عن التقرب بها عقلا لا شرعاً ، فاذن لا يرجع الشك فيها إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، ليكون داخلا في كبرى تلك المسألة ويدور جريان البراءة هنا مدار جريانها فيها بل تجري هنا ولو لم نقل بجريانها هناك ، لأن الشك هنا شك بدوي.

نعم لو قلنا بان المفسدة الواقعية الغالبة هي المؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن محرزة ، فأصالة البراءة عندئذ لا تجري ، بل لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال ولو قلنا بجريان البراءة في الشك في الاجزاء والشرائط في تلك المسألة. والوجه فيه واضح وهو انه مع احتمال غلبة المفسدة في الواقع كما هو المفروض لا يمكن

٤١٥

قصد القربة كما هو واضح ، هذا حاصل ما أفاده (قده) مع توضيح منا.

ونحلل ما أفاده (قده) إلى عدة نقاط :

١ ـ جريان أصالة البراءة عن الحرمة.

٢ ـ انه يكفي في الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مجرد رفع هذه الحرمة بأصالة البراءة ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك.

٣ ـ ان المقام غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر.

٤ ـ انه لو بنينا على ان المؤثر في المبغوضية الفعلية هو المفسدة الواقعية وان لم تكن محرزة فلا يمكن الحكم بالصحّة وقتئذ لعدم إمكان التقرب بما يحتمل كونه مبغوضاً للمولى.

اما النقطة الأولى فلا إشكال فيها لوضوح ان البراءة تجري ولا مانع من جريانها أبداً كما هو ظاهر.

اما النقطة الثانية فلا يمكن تصديقها بوجه ، وذلك لأنه لا يكفي في الحكم بالصحّة مجرد رفع الحرمة بأصالة البراءة ، بل لا بد من إحراز المقتضي له أيضاً وهو في المقام إطلاق دليل المأمور به بالإضافة إلى هذا الفرد ، والمفروض انه قد سقط بالمعارضة ، وعليه فلا مقتضى للصحة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان أصالة البراءة عن الحرمة لا تثبت إطلاق دليل المأمور به واقعاً وحقيقة ، ليتمسك به لإثبات صحة هذا الفرد وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه وهو الصلاة في الدار المغصوبة في مفروض الكلام ليقيد به إطلاق دليل النهي بغير ذلك الفرد والمفروض ان أصالة البراءة لا ترفع إلا الحرمة ظاهراً لا واقعاً لتثبت لوازمها العقلية أو العادية. وقد ذكرنا في محله انه لا دليل على حجية الأصل المثبت ، فاذن أصالة البراءة عن الحرمة في المقام لا تثبت الإطلاق أي إطلاق دليل المأمور به ليشمل المورد إلا على القول بالأصل المثبت.

٤١٦

نعم لو قامت أمارة معتبرة كخبر الثقة أو نحوه على ارتفاعها لكانت مثبتة للإطلاق لا محالة ، لما ذكرناه في موضعه من ان مثبتات الأمارات الحاكية عن الواقع كأخبار الثقة أو ما شاكلها حجة ، إلا ان وجود مثل هذه الأمارة في محل الكلام مفروض العدم.

واما النقطة الثالثة فالمقام وان لم يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من نقطة النّظر في كون الشك في حرمة المجمع وعدم حرمته كما عرفت ، إلا انه داخل في كبرى تلك المسألة من نقطة نظر آخر وهي ان أصل وجوب الصلاة ـ مثلا ـ على الفرض معلوم لنا والشك إنما هو في تقييدها بغير هذا المكان وعليه فلا محالة يدور الأمر بين ان يكون الواجب هو المطلق أو المقيد ، فاذن بناء على ما حققناه هناك من جريان البراءة عن التقييد الزائد تجري البراءة في المقام أيضاً ، فان التقييد بما انه كلفة زائدة دون الإطلاق فهو مدفوع بحديث الرفع أو نحوه ، وبذلك يثبت الإطلاق الظاهري للمأمور به ، إذ المفروض ان وجوب بقية اجزائه وشرائطه معلوم لنا والشك انما هو في تقييده بأمر زائد فإذا رفعنا هذا التقييد بأصالة البراءة يثبت الإطلاق الظاهري بضم الأصل إلى أدلة الأجزاء والشرائط المعلومتين وهو كاف للحكم بالصحّة ظاهراً ، لفرض انطباق المأمور به عندئذ على الفرد المأتي به في الخارج ولا نعني بالصحّة الا ذلك. وعليه فنحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع ظاهرا لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها في الظاهر بعد رفع تقييدها بغير هذا المكان بأصالة البراءة ، لفرض انها بعد رفع ذلك التقييد صارت مصداقاً لها في حكم الشارع ، وهذا المقدار كاف للحكم بالصحّة ، وتمام الكلام في محله.

واما النقطة الرابعة (وهي ان المؤثر في المبغوضية لو كان هو المفسدة الواقعية الغالبة فلا مجال للبراءة) فيردها عدم العلم بوجود مفسدة في هذا الحال

٤١٧

فضلا عن كونها غالبة على المصلحة للشك في أصل وجودها وان المجمع في هذا الحال مشتمل على مفسدة أم لا ، والوجه في ذلك ما ذكرناه من ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض لا باب التزاحم ، لفرض انه لا علم لنا بوجود مفسدة في المجمع ، فان الطريق إلى إحراز اشتماله على المفسدة انما هو حرمته ، والمفروض انها مشكوك فيها وهي مرفوعة بأصالة البراءة ومع ارتفاعها كيف يمكن لنا العلم بوجود مفسدة فيه.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان المجمع مشتمل على كلا الملاكين كما هو مختاره (قده) في باب الاجتماع إلا ان كون المفسدة غالبة على المصلحة غير معلومة ومع عدم العلم بالغلبة كانت الحرمة والمبغوضية مجهولة لا محالة فلا مانع من الرجوع إلى البراءة.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه انه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة أو نحوها في مورد الاجتماع ظاهرا على القول بالامتناع فيما إذا فرض انه لم يكن ترجيح لأحد الجانبين على الآخر.

الخامس ـ ان المحقق صاحب الكفاية (قده) قد ألحق تعدد الإضافات بتعدد العناوين والجهات بدعوى ان البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه لا يختص بما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة ـ مثلا ـ والنهي بعنوان آخر كالغصب وقد اجتمعا في مورد واحد ، بل يعم ما إذا تعلق الأمر بشيء كالإكرام ـ مثلا ـ بجهة وإضافة ، والنهي تعلق به بجهة أخرى وإضافة ثانية ، ضرورة ان تعدد العنوان لو كان مجدياً في جواز اجتماع الأمر والنهي مع وحدة المعنون وجودا وماهية لكان تعدد الإضافة أيضاً مجدياً في جوازه ، إذ كما ان تعدد العنوان يوجب اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة ، كذلك تعدد الإضافة يوجب اختلاف المضاف إليه بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح

٤١٨

عقلا والوجوب والحرمة شرعاً. وعلى هذا فكل دليلين متعارضين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق يدخلان في باب الاجتماع لا في باب التعارض ليرجع إلى مرجحات ذلك الباب ، الا إذا علم من الخارج انه لم يكن لأحد الحكمين ملاك في مورد الاجتماع ، فعندئذ يدخل في باب التعارض ، كما هو الحال أيضاً في تعدد العنوانين :

وعلى الجملة فلا فرق بين تعدد العنوان وتعدد الإضافة من هذه الناحية أصلا. واما معاملة الفقهاء (ره) مع مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق معاملة التعارض بالعموم من وجه ، فهي اما مبنية على القول بالامتناع أو لإحراز عدم المقتضى لأحد الحكمين في مورد الاجتماع. واما في غير ذلك فلا معارضة بين الدليلين أصلا.

وغير خفي ان هذا من غرائب ما أفاده (قده) من جهات :

الأولى ـ ان فرض إحراز الفقهاء عدم وجود ملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع بين الدليلين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه في جميع أبواب الفقه امر غريب ، فان هذا يختص بمن كان عالماً بالجهات الواقعية والملاكات النّفس الأمرية. ومن هنا قد ذكرنا غير مرة انه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام مع قطع النّظر عن ثبوتها ، فاذن من أين يعلم الفقيه بعدم اشتمال المجمع لأحد الملاكين من أول الفقه إلى آخره.

وعلى الجملة فعلى وجهة نظره (قده) من ان المجمع في مورد الاجتماع لا بد ان يكون مشتملا على ملاك كلا الحكمين معاً والا فلا يكون من باب الاجتماع أصلا ، فلا بد من فرض جهة وجوب وجهة حرمة في إكرام العالم الفاسق ، ليكون داخلا في هذا الباب أي باب الاجتماع.

وعلى هذا الأساس يدخل جميع موارد التعارض بالعموم من وجه كهذا

٤١٩

المثال في هذا الباب ، إلا إذا علم من الخارج بعدم وجود الملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع ، فوقتئذ يدخل في باب التعارض. واما معاملة الفقهاء (رض) مع هذا المثال وما شاكله معاملة التعارض بالعموم من وجه إنما يكون لأحد سببين :

الأول ـ من ناحية علمهم بعدم وجود الملاك لأحدهما في مورد الاجتماع في تمام أبواب الفقه.

الثاني ـ من ناحية التزامهم بالقول بالامتناع في المسألة أي مسألة الاجتماع وعدم كفاية تعدد العنوان أو الإضافة للقول بالجواز.

ولنأخذ بالمناقشة في كليهما.

اما السبب الأول فلأنه يرتكز على كون الفقهاء عالمين بالجهات الواقعية والملاكات النّفس الأمرية ليكونوا في المقام عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما في مورد الاجتماع ، ولأجل ذلك عاملوا معهما معاملة المتعارضين بالعموم من وجه ، ومن الضروري انه ليس لهم هذا العلم فانه يختص بالله تعالى وبالراسخين في العلم على انه لو كان لهم هذا العلم لكانوا عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما المعين ، ومعه لا معنى لأن يعامل معهما معاملة التعارض ، ضرورة انه عندئذ يكون ملاك الآخر هو المؤثر وكيف كان فصدور مثل هذا الكلام من مثله (قده) يعد من الغرائب جداً.

واما السبب الثاني فلأنه يبتني على ان يكون الفقهاء جميعاً من القائلين بالامتناع في المسألة ، وهذا مقطوع البطلان ، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبين ان هذا المثال وما شاكله خارج عن مسألة الاجتماع رأساً ، ولن يتوهم أحد ولا يتوهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه ، بداهة انه يستحيل ان يكون في المجمع في مورد الاجتماع وهو إكرام العالم الفاسق

٤٢٠