محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

فالنتيجة على ضوئهما هي انه لا مانع من القول بالجواز هنا باعتبار ان المأمور به بنفسه مقولة ، والمنهي عنه ليس بمقولة على الفرض ، بل هو من متمم المقولة ، فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي.

وغير خفي ان هذا غريب منه (قده) والوجه في ذلك هو انه ليس لاستعمال آنية الذهب أو الفضة واقع موضوعي في الخارج ما عدا تلك الأفعال الخاصة كالأكل والشرب والتوضؤ والاغتسال وما شاكل ذلك ، ضرورة انه عنوان انتزاعي منتزع من هذه الأفعال خارجا ، ولا واقع له ما عداها. وعليه فبما انه في مفروض الكلام منتزع من نفس التوضؤ أو الاغتسال منها باعتبار انه تصرف فيها كما إذا فرض انه كان على نحو الارتماس لا محالة يكون المنهي عنه عندئذ متحداً مع المأمور به في مورد الاجتماع ، ومعه لا يمكن القول بالجواز.

وعلى الجملة فاستعمال الآنية قد يكون بالأكل والشرب ، وقد يكون بالتوضؤ والاغتسال وقد يكون بغيرهما ، وليس الاستعمال الا عنواناً انتزاعياً من هذه الأفعال ، وبما انه في المقام استعمالها بالتوضؤ أو الاغتسال على الفرض ، فلا يعقل ان يكون مأموراً به ، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للواجب.

ثم ان ما أفاده (قده) ـ من ان استعمال الآنية ليس مقولة برأسها بل هو متمم المقولة ـ لا نعرف له معنى محصلا أبداً ، وذلك لأن مراده (قده) من متمم المقولة كما فسر به ما لا يعرض على الجوهر في الخارج بلا واسطة كالشدة في البياض والسواد والسرعة في الحركة وما شابه ذلك ، فانها لا تعرض على الجوهر خارجا بلا توسط ، بل تعرض أولا وبالذات على الكم والكيف ونحوهما وبواسطتها تعرض عليه ، والمفروض كما عرفت ان الاستعمال أي استعمالها عنوان انتزاعي منتزع من امر موجود في الخارج ، وليس له ما بإزاء فيه أصلا لينظر انه من المقولة أو متمم لها ، وليس كالشدة فانها موجودة فيه.

٣٠١

أضف إلى ذلك ان الشدة والضعف في البياض والسواد ، والسرعة والبطء أيضاً في الحركة ليس من متممات المقولة بالمعنى الّذي ذكره (قده) بل هما عين المقولة ضرورة ان الشدة ليست شيئاً زائداً على حقيقة البياض ، ولا السرعة شيئاً زائدا على حقيقة الحركة ، لتكون الشدة عارضة على البياض العارض على الجوهر والسرعة عارضة على الحركة العارضة على موضوعها ، بداهة ان الشدة والسرعة موجودتان بنفس وجود البياض والحركة في الخارج لا بوجود آخر ، لتكونا عارضتين على وجودهما فيه أولا وبالذات وبتوسطه تعرضان على الجوهر.

وبكلمة أخرى انه (قده) قد جعل الملاك في كون شيء متمما للمقولة دون نفسها هو ما يمتنع عروضه في الخارج على الجوهر بلا واسطة عرض من الاعراض ، وقد مثل لذلك بالشدة والضعف والسرعة والبطء والابتداء والانتهاء وقد عرفت ان الابتداء والانتهاء من الأمور الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها في الخارج ما عدا منشأ انتزاعها ، فان الابتداء منتزع من صدور السير من البصرة ـ مثلا ـ والانتهاء منتزع من انتهائه إلى الكوفة .. وهكذا. ومن المعلوم ان الأمر الانتزاعي لا يعقل ان يكون متمماً للمقولة ، بداهة ان متمم المقولة لا بد ان يكون موجوداً في الخارج والأمر الانتزاعي لا يتعدى من أفق النّفس إلى الخارج ، والا فكل عرض موجود فيه لا محالة يكون منشأ لانتزاع امر. وعليه فيلزم ان يكون لكل عرض خارجا متمم ، وهذا باطل. واما الشدة والضعف والسرعة والبطء فالمفروض انها ليست بموجودة بوجود آخر غير وجود نفس البياض والحركة ، ليكون وجودها عارضاً على وجودهما في الخارج أو لا وبتوسطه على وجود الجوهر ، لوضوح ان كل مرتبة من وجود البياض والحركة مباين لمرتبة أخرى منه ، فلا يعقل ان تعرض مرتبة منه على مرتبة أخرى منه كان تعرض المرتبة الشديدة على المرتبة الضعيفة أو فقل ان البياض الموجود فيه لا يخلو

٣٠٢

من ان يكون شديدا أو ضعيفاً أو متوسطاً ولا رابع في البين ، وكذا الحركة الموجودة فيه ، فلو كانت الشدة والضعف في الفرد الشديد والضعيف متممين لهما لكان التوسط في الفرد المتوسط أيضاً كذلك ، ضرورة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبدا ، مع انهم لا يقولون بذلك فيه.

فالنتيجة انه لا يرجع متمم المقولة إلى معنى محصل أصلا ، فان الشدة في الخارج عين الفرد الشديد ، لا انها متممة له ، وكذا الضعف في الفرد الضعيف .. وهكذا.

الثالث ـ (وهو التوضؤ أو الاغتسال من الإناء المغصوب) قد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في آنية الذهب والفضة ، فان الكلام فيه من هذه الناحية أي من ناحية الوضوء أو الغسل منه بعينه هو الكلام فيها ، بناء على ان يكون مطلق التصرف فيها محرما ، كما ان الكلام فيه بعينه هو الكلام فيها من ناحية جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه. وقد تقدم ان الظاهر من كلامه (قده) هو جواز الاجتماع في أمثال ذلك ، ببيان ان المأمور به هو فرد من افراد المقولة وهو التوضؤ أو الاغتسال الموجود في الخارج ، فانه عبارة عن إيصال الماء إلى البدن والمنهي عنه وهو استعماله ليس داخلا في إحدى المقولات التسع العرضية بل هو متمم لمقولة من المقولات فمن يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة يقول في المقام أيضاً.

ولكن قد عرفت ان هذا من غرائب كلامه (قده) ، وذلك لأن الوضوء أو الغسل منه إذا كان تصرفا فيه ، كما هو المفروض واستعمالا له فلا يعقل ان يكون مأمورا به ، ضرورة استحالة كون المنهي عنه مصداقا له ، كما انه لا وجه لما أفاده (قده) من صحة الوضوء أو الغسل منه في صورة الجهل عن قصور. وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في آنية الذهب والفضة بشكل واضح فلا نعيد.

٣٠٣

الرابع (وهو التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة ـ) قد تقدم الكلام فيه في بحث الضد بشكل مفصل ، وملخصه : هو ان المكلف تارة متمكن من الوضوء أو الغسل في غير المكان المغصوب ، وتارة أخرى لا يتمكن منه في غيره لانحصار الماء فيه ، فعلى الأول بما ان متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي حيث ان الأول عبارة عن الغسلتين والمسحتين ـ مثلا ـ والثاني عبارة عن الكون في الدار ، والمفروض انهما لا ينطبقان على موجود واحد في الخارج ، فلا مانع من القول بالجواز .. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان وظيفة المكلف في هذا الفرض وان كانت هي التيمم ، لفرض انه لا يتمكن من الوضوء أو الغسل شرعا وان تمكن منه عقلا. وقد ذكرنا في غير مورد ان مشروعية الوضوء أو الغسل مشروطة بالتمكن من استعمال الماء عقلا وشرعا ، وفي المقام بما ان الوضوء أو الغسل يتوقف على ارتكاب محرم ـ وهو التصرف في مال الغير فلا يتمكن منه فاذن لا محالة تكون وظيفته التيمم لكونه فاقدا للماء.

فالنتيجة على ضوئهما هي ـ ان المكلف لو عصى ودخل الدار المغصوبة فتوضأ أو اغتسل فلا إشكال في صحته ، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وهذا واضح. وعلى الثاني فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل ولو قلنا بالفساد في الفرض الأول ، وذلك لأن الصحة في هذا الفرض لا تتوقف على القول بالترتب بل لو قلنا باستحالته فمع ذلك يكون صحيحاً. والوجه فيه هو ان المكلف مأمور بالطهارة المائية فعلا ، لتمكنه منها ، غاية الأمر انه بسوء اختياره فقد ارتكب المحرم بدخوله في المكان المزبور. ومن الظاهر ان ارتكاب محرم مقدمة للوضوء أو الغسل أو في أثنائه إذا لم يكن متحدا معه لا يوجب فساده ، هذا كله فيما إذا لم يكن الفضاء مغصوبا ، بل كان مباحا أو مملوكا للمتوضئ.

الخامس ـ (وهو التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب) ان الظاهر بطلان

٣٠٤

الوضوء فحسب دون الغسل ، اما الوضوء فمن ناحية المسح حيث يعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف في ملك الغير ، فيكون محرما. ومن الواضح استحالة وقوع المحرم مصداقا للواجب ، فاذن لا بد من القول بالامتناع هنا لفرض اتحاد المأمور به مع المنهي عنه في مورد الاجتماع ، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء فيه أي في الفضاء المغصوب وعدم انحصاره فيه. نعم لو تمكن المكلف من إيقاع المسح في غير الفضاء المغصوب وأوقع فيه لصح وضوؤه على الأقوى وان كان الأحوط تركه.

وعلى الجملة فوظيفة المكلف في صورة الانحصار وان كانت هي التيمم ولكنه لو دخل في الفضاء المغصوب وتوضأ فيه ، فان أوقع المسح في غير الفضاء المغصوب لكان وضوؤه صحيحاً ، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب ، وان أوقع المسح فيه لكان فاسدا ، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للمأمور به ، لفرض ان المسح تصرف في ملك الغير ، ومعه لا يمكن ان يكون واجباً.

ومن هنا استشكلنا في صحة التيمم في الفضاء المغصوب من جهة ان المعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف فيه. ولا يفرق في هذا بين وجود المندوحة وعدمها.

واما الغسل فبما انه لا يعتبر فيه إمرار اليد فلا يكون تصرفا فيه ، لفرض ان الواجب فيه وصول الماء إلى البشرة ومن المعلوم انه لا يكون تصرفا فيه والتصرف انما يكون في مقدماته ، كما هو واضح ، فاذن لا مانع من القول بالجواز في المقام والالتزام بصحة الغسل ، بناء على ما ذكرناه من إمكان الترتب ووقوعه خارجا.

٣٠٥

أدلة جواز الاجتماع

الأول ـ ان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لو لم يكن جائزاً لم يقع في الشريعة المقدسة ، مع انه واقع فيها ، كما في موارد العبادات المكروهة ، حيث قد اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرة كما في الصلاة في الحمام والصلاة في مواضع التهمة ونحوهما ، والاستحباب معها مرة أخرى كما في النوافل المبتدأة. ومن الواضح جداً ان وقوع شيء في الخارج أدل دليل على إمكانه وجوازه هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الأحكام الخمسة بأسرها متضادة اما من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى ، والجامع هو انه لا يمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، فكما انه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة فيه .. وهكذا.

فالنتيجة على ضوئهما هي ان من وقوع اجتماع الوجوب والكراهة في شيء واحد يكشف عن انه لا مانع من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه ، سواء أكانا إلزاميين أم لا.

ثم ان المحقق صاحب الكفاية (قده) قد عد من أمثلة ذلك الصيام في السفر.

وغير خفي ان الصوم في السفر ليس مثالا لمحل الكلام هنا. والوجه في ذلك هو انه ليس بمأمور به في غير الموارد المستثناة لا وجوبا ولا استحبابا ، ليلزم اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة ، ضرورة انه غير مشروع في ما عدا تلك

٣٠٦

الموارد والإتيان به بقصد الأمر تشريع ومحرم ، فاذن لا وجه لعده من أمثلة المقام. واما في موارد استثنائه كما إذا نذر الصوم في السفر فليس بمكروه ، ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.

وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ عن هذا الدليل بوجهين : الأول بالإجمال. والثاني بالتفصيل :

اما جوابه الإجمالي فإليك نصه : «فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة ان الظهور لا يصادم البرهان ، مع ان قضية ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك. بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين فهو أيضاً لا بد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها سيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا كما لا يخفى».

ونوضح ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى ـ ان الظاهر من هذه الموارد وان كان اجتماع الحكمين في شيء واحد الا انه لا بد من رفع اليد عن هذا الظاهر والتصرف فيه وتأويله من ناحية قيام الدليل القطعي على الامتناع واستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، بداهة ان الظهور مهما كان لونه لا يمكن ان يصادم البرهان العقلي الّذي قام على استحالة الاجتماع بمقتضى المقدمات المتقدمة.

الثانية ـ ان هذه الموارد التي توهم اجتماع حكمين فيها لشيء واحد خارجة عن مورد النزاع في المسألة. والوجه في ذلك هو ان النزاع فيها ما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوان كالصلاة ـ مثلا ـ والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب ، وقد اتفق اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في الدار المغصوبة ، فعندئذ يقع النزاع فالقائل

٣٠٧

بالجواز يدعى ان تعدد العنوان يكفي للقول بجواز الاجتماع ، والقائل بالامتناع يدعى انه لا يكفى ، فالعبرة انما هي بوحدة المعنون وتعدده ، لا بوحدة العنوان وتعدده ، واما إذا فرض تعلق الأمر والنهي بشيء واحد بعنوان فهو خارج عن محل النزاع ، ضرورة انه لا يقول أحد بالجواز فيه حتى من القائلين به فضلا عن غيرهم فانهم انما يقولون بالجواز فيما إذا فرض تعلق كل من الأمر والنهي به بعنوان والمفروض ان في موارد العبادات المكروهة ليس الأمر كذلك فان النهي في تلك الموارد تعلق بعين ما تعلق به الأمر لا بغيره. والفرق بينهما بالإطلاق والتقييد.

وعلى الجملة فالامر في هذه الموارد تعلق بذات العبادات والنهي تعلق بها بعنوان خاص كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء والنهي عن الصلاة في الحمام مثلا فلم يتعلق الأمر بها بعنوان والنهي بعنوان آخر كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، فاذن تلك الموارد خارجة عن محل الكلام في المسألة.

الثالثة ـ ان القائلين بالجواز انما يقولون به فيما إذا كانت هناك مندوحة ، واما إذا فرض انه لا مندوحة في البين فلا يقولون بالجواز فيه أصلا. وعليه فلا يمكن القول بالجواز في مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة وما شاكلهما مما لا بدل له ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط.

اما النقطة الأولى فالامر كما ذكره (قده) وذلك لما تقدم من ان المعنون إذا كان واحداً وجودا وماهية في مورد الاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع وبما ان المعنون في موارد العبادات المكروهة واحد فلا بد من التوجيه والتأويل بعد استحالة كون شيء واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معاً.

واما النقطة الثانية فهي في غاية الصحة والمتانة ، ضرورة ان أمثال هذه الموارد التي تعلق الأمر والنهي فيها بشيء بعنوان واحد خارجة عن محل النزاع في المسألة ، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح.

٣٠٨

واما النقطة الثالثة فيرد عليها ما تقدم من انه لا دخل لقيد المندوحة في جواز الاجتماع أصلا ، لما عرفت من ان القول بالجواز يبتني على تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية ، فإذا كان متعددا كذلك لا مناص من القول به سواء أكانت هناك مندوحة أم لا كما ان القول بالامتناع يبتنى على وحدة المجمع فيه ، فإذا كان واحدا كذلك لا مناص من القول به ولو كانت هناك مندوحة ، فلا دخل لقيد المندوحة ولا لعدمه في جواز الاجتماع وعدمه أصلا.

واما جوابه التفصيليّ فإليك نصه : «ان العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام : أحدها ـ ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء أو النوافل المبتدأة في بعض الأوقات. ثانيهما ـ ما تعلق النهي به كذلك ، ويكون له البدل كالنهي عن الصلاة في الحمام. ثالثها ـ ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على ان يكون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

اما القسم الأول : فالنهي تنزيهاً عنه بعد الإجماع على انه يقع صحيحاً ومع ذلك يكون تركه أرجح كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك اما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وان كان مصلحة الترك أكثر ، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين ، وإلا فيتعين الأهم ، وان كان الآخر يقع صحيحاً حيث انه كان راجحاً وموافقاً للغرض ، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلا ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع ، فان الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ، بخلاف المقام فانه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض

٣٠٩

كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلا. واما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، الا في ان الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز وانما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة ، كما في سائر المكروهات من غير فرق الا ان منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلا ، غاية الأمر كون الترك أرجح. نعم يمكن ان يحمل النهي في كلا القسمين على الإرشاد إلى الترك الّذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك. وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز فلا تغفل».

توضيح ما أفاده (قده) هو ان الكراهة في هذه الموارد ليست كراهة مصطلحة وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل وحزازة ومنقصة فيه ، فان الكراهة في المقام لو كانت كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحاً ، ضرورة عدم إمكان التقرب بما هو مبغوض للمولى ومشتمل على مفسدة غالبة ، مع انه لا شبهة في وقوعه صحيحاً وإمكان التقرب به ، غاية الأمر ان تركه أرجح من فعله ـ مثلا ـ لا شبهة في صحة الصوم يوم عاشوراء وانه قابل لأن يتقرب به محبوب للمولى في نفسه ، وليس النهي المتعلق به ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه ، ضرورة انه لو كان ناشئاً عنها لخرج عن قابلية التقرب ، ولا يمكن الحكم بصحته أبداً ، لوضوح انه لا يمكن التقرب بما هو مبغوض للمولى ، بل هو ناش عن رجحان تركه الطبيعة المأمور بها مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية كما يظهر من مداومة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام على ذلك.

وعليه فلا محالة يكون هذا الرجحان اما من ناحية انطباق عنوان ذي

٣١٠

مصلحة عليه ، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض وان كانت مصلحة الترك غالبة على مصلحة الفعل ، حيث انه في نفسه محبوب ومشتمل على مصلحة موافقة لغرض المولى فالصوم يوم عاشوراء كبقية افراد الصوم. ولكن بما ان بني أمية عليهم اللعنة التزموا بصوم هذا اليوم شكرا وفرحا من الانتصار الظاهر المزعوم فتركه فيه مخالفة لهم ، وهي مطلوبة للشارع ، ولأجل انطباق هذا العنوان أعني عنوان المخالفة على هذا الترك يكون ذا مصلحة غالبة على مصلحة الفعل فاذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين ، وحيث ان المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا بد من الالتزام بالتخيير إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، والا فيقدم الأهم على غيره ، وفي المقام بما ان الترك أهم من الفعل فيقدم عليه ، وان كان الفعل أيضاً يقع صحيحاً ، لعدم قصور فيه أصلا من ناحية الوفاء بغرض المولى ومحبوبيته ، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات ، فانه يصح الإتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه ، بل الأمر كذلك في الواجبات المتزاحمات ، فانه يصح الإتيان بالمهم عند ترك الأهم ، لا من ناحية الترتب ، لما تقدم في بحث الضد من انه (قده) من القائلين باستحالة الترتب وعدم إمكانه ، بل من ناحية اشتماله على الملاك والمحبوبية.

وان شئت فقل ان النهي في أمثال هذه الموارد غير ناش عن مفسدة في الفعل ومبغوضية فيه ، بل هو ناش عن مصلحة في الترك ومحبوبية فيه ، وهذا اما من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من الفعل ، ولكن مع ذلك لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلا ، فلو كان النهي عنه نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه لكان يوجب حزازة ومنقصة لا محالة ، ومعه لا يمكن الحكم بصحته أبدا ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض

٣١١

للمولى. واما من ناحية ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة خارجا من دون انطباق ذلك العنوان عليه ، كما إذا فرضنا ان عنوان المخالفة لبني أمية عليهم اللعنة لا ينطبق على نفس ترك الصوم يوم عاشوراء ، بدعوى استحالة انطباق العنوان الوجوديّ على الأمر العدمي ، وان كانت هذه الدعوى خاطئة في خصوص المقام ، من ناحية ان عنوان المخالفة ليس من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية ، بل هو عنوان انتزاعي. ومن المعلوم انه لا مانع من انتزاع مثل هذا العنوان من الأمر العدمي بان يكون ذلك الأمر العدمي منشأ لانتزاعه.

وعلى هذا فلا مانع من انتزاع عنوان المخالفة من ترك الصوم في هذا اليوم نعم الّذي لا يمكن انتزاع شيء منه هو العدم المطلق لا العدم المضاف ، فانه ذو أثر شرعا وعرفا كما هو واضح.

وكيف كان فإذا فرض ان الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل لا محالة يكون الترك أرجح منه ، فلا فرق عندئذ بين هذه الصورة والصورة الأولى أعني ما كان العنوان الراجح منطبقاً على الترك ، غاية الأمر ان الطلب المتعلق بالترك في هذه الصورة ليس طلباً حقيقياً ، بل هو بالعرض والمجاز ، إذ انه في الحقيقة متعلق بذلك العنوان الراجح الملازم له ، وهذا بخلاف الطلب المتعلق به في الصورة الأولى كما مر.

وقد تحصل مما ذكرناه ان المصلحة الموجودة في صوم يوم عاشوراء ـ مثلا ـ ليست بأنقص من المصلحة الموجودة في صوم بقية الأيام بما هو صوم ، غاية الأمر ان المصلحة الموجودة في تركه حقيقة أو عرضاً أرجح منها ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من فعله ، وعندئذ فالنهي المتعلق به ، كما يمكن ان يكون بمعنى طلب الترك يمكن ان يكون إرشاداً إلى أرجحية الترك من الفعل ، اما لأجل انطباق العنوان الراجح عليه ، أو لأجل ملازمته له وجودا خارجا. وعليه فيكونان من

٣١٢

قبيل المستحبين المتزاحمين وبما ان الترك أرجح فيقدم على الفعل ، كما يظهر ذلك من مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك ، ولذا لم ينقل منهم عليهم‌السلام ولو بطريق ضعيف انهم عليهم‌السلام صاموا في يوم عاشوراء ، كما ان سيرة المتشرعة قد استمرت على ذلك من لدن زمانهم عليهم‌السلام إلى زماننا هذا. هذا تمام ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده).

وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بما حاصله انه إذا فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصلحة ، فبما انه يستحيل تعلق الأمر بكل من النقيضين في زمان واحد لا محالة يكون المؤثر في نظر الآمر إحداهما على فرض كونها أقوى وأرجح من الأخرى ، وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معاً عن التأثير ، ضرورة استحالة تعلق الطلب التخييري بالنقيضين ، فانه طلب الحاصل.

وعلى هذا الضوء يستحيل كون كل من الفعل والترك مطلوبا فعلا.

وبكلمة أخرى ان فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصلحة يوجب التزاحم بين المصلحتين في مقام تأثيرهما في جعل الحكم ، لا التزاحم بين الحكمين في مرحلة الامتثال ، لما عرفت من استحالة جعل الحكمين للمتناقضين مطلقاً أي سواء أكان تعيينياً أو تخييريا.

ومن هذا القبيل الضدين الذين لا ثالث لهما ، فانه لا يمكن جعل الحكم لكليهما معاً ، لا على نحو التعيين ولا على نحو التخيير. اما الأول فلأنه تكليف بالمحال. واما الثاني فلأنه طلب الحاصل.

ومن هذا القبيل أيضاً المتلازمين الدائميين ، فانه لا يمكن جعل الحكمين المختلفين لهما بان يجعل الوجوب لأحدهما والحرمة للآخر. لا تعييناً ولا تخييراً لاستلزام الأول التكليف بالمحال ، والثاني طلب الحاصل.

فالنتيجة من ذلك قد أصبحت ان المزاحمة لا تعقل بين امرين متناقضين

٣١٣

كالفعل والترك ، ولا بين ضدين لا ثالث لهما ، ولا بين متلازمين دائميين على الشكل المتقدم ، بل هذه الموارد جميعاً داخلة في كبرى باب التعارض كما هو ظاهر.

ولأجل ذلك قد تصدى (قده) بجواب آخر وبنى ذلك الجواب على مقدمة وهي انه لا شبهة في ان الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعبادة مستحبة كصلاة الليل أو نحوها متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ونتيجة ذلك لا محالة هي اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبيّ ، لاستحالة ان يكون كل من الأمرين محفوظاً بحده بعد ما كان متعلقهما واحدا ، ولازم الاندكاك والاتحاد هو اكتساب كل منهما من الآخر جهة ، فالامر الوجوبيّ يكتسب جهة التعبدية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبيّ ، فيتحصل من اندكاك أحدهما في الآخر امر واحد وجوبي عبادي.

والوجه في ذلك ما أشرنا إليه من انه إذا كان متعلق كل من الأمرين عين ما تعلق به الأمر الآخر فلا بد من اندكاك أحدهما في الآخر ، وإلا لزم اجتماع الضدين في شيء واحد وهو محال ، هذا في النذر.

واما الأمر الناشئ من قبل الإجارة المتعلقة بعبادة مستحبة كما في موارد النيابة عن الغير ، فلا يكون متعلقاً بنفس العبادة المتعلقة بها الأمر الاستحبابي ليندك أحدهما في الآخر ويتحد ، بل يكون متعلق أحدهما غير متعلق الآخر ، فان متعلق الأمر الاستحبابي على الفرض هو ذات العبادة ، ومتعلق الأمر الناشئ من قبل الإجارة هو الإتيان بها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، لوضوح ان ذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه لم يتعلق بها غرض عقلائي من المستأجر ولأجل ذلك تبطل الإجارة لو تعلقت بها.

وعلى هذا الضوء يستحيل اتحاد الأمرين واندكاك أحدهما في الآخر في موارد الإجارة على العبادات ، ضرورة ان التداخل والاندكاك فرع وحدة

٣١٤

المتعلق ، والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد ، فاذن لا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد من تعلق الأمر الاستحبابي بذات العبادة والأمر الوجوبيّ بإتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.

وبكلمة أخرى ان الأمر الطاري ، على امر آخر لا يخلو من ان يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأول أو بغيره ، والأول كموارد النذر المتعلق بالعبادة المستحبة ، فان الأمر الناشئ من ناحية النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، وعليه فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبيّ ، فيتولد منهما امر واحد وجوبي عبادي ، ويكتسب كل منهما من الآخر جهة فاقدة لها ، فالامر الوجوبيّ بما انه فاقد لجهة التعبد فيكتسب تلك الجهة من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي بما انه فاقد لجهة الإلزام فيكتسب تلك الجهة من الأمر الوجوبيّ. هذا نتيجة اتحاد متعلقهما في الخارج.

والثاني كموارد الإجارة على العبادات المستحبة ، فان الأمر الناشئ من ناحية الإجارة في هذه الموارد لم يتعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، بل تعلق بإتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، وإلا فلا تترتب على تلك الإجارة فائدة تعود إلى المستأجر ، ضرورة انه لو أتى بها لا بذلك الداعي. بل بداعي الأمر المتعلق بذاتها فلا ترجع فائدته إلى المستأجر أصلا ، بل ترجع إلى نفس العامل.

ومن هنا قد اشتهر بين الأصحاب ان الإجارة لو تعلقت بذات العبادة لكانت باطلة ، لفرض ان الإتيان بذات العبادة بداعي امرها في الخارج لا يفيد المستأجر ولا ترجع فائدته إليه وهي سقوط العبادات عن ذمته ورجوع أجرها وثوابها إليه ، بل ترجع إلى نفس النائب والفاعل. ومن المعلوم ان حقيقة الإجارة

٣١٥

هي تمليك المنفعة للمستأجر بان تكون المنفعة له. واما إذا فرض عدم كون المنفعة له فلا تتحقق حقيقة الإجارة ، بداهة انه لا معنى لإجارة عين مسلوبة المنفعة أو إجارة شخص على ان يعمل لنفسه ، فان في مثل هذه الموارد لا تتحقق حقيقة الإجارة وواقعها الموضوعي ، ليقال انها صحيحة أو فاسدة ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر ان الأمر الناشئ من ناحية الإجارة في طول الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة ، ويترتب على ذلك انه لا مقتضي للتداخل والاندكاك في موارد الإجارة أصلا.

وبعد بيان ذلك قال (قده) ان الإشكال في اتصاف العبادة بالكراهة في هذا القسم انما نشأ من الغفلة عن تحليل نقطة واحدة وهي ان متعلق النهي فيها غير متعلق الأمر ، فان متعلق الأمر هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العبادة ، ضرورة انه لا مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها ، بل هو التعبد بهذه العبادة ، فانه منهي عنه لما فيه من المشابهة والموافقة لبني أمية لعنهم الله. وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان النهي المتعلق به بما انه تنزيهي فهو غير مانع عن جواز الإتيان بمتعلقه والتعبد به ، بل هو بنفسه متضمن للترخيص في الإتيان بمتعلقه بداعي امتثال الأمر المتعلق به.

نعم لو كان النهي المتعلق به تحريمياً لكان مانعاً عن الإتيان بمتعلقه والتعبد به ، وموجباً لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد المتعلق به النهي بداهة ان الحرام يستحيل ان يكون مصداقا للواجب. وعليه فلا محالة يقيد إطلاق دليل الأمر بغير هذا المورد.

وملخص ما أفاده هو ان متعلق النهي في هذا القسم بما انه مغاير لمتعلق الأمر فلا يكون منافياً له ، فانه في طول الأمر ويكون كموارد الإجارة المتعلقة

٣١٦

بالعبادات المستحبة ، فكما ان فيها متعلق الأمر الناشئ من قبل الإجارة غير متعلق الأمر الاستحبابي ، فكذلك في المقام ، فان متعلق النهي غير متعلق الأمر ، كما مر وليس المقام من قبيل النذر المتعلق بها ، لما عرفت من ان الأمر الناشئ من قبل النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي.

ثم ان نظرية شيخنا الأستاذ (قده) تمتاز عن نظرية المحقق صاحب الكفاية (قده) في نقطة واحدة ، وهي ان نظرية شيخنا الأستاذ ترتكز على كون النهي في المقام في طول الأمر ، فانه متعلق بإيقاع العبادة بداعي امرها الاستحبابي أو الوجوبيّ المتعلق بذاتها ، فلا يكون متعلقه متحداً مع متعلقه ، ليلزم اجتماع الضد بن في شيء واحد ، كما انه غير ناش عن وجود مفسدة في الفعل أو عن وجود مصلحة في تركه ، بل الفعل باق على هو ما عليه من المحبوبية والمصلحة ، بل هو ناش عن مفسدة في التعبد بهذه العبادة ، لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين. ويترتب على هذا ان النهي على وجهة نظره (قده) نهى مولوي حقيقي ناش عن مفسدة في التعبد بها. ونظرية المحقق صاحب الكفاية (قده) ترتكز على كون الترك كالفعل مشتملا على مصلحة أقوى من مصلحة الفعل ، اما لأجل انطباق عنوان راجح عليه ، أو لأجل ملازمته معه وجوداً وخارجا ، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.

ولنأخذ بالمناقشة على نظرية شيخنا الأستاذ (قده) فلان ما أفاده من الكبرى الكلية ، وهي عدم جريان التزاحم في الموارد المتقدمة وان كان صحيحاً ضرورة ان تلك الموارد من موارد المعارضة بين الدليلين في مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد ، لا من موارد التزاحم بين الحكمين ، لما عرفت من استحالة جعلهما في هذه الموارد مطلقاً ، ولو على نحو التخيير إلا ان تلك الكبرى لا تنطبق على المقام فانه ليس من صغرياتها ومصاديقها ، وذلك لأن المقام انما يكون من إحدى

٣١٧

صغريات هذه الكبرى إذا فرض قيام مصلحة بطبيعي صوم يوم عاشوراء ، فعندئذ لا ثالث بين فعله وتركه. ومن المعلوم انه إذا لم يكن بينهما ثالث فلا محالة لا تعقل المزاحمة بينهما ، كما تقدم.

ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المصلحة انما قامت بحصة خاصة منها وهي الحصة العبادية ، لا بمطلق وجود الفعل في الخارج والترك. وعليه فلهما ثالث وهو الحصة غير العبادية ، فانه لا مصلحة في فعلها ولا في تركها ، فاذن لا مانع من جعل الحكمين لهما ، غاية الأمر عندئذ تقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال فيدخل في كبرى مسألة المستحبين المتزاحمين ، لفرض ان المكلف عندئذ قادر على تركهما والإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، وغير قادر على الجمع بينهما ، كما هو مناط التزاحم في كل متزاحمين ، سواء أكانا واجبين أم مستحبين.

وعلى الجملة فلا شبهة في ان المستحب انما هو خصوص الحصة الخاصة من الصوم وهي الحصة التي يعتبر فيها قصد القربة ، واما ترك هذه الحصة بخصوصها فلا رجحان فيه ، بل الرجحان في ترك الإمساك مطلقاً والإفطار خارجا ، فان فيه مخالفة لبني أمية فالمكلف إذا صام بقصد القربة أو أفطر فقد أتى بأمر راجح واما إذا أمسك بغير قربة فقد ترك كلا الأمرين الراجحين.

وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين استحباب الفعل واستحباب الترك لفرض تمكن المكلف من ترك امتثال كليهما معاً ، والإتيان بمطلق الفعل من دون قصد القربة ، وغير متمكن من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فاذن لا بد من الرجوع إلى مرجحات وقواعد باب التزاحم.

فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الكبرى وهي عدم إمكان جريان التزاحم بين النقيضين ولا بين الضدين لا ثالث لهما ولا بين المتلازمين الدائميين وان كان تاما ، الا انه لا ينطبق على المقام ، كما عرفت.

٣١٨

وبعد بيان ذلك نأخذ بالمناقشة على جوابه (قده) عن هذا القسم ، وهي ان ما ذكره (قده) في باب الإجارة المتعلقة بعبادة مستحبة في موارد النيابة عن الغير غير تام في نفسه ، وعلى فرض تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه ، فلنا دعويان :

الأولى ـ عدم تمامية ما أفاده في موارد الإجارة المتعلقة بعبادة الغير.

الثانية ـ انه على تقدير تماميته لا ينطبق على المقام.

اما الدعوى الأولى فقد حققنا في محله ان الأوامر المتصورة في موارد الإجارة المتعلقة بعبادة الغير أربعة :

الأول ـ الأمر المتوجه إلى شخص المنوب عنه المتعلق بعبادته كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك ، وهذا الأمر يختص به ، ولا يعم غيره ، ويسقط هذا الأمر عنه بموته أو نحوه ، ولا يفرق في صحة الإجارة بين بقاء هذا الأمر كما إذا كان المنوب عنه حياً ومتمكناً من الامتثال بنفسه ، كمن نسي الرمي وذكره بعد رجوعه إلى بلده ، أو كان حياً وعاجزاً عن الامتثال ، كما في الاستنابة في الحج عن الحي فان التكليف كما يسقط بموت المكلف كذلك ، يسقط بعجزه لاستحالة التكليف في هذا الحال ، لأنه من التكليف بالمحال ، وهو مستحيل من الحكيم. وكيف كان فبقاء هذا الأمر وعدم بقائه وسقوطه بالإضافة إلى صحة الإجارة على حد سواء ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

ومن ذلك يظهر ان هذا الأمر أجنبي عن النائب بالكلية ، فلا يكون متوجهاً إليه أصلا ، بداهة انه لا يعقل توجه تكليف شخص إلى آخر ، فانه خاص به ويسقط بموته أو نحوه ، ولا يمكن توجهه إلى غيره ، وهذا واضح.

وعلى هذا الضوء فقد تبين ان هذا الأمر مباين للأمر الناشئ من قبل الإجارة المتوجه إلى النائب ، ولا يمكن دعوى اتحاده معه أبدا ، لفرض انهما مختلفان بحسب الموضوع ، فيكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، فان

٣١٩

موضوع الأول هو المنوب عنه ، وموضوع الثاني هو النائب ، ومع هذا كيف يعقل دعوى الاتحاد بينهما واندكاك أحدهما في الآخر ، ضرورة انه فرع وحدة الموضوع ، كما هو واضح.

الثاني ـ الأمر المتوجه إلى شخص النائب المتعلق بعباداته كالصلاة ونحوها ومن المعلوم ان هذا الأمر أجنبي عن الأمر الأول بالكلية ، لفرض انهما مختلفان بحسب الموضوع والمتعلق ، فان موضوع الأمر الأول هو المنوب عنه ، وموضوع الأمر الثاني هو النائب ، ومتعلقه هو فعل المنوب عنه ، ومتعلق الثاني هو فعل النائب نفسه ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل اتحاد أحدهما مع الآخر أبداً كما هو ظاهر ، كما ان هذا الأمر أجنبي عن الأمر الناشئ من ناحية الإجارة المتوجه إليه ، وذلك لاختلافهما بحسب المتعلق ، فان متعلق هذا الأمر هو فعل النائب ، ومتعلق ذاك الأمر هو فعل المنوب عنه ، غاية الأمر انه ينوب عنه في إتيانه في الخارج ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل دعوى الاتحاد بينهما أصلا ، وهذا واضح.

الثالث ـ الأمر المتوجه إلى النائب المتعلق بإتيان العبادة نيابة عن الغير وهذا الأمر الاستحبابي متوجه إلى كل مكلف قادر على ذلك ، فيستحب للإنسان ان يصلى أو يصوم نيابة عن أبيه أو جده أو أمه أو أستاذه أو صديقه .. وهكذا ثم انه من الواضح جدا ان هذا الأمر الاستحبابي كما انه أجنبي عن الأمر الأول كذلك أجنبي عن الأمر الثاني ، ولا يعقل لأحد دعوى اتحاده مع الأمر الأول أو الثاني.

الرابع ـ الأمر المتوجه إلى النائب الناشئ من قبل الإجارة المتعلق بإتيان العبادة نيابة عن غيره ، فهذا الأمر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، فان الأمر الاستحبابي ـ كما عرفت ـ متعلق بإتيان العبادة نيابة عن الغير ، والمفروض ان هذا الأمر الوجوبيّ متعلق بعين ذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً

٣٢٠