محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

يرتكز على ركيزة أجنبية عن وجود المندوحة وعدم وجودها بالكلية ـ وهي وحدة المجمع وتعدده ـ فان المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا فرض انه واحد حقيقة فلا مناص من القول بالامتناع كانت هناك مندوحة أم لم تكن ، وإذا فرض انه متعدد كذلك فلا مناص من القول بالجواز ، بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم وهو متعلق النهي إلى لازمه ـ وهو ما ينطبق عليه متعلق الأمر.

الثامنة ـ قد سبق ان النزاع يعم جميع أنواع الإيجاب والتحريم ما عدا الإيجاب والتحريم التخييريين ، فلا فرق بين كونهما نفسيين أو غيريين أو كفائيين ، فان ملاك استحالة الاجتماع في شيء واحد موجود في الجميع. واما خروج الإيجاب والتحريم التخييريين عن محل النزاع فلعدم إمكان اجتماعهما في شيء واحد ، كما عرفت فتكون السالبة بانتفاء الموضوع.

التاسعة ـ ان النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الإيجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي ، ضرورة انه يعم جميع أقسام الإيجاب والتحريم ، سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا.

العاشرة ـ ان مسألتنا هذه من المسائل العقلية ، فان الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها انما هو العقل ، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا ، غاية الأمر انها من العقليات غير المستقلة ، وليست من العقليات المستقلة ، كما تقدم.

الحادية عشرة ـ انه لا فرق في جريان النزاع في المسألة بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع وتعلقها بالأفراد. وتوهم انه على تقدير تعلقها بالأفراد لا مناص من القول بالامتناع فاسد ، لما سبق بشكل واضح.

قال المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ في المقدمة الثامنة ما هذا نصه : «انه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الإيجاب

٢٠١

والتحريم مناط حكمه مطلقاً حتى في مورد التصادق والاجتماع كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين ، وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين ، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى ، كما يأتي تفصيله. واما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب ، ولا يكون مورد الاجتماع محكوما الا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه ، أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد منهما ، قيل بالجواز أو الامتناع. هذا بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الدلالة والإثبات فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني ، فلا بد من عمل المعارضة بينهما من الترجيح والتخيير ، وإلا فلا تعارض في البين ، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين ، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا ، لكونه أقوى مناطا ، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا ، بل لا بد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات ، كما تأتي الإشارة إليها. نعم لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض ، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة فتفطن».

نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى ـ ان مسألتنا هذه ترتكز على ركيزة واحدة وتدور مدارها وجودا وعدما ، وهي ان يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع والتصادق مشتملا على ملاك كلا الحكمين معاً ، مثلا الصلاة في الدار المغصوبة التي تكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي انما تكون من افراد هذه المسألة إذا كانت مشتملة على ملاك كلا الحكمين. وعليه فالمجمع ـ على القول بالجواز ـ يكون محكوماً بكلا الحكمين معاً ، لفرض وجود الملاك لهما من ناحية ، وعدم التنافي بينهما من ناحية

٢٠٢

أخرى. وعلى القول بالامتناع يكون محكوما بأقوى الملاكين إذا كان أحدهما أقوى من الآخر ، واما إذا كانا متساويين فهو محكوم بحكم آخر غير هذين الحكمين بمقتضى أصل لفظي أو أصل عملي ، لفرض انه لا أثر لملاكهما عندئذ.

واما إذا فرض ان المجمع لم يكن مشتملا على ملاك كلا الحكمين معاً ، فلا يكون من هذا الباب ـ أي باب الاجتماع ـ من دون فرق في ذلك بين ان يكون مشتملا على ملاك أحدهما أم لا.

الثانية ـ انا لو أحرزنا من الخارج بأن المجمع لمتعلقي الأمر والنهي مشتمل على ملاك واحد من الحكمين دون الآخر ، فتقع المعارضة بين دليليهما الدالين عليهما لعدم إمكان ثبوت كليهما معاً في الواقع ، فاذن لا بد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض من الترجيح أو التخيير ، فالنتيجة ان ملاك التعارض بين الدليلين في مقام الإثبات هو ان يكون مورد الاجتماع مشتملا على مناط أحد الحكمين دون الحكم الآخر. واما إذا كان مورد الاجتماع مشتملا على مناط كليهما معاً فتقع المزاحمة بين المقتضيين ، فاذن لا بد من الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم من الأهمية ونحوها ، ولا وجه للرجوع إلى مرجحات باب التعارض ، لانتفائه على الفرض.

الثالثة ـ لو كان كل من الدليلين متكفلا للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما فعندئذ لا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة ، إلا إذا جمع بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.

ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه النقاط :

اما النقطة الأولى فيردها ان النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الإمامية القائلين بتبعية الأحكام للملاكات الواقعية والجهات النّفس الأمرية بل يعم وجهة نظر جميع المذاهب حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام

٢٠٣

للجهات الواقعية ، ضرورة ان البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعهما لا يختص بمذهب دون آخر ، كما هو ظاهر. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد تقدم ان النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته. وقد عرفت ان القول بالسراية يبتني على أحد امرين :

الأول ـ ان يكون المجمع واحدا وجودا وماهية.

الثاني ـ ان لا يتخلف اللازم عن الملزوم في الحكم ، بأن يثبت الحكم الثابت للملزوم له أيضاً ، والقول بعدمها يبتني على امرين معاً.

الأول ـ ان يكون المجمع متعددا وجودا وماهية.

الثاني ـ ان يتخلف اللازم عن الملزوم في الحكم بمعنى ان الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه ، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول.

فالنتيجة على ضوئهما هي ان النزاع في مسألتنا هذه لا يبتني على مسألة تبعية الأحكام الواقعية لجهات المصالح والمفاسد أصلا ، ضرورة ان إحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الأخرى بالكلية ، ولا صلة لإحداهما بالأخرى أبدا.

وعلى الجملة فهاهنا مسألتان إحداهما مسألتنا هذه ، والأخرى مسألة تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد الواقعية ، وقد عرفت ان نقطة انطلاق الخلاف في إحداهما غير نقطة انطلاق الخلاف في الأخرى.

اما في الأولى فهي ان المجمع لمتعلقي الأمر والنهي ان كان واحدا وجودا وماهية في مورد الاجتماع والتصادق ، فلا مناص من القول بالامتناع والسراية حتى على مذهب الأشعري المنكر للتبعية من ناحية ، المجوز للتكليف بالمحال من ناحية أخرى ، فان هذا أعني اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذاتا وحقيقة ليس من التكليف بالمحال ، بل نفس هذا التكليف محال ، كما هو واضح. وان

٢٠٤

كان متعددا وجودا وماهية من جانب ، وقلنا بعدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر من جانب آخر فلا مناص من القول بالجواز ، بلا فرق بين تبعية الأحكام للملاكات الواقعية وعدم تبعيتها لها ، وهذا ظاهر. فما أفاده قدس الله سره من ابتناء النزاع في المسألة على القول بالتبعية لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.

واما في الثانية فهي ان الأشاعرة حيث انهم قد أنكروا مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، وقالوا بأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها ، وان كل ما امر الشارع به حسن ، وكل ما نهى الشارع عنه قبيح ، وان أفعاله تعالى لا تتصف بالقبح أبدا ، فلأجل ذلك قد التزموا بعدم تبعية الأحكام الواقعية للملاكات ، لا في متعلقاتها ولا في أنفسها ، لفرض ان عندهم لا مانع من صدور اللغو من الشارع الحكيم. واما الإمامية فحيث انهم قد التزموا بتلك المسألة ، وان أفعاله تعالى تتصف بالحسن مرة وبالقبح مرة أخرى ، فلذلك التزموا بالتبعية المزبورة ، وإلا لكان التكليف لغواً محضاً وصدور اللغو من الشارع الحكيم قبيح.

فهذه النقطة هي منشأ الخلاف في تلك المسألة أعني مسألة تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد وعدم تبعيتها لها.

فالنتيجة انه لا مساس لمسألتنا هذه بتلك المسألة أصلا.

واما النقطة الثانية فيردها ما تقدم بصورة مفصلة في بحث الضد من ان مسألة التعارض لا ترتكز على وجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء ، حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقاً ، وذلك لما ذكرناه هناك من ان مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين هو عدم إمكان ثبوت الحكمين في مقام الجعل ، وان ثبوت كل منهما في هذا المقام ينفي الآخر ويكذبه.

٢٠٥

ومن المعلوم انه لا يفرق فيه بين القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد والقول بعدمها ، وكون مورد الاجتماع مشتملا على مناط أحد الحكمين أم لا. وقد تقدم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح في بحث الضد ، فلا نعيد. وعليه فما أفاده (قده) من الضابط للتعارض بين الدليلين وهو كون مورد الاجتماع بينهما مشتملا على مناط أحدهما لا أصل له ، بل صدوره من مثله (قده) غريب جداً.

ومن ناحية أخرى انا قد ذكرنا هناك ان التزاحم على نوعين : (الأول) التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض (الثاني) التزاحم بين الأحكام كذلك.

اما النوع الأول فقد ذكرنا سابقاً انه خارج عن محل الكلام ، فان محل الكلام انما هو في النوع الثاني ، ولذا قلنا ان الترجيح فيه بيد المولى ، فله ان يلاحظ الجهات الواقعية ويرجح بعضها على بعضها الآخر ، وليس ذلك من وظيفة العبد ، فان وظيفته امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى. على انه ليس للعبد طريق إلى معرفة تلك الجهات ليرجح بعضها على بعضها الآخر مع قطع النّظر عن الأحكام المجعولة على طبقها.

وبعد ذلك نقول انه (قده) ان أراد من التزاحم بين المقتضيين ذلك فقد عرفت ان هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الكلام ، وان الترجيح فيه بيد المولى دون العبد. ولذا لا يرجع فيه إلى مرجحات النوع الثاني من التزاحم. وان أراد منه التزاحم بين الدليلين في مرتبة الاقتضاء فقد تقدم ان التزاحم هو تنافي الحكمين في مرتبة الفعلية الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون أي تناف بينهما في مقام الإنشاء والجعل ، كما مر بشكل واضح. وعليه فلا يرجع قوله (قده) بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين إلى معنى محصل أصلا.

٢٠٦

وأضف إلى ذلك ما ذكرناه هناك من ان مسألة التزاحم أيضاً لا تبتنى على وجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء ، حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقاً ، ضرورة ان مسألة التزاحم كمسألة التعارض ، فانها ترتكز على ركيزة واحدة ، وتدور مدار تلك الركيزة وجودا وعدما وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين المتزاحمين في مقام الامتثال ومن المعلوم ان مسألة التبعية أجنبية عن تلك الركيزة بالكلية ، فاذن ما أفاده (قده) من الضابط لمسألة التزاحم ـ وهو كون المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين ـ لا يرجع إلى أصل صحيح.

واما النقطة الثالثة فيمكن المناقشة فيها بوجوه :

الأول ـ ان موارد التوفيق العرفي غير موارد التعارض ، فإذا فرض التعارض بين الدليلين فمعناه انه لا يمكن الجمع العرفي بينهما ، وفيما إذا أمكن ذلك فلا تعارض ففرض التعارض مع فرض إمكان الجمع العرفي لا يجتمعان ، كما هو واضح.

الثاني ـ ان التوفيق العرفي بين الدليلين انما يكون بملاحظة مرجحات باب الدلالة ، كان يكون أحدهما أظهر من الآخر أو نحو ذلك ، لا بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، لوضوح الفرق بين البابين ، وان أحدهما أجنبي عن الآخر بالكلية ضرورة ان مرجحات باب المزاحمة توجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، وهو القدرة ، ولا توجب التصرف بالحمل على الاقتضاء أو نحوه ، كما ـ هو ظاهر.

الثالث ـ ان هذا الحمل أي حمل الأمر والنهي على بيان المقتضي في متعلقه خارج عن الفهم العرفي ، ولا يساعد عليه العرف أبدا.

الرابع ـ ان هذا الحمل لا يجدي في دفع المحذور اللازم من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وذلك لأن اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد في نفسه وان كان لا مانع منه ، إلا ان ذلك لا يمكن من جهة تأثير المصلحة في

٢٠٧

محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته ، لاستحالة ان يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضاً معاً.

قال : (قده) في المقدمة التاسعة ، ما هذا لفظه : انه قد عرفت ان المعتبر في هذا الباب ان يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملا على مناط الحكم مطلقاً حتى في حال الاجتماع ، فلو كان هناك ما دل على ذلك من إجماع أو غيره فلا إشكال ، ولو لم يكن إلا إطلاق دليلي الحكمين ففيه تفصيل ، وهو ان الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع ، فيكون من هذا الباب ، ولو كان بصدد الحكم الفعلي فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضى في الحكمين على القول بالجواز ، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين. واما على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا ، فان انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن ان يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن ان يكون لأجل انتفائه ، إلا ان يقال : ان قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر والا فخصوص الظاهر منهما.

فتلخص انه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع ، وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقاً إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز ، وإلا فعلى الامتناع.

ونلخص هذه المقدمة في عدة خطوط :

الأول ـ ان غرضه (قده) من هذه المقدمة بيان ما يمكن ان يحرز به كون المجمع في مورد الاجتماع مشتملا على ملاك كلا الحكمين معاً من قيام دليل

٢٠٨

من الخارج ليكون بذلك داخلا في هذا الباب أي باب الاجتماع. كالإجماع أو نحوه في دخوله في المسألة.

الثاني ـ انه إذا لم يكن من الخارج دليل ، فهل هناك قرينة أخرى تدل عليه أم لا ، فقد ذكر (قده) ان إطلاق كل من دليلي الحكمين ان كان في مقام بيان الحكم الاقتضائي لكان قرينة على ثبوت المقتضي والمناط لكلا الحكمين في مورد الاجتماع ، من دون فرق في ذلك بين القول بالجواز والقول بالامتناع. واما إذا كان في مقام بيان الحكم الفعلي ، فان قلنا بالجواز كان إطلاق كل منهما أيضاً قرينة على ثبوت المقتضي والمناط لكليهما معاً في محل الاجتماع والتصادق ، الا إذا علم من الخارج بكذب أحدهما وعدم جعله في الواقع ، فعندئذ تقع المعارضة بينهما فلا بد من الرجوع إلى قواعد بابها. واما إذا قلنا بالامتناع فتقع المعارضة بين دليليهما ، ولا بد عندئذ من رفع اليد عن أحدهما. وعليه فلا دلالة على ثبوت المقتضي والمناط لهما في مورد الاجتماع ، ضرورة ان انتفاء أحدهما كما يمكن ان يكون لوجود المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن ان يكون من جهة انتفاء المقتضي.

ولعل الوجه في ذلك ما ذكرناه غير مرة من انه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام ومقتضياتها مع قطع النّظر عن ثبوت نفس هذه الأحكام.

وعلى ضوء هذا فإذا فرض انتفاء حكم في مورد فلا يمكن الحكم بأن انتفاءه من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له ، ضرورة انه كما يحتمل ان يكون انتفاؤه من هذه الناحية يحتمل ان يكون من ناحية عدم المقتضي له في هذا الحال ، بل قد ذكرنا ان الأمر كذلك حتى فيما إذا كان انتفاء الحكم من جهة عجز المكلف عن امتثاله وعدم قدرته عليه ، فان انتفاؤه في هذا الحال كما يمكن ان يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن ان يكون من ناحية

٢٠٩

عدم المقتضي له ، بداهة انه لا طريق لنا إلى ثبوت المقتضي له في هذا الحال ، كما هو ظاهر.

الثالث ـ انه يمكن رفع التعارض بحمل كل من الإطلاقين على الحكم الاقتضائي إذا لم يكن في البين أظهر ، والا فيحمل خصوص الظاهر منهما على ذلك وعليه فهما دالان على ثبوت المقتضى والمناط في المورد أعني مورد الاجتماع والتصادق ، وذلك لأن المانع من دلالتهما عليه انما هو تعارضهما وتنافيهما بحسب مقام الإثبات والدلالة ، واما بعد علاجه بالجمع بينهما عرفا فلا مانع من دلالتهما عليه أصلا.

ولنأخذ بالمناقشة في هذه الخطوط :

اما الخطّ الأول ـ فلأنه يبتنى على تسليم ان يكون المعتبر في باب الاجتماع هو كون المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين معاً في مورد الاجتماع ، لتستدعي الحاجة إلى إثبات ذلك في الخارج بدليل. ولكن قد عرفت منع ذلك في المقدمة الثامنة ، وقلنا هناك ان مسألة الاجتماع لا ترتكز على وجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تجري على وجهة نظر جميع المذاهب والآراء وذلك لما تقدم من ان المسألة تبتني على ركيزة أخرى وتدور مدار تلك الركيزة وهي ان المجمع إذا كان واحدا وجودا وماهية فلا بد من الالتزام بالامتناع سواء فيه القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدمها وسواء أكان المجمع مشتملا على ملاك أم لم يكن وان كان متعددا كذلك من ناحية ولم نقل بسراية الحكم من من الملزوم إلى اللازم من ناحية أخرى فلا بد من الالتزام بالجواز كذلك. ومن الواضح جدا ان تلك الركيزة لا تختص بمذهب دون آخر وبحالة دون أخرى ، وأجنبية عن القول بالتبعية بالكلية ، ضرورة انه لا فرق في استحالة اجتماع الضدين بين وجهة نظر دون آخر ، كما هو ظاهر.

٢١٠

واما الخطّ الثاني فيقع الكلام فيه من ناحيتين :

الأولى ـ في بيان مراده (قده) من الحكم الفعلي

الثانية ـ في بيان مراده من الحكم الاقتضائي.

اما الناحية الأولى فان أراد (قده) من الحكم الفعلي الحكم الّذي بلغ إلى مرتبة البعث أو الزجر فقد ذكرنا غير مرة ان بلوغ الحكم إلى تلك المرتبة يتوقف على وجود موضوعه بجميع شرائطه وقيوده في الخارج ضرورة استحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه كذلك ، فما لم يتحقق موضوعه خارجا يستحيل ان يكون الحكم فعلياً ، فتتبع فعلية الحكم فعلية موضوعه حدوثاً وبقاء. ومن هنا لا يلزم ان تكون فعليته حين جعله وإبرازه في الخارج ، بل هي غالباً متأخرة عنه ، بل ربما تتأخر عنه بآلاف سنين.

والسر فيه هو ان الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية أعني للموضوعات المقدرة وجودها في الخارج ، ولا يتوقف جعلها على وجودها فيه أبدا ، ضرورة انه يصح جعلها لها من دون ان يتوقف على وجود شيء منها في الخارج ـ مثلا ـ وجوب الحج مجعول للعاقل البالغ القادر المستطيع مع بقية الشرائط ، ووجوب الصوم مجعول للبالغ العاقل القادر الداخل عليه شهر رمضان مع سائر الشرائط .. وهكذا ، ولا يتوقف جعلها على وجود موضوعها خارجا ، ولكن فعليه تلك الأحكام وتحققها في الخارج تتوقف على فعلية موضوعاتها ، فمتى تحقق موضوعها تحقق الحكم. ومن ذلك قد ظهر ان فعلية الحكم خارجة عن مفاد الدليل وأجنبية عنه رأسا وتابعة لفعلية موضوعه ، ضرورة ان مفاد الدليل هو ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية ، ولا يدل على أزيد من ذلك ، فلا نظر له إلى فعليته بفعلية موضوعه أبدا ، لوضوح ان كل قضية حقيقية غير ناظرة إلى وجود موضوعها في الخارج وتحققه فيه ، بل مفادها ثبوت الحكم على

٢١١

تقدير وجود موضوعها فيه من دون تعرض لحاله وجودا وعدما.

وعليه فلا معنى لما أفاده (قده) من ان إطلاق كل من الدليلين قد يكون لبيان الحكم الفعلي ، وذلك لما عرفت من ان فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه في الخارج وأجنبية عن مفاد الدليل بالكلية ، فلا يكون الدليل متكفلا لفعليته أبداً.

وان أراد منه الحكم الإنشائي وهو الحكم المبرز في الخارج بمبرز ما ، بان يكون إطلاق كل من الدليلين في مقام بيان إبراز ما اعتبره المولى ، غاية الأمر دليل النهي في مقام بيان اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل ، ودليل الأمر في مقام بيان اعتباره الفعل على ذمته. وقد يطلق عليه الحكم الفعلي باعتبار انه فعلى من قبل الشارع وتام ـ فيرد عليه ان اجتماع الحكمين كذلك في شيء واحد محال ، سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع ، ضرورة انه لا يمكن الجمع بين اعتبار ثبوت فعل على ذمة المكلف واعتبار محروميته عنه.

وعلى الجملة فالمجمع إذا كان واحدا يستحيل جعل الوجوب والحرمة له معاً سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع ، وان كان متعددا فلا مانع من جعلهما معاً ، لفرض ان الوجوب مجعول لشيء ، والحرمة مجعولة لشيء آخر ، ولا مانع من ذلك أبدا ، بلا فرق بين القول بالامتناع والقول بالجواز فالعبرة انما هي بوحدة المجمع وتعدده لا بكون الدليلين متكفلين للحكم الفعلي أو الاقتضائي ، كما هو واضح.

واما الناحية الثانية فلا نعقل للحكم الاقتضائي معنى محصلا ما عدا كون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ، ويكون إطلاق كل من دليلي الأمر والنهي في مقام بيان ذلك ، وإرشاد إلى ان فيه جهة تقتضي وجوبه وجهة تقتضي حرمته ، وهذا هو مراده (قده) من الحكم الاقتضائي.

٢١٢

ولكن يرد عليه أولا ان هذا خارج عن محل الكلام فان محل البحث في المسألة كما عرفت في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته. ومن المعلوم انه لا بد من فرض وجود الأمر ووجود النهي ، ليبحث في مورد اجتماعهما عن سراية أحدهما من متعلقه إلى ما تعلق به الآخر وعدم السراية والمفروض انه بناء على هذا ليس أمر ولا نهي ما عدا كون الفعل مشتملا على مصلحة ومفسدة ، لنبحث عن سراية أحدهما إلى الآخر وعدمها.

فالنتيجة هي ان مرد الإطلاقين على ذلك في الحقيقة إلى اخبار الشارع بوجود المصلحة والمفسدة في مورد الاجتماع لا إلى جعل حكم تكليفي.

وبكلمة أخرى ان حمل الأمر والنهي على ذلك أي على الاخبار عن وجود مصلحة في فعل ووجود مفسدة فيه ، بان يقال ان المولى في مقام بيان الاخبار عنه لا يمكن ، وذلك لأن هذا خارج عن وظيفة الشارع ، فان وظيفته بيان الأحكام الشرعية ، لا الاخبار عن وجود المصالح والمفاسد في الأفعال. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان هذا الحمل خارج عن المتفاهم العرفي وبعيد عنه جدا ، بل غير واقع في الشريعة المقدسة أصلا ، كيف فان حمل الأمر الوارد في الشريعة المقدسة على الاخبار عن وجود مصلحة في الفعل ، وحمل النهي الوارد فيها على الاخبار عن وجود مفسدة فيه لا يمكن بحسب المتفاهم العرفي أبدا.

وثانياً ـ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان هذا الحمل ممكن عرفا الا انه عندئذ وان كان لا مانع من اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد في نفسه مع قطع النّظر عن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية ، ضرورة انه لا مانع من ان يكون شيء واحد مشتملا على مصلحة من جهة وعلى مفسدة من جهة أخرى ، ولكن لا يمكن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية معاً ، بداهة استحالة ان يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضاً في آن واحد. وعليه فإذا فرض ان المجمع واحد وجوداً

٢١٣

وماهية فلا يعقل تأثير المصلحة في محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته ، وتأثير الأولى في جعل الوجوب له وتأثير الثانية في جعل الحرمة له ، وان كان لا مضادة بين نفس الوجوب والحرمة من جهة انهما امران اعتباريان. وقد ذكرنا انه لا مضادة بين الأمور الاعتبارية أصلا ، إلا انه لا يمكن جعلهما لشيء واحد من ناحية ان جعل الحكم الأول كاشف عن محبوبية هذا الشيء ، وجعل الثاني كاشف عن مبغوضيته ، ولا يمكن ان تجتمع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى انه لا يمكن امتثالهما في الخارج. ومن المعلوم ان جعل مثل هذا الحكم لغو وصدور اللغو عن الشارع الحكيم مستحيل.

وعلى الجملة فعلى تقدير كون المجمع واحدا وان كان لا مانع من اجتماع المصلحة والمفسدة فيه بنفسه ، إلا انه لا يمكن ذلك من ناحية تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية ، فاذن لا يمكن ان يكون الإطلاقان كاشفين عن وجود مصلحة فيه كذلك ومفسدة ، فعلى هذا لا محالة تقع المعارضة بينهما لكذب أحدهما في الواقع على الفرض ، وعدم إمكان صدق كليهما معاً ، فيرجع عندئذ إلى أحكامها وقواعدها.

ودعوى انهما كاشفان عن وجودهما في المجمع في نفسه ـ من دون تأثيرهما في شيء. وقد مر انه لا مانع من اجتماعهما في شيء في ذاته ـ خاطئة جدا وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك لأنها مخالفة للوجدان والضرورة ، بداهة ان المجمع كالصلاة في الدار المغصوبة إذا كان واحدا فلا محالة اما ان يكون محبوبا أو مبغوضاً ولا ثالث لهما ، ضرورة انه لا يعقل ان لا يكون محبوبا ولا مبغوضاً ، بان لا تؤثر المفسدة فيه ولا المصلحة ، أضف إلى ذلك ان هذا الفرض لغو محض ، فلا يترتب عليه أي أثر ، فاذن ، لا يمكن حمل إطلاقي الأمر والنهي على ذلك أصلا ، لعدم

٢١٤

أثر شرعي مترتب عليه.

واما إذا كان المجمع متعددا فلا مانع من تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية معاً أصلا وفي جعل الوجوب والحرمة ، من دون أية منافاة ومضادة في البين وهذا واضح.

واما الخطّ الثالث فيرده ما تقدم من ان هذا الجمع أي الجمع بين الدليلين بالحمل على الاقتضاء خارج عن المتفاهم العرفي ، ولا يساعد عليه العرف ، كما مر بشكل واضح.

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه عدة أمور :

الأول ـ ان أساس مسألة إمكان الاجتماع واستحالته يبتني على وحدة المجمع وجودا وماهية في مورد الاجتماع وتعدده كذلك ، فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع والاستحالة ، قلنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أم لا ، قلنا بكون المجمع مشتملا على الملاك أم غير مشتمل ، ضرورة ان كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك هذا القول في المسألة. وعلى الثاني إذا لم نقل بسراية الحكم من الملزوم إلى اللازم ، كما هو الصحيح ، فلا مناص من القول بالجواز كذلك. ومن هنا قلنا ان هذه المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض ، وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم إذا لم تكن مندوحة في البين ، كما سبق.

الثاني ـ ان أساس مسألة التعارض يرتكز على تنافي الحكمين في مقام الجعل ، بحيث لا يمكن جعل كليهما معاً ، سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد وعدمه ، وكون مورد التعارض مشتملا على ملاك أحد الحكمين أم لا ، بداهة ان كل ذلك أجنبي عما هو ملاك التعارض.

وأساس مسألة التزاحم بين الحكمين يرتكز على عدم تمكن المكلف من

٢١٥

الجمع بينهما في مقام الامتثال سواء أقلنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أم لا ، وسواء أكان المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين أم لم يكن.

الثالث ـ ان ما أفاده (قده) في هاتين المقدمتين أعني المقدمة الثامنة والتاسعة جميعاً لا يبتني على أصل صحيح كما تقدم بشكل واضح.

ثمرة مسألة الاجتماع

المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو ان العبادة صحيحة على القول بالجواز وتعدد المجمع مطلقاً ولو كان عالماً بحرمة ما هو ملازم للواجب في مورد الاجتماع فضلا عما إذا كان جاهلا بها أو ناسياً لها. وعليه فتصح الصلاة في المكان المغصوب ، ومجرد ملازمتها لارتكاب الحرام خارجا لا يمنع عن صحتها بعد فرض ان متعلق الأمر غير متعلق النهي .. وفاسدة على القول بالامتناع ووحدة المجمع كذلك ، ولو كان جاهلا بالحرمة فضلا عما إذا كان عالماً بها هذا هو المشهور.

ولكن خالف في ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وذهب إلى بطلان الصلاة على القول بالجواز وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالما بالحرمة لا فيما إذا كان جاهلا بها أو ناسياً لها ، فله (قده) هناك دعويان :

الأولى ـ بطلان الصلاة على هذا القول في صورة العلم بالحرمة.

الثانية ـ صحة الصلاة في صورة الجهل والنسيان.

اما الدعوى الأولى فلأنها تبتني على ما أفاده (قده) في بحث الضد وملخصه هو ان منشأ اعتبار القدرة في التكليف انما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك ،

٢١٦

لا حكم العقل بقبح التكليف العاجز. والوجه في ذلك هو ان الغرض من التكليف حيث انه كان جعل الداعي للمكلف نحو الفعل فمن الواضح ان هذا بنفسه يقتضي كون متعلقه مقدوراً ، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلا وشرعا. ونتيجة ذلك هي ان متعلقه حصة خاصة من الطبيعة ـ وهي الحصة المقدورة عقلا وشرعا ـ واما الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقه ، وان كانت حصة من الطبيعة على نحو الإطلاق ، إلا انها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة للتكليف.

وعلى ذلك فبما ان الأمر متعلق بخصوص الحصة المقدورة عقلا وشرعا ، وهي الصلاة في غير المكان المغصوب ـ مثلا ـ فلا محالة لا تكون الصلاة في المكان المغصوب مصداقا للمأمور به وفردا له ، فانها وان لم تكن متحدة مع الحرام في الخارج ، إلا انها ملازمة له خارجا ، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعا وان كانت مقدورة عقلا ، والمفروض ان الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، فاذن لا محالة يختص الأمر بالحصة الخاصة من الصلاة وهي الحصة المقدورة ، فلا تنطبق على الحصة غير المقدورة ، وهي الصلاة في المكان المغصوب.

فالنتيجة هي انه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول أي القول بالجواز من ناحية الأمر لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليها ، مثلا الصلاة المأمور بها لا تنطبق على الصلاة في الدار المغصوبة ، لفرض انها ليست مصداقا وفردا لها. ومن الواضح انه مع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بالصحّة لما ذكرناه غير مرة من ان الصحة منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، فإذا فرضنا ان المأمور به لا ينطبق عليه وانه ليس مصداقا وفرداً له فلا يمكن الحكم بصحته.

وقد تحصل من ذلك ان المأمور به على هذا بما انه حصة خاصة ـ وهي

٢١٧

الحصة المقدورة فحسب ـ لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع والتصادق على القول بالجواز وتغاير متعلق الأمر والنهي فضلا عن غيره ، لعدم انطباق المأمور به عليها. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى انه لا يمكن تصحيح تلك العبادة في مورد الاجتماع بالترتب ، بتقريب انها وان لم تكن مأموراً بها بالأمر الأول ، إلا انه لا مانع من تعلق الأمر بها مترتباً على عصيان النهي ، وذلك لأنه (قده) وان التزم بالترتب في بحث الضد ، وقلنا هناك ان إمكانه يكفي في وقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل ، لما ذكرناه هناك من ان حقيقة الترتب هو رفع اليد عن إطلاق كل من الحكمين بمقدار تقتضيه الضرورة لا مطلقاً ، والمقدار الّذي تقتضيه الضرورة ـ هو تقييد إطلاق كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر دون الزائد عليه ، إلا انه (قده) قد أنكر جريانه في المقام أي في مسألة الاجتماع.

وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه : ان عصيان النهي في مورد الاجتماع لا يخلو من ان يتحقق بإتيان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة مثلا كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو النوم أو ما شاكل ذلك ، وان يكون بنفس الإتيان بالصلاة ، ولا ثالث لهما. ومن الواضح انه على كلا التقديرين لا يمكن ان يكون الأمر بالصلاة مشروطا به ، اما على التقدير الأول فلأنه يلزم ان يكون الأمر بأحد الضدين مشروطا بوجود الضد الآخر ، وهذا غير معقول ، ضرورة ان مرد هذا إلى طلب الجمع بين الضدين في الخارج ، لفرض انه امر بإيجاد ضد على فرض وجود ضد آخر ، وهو محال ، لأنه تكليف بالمحال. واما على التقدير الثاني فلأنه يلزم ان يكون الأمر بالشيء مشروطاً بوجوده في الخارج ، وهو محال لأنه طلب الحاصل ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون الأمر بالشيء كالصلاة ، مثلا مشروطا بوجوده ، كما هو واضح.

٢١٨

فالنتيجة هي انه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بناء على القول بالجواز وتعدد المجمع بالترتب.

ومن ناحية ثالثة انه لا يمكن تصحيحها في هذا المورد بالملاك.

بيان ذلك هو انه (قده) وان التزم بتصحيح الفرد المزاحم من العبادة بالملاك كما تقدم في بحث الضد ، إلا انه قال بعدم إمكان تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بالملاك ، وذلك لأن ملاك الأمر انما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن مزاحماً بالقبح الفاعلي ، وإلا فلا يكون صالحاً للتقرب ، فان صحة العبادة كما هي مشروطة بالحسن الفعلي ، بمعنى ان يكون الفعل في نفسه محبوبا وحسناً ليكون صالحاً للتقرب به إلى المولى كذلك هي مشروطة بالحسن الفاعلي بمعنى ان يكون إيجادها من الفاعل أيضاً حسنا والا لم تقع صحيحة والمفروض فيما نحن فيه ان إيجادها من الفاعل ليس كذلك ، لأن الصلاة والغصب بما انهما ممتزجان في الخارج بحيث لا تمكن الإشارة إلى ان هذه صلاة وذاك غصب ، فلا محالة يكونان متحدين في مقام الإيجاد والتأثير وموجودين بإيجاد واحد ، ضرورة ان المكلف بإيجاد الصلاة في الأرض المغصوبة أوجد امرين أحدهما الصلاة والآخر الغصب ، لا انه أوجد الصلاة فحسب. وعليه فلا محالة يكون موجدهما مرتكباً للقبيح في إيجاده ومعه يستحيل ان يكون الفعل الصادر منه مقربا له.

ونتيجة ما ذكرناه هي انه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع ، لا من ناحية الأمر لما عرفت من عدم انطباق المأمور به على هذا الفرد من جهة اختصاصه بالحصة المقدورة عقلا وشرعا ، وعدم انطباقه على الحصة غير المقدورة كما مر. ولا من ناحية الترتب ، لما عرفت من عدم جريانه في المقام. ولا من ناحية الملاك ، لما عرفت من القبح الفاعلي المانع من التقرب.

ولنأخذ بالمناقشة في جميع ما أفاده (قده).

٢١٩

اما ما ذكره من ان اعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هي باقتضاء نفس التكليف ذلك ، لا من ناحية حكم العقل ، فقد ذكرنا في بحث الضد انه غير تام وملخصه : هو ان ذلك مبنى على وجهة نظر المشهور من ان المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل الإرادي ، وحيث ان الطلب والبعث التشريعيين عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره وجعل الداعي له ، لأن يفعل في الخارج ويوجده ، فمن الطبيعي ان جعل الداعي لا يمكن إلا بالإضافة إلى خصوص الفعل الاختياري ، اذن نفس التكليف مقتض لاعتبار القدرة في متعلقه من دون حاجة إلى حكم العقل في ذلك.

ولكن قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر ، وكذا في بحث الإنشاء والاخبار ان ما هو المشهور من ان الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وان المنشأ بالصيغة هو الطلب والبعث لا أساس له أصلا. وقد تقدم الكلام هناك من هذه الناحية بشكل واضح. فلا نعيد.

فالصحيح هو ما ذكرناه من ان حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف أو اعتباره محروما عن الفعل وإبرازه في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو النهي أو ما شاكلها ، ولا نعقل للتكليف معنى ما عدا ذلك.

ومن الواضح جدا ان هذا الاعتبار لا يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم ، ضرورة انه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدورة وغير المقدورة على ذمة المكلف أصلا ، كما ان إبرازه في الخارج لا يقتضي ذلك ، بداهة انه ليس إلا مجرد إبراز اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ، وهذا أجنبي تماما عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.

فالنتيجة انه لا مقتضى من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه. واما العقل فقد ذكرنا انه لا يقتضي اعتبار القدرة إلا في ظرف الامتثال ، ولا

٢٢٠