محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

إلى افراد متعلقاتها ، فلا إشكال في جريان أصالة البراءة في موارد الشك في كون شيء فرداً لها أولا. واما على تقدير كونها مجعولة على نحو الارتباط والعموم المجموعي بالإضافة إلى افراد متعلقاتها ، فيقع جريان البراءة عن كون شيء جزء لها مورداً للكلام والإشكال بين الأصحاب. وان كان الصحيح أيضاً عدم الفرق بينهما بحسب النتيجة بناء على ما اخترناه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من جريان البراءة عن وجوب الأكثر الا ان هذا المقدار من الفرق ـ وهو كون جريان البراءة على التقدير الأول محل الوفاق بينهم ، وعلى التقدير الثاني محل الخلاف ـ كاف في المقام.

ومن هنا يظهر الفرق بين التروك المتعلقة للأمر الاستقلالي والتروك المتعلقة للأمر الضمني. فانها على التقدير الأول تفترق بين ما كانت مأخوذة في متعلق الأمر على نحو الانحلال والعام الاستغراقي وما كانت مأخوذة فيه على نحو الارتباط والعام المجموعي.

ويترتب على هذا الافتراق ان مورد الشك على الفرض الأول غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا يبتني القول بالرجوع إلى البراءة فيه على القول بالرجوع إلى البراءة في تلك المسألة ، بل ولو قلنا بالاحتياط فيها ، فمع ذلك نقول بالبراءة فيه ، لفرض ان الشك فيه شك في تكليف مستقل ، ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة. واما المشكوك فيه على الفرض الثاني فهو داخل في كبرى تلك المسألة ، وعليه فيبتني جواز الرجوع إلى البراءة فيه وعدمه على القول بجواز الرجوع إلى البراءة ، وعدمه في تلك المسألة.

واما على التقدير الثاني فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، فانها على كلا التقديرين داخلة في كبرى تلك المسألة وتكون من صغرياتها.

نعم بحسب النتيجة بناء على ما ذكرناه ـ من انه لا مانع من الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر في تلك المسألة ـ لا فرق في التروك

١٤١

المأخوذة في متعلق الوجوب على نحو الاستقلال ، بين كونها مأخوذة على نحو العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي ، فان النتيجة واحدة على كلا التقديرين وهي البراءة عن وجوب المشكوك فيه ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة ، وان كان فرق بينهما من جهة أخرى كما تقدم.

وعلى الصورة الرابعة (وهي ما كان المطلوب عنواناً بسيطاً متحصلا من التروك الخارجية) فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال دون البراءة على عكس الصورتين المتقدمتين. والوجه في ذلك هو ان الصلاة مثلا في هذه الصورة ليست متقيدة بنفس تروك الطبائع المزبورة في الخارج على الفرض ، بل هي متقيدة بعنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج ، فتكون تلك التروك محصلة للمطلوب ومقدمة لوجوده وتحققه فيه ، وليست بنفسها مطلوبة.

وعلى هذا فإذا شك في ثوب انه من اجزاء ما لا يؤكل أولا يرجع الشك فيه لا محالة إلى الشك في تحقق المطلوب وعدمه ، فيكون امر المحصل عندئذ دائرا بين الأقل والأكثر ومن المعلوم ان البراءة لا تجري هنا عن الأكثر ، لفرض انه لا أثر له شرعا والأثر الشرعي انما يترتب على ذلك العنوان البسيط المشكوك وجوده. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان ذمة المكلف قد اشتغلت بذلك العنوان يقيناً ، والمفروض ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين هي انه لا بد من الإتيان بالأكثر ، ليحصل القطع بحصول ذلك العنوان البسيط في الخارج ، ويقطع ببراءة ذمته عن التكليف المعلوم. وهذا بخلاف ما إذا اقتصر على إتيان خصوص الأقل في الخارج ، فانه لا يعلم عندئذ بحصول ذلك العنوان البسيط فيه ، ولا يقطع ببراءة ذمته عنه.

ومن هنا تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورتين المتقدمتين بناء على ما هو

١٤٢

الصحيح من جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم لو بنينا في تلك المسألة على عدم جريان البراءة وان المرجع فيها هو قاعدة الاشتغال لا غيرها فلا تظهر الثمرة وقتئذ بين هذه الصورة وهاتين الصورتين الا ان هذا الفرض خاطئ جدا وغير مطابق للواقع قطعاً ، كما تقدم ، فاذن تظهر الثمرة بينهما ، كما تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورة الأولى ، كما هو ظاهر هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

اما الكلام في مقام الإثبات والدلالة فلا بد من ملاحظة أدلة مانعية هذه الأمور وما شاكلها هل المستفاد منها مانعيتها على النحو الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع؟.

أقول : ينبغي لنا أولا ذكر جملة من الروايات الواردة في باب العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ثم نبحث عن ان المستفاد من تلك الروايات ما هو؟

اما الروايات الواردة في باب العبادات فنكتفي بذكر خصوص الروايات الواردة في باب الصلاة فحسب وهي كثيرة :

(منها) صحيحة محمد بن مسلم قال سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ قال عليه‌السلام «لا ولو دبغ سبعين مرة».

(ومنها) صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الميتة قال عليه‌السلام «لا تصل في شيء منه ولا في شسع».

(ومنها) موثقة سماعة قال سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال عليه‌السلام «اما لحومها فمن الطير والدواب فانا أكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئاً تصلون فيه».

(ومنها) موثقة ابن بكير قال سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم انه إملاء

١٤٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله ، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلى في غيره مما أحل الله أكله ، ثم قال يا زرارة هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحفظ ذلك يا زرارة ، فان كان مما يؤكل لحمه ، فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز ، إذا علمت انه ذكي وقد ذكاه الذابح ، وان كان ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله ، فالصلاة في كل شيء منه فاسد ذكاه الذابح أو لم يذكه.

(ومنها) قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن مسكان «يغسلها ويعيد صلاته».

(ومنها) قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم «إذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه».

ومنها قوله عليه‌السلام في صحيحة علي بن جعفر «وان اشتراه من نصراني فلا يصلى فيه حتى يغسله».

ومنها صحيحة إسماعيل بن سعد الأحوص في حديث قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام هل يصلي الرّجل في ثوب إبريسم فقال عليه‌السلام «لا».

ومنها قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن عبد الجبار «لا تحل الصلاة في حرير محض».

ومنها قوله عليه‌السلام في موثقة بن عمار بن موسى «لا يلبس الرّجل الذهب ولا يصلي فيه» ونحوها من الروايات الواردة في هذه الأبواب الدالة على مانعية هذه الأمور عن الصلاة ، وان الصلاة المأمور بها هي الحصة الخاصة منها وهي الحصة المتقيدة بعدم إيقاعها فيها.

واما الروايات الواردة في باب المعاملات فائضاً كثيرة.

١٤٤

منها ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال «ما كان من طعام سميت فيه كيلا فلا يصلح بيعه مجازفة».

ومنها ـ توقيعه عليه‌السلام في مكاتبة الصفار «لا يجوز بيع ما ليس يملك»

ومنها ـ قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم «لا تشترها إلا برضا أهلها»

ومنها ـ قوله عليه‌السلام في موثقة سماعة «لا يصلح الا ان يشتري معه (العبد الآبق) شيئاً آخر» وغيرها من الروايات الدالة على المنع عن بيع الخمر والبيع الربوي والبيع الغرري وبيع النقدين بدون التقابض في المجلس وبيع المجهول وبيع آلات القمار والغناء وبيع غير البالغ وما شاكل ذلك مما يعتبر عدمه في صحة المعاملة ، سواء أكان من أوصاف العوضين أم كان من أوصاف المتعاملين أم كان من غيرهما.

والحري بنا ان نقول في هذا المقام هو ان هذه النواهي جميعاً نواهي إرشادية فتكون إرشادا إلى مانعية هذه الأمور عن صحة العبادات والمعاملات ومبرزة لاعتبار عدمها فيهما ، وهذا معنى إرشادية تلك النواهي ، ضرورة ان إرشاديتها ليست كإرشادية الأوامر والنواهي الواردتين في باب الإطاعة والمعصية فانه لا أثر لهما ما عدا الإرشاد إلى ما استقل به العقل ، وهذا بخلاف تلك النواهي فانها إرشاد إلى حكم مولوي ومبرزة له ، وهو تقيد العبادة أو المعاملة بعدم هذا الشيء أو ذاك ، فيكون مرد ذلك إلى ان المطلوب هو حصة خاصة من العبادة أو ان الممضاة من المعاملة هي الحصة المتقيدة بعدم ما تعلق به النهي ، وتسمية هذه النواهي بالنواهي الإرشادية انما هي من جهة انها ليست بنواهي حقيقية ، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها ، باعتبار اشتمالها على مفسدة ملزمة لينتزع منها الزجر عنها ، ولتكون تلك النواهي عندئذ مصداقا له ، لفرض انه لا مفسدة فيها فلا شأن لها ما عدا كونها مبرزة لتقييد العبادة أو المعاملة بعدم شيء وإرشاداً إلى مانعيته.

١٤٥

كما ان الأوامر الواردة في هذه الأبواب سميت بأوامر إرشادية من ناحية انها ليست بأوامر حقيقية ، وانها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، ولا يترتب عليها ما عدا ذلك. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى انه لا شبهة في ظهور تلك النواهي في الانحلال وان مانعية هذه الأمور تنحل بانحلال افرادها ومصاديقها في الخارج ، فيكون كل فرد منها مانعاً مستقلا ، بمعنى ان عدم كل منها مأخوذ في عبادة أو معاملة على نحو الاستقلال. والوجه في ذلك هو انه لا إشكال في ان مانعية هذه الأمور على النحو الأول ـ بان يكون المطلوب صرف تركها في الصلاة أو نحوها ولو آنا ما ، ليكون لازمه هو كون المانع وجودها وتحققها في تمام آنات الاشتغال بها ، فلا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات دون بعضها الآخر ـ تحتاج إلى نصب قرينة تدل على إرادة مانعيتها على هذا الشكل وعناية زائدة ، والا فإطلاقات الأدلة لا تتكفل لإرادة المانعية على هذا النحو أصلا ، بل هي لا تخرج عن مجرد الفرض وكذا إرادة مانعية هذه الأمور على النحو الثالث تحتاج إلى عناية زائدة ضرورة ان الإطلاقات لا تتكفل لبيان تقييد الواجب بمجموع تروك هذه الطبائع على نحو العموم المجموعي ، ليكون لازم ذلك هو كون المانع صرف وجود هذه الطبائع في الخارج ، كيف فان مقتضى الإطلاق عدم الفرق في المانعية بين الوجود الأول والثاني والثالث .. وهكذا.

وكذا إرادة الصورة الرابعة ، ضرورة انها خلاف ظواهر الأدلة ، فان الظاهر منها هو كون تروك هذه الطبائع بنفسها قيداً ، لا انها مقدمة لحصول القيد في الخارج فان إرادة ذلك تحتاج إلى عناية أخرى وبيان من المتكلم.

ومن ناحية ثالثة المفروض ان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على إرادة الصورة الأولى ، ولا على إرادة الصورة الثالثة ، ولا على إرادة الصورة

١٤٦

الرابعة ، لما عرفت من ان إرادة كل واحدة من هذه الصور تحتاج إلى قرينة ومئونة زائدة.

ومن ناحية رابعة انه لم يعقل ان يراد من هذه النواهي ترك هذه الطبائع في ضمن فرد ما من افرادها العرضية والطولية حال الصلاة ، ضرورة انه حاصل قهراً ، فلا يمكن إرادته ، لأنها إرادة ما هو حاصل بالفعل ، وهي مستحيلة من الحكيم ، فاذن تنتج مقدمات الحكمة الإطلاق.

ومن ناحية خامسة قد ذكرنا سابقاً انه لا يترتب على مقدمات الحكمة ما عدا الإطلاق وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات ، واما كون الإطلاق بدلياً أو شمولياً أو غير ذلك ، فهو خارج عن مقتضى المقدمات ، ضرورة ان كون المتكلم في مقام البيان ، ورود الحكم على المقسم ، وعدم نصب قرينة على التقييد بصنف خاص دون آخر لا يقتضي الا إطلاق الحكم وعدم تقييده بحصة خاصة واما اختلاف الإطلاق من حيث الشمول والبدل والتعيين وما شاكل ذلك ، فهو من جهة القرائن الخارجية وخصوصيات المورد فانها تقتضي كون الإطلاق بدلياً في مورد ، وشمولياً في مورد آخر ، ومقتضيا التعيين في مورد ثالث.

فالنتيجة على ضوء هذه النواهي هي ان الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في المقام شمولي لا بدلي ، وذلك لقرينة خارجية وخصوصية المورد ، وتلك القرينة الخارجية هي فهم العرف ، ضرورة ان المرتكز في أذهانهم من مثل هذه النواهي هو الانحلال والشمول ، ومنشأ فهم العرف ذلك وكون هذا من مرتكزاتهم هو ما ذكرنا من ان إرادة بقية الصور من تلك النواهي تحتاج إلى مئونة أخرى خارجة عن عهدة الإطلاق. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ان إرادة ترك فرد ما من افرادها العرضية أو الطولية غير ممكنة ، كما عرفت. ومن جهة ثالثة ان القرينة لم تنصب على إرادة حصة خاصة منها.

١٤٧

فالنتيجة على ضوئها هي كون الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في هذه الموارد شمولياً وان كل فرد من افراد هذه الطبائع مانع مستقل ، فلا تكون مانعية هذا مربوطة بمانعية ذاك ، وعدم كل واحد منها مأخوذ في العبادة أو المعاملة على نحو الاستقلال والانحلال ، وهذا هو المتفاهم العرفي من هذه الروايات ضرورة انه لا فرق في نظر العرف بين الفرد الأول من النجس والفرد الثاني والثالث .. وهكذا في المانعية. وكذا لا فرق بين الفرد الأول من الميتة والفرد الثاني ، والفرد الأول مما لا يؤكل أو الحرير والفرد الثاني .. وهكذا.

وقد تحصل من ذلك ان المستفاد عرفا من إطلاق قوله عليه‌السلام «لا تصل في شيء منه ولا في شسع» وقوله عليه‌السلام «لا تحل الصلاة في حرير محض» ونحوهما هو الانحلال ، وان لبس كل فرد من افراد هذه الطبائع مانع عن الصلاة مستقلا ، وعدم الفرق بين الوجود الأول والثاني من هذه الناحية أصلا ، وهذا ظاهر.

وبكلمة أخرى ان حال هذه النواهي من هذه الجهة حال النواهي الحقيقية الاستقلالية ، فكما ان المتفاهم عرفا من إطلاق تلك النواهي هو العموم والشمول بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية ما لم تنصب قرينة على الخلاف ، فكذلك المتفاهم عرفا من إطلاق هذه النواهي هو العموم والشمول.

والسر في ذلك واضح وهو ان الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية لا محالة تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج. ومن الواضح انه لا فرق في ذلك بين الأحكام التحريمية والوجوبية ، فكما ان الأولى تنحل بانحلال موضوعها فيما إذا لم تنصب قرينة على خلافه ، فكذلك الثانية ـ مثلا ـ وجوب الحج المجعول للمستطيع في قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» على نحو القضية الحقيقية لا محالة ينحل بانحلال افراد المستطيع في الخارج ،

١٤٨

فيثبت لكل منها حكم مستقل. وكذا وجوب الصلاة المجعول للمكلف البالغ العاقل القادر الداخل عليه الوقت على نحو القضية الحقيقية ، فانه لا محالة ينحل بانحلال افراده. وكذا وجوب الزكاة المجعول لمن بلغ ماله حد النصاب على نحو القضية الحقيقية ، وهكذا ، فلا فرق من هذه الناحية بين الأحكام التحريمية والأحكام الوجوبية أصلا وانما الفرق بينهما في نقطة أخرى ، وهي ان الأحكام التحريمية ـ كما تنحل بانحلال موضوعها في الخارج فيما إذا كان لها موضوع ، كذلك ـ تنحل بانحلال افراد متعلقها فيه ، فالنهي عن سب المؤمن ـ مثلا ـ كما ينحل بتعدد افراد المؤمن في الخارج ، كذلك ينحل بانحلال افراد السب ، ويكون كل فرد منه محرما.

نعم قد يكون انحلال النهي بانحلال متعلقه وتعدده من ناحية تعدد موضوعه وانحلاله في الخارج ، لا في نفسه ، وذلك كشرب الخمر ـ مثلا ـ أو شرب النجس أو ما شاكل ذلك ، فانه يتعدد بتعدد افراد الخمر أو النجس خارجا لا في ذاته ، ضرورة ان فرداً واحدا منه غير قابل لأن يتعدد شربه ، بل له شرب واحد نعم يتعدد باعتبار تعدد الحالات والأزمنة ، لا في نفسه ، والمكلف في اعتبار الشارع محروم عن جميع افراد شربه في الخارج من العرضية والطولية.

وهذا بخلاف الأحكام الوجوبية ، فانها لا تنحل بانحلال افراد متعلقها في الخارج أصلا ، الا فيما إذا قامت قرينة من الخارج على الانحلال.

فالنتيجة هي ان الأوامر تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج فحسب ، ولا تنحل بانحلال متعلقاتها فيه. وهذا بخلاف النواهي ، فانها تنحل بانحلال موضوعاتها ومتعلقاتها معاً ، وفيما نحن فيه حيث ان مانعية لبس ما لا يؤكل والميتة والحرير والذهب والنجس وما شاكل ذلك في الصلاة جعلت لها على نحو القضية الحقيقية. فمن الطبيعي هو انها تنحل بانحلال افراد هذه الطبائع في الخارج ، فيكون لبس كل

١٤٩

فرد منها مانعاً مستقلا ، ولا تكون مانعيته مربوطة بمانعية الآخر .. وهكذا ، وهذا هو المتفاهم العرفي من كل قضية حقيقية من دون شبهة وخلاف.

وكذا لا شبهة في ظهور تلك النواهي في باب المعاملات بالمعنى الأعم في الانحلال ، ضرورة ان مانعية الغرر ـ مثلا ـ تنحل بانحلال افراد البيع في الخارج وكذا الجهل بالعوضين أو بأحدهما وما شاكل ذلك بعين الملاك المتقدم.

وقد يتخيل في المقام ان المفروض ان هذه النواهي ليست بنواهي حقيقية ، بل هي نواهي بحسب الصورة والشكل ، وفي الحقيقة أوامر ، غاية الأمر ان المولى أبرز تلك الأوامر بصورة النهي. وقد تقدم انه لا عبرة بالمبرز (بالكسر) أصلا ، والعبرة انما هي بالمبرز (بالفتح). هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد سبق ان نتيجة الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في طرف الأوامر هي العموم البدلي وصرف الوجود ، لا العموم الشمولي ومطلق الوجود.

فالنتيجة على ضوئهما هي انه لا بد ان يكون المطلوب في أمثال هذه الموارد هو تقيد العبادة أو المعاملة بصرف ترك هذه الأمور في الخارج ، وهو يتحقق بتركها آنا ما ، فاذن المتعين في هذه الموارد وما شاكلها هو إرادة الصورة الأولى من الصور المتقدمة لا غيرها ، وهي ما كان المطلوب تقييد الواجب بصرف ترك تلك الأمور خارجا.

وعلى الجملة فقد مر ان مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في طرف الأمر هو العموم البدلي وصرف الوجود بمقتضى الفهم العرفي. ومن المعلوم انه لا فرق في ذلك بين ان يكون الأمر متعلقاً بالفعل أو بالترك ، فاذن مقتضى الإطلاق في أمثال تلك الموارد أيضاً ذلك.

ولكن هذا الخيال خاطئ جدا وغير مطابق للواقع قطعاً. والوجه في ذلك ما تقدم من ان نتيجة مقدمات الحكمة ليست الا ثبوت الإطلاق واما كونه

١٥٠

شمولياً أو بدلياً فلا تدل مقدمات الحكمة على شيء من ذلك ، فاذن إثبات كون الإطلاق في المقام على النحو الأول أو الثاني يحتاج إلى قرينة خارجية تدل عليه هذا من جانب. ومن جانب آخر قد مر ان القرينة الخارجية قد دلت على ان الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في موارد الأمر المتعلق بالفعل والوجود بدلي وفي موارد النهي شمولي. ومن جانب ثالث ان الأمر إذا تعلق بترك طبيعة في الخارج ، فلا محالة لا يخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من ان المولى اما ان يريد ترك جميع افرادها في الخارج من العرضية والطولية سواء أكانت على نحو العموم المجموعي أو الاستغراقي ، أو ان يريد ترك فرد ما منها ، أو ان يريد ترك حصة خاصة منها دون أخرى ، أو ان يريد صرف تركها ، ولا خامس في البين. ومن جانب رابع انه لا شبهة في انه لا يمكن ان يراد من ذلك الفرض الثاني وهو ترك فرد ما منها ، لأنه حاصل ، وطلبه تحصيل للحاصل ، فلا يمكن ان يصدر من الحكيم ، وكذا لا يمكن ان يراد منه الفرض الثالث وهو ترك حصة خاصة منها ، لأن إرادته ، تحتاج إلى قرينة تدل عليها ، والمفروض انه لا قرينة هنا ، فاذن يدور الأمر بين ان يراد منه الفرض الأول ، وهو ان يكون المطلوب ترك جميع افرادها العرضية والطولية ، وان يراد منه الفرض الرابع وهو ان يكون المطلوب صرف تركها المتحقق بتركها آنا ما.

ومن الواضح جداً ان إرادة الفرض الرابع خلاف المتفاهم العرفي المرتكز في أذهانهم ، ضرورة ان المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام «لا تصل في شيء منه ولا في شسع» هو تركه في جميع آنات الاشتغال بها ، ولا يختلج في بالهم ان ان يكون المراد منه تركه حال الاشتغال بالصلاة آنا ما ، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بها. ومن المعلوم ان إرادة مثل هذا المعنى البعيد عن أذهان العرف تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه ، والا فلا يمكن إرادته من الإطلاق

١٥١

الثابت بمقدمات الحكمة.

فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الأربعة هي ان نتيجة مقدمات الحكمة ـ وهي الإطلاق ـ يختلف مقتضاها باختلاف موارد الأمر ، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاها الإطلاق البدلي ـ وصرف الوجود من جهة القرينة الخارجية ـ وهي فهم العرف من إطلاقه ذلك بعد ضميمة عدم إمكان إرادة إيجاد الطبيعة بجميع افرادها العرضية والطولية في الخارج ـ وفي موارد تعلقه بالترك كان مقتضاها الإطلاق الشمولي ومطلق الترك من جهة الفهم العرفي والقرينة الخارجية.

وعلى الجملة فقد عرفت ان نتيجة مقدمات الحكمة هي ثبوت الإطلاق فحسب وان مراد المولى مطلق من ناحية تبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت ، ولكن المتفاهم العرفي من هذا الإطلاق في موارد تعلق الأمر بالفعل هو الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، لأجل خصوصية فيه ، والمتفاهم العرفي من الإطلاق في موارد تعلقه بالترك هو الإطلاق الشمولي وعموم الترك كذلك أي من جهة خصوصية فيه ، ولأجل ذلك تفترق موارد تعلق الأمر بالفعل عن موارد تعلقه بالترك.

ثم انه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالفعل بين ان تكون أوامر استقلالية كالأمر بالصلاة والصوم وما شاكلهما ، وان تكون أوامر ضمنية كالأوامر المتعلقة باجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما مثل الأمر بالركوع والسجود والتكبيرة واستقبال القبلة والقيام والطهارة وما شاكلها. فكما ان المتفاهم العرفي من الإطلاق في موارد الأوامر الاستقلالية هو الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، فكذلك المتفاهم العرفي منه في موارد الأوامر الضمنية هو ذلك ، ضرورة ان المتفاهم العرفي من إطلاق قوله عليه‌السلام (اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه) هو كون المطلوب صرف وجود الغسل وتحققه في الخارج واعتبار خصوصية أخرى يحتاج إلى دليل خاص كاعتبار التعداد والمسح بالتراب ونحو ذلك ، فان كل هذا

١٥٢

خارج عن الإطلاق ، فلا يستفاد منه ، فان قام دليل من الخارج على اعتباره بالخصوص نأخذ به ، وإلا فلا نقول به ، وكذا الحال في مثل الأمر بالركوع والسجود ونحوهما ، فان المتفاهم منه عرفا هو كون المطلوب صرف الوجود لا مطلق الوجود وهذا واضح ، كما انه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالترك بين ان تكون استقلالية أو ضمنية من هذه الناحية أصلا.

وقد تحصل من ذلك أمور.

الأول ـ ان كون الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في مورد بدلياً وفي مورد آخر شمولياً ليس ما تقتضيه نفس المقدمات ، فان ما تقتضيه المقدمات هو ثبوت الإطلاق في مقام الإثبات الكاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت ، واما كونه بدلياً أو شمولياً فخارج عما تقتضيه المقدمات بالكلية ، بل هو تابع لخصوصيات الموارد ، ويختلف باختلافها.

الثاني ـ ان مقتضى الإطلاق في طرف الأمر ليس هو الإطلاق البدلي مطلقاً وفي تمام موارده ، بل هو يختلف باختلاف تلك الموارد ، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاه بدليا الا إذا قامت قرينة من الخارج على خلافه ، وفي موارد تعلقه بالترك كان شمولياً.

الثالث ـ انه لا فرق في ذلك بين ان يكون الأمر المتعلق بالترك امراً ضمنياً ، وان يكون امرا استقلالياً ، فكما ان مقتضى الإطلاق في الأول من جهة الفهم العرفي هو العموم والشمول ، فكذلك مقتضى الإطلاق في الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، كما انه لا فرق في الأمر المتعلق بالفعل بين ان يكون امرا استقلالياً كالأمر بالصلاة والصوم وما شابه ذلك ، وان يكون امراً ضمنياً كالأوامر المتعلقة بالعبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ، فكما ان المتفاهم عرفا من الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في الأول هو العموم البدلي وصرف الوجود

١٥٣

فكذلك المتفاهم عرفا من الإطلاق الثابت بها في الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

الرابع ـ ان نتيجة الإطلاق عرفا في هذه الموارد ـ أعني موارد النهي عن العبادات والمعاملات ـ هو العموم الانحلالي دون العموم المجموعي ، لأن إرادته تحتاج إلى مئونة زائدة فلا يتكفل الإطلاق لبيانه ..

فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن ان مقتضى إطلاق هذه النواهي هو تقييد العبادات ـ كالصلاة مثلا ـ والمعاملات بترك كل فرد من افراد هذه الطبائع في الخارج من العرضية والطولية.

وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح انه لا شبهة في وجوب التقليل في افراد هذه الموانع والاقتصار على مقدار الضرورة.

نعم لو كان المستفاد من تلك الأدلة هو الصورة الثالثة أو الرابعة لم يجب التقليل والاقتصار على قدر الضرورة ، كما مر. ولكن عرفت ان المستفاد منها عرفا هو الصورة الثانية مطلقاً أي في العبادات والمعاملات من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، بل الحال في المعاملات أوضح ، ضرورة انه لا يحتمل ان يكون الجهل ـ مثلا ـ بأحد العوضين أو بهما معاً مانعاً عن صحة المعاملة في مورد واحد .. وهكذا.

ومن هنا يظهر ان ما أفاده السيد العلامة الطباطبائي (قده) في العروة من وجوب التقليل بالمقدار الممكن والاقتصار على ما تقتضيه الضرورة هو الصحيح ولا مناص عنه ، الا ان ما أفاده (قده) ـ من لزوم التقليل حكما فضلا عن التقليل موضوعا ـ لا يتم صغرى وكبرى ، كما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.

نعم لو قلنا بالتزاحم في أمثال هذه الموارد دون التعارض من ناحية ، وسلمنا اتصاف النجاسة من هذه الجهة بالشدة والضعف من ناحية أخرى ، فعندئذ لو دار

١٥٤

الأمر بين إزالة الفرد الشديد وإزالة الفرد الضعيف ، لكان اللازم هو تقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف. لأن إزالته أهم من إزالته ، ولا أقل من احتمال كونها أهم منها ، وهذا يكفي للتقديم في مقام المزاحمة.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بكون هذه الموارد داخلة في كبرى باب التعارض فانه عندئذ لا وجه لتقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف في مقام المعارضة أصلا ، وذلك لفرض انه لا فرق بينهما في أصل المانعية بالنظر إلى الأدلة ولا تكون شدته زيادة فيها. وعليه ففي مثل هذا الفرض نعلم إجمالا بجعل الشارع أحدهما مانعاً ، فاذن لا بد من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، فان كان الدليل على أحدهما لفظياً ، والدليل على الآخر لبيا يتقدم الأول على الثاني ، لفرض ان المتيقن من الثاني هو غير هذا المورد ، فلا يشمل مثله ، وان كان كلاهما لفظيا فان كان التعارض بينهما بالإطلاق يسقطان معاً ، فلا بد عندئذ من الرجوع في هذا المورد إلى الأصل فيه ، الا إذا كان إطلاق أحدهما من الكتاب أو السنة ، وإطلاق الآخر من غيرهما ، فيتقدم الأول على الثاني ، وذلك لما استظهرناه من ان الروايات الدالة على طرح الاخبار المخالفة للكتاب أو السنة تشمل المخالفة بالإطلاق أيضاً ، فاذن لا يكون هذا الإطلاق حجة في نفسه مع قطع النّظر عن المعارضة في مقابل إطلاق الكتاب أو السنة. وان كان التعارض بينهما بالعموم فعندئذ لا بد من الرجوع إلى قواعد ومرجحات باب المعارضة ، وان كان أحد الدليلين مطلقاً والآخر عاما فيتقدم العام على المطلق ، لأنه يصلح ان يكون بياناً للأول دون العكس. وان كان كلاهما لبياً فلا بد وقتئذ من الرجوع إلى دليل آخر من أصل لفظي أو عملي لفرض ان المتيقن منهما غير هذا الفرض ، فلا إجماع فيه لا على مانعية هذا ولا على مانعية ذاك ، كما هو ظاهر.

نتائج ما ذكرناه لحد الآن عدة نقاط :

١٥٥

الأولى ـ ان النهي عن فعل غالباً ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيه ، ولا ينشأ عن مصلحة إلزامية في تركه والا لكان تركه واجباً لا فعله محرماً وهذا خلف والأمر به ينشأ غالباً عن قيام مصلحة ملزمة في فعله ، لا عن قيام مفسدة كذلك في تركه ، والا لكان تركه محرما لا فعله واجباً.

الثانية ـ ان الأمر ـ كما يتعلق بالفعل باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيه فيكون ذلك الفعل واجباً. سواء أكان وجوبه ضمنياً أم استقلالياً ـ قد يتعلق بالترك كذلك أي باعتبار وجود مصلحة ملزمة فيه ، فيكون ذلك الترك واجباً سواء أكان وجوبه استقلالياً أم ضمنياً.

الثالثة ـ ان النواهي الواردة في أبواب العبادات جميعاً نواهي إرشادية فتكون إرشادا إلى مانعية أشياء ، كالقهقهة والحدث والتكلم ولبس ما لا يؤكل والنجس والميتة والحرير والذهب وما شاكل ذلك ، وليست تلك النواهي بنواهي حقيقية ناشئة عن قيام مفسدة ملزمة فيها ، ضرورة انه لا مفسدة فيها أبداً ، بل مصلحة ملزمة في تقيد الصلاة بعدم هذه الأمور.

ولعل النكتة في التعبير عن هذا التقييد بالنهي في مقام الإثبات ، لا بالأمر انما هي اعتبار للشارع كون المكلف محروما عن هذه الأمور حال الصلاة ولأجل ذلك أبرزه بالنهي الدال على ذلك. ولكن بما ان هذا الاعتبار لم ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيها ، بل هو ناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في هذا التقييد ومن ثم يكون مرده إلى اعتبار حصة خاصة من الصلاة ، وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الأمور في ذمة المكلف ، فلأجل ذلك يكون هذا نهياً بحسب الصورة وللشكل ، لا بحسب الواقع والحقيقة.

ومما يدل على كون هذه النواهي إرشادية لا حقيقية وجود هذه النواهي في المعاملات بالمعنى الأعم ، ولا شبهة في كون تلك النواهي هناك نواهي إرشادية

١٥٦

إلى مانعية ما تعلق به النهي كالغرر ونحوه ، وليست هي بنواهي حقيقية ، ضرورة ان بيع الغرر وما شاكل ذلك ليس من المحرمات في الشريعة المقدسة ، فالنهي عنه إرشاد إلى فساده.

نعم قد تكون المعاملة محرمة بنفسها كالمعاملة الربوية ، ولكن من المعلوم ان حرمتها ليست من ناحية هذا النهي ، بل هي من جهة دليل آخر يدل عليها ولذا قلنا ان حرمتها لا تستلزم فسادها ، ففسادها انما هو من ناحية هذا النهي ، لا من ناحية النهي الدال على حرمتها. ونظير ذلك في العبادات أيضاً موجود وهو لبس الحرير ، فانه حرام على الرّجال مطلقاً أي سواء أكان في حال الصلاة أم كان في غيره ، ومانع عن الصلاة أيضاً ، ولكن من الواضح جداً ان حرمته الذاتيّة غير مستفادة من النهي عن لبسه حال الصلاة ، ضرورة ان هذا النهي لا يكون الا إرشاداً إلى مانعيته عنها ، ولا يدل على حرمته أصلا ، وحاله من هذه الناحية حال النهي عن بقية الموانع حال الصلاة ، بل لا بد من استفادتها من دليل آخر أو من قرينة خارجية ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك يظهر حال الأوامر الواردة في أبواب العبادات بشتى اشكالها ، انها أوامر إرشادية ، فتكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية ، كالأمر بالركوع والسجود والقيام واستقبال القبلة والطهور وما شاكلها ، فانها إرشاد إلى جزئية الركوع والسجود للصلاة ، وشرطية القيام والاستقبال والطهور لها.

ومما يؤكد ذلك وجود هذه الأوامر في أبواب المعاملات ، فانه لا إشكال في كون تلك الأوامر هناك إرشادية ، ضرورة ان مثل قوله عليه‌السلام : (اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل) أو نحوه لا يحتمل فيه غير الإرشاد إلى نجاسة الأبوال ، وان المطهر للثوب المتنجس بها هو الغسل .. وهكذا الحال في بقية الأوامر الواردة فيها.

١٥٧

الرابعة ـ ان التروك المأخوذة في متعلق الأمر (مرة) تكون مأخوذة على نحو الاستقلال ـ بأن تكون تلك التروك واجبة بوجوب استقلالي (ومرة أخرى) تكون مأخوذة على نحو القيدية ـ بأن تكون واجبة بوجوب ضمني ـ فالقسم الأول وقوعه في الشريعة في غاية القلة ، واما القسم الثاني فهو في غاية الكثرة في باب العبادات والمعاملات ، كما ان الوجودات المأخوذة في متعلق الأمر (مرة) تكون على نحو الاستقلال ، (وأخرى) على نحو القيدية والجزئية ، والأول كالصلاة والصوم وما شاكلها ، والثاني كالركوع والسجود والقيام والطهور ونحوها ، وكلا هذين القسمين كثير في الشريعة في باب العبادات والمعاملات ، كما هو واضح.

الخامسة ـ ان هذا الترك مأمور به سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أم صيغة النهي ، لما عرفت من انه لا شأن للمبرز (بالكسر) أصلا ، وانما العبرة بالمبرز (بالفتح).

السادسة ـ ان التروك المأخوذة في متعلق الأمر بكلا قسميها من الاستقلالي والضمني تتصور في مقام الثبوت والواقع على صور أربع. وقد تقدم ان الثمرة تظهر بين هذه الصور في موردين : أحدهما في مورد الاضطرار والإكراه. الثاني في مورد الشك كما سبق.

السابعة ـ ان وجوب التقليل في افراد المانع بالمقدار الممكن والاقتصار على قدر الضرورة يرتكز على القول بالانحلال في المسألة دون بقية الأقوال ، كما انه على هذا القول انما يجب التقليل فيها بحسب الكم دون الكيف على تقدير تسليم اختلافها فيه ، كما تقدم.

الثامنة ـ ان الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال ـ في موارد التروك المتعلقة للأمر الضمني عند الشك ـ يبتنى على ان لا يكون هناك أصل موضوعي ـ مثلا جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في مسألة اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل أو

١٥٨

الحرير أو الذهب يبتني على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتيّ بالتقريب المتقدم ، والا فلا موضوع له.

التاسعة ـ ان جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه مع قطع النّظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي أو النعتيّ يرتكز على القول بجريان أصالة البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا على انحلال المانعية أو عدم انحلالها.

العاشرة ـ ان المستفاد من الأدلة في مقام الإثبات في باب العبادات والمعاملات هو الصورة الثانية وهي انحلال مانعية هذه الطبائع بانحلال افرادها في الخارج وان تلك الأدلة إرشاد إلى مانعية كل فرد من افرادها العرضية والطولية ، فان إرادة بقية الصور منها تحتاج إلى بيان زائد من المتكلم وقرينة أخرى ، وفي فرض عدمها كانت إرادة هذه الصورة متعينة.

(الجهة الثالثة) ـ قد تقدم سابقاً ان الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في طرف النهي كما انه يستدعي بمقتضى الفهم العرفي العموم بالإضافة إلى الافراد العرضية كذلك يستدعي العموم بالإضافة إلى الافراد الطولية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، ضرورة ان إطلاق النهي في مقام الإثبات وعدم تقييد المنهي عنه بحصة خاصة دون أخرى وبزمان معين دون آخر ، كما انه كاشف عن الإطلاق والعموم في مقام الثبوت والواقع بالإضافة إلى الافراد العرضية ، كذلك هو كاشف عنه فيه بالإضافة إلى الافراد الطولية ، لتبعية مقام الإثبات للثبوت. إلا ان العموم في متعلق الأمر يكون بدلياً كما عرفت. وقد يكون مجموعياً ، كما انه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعياً من جهة ، ومثال الأول قوله تعالى «أوفوا بالعقود» ومثال الثاني قوله تعالى «أحل الله البيع» «وتجارة عن تراض» ونحوهما مما دل على حكم وضعي كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها فان المستفاد عرفا من إطلاق الآية الأولى وان كان هو العموم الاستغراقي

١٥٩

بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية من العقد ، ضرورة انه يثبت لكل فرد من افراد العقد وجوب الوفاء على نحو الاستقلال ، فلا يكون وجوب الوفاء بهذا الفرد من العقد مربوطا بفرد آخر .. وهكذا ، وهذا واضح. ولكن المستفاد منه عرفا بالإضافة إلى الوفاء الّذي تعلق به الأمر هو العموم المجموعي ، لا الاستغراقي لوضوح ان الوجوب الثابت للوفاء بكل فرد من افراد العقد في جميع الآنات والأزمنة وجوب واحد مستمر ، وليس الثابت في كل آن وزمان وجوباً غير وجوب الوفاء الثابت له في زمان آخر.

وكذا المستفاد عرفا من إطلاق الآية الثانية والثالثة وان كان هو العموم الاستغراقي بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية من البيع والتجارة ، الا ان الحلية الثابتة لكل فرد من افراد البيع في جميع الآنات والأزمنة حلية واحدة مستمرة ، وليس الثابت له في كل آن وزمان حلية غير الحلية الثابتة له في آن آخر وزمان ثان .. وهكذا ، ضرورة ان ثبوت الحلية له في كل آن وزمان لغو محض وكذا الحال في الطهارة والنجاسة ونحوهما فان الطهارة الثابتة لشيء في جميع الآنات والأزمنة طهارة واحدة مستمرة وليس الثابت له في كل آن طهارة واحدة وهكذا الأمر في النجاسة وغيرها.

وهذا بخلاف الإطلاق في طرف النهي فان المتفاهم العرفي منه كما انه ثبوت الحرمة لكل فرد من افراد المنهي عنه ، كذلك ثبوت الحرمة له في كل زمان من الأزمنة وآن من الآنات ، كما تقدم بشكل واضح.

ولكن لشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام ، وهو ان انحلال النهي بالإضافة إلى الافراد العرضية انما هو من جهة أخذ ترك الطبيعة حال تعلق الطلب به فانيا في معنوناته التي هي عبارة عن ترك كل واحد من تلك الافراد الخارجية. واما انحلاله بالإضافة إلى الافراد الطولية فهو انما يمكن بأحد وجهين :

١٦٠