جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

منه بعينه فتدعه (١).

وما روي في الصّحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) عن شراء الخيانه والسّرقة قال : لا الّا ان يكون قد اختلط معه غيره وامّا السّرقة بعينها فلا (٢).

وما ورد في موثّقة [اسحاق بن] عمّار من جواز الاشتراء عن العامل الّذي يظلم مالم يعلم انّه ظلم فيه أحداً (٣).

وما ورد ايضاً من جواز الاشتراء من العامل الّذي يعلم انّه يأخذ اكثر من الحقّ حتى تعرف الحرام بعينه (٤).

ولقد نطق بالحقّ السيّد السنّد حيث قال بعد قول المصنّف : وإذا كانت النّجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه وجهل موضع النّجاسة لم يسجد على شيء منه ـ الى آخره ـ :

هذا الحكم مقطوع به في كلام الاصحاب ، واحتجّوا عليه بأنّ المشتبه بالنّجس قد امتنع فيه التمسّك باصالة الطهارة للقطع بحصول النّجاسة فيما وقع فيه الاشتباه فيكون حكمه حكم النّجس في انّه لا يجوز السّجود عليه ولا الانتفاع به في شيء يشترط فيه الطّهارة. وفيه نظر.

امّا اوّلاً : فلانّ أصالة الطّهارة انّما امتنع التمسّك بها بالنّسبة إلى

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣١٣.

(٢) الوسائل ١٧ / ٩٠ و ٣٣٥.

(٣) الكافي ٥ / ٢٢٨. الوسائل ١٧ / ٢٢١.

(٤) الوسائل ١٧ / ٢١٩.

١٦١

مجموع ما وقع فيه الاشتباه لا في كلا جزء من اجزائه فانّ اي جزء فرض من الاجزاء الّتي وقع فيها الاشتباه مشكوك في نجاسته بعد ان كان متيقّن الطّهارة ، واليقين انّما يخرج عنه بيقين مثله وقد روى زرارة في الصّحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) انّه قال : ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشكّ ابداً (١).

وامّا ثانياً فلانّ ذلك آتٍ بعينه في غير المحصور فلو تمّ لا قتضى عدم جواز الانتفاع به فيما يفتقر إلى الطهارة وهو معلوم البطلان.

ومن العجب ذهاب بعض الاصحاب إلى بقاء الملاقي لبعض المحلّ المشتبه من المحصور على الطّهارة لعدم القطع بملاقاة النّجاسة واطباقهم على المنع من السجود عليه مع انتفاء ما يدلّ على طهارة محلّ السّجود كما بينّاه فيما سبق. وبالجملة فالمتّجه جواز السّجود على مالم يعلم نجاسته بعينه وعدم نجاسة الملاقي له تمسّكاً بمقتضى الأصل السّالم من المعارض ـ انتهى ـ (٢).

وقال رحمه‌الله ايضاً بعد قول المصنّف ويجوز في المواضع المتّسعة «دفعاً للمشقّة» ـ الى آخره ـ.

اشار بقوله : دفعاً للمشقّة إلى انتفاء النّص على الفرق بين المواضع المتّسعة وغيرها وان عدم وجوب الاجتناب في المواضع المتّسعة انّما هو

__________________

(١) الوسائل ٣ / ٤٦٦ نقلاً عن التهذيب والاستبصار.

(٢) مدارك الأحكام ، الطبع الحجري ص ٣٨ ، من كتاب الصلاة.

١٦٢

للمشقّة اللّازمة من التكليف باجتنابه ، ويشكل بانتفاء المشقّة في كثير من الصّور ، وبانّ الدّليل المتقدّم الدّال على وجوب الاجتناب في المحصورات [جارٍ] في غيره كما بيّناه والمشقّة بمجرّدها لا يقتضي طهارة ما دلّ الدّليل على نجاسته.

والّذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره وانّه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه.

ثمّ ان قلنا بالفرق فالمراد بغير المحصور ما كان كذلك في العادة بمعنى تعسّر حصره وعدّه لا ما امتنع حصر ، لانّ كلّ ما يوجد من الاعداد هو قابل للعدّ والحصر. والله تعالى اعلم ـ انتهى كلامه رفع مقامه ـ (١).

وهو جيّد غاية الجودة ومتين غاية المتانة.

__________________

(١) مدارك الأحكام الطبع الحجرى ص ٣٨ من كتاب الصلاة.

١٦٣
١٦٤

الفصل الرابع

في إستصحاب حال العقل

اعلم ايّدك الله بتأئيده وجعلك من خلّص عبيده انّ من الامور الّتي لا ينبغي ان يشكّ فيها اولوا البصائر ان كلّ ممكن من الممكنات وان شئت قلت ان كلّ حادث من الحوادث مسبوق بالعدم وهذه المسبوقيّة امر يقيني فكلّ شيء يثبت انّه حادث يثبت له العدم السّابق عليه ايضاً وهذا معنى كون العدم اصلاً بالنّسبة إلى الحادث.

ثمّ لا يخفى انّ الاعدام ثابتة للممكنات إلى ان يثبت علّة الوجود ويخرجها من العدميّة الصّرفة والليسيّة المحضة إلى الموجودية الخارجيّة والايسيّة العينيّة.

فإذا حصل العلم بأنّ علّة من العلل الوجوديّة اوجد معدوماً من

١٦٥

معلولاته يحصل الجزم بأنّ عدمه الّذي كان ازليّاً متسمرّاً زال وانقلب إلى الوجود ولا كلام فيه. وكذا إذا حصل العلم بأنّ علّة وجود المعدوم الكذائي لم يثبت يحصل الجزم ببقائه على عدمه المستمرّ الّذي كان ثابتاً له ولا كلام فيه ايضاً.

انّما الكلام في انّه إذا حصل الشكّ في وجود حادث من الحوادث فهل يصحّ لنا الحكم بعدم وجوده بناء على انّ عدمه السّابق الثابت له امر قطعي يقيني فوجوده امر مشكوك أم لا يصحّ لنا الحكم بذلك بناء على امكان حدوثه من علّته وعدم اطّلاعنا على ذلك.

اقول : طريق الاستدلال بإستصحاب حال العقل هو ان يقال : العدم كان متحقّقاً لهذا الحادث والأصل استمراره إلى هذا الآن وهذا الاستدلال مركّب من جزئين.

احدهما : تحقّق العدم لهذا الحادث وهو امر يقيني لا كلام فيه.

وثانيهما : ابقاء هذا العدم إلى هذا الآن.

ويمكن اثبات هذا الجزء بامرين ، ان كان الحادث المقصود نفيه حكماً من الاحكام الشرعيّة وجوباً كان أو استحباباً أو حرمة أو كراهة أو اباحة :

احدهما : الاخبار الكثيرة المستفيضة الدّالّة على انّ اليقين لا يترك بالشكّ ، بل لا يزول اليقين الّا بيقين مثله. ولا شكّ ان عدم هذا الحكم كان يقينيّاً فلا يقاومه الشكّ في امكان وجوده ، وسيمرّ بك ان شاء الله العزيز

١٦٦

شطر من هذه الاخبار وما يتعلّق بها من القيل والقال في إستصحاب حال الشرع.

وثانيهما : انّه لا شكّ انّ عدم هذا الحكم كان ثابتاً متحقّقاً فصدور هذا الحكم من الشارع وتكليفه النّاس به يحتاج إلى الاعلام والّا لزم تكليف مالا يطاق والتكليف بما لا يعلم وهو باطل كما عرفت من الآيات والاخبار والادلّة العقليّة فالفقيه إذا تفحّص الأدلّة العقليّة وتتبّع الامارات ولم يجد مستند شرعيّاً لاثبات حكم من الاحكام الشرعيّة فيصحّ له الحكم بأنّ الأصل بقاء عدمه إلى الآن والّا لزم تكليف ما لا يطاق.

ثمّ انّ هذا الحكم ان كان ما يعمّ به البلوى فيصحّ له الحكم بعدمه في الواقع ونفس الامر لانّه لا شكّ انّ جمعاً كثيراً غاية الكثرة كانوا ملازمين لائمّتنا صلوات الله عليهم اجمعين في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة وكان اهتمامهم واهتمام الائمّة (عليهم‌السلام) بيان المسائل الشرعيّة واظهار الاحكام الالهيّة. وقد نقل المحقّق (قدس‌سره) في المعتبر أنّ تلامذة الصّادق صلوات الله وسلامه عليه كانوا اربعة آلاف رجل (١) ومع ذلك إذا لم يجد الفقيه بعد تفحّصه وتجسّسه دليلاً على ثبوت حكم من الاحكام الّتي يعمّ بها البلوى يحصل له الظنّ المتاخم للعلم بأنّ هذا الحكم معدوم في الواقع والّا لاشتهر وذاع وذلك في مثل وجوب قصد سورة معيّنة عند البسملة

__________________

(١) المعتبر ص ٥ الطبع الحجري وهذه عبارته : وروي عنه من الرجال ما يقارب اربعة الاف رجل ...

١٦٧

ووجوب نيّة الخروج ، فإنّ الفقيه إذا تتبّع الادلّة الشّرعيّة وتفحّص الامارات النقليّة ولم يجد مستنداً على هذين الوجوبين مع عموم البلوى بهما ووجوب احتياج النّاس اليهما يصحّ له الحكم بعدم هذين الوجوبين في الواقع ونفس الامر.

وامّا إذا لم يكن الحكم ممّا يعمّ به البلوى فلا يصحّ الحكم بعدمه في الواقع ونفس الامر ، بل عدم الدّليل بعد الفحص يدلّ على براءة ذمّتنا عنه وعدم تكليفنا به وان امكن ان يكون في الواقع ونفس الامر واجباً أو غيره من الاحكام الخمسة ، وذلك لما عرفت من انّ لكلّ واقعة من الوقائع ولكلّ مسألة من المسائل حكماً واقعياً عند ائمّتنا الراشدين صلوات الله عليهم اجمعين الّا أنّهم (عليهم‌السلام) لم يتمكّنوا من اظهار الجميع للتقيّة والخوف ، فيمكن ان يكون هذا الحكم عند الائمّة (عليهم‌السلام) واجباً أو غيره من الاحكام الخمسة الّا انّه لم يبلغنا ، ولكن لاجل عدم البلوغ الينا لسنا مكلّفين به لقبح التكليف بما لا يعلمه المكلّفون.

ويدلّ على هذا القسم من الإستصحاب الادلّة الدّالة على أصل البراءة لانّه إذا ثبت انّ الأصل براءة الذمّة من الوجوب والحرمة يثبت ايضاً انّ عدمها مستصحب.

ولكن جريان هذه الادلّة انّما يكون في صورة يكون الحادث الّذي نريد نفيه بالإستصحاب حكماً من الاحكام الشرعيّة وامّا إذا لم يكن حكماً شرعيّاً.

١٦٨

فإن كان من متعلّقات الحكم الشرعي كالنقل في قولنا الأصل عدم النّقل فيجري فيه الادلّة المذكورة ايضاً كما لا يخفى لانّ ثبوت النقل مثلاً مستلزم لثبوت حكم شرعي وهو منفيّ بالادلّة المذكورة.

وامّا إذا لم يكن من متعلّقات الحكم الشرعي ايضاً بل كان الحادث من الحوادث الّتي ليست حكماً شرعيّاً ولا من متعلّقاته ، كما إذا وقع الشكّ في انّه هل حدثت الواقعة الفلانيّة في البلدة الفلانيّة؟ فالواقعة الفلانيّة من الحوادث الّتي لا دخل لها بالاحكام الشرعيّة ، فلا ريب انّه لا يمكن نفي هذه الواقعة بالإستصحاب لانّ الادلّة المذكورة لا يجري فيه ، لانّ مبنى الادلّة المذكورة على نفي التكليف أو ما يستلزمه.

ولا يوجد دليل عقلي يدلّ على ذلك لانّ غاية ما يمكن ان يستدلّ به ان يقال : انّ عدم هذا الحادث يقينيىّ ووجوده مشكوك والشكّ لا يقاوم اليقين.

وفيه انّ وجوده إذا صار مشكوكاً يصير عدمه في الآن ايضاً مشكوكاً وان كان عدمه السّابق يقينيّاً ، فلا يمكن ابقاء العدم السّابق على ما كان.

١٦٩
١٧٠

الفصل الخامس

في استصحاب حال الشرع

وقد علمت أنّه عبارة عن ابقاء حكم ثبت من جانب الشريعة على ما كان.

وفي هذا الفصل ابحاث :

البحث الاوّل

في نقل الاقوال والاشارة إلى ما هو الحقّ.

اعلم انّه قد اختلف في حجيّة الإستصحاب ففيه اقوال :

الاوّل : انّه حجّة مطلقاً ذهب إليه اكثر المحقّقين من الخاصّة والعامّة كالشيخ المفيد والعلامّة من الخاصّة والغزالي والمزني والصيرفي من العامّة بل ذهب إليه الشافعيّة قاطبة.

١٧١

الثاني : انّه ليس بحجّة مطلقاً ذهب إليه سيّدنا المرتضى رضي الله عنه وإليه ذهب أبوالحسين البصري واكثر الحنفيّة.

والعجب انّ بعض اصحابنا (١) نسب الثاني إلى الأكثر مع انّ الامر بالعكس كما لا يخفى على المتتبّع.

قال زين المحقّقين طاب ثراه في التمهيد : إستصحاب الحال حجّة عند الاكثر (٢).

وقال ابن الحاجب : الإستصحاب ، الاكثر كالمزني والصيرفي والغزالي على حجيّته.

وقال الشارح العضدي : اكثر المحقّقين كالمزني والصيرفي والعزالي على حجيّته (٣).

وقال صاحب المعالم : وهو ـ يعني حجيّته ـ اختيار الاكثر (٤).

وقد شهد بذلك جمع اخر من المتتبعين المتطلعين ، فكلام هؤلاء المتفحصين مع التتّبع الصّادق والتفحّص اللائق يعطي بأنّ القول بحجيّة الإستصحاب مما ذهب إليه الاكثر.

الثالث : ما ذهب إليه الفاضل النحرير صاحب الذخيرة وهو ـ كما اشرنا

__________________

(١) وهو الفاضل التوني في الوافية ص ٢٠٠.

(٢) تمهيد القواعد ص ٢٧١ وفيه : عند اكثر المحققين.

(٣) راجع الوافية ذيل ص ٢٠٠.

(٤) معالم الدين ص ٥٢٠ طبع ١٤١٤.

١٧٢

إليه قبل ذلك ـ انّ الإستصحاب الّذي ثبت حجيّته انّما هو في صورة حصل الشكّ في وجود المزيل القطعي دون ما إذا حصل الشكّ في كون الشيء مزيلاً مع اليقين بوجوده ، وغرضه (قدس‌سره) انّ الإستصحاب الّذي حجّة هو الإستصحاب في موضوع الحكم الشرعي دون الإستصحاب في نفس الحكم الشرعي.

الرابع : ما ذهب إليه افضل المتأخرين اعني المحقّق الخوانساري في شرح الدّروس وهو انّ الإستصحاب الّذي حجّة هو ان يكون دليل شرعي على انّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلاً معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء اصلاً ، فحينئذٍ إذا حصل ذلك الحكم يحكم باستمراره إلى ان يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده ـ انتهى ـ (١).

وغرضه (قدس‌سره) انّ الإستصحاب الّذي ثبت حجيّته هو ما إذا كان الحكم مغيّى بغاية معيّنة من وقت معْيّن أو حالة معيّنة ووقع الشكّ في حدوث تلك الغاية فيحكم بنفي تلك الغاية وثبوت الحكم بالإستصحاب وفيما سوى ذلك من الاحكام الشرعيّة لا يمكن اثباته بالإستصحاب.

الخامس : ما ذهب إليه الفاضل التوني في الوافية وهو انّه لا يمكن اجراء الإستصحاب في الاحكام الشرعيّة وانّما يجري الإستصحاب في

__________________

(١) شرح الدروس ص ٧٦ ذيل قول المصنّف : ويجزي حجر ذوالجهات الثلاث (في الاستنجاء)

١٧٣

بعض الاحكام الوضعيّة وبتبعيّتها يجري في الاحكام الشّرعيّة (١).

فهذه هي الاقوال الّتي وصلت الينا في هذه المسألة.

والحقّ على ما ثبت عندي الحجيّة مطلقاً الّا انّ حجيّته في بعض المواضع الّتي يجري فيها الإستصحاب على سبيل الجزم وفي بعضها على سبيل الظنّ.

بيان ذلك انّ العمدة في ادلّة الإستصحاب امران :

الاوّل : الاخبار الكثيرة المستفيضة الواردة بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

والثاني : احتياج شغل الذمّة اليقيني إلى البراءة اليقينيّة.

وهذان الدليلان ـ كما ستعلم ان شاء الله ـ يجريان في المواضع الّتي كان الدّليل الدّال على تحقق الحكم المستصحب فيه دالًّا على ثبوت الحكم في الزمان المكشوك فيه ، بمعنى انّ الدّليل المذكور في اوّل الامر مع قطع النّظر عن الشكّ الّذي وقع ، يكون شاملاً لثبوت الحكم المذكور في الزّمان المشكوك فيه ، بحيث لو رفع الشكّ المذكور لحصل الجزم بالحكم المذكور في الزّمان المشكوك فيه.

فكلّ موضع كان الامر فيه كذلك يجري فيه هذان الدّليلان مع الدّليلين الاخرين اللذين نذكرهما ان شاء الله ، فيحصل الجزم بحجيّته فيها.

وكلّ موضع لم يكن كذلك وهو الموضعان الاخيران اللّذان يمكن اجراء الإستصحاب فيها ونذكرهما في البحث الثاني ان شاء الله لا يجري

__________________

(١) الوافية ٢٠٠ ـ ٢٠٣

١٧٤

فيه هذان الدّليلان ، بل يجري فيه الدّليلان الآخران ، وهما الاستقراء وحصول ظنّ البقاء ، كما نذكرهما مفصّلاً ان شاء الله ، وهذان الدّليلان لا يفيدان الّا الظنّ ، فحجيّة الإستصحاب في هذين الموضعين اللّذين دليلهما منحصر بهذين الطريقين ظنيّة ، مع انّه يمكن منع جريان دليل الاستقراء فيهما ، فتأمل. وسننقل ان شاء الله ادلّة كلّ منهما ونأتي بما هو الحقّ.

البحث الثاني

في بيان المواضع الّتي يمكن اجراء الإستصحاب فيها والّتي لا يمكن فيها ذلك.

امّا المواضع التي يمكن فيها جريان الإستصحاب فنقول : الإستصحاب امّا ان يجري في الاحكام الشرعيّة أو الوضعيّة ولايضرّنا هنا كون الاحكام الوضعية راجعة إلى الاحكام الشرعيّة أو غير راجعة اليها لعدم مدخليّة ذلك لما هو نحن بصدده وان كان عند المحقّقين راجعة اليها.

وعلى كلّ من التقديرين فالحكم الصادر من الشارع امّا مغيّى بغاية مخصوصة أو لا ، وعلى الاوّل لا فرق بين ان يكون تلك الغاية وقتاً مخصوصاً كأن تقول : افعلوا الفعل الفلاني إلى وقت كذا أو الامر الفلاني سبب أو شرط أو مانع للفعل الفلاني إلى وقت كذا ، أو حالة مخصوصة

١٧٥

كأن تقول : افعلوا الفعل الفلاني إلى حدوث حالة كذا أو الامر الفلاني سبب أو شرط أو مانع للفعل الفلاني إلى حدوث حالة كذا. وهذا الشقّ هو الّذي اذعن بحجيّته المحقّق الخوانساري (قدس‌سره).

وامكان جريان الإستصحاب فيه ظاهر لانّه إذا وقع الشكّ في تحقق الوقت المعيّن من الشارع أو في حدوث الحالة المعيّنة منه يمكن دفع هذا الشكّ بالإستصحاب وابقاء الحكم على ما كان ، لعدم نقض اليقين بالشكّ كما ستعرف إن شاء الله العزيز.

وهذا الشقّ يحتمل وجهين :

احدهما : ان يحصل الشكّ في وجود المزيل القطعي.

وثانيهما : ان يحصل الشكّ في كون الشيء مزيلاً مع اليقين بوجوده.

ولا شكّ في امكان اجراء الإستصحاب في كلا الوجهين ، وصاحب الذخيرة لم ينكر امكان اجراء الإستصحاب في الاحتمال الثاني ، بل انكر حجيّة الإستصحاب فيه وامّا [امكان] اجراء الإستصحاب فيه فامر ظاهر بديهي لا ينكره أحد من العقلاء.

وعلى الثاني اعني عدم كون الحكم مغيّى بغاية مخصوصة يحتمل وجوها :

الاوّل : ان نعلم يقيناً انّ ذمّتنا مشغولة بشيء أو اشياء ثمّ حصل لنا شكّ ببراءة ذمّتنا فيمكن رفع هذا الشكّ بالإستصحاب ، ويمكن رفعه ايضاً مع قطع النظر عن الإستصحاب ، بأن يقال : شغل الذمّة اليقيني يحتاج إلى

١٧٦

البراءة اليقينيّة من غير احتياج إلى ملاحظة الحالة الاولى واجراء الحكم منها إلى الثانية حتى يكون استصحاباً.

والثاني : ان يكون الحكم الصادر من الشارع عامّاً ومستغرقاً لجميع الازمنة كان يقول الشارع : الحكم الفلاني واجب أو حرام في كلّ وقت أو ابداً أو الامر الفلاني سبب او شرط أو مانع للفعل الفلاني في كلّ وقت أو ابداً.

وهذا ايضاً يمكن اجراء الإستصحاب فيه لانّه إذا وقع الشكّ في زمان لاجل وجود معارض من العقل أو النقل او شيء آخر بأن الحكم المذكور هل هو ثابت أم لا يمكن دفع هذا الشكّ بالإستصحاب بأن يقال الحكم المذكور قبل ذلك كان ثابتاً جزماً فكذا في هذا الوقت ، لانّ الشكّ لا يقاوم اليقين كما ستعرف من الاخبار إن شاء الله العزيز.

فإن قلت : هذا الشكّ يدفع بعموم النص لا بالإستصحاب لانّ المعارض ان كان مرجوحاً بالنّسبة إلى هذا النّص العامّ فيؤخذ الحكم الّذي يدلّ عليه هذا النّص العامّ وان كان هذا المعارض راجحاً على هذا النّص العامّ فيؤخذ بهذا المعارض ويطرح النّص العامّ ، فالمناط حينئذٍ عموم النّص لا الإستصحاب.

قلت : ما قلت حق الّا انّ ذلك لا يدفع امكان الاستدلال بالإستصحاب ايضاً ، فإنّ في هذا الشقّ كما يمكن الاستدلال بعموم النّص يمكن بالإستصحاب ايضاً كما عرفت.

١٧٧

والثالث : ان يكون مطلقاً يشمل باطلاقه جميع الازمنة ومن هذا القبيل إذا ورد الحكم المذكور بصيغة الامر بناء على انّ الامر يفيد التكرار.

وحكمه كحكم العامّ في امكان جريان الإستصحاب فيه.

ويرد عليه ايضاً ما يرد على العام وجوابه كالجواب الّذي قلنا هناك بلا تفاوت.

وجميع هذه المواضع مما يجري فيه جميع الادلّة الاربعة امّا دليل الاستقراء وظنّ البقاء فظاهر وامّا الدليلان الاخران لانّ جميع هذه المواضع تشترك في انّ الدّليل الدّال على الحكم يشمل الزمان المشكوك فيه بحيث لو قطع النّطر عن الشّك لحصل الجزم بالحكم في الزّمان المذكور كما لا يخفى على المتدرّب ، فتخصيص ذلك بالموضع الاوّل كما فعله الاستاذ المحقّق الخوانساري لا وجه له وستعلم لهذا إن شاء الله زيادة توضيح وتبيين.

والرابع : ان يكون مجملاً وهذا يحتمل الوجهين :

احدهما : ان يصل الينا من الشارع دليل يعلم منه ثبوت حكم من الاحكام في وقت او حالة ولم يعلم جزماً انّ هذا الحكم بعد هذا الوقت أو هذه الحالة هل هو ثابت أم لا؟ بل احتمل عندنا انّ ينقضي هذا الحكم بانقضاء هذا الوقت أو هذه الحالة وان لا ينقضي بانقضائهما بل يدوم ويستمرّ ، واحتمل ايضاً ان يكون له غاية ومزيل في الواقع وان لا يكون له ذلك ، وعلى تقدير احتمال الغاية والمزيل قد يشكّ في وجود ما يحتمل ان

١٧٨

يكون غاية ومزيلاً وقد يعلم ذلك ،

وامكان جريان الإستصحاب فيه ظاهر لانّ ثبوت الحكم في الوقت المقدم أو الحالة المتقدّمة كان يقينيّاً فيمكن ان يستصحب الحكم المذكور.

فإن قيل : جريان الإستصحاب موقوف على انّه إذا لم يعرض هذا الشكّ لحصل اليقين بالبقاء وهنا ليس الامر كذلك لانّا إذا فرضنا ارتفاع هذا الشكّ لم يحصل اليقين ببقاء الحكم لعدم فهمه من الدليل الذي وصل الينا من الشارع لأنّ المفروض كذلك وعدم دليل آخر يدلّ على ذلك.

قلت : انّه إذا فرض ارتفاع هذا الشكّ يحصل اليقين بالبقاء لانّ عدم عروض الشكّ انّما يكون عند الجزم بتحقيق جميع اجزاء علّة الوجود وعدم ارتفاع شيء منها ومع تحقق جميع اجزاء علّة الوجود يحصل الجزم ببقاء المعلول لانّ بقاء المعلول انّما هو ببقاء علّته التامّة وزواله بزوالها.

والايراد المذكور من المحقّق الخوانساري والجواب الّذي ذكرناه من بعض افاضل المتأخرين وسيجيء لهذا زيادة توضيح إن شاء الله تعالى عند نقل دليل المحقّق المذكور على مذهبه.

وثانيهما : ان يصل الينا من الشارع دليل يعلم منه ثبوت حكم واستمراره في الجملة ولم يعلم هل هو ثابت دائماً ام لا ولم يعلم هل هو غاية ومزيل أم لا وقد يعلم وجود ما يحتمل غاية ومزيلاً وقد يشكّ فيه.

وامكان جريان الإستصحاب فيه كما سبق في الوجه الاوّل.

١٧٩

وهذا ان الوجهان هما اللّذان لا يجريان فيهما الاخبار ودليل احتياج شغل الذمّة اليقيني إلى البراءة اليقينيّة ، لانّ الظاهر من عدم نقض اليقين بالشكّ وثبوت شغل الذمّة اليقينيّ ان يدلّ دليل مع قطع النظر عن الشكّ على ثبوت الحكم يقيناً في الزّمان الّذي وقع الشكّ في ثبوت الحكم فيه بحيث لو لم يكن الشكّ حصل الجزم بالحكم في الزّمان المشكوك فيه كما إذا امرنا الشارع بايقاع الصّوم إلى الليل وحصل الشكّ في دخول اللّيل ، فإنّ الأصل عدم الدّخول لانّ ذمّتنا مشغولة يقيناً بالصّوم إلى اللّيل فيجب ان يحصل اليقين بدخول اللّيل ولذا هذا اليقين لا ينقض بشكّ الدخول. وكذا الحكم إذا كنّا على طهارة يقيناً وحصل الشكّ في عروض الحدوث. وكذا الحكم إذا دلّ الدّليل من الشارع على ثبوت الحكم ابداً امّا بنصّه أو بعمومه أو باطلاقه وحصل الشكّ في زمان لاجل معارض.

وامّا هذان الوجهان فليس الامر فيهما كذلك لانّ غاية ما ، ولا يدلّ الدليل فيهما انّ الحكم في زمان اوله استمرار ما يدلّ على ثبوته في الزّمان الّذي وقع فيه الشكّ ، فليس فيه يقين حتى لا ينقص بالشكّ أو يحتاج إلى البراءة اليقينيّة ، فاوّل الامر لم يكن في الزمان المشكوك فيه يقين حتى يحتاج إلى البراءة اليقينيّة ولا ينقض بالشكّ.

فالمناط في حجيّة الإستصحاب في هذين الموضعين هو الدّليلان الاخران اعني الاستقراء وظنّ البقاء وسيجيء لهذا زيادة توضيح ان شاء الله عند نقل كلام الاستاذ المحقّق الخوانسارى طاب ثراه.

١٨٠