جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

وقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ...)(١).

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ...)(٢).

وغير ذلك ممّا هو في هذا المعنى.

ولنا ايضاً جميع الاخبار المذكورة.

سوى خبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) وهو قوله (عليه‌السلام) : «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال الى آخره» (٣).

فإنّ دلالته منحصرة في أصالة البراءة بالمعنى الاوّل كما لا يخفى.

وكذا قوله (عليه‌السلام) : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٤).

فهو ايضاً لا يدلّ على أصالة البراءة بهذا المعنى.

ولنا ايضاً الادلّة العقليّة المذكورة.

وامّا دعوى الاجماع فالمنقول من الصّدوق (٥) انّما هو في المعنى الاوّل وامّا دعوى المحقّق والعلامّة كما نقله بعض فلم يكن كلامهما حاضراً عندي وقت التأليف حتى احقّق الحال.

ثمّ انّ المجتهدين لمّا ذهبوا إلى استحباب الإحتياط فيما لا نصّ فيه

__________________

(١) التوبة : ١١٥.

(٢) الانفال : ٤٢.

(٣) الكافي ٥ / ٣١٣.

(٤) الفقيه ١ / ٣٧١.

(٥) الاعتقادات ص ١٠٧.

١٢١

وفيما تعارض فيه النّصّان باعتبار الجمع بين الادلّة ، لايمكن نفي الاستحباب بهذه الجهة وان امكن باعتبار الأصل ، فتأمّل.

[أدلة القول بوجوب الاحتياط]

وامّا ادلّة القول بوجوب الإحتياط فهي الاخبار الدّالة على مطلق الإحتياط أو الدّالة على الإحتياط بالفعل في صورة الدّوران بين الفعل والترك وقد عرفتها جميعاً.

ولايدلّ اخبار التوقّف على مطلوبهم لانّك قد عرفت انّ التوقّف المستفاد من الاخبار هو الترك إذا كان الفعل دائراً بين الحرمة وغيره ومانحن فيه ليس كذلك بل هو مختصّ بالمعنى الاوّل.

ثمّ اعلم ان هذين الأصلين اعني أصل البراءة بالمعني الاوّل والثاني انّما كانا من قسمي أصل البراءة من حقوق الله.

وامّا أصل البراءة من حقوق النّاس فيدلّ عليه كثير من الآيات والاخبار المتقدّمة.

والظاهر انّ الأصل بهذا المعني لم ينكره أحد من الاصحاب.

والدليل الّذي نذكره ان شاء الله لاصالة العدم في الممكن يدلّ ايضاً

١٢٢

على أصل البراءة من حقوق الله بقسميه ومن حقوق النّاس لانّ التكليف فرد من الممكن فإذا بينّا انّ الأصل في مطلق الممكن العدم يثبت ذلك في التكليف ايضاً.

[شرط اجراء اصل البراءة]

واعلم ايضاً انّ اجراء أصل البراءة بجميع اقسامه مشروط بشرطين :

احدهما : انّه يجب ان يكون بعداستفراغ الوسع في تفحّص الادلّة والامارات وبذل الجهد في تجسّس النّصوص من الاخبار والآيات فإذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل جهده ومع ذلك لم يجد ما يدلّ على الحكم يمكن له اجراء الأصل.

قال المحقّق طاب ثراه : اعلم انّ الأصل خلّوا الذمّة من الشواغل الشرعيّة فإذا ادّعى مدّع حكماً شرعيّاً جاز لخصمه ان يتمسّك بالبراءة الاصليّة فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتاً لكان عليه دلالة شرعيّة لكن ليس كذلك فيجب نفيه ولايتمّ هذا الدّليل الا ببيان مقدّمتين :

الاوّلى : انّه لا دلالة عليه بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.

١٢٣

الثانية : ان يبيّن انّه لو كان هذا الحكم ثابتاً لدلّت عليه احدى تلك الدّلائل ، لانّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لاطريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لايطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك الادلّة لما كانت ادلّة الشرع منحصرة فيها لكن بينّا انحصار الاحكام في تلك الطرق وعند هذا يتمّ كون ذلك دليلاً على نفي الحكم. انتهى كلامه رفع مقامه (١).

ولايخفى انّ بعد التتبّع الصّادق واستفراغ الوسع لا يحكم بعدم الحكم في نفس الامر والواقع بل يحكم بعدم ثبوت التكليف في حقّنا. وذلك لانّ مذهبنا معاشر الاماميّة انّ جميع الاحكام المتعلّقة بالشريعة موجود عند ائمّتنا (عليهم‌السلام) ولا توجد واقعة من الوقائع الّا وحكمها ثابت عندهم (عليهم‌السلام) حتى ارش الخدش ولكنّهم صلوات الله عليهم لم يتمكّنوا من اظهار الجميع للتقيّة وغيرها. فحينئذٍ إذا تتبّعنا وتفحصنا ولم نجد ، ليلاً لا يمكن لنا الحكم يقيناً بعدم الحكم في الواقع لاحتمال وجوده عندهم (عليهم‌السلام) ولكنّهم (عليهم‌السلام) لم يتمكّنوا من اظهاره. نعم يمكن الحكم بعدم ثبوت التكليف في حقّنا لما ذكرنا من الادلّة.

وإذا ظهر على الفقيه بعد التتبّع دليل أو امارة يجب عليه التثبّت والتأمّل.

قال بعض الفضلاء : ويفرّع على هذا ان اجراء أصل البراءة من شغل ذمّة حقوق النّاس مشروط بعدم عروض ما يناسب شغل الذمّة ، مثل ان

__________________

(١) معارج الاصول ص ٢١٢.

١٢٤

يكون اجراء الأصل مستلزماً لضرر المسلم مثلاً إذا حبس شاة فمات ولدها أو امسك رجلاً فهرب دابّته فهلكت أو فتح قفساً لطائر فطار الطائر ، فحينئذٍ لايمكن على سبيل القطع اجراء الأصل في نفي شغل الذمّة من ولد الشّاة والدّابة والطائر ، ولايصّح فيها التمسّك ببراءة الذمّة ، بل ينبغي للمفتي التوقّف عن الافتاء حينئذٍ ، ولصاحب الواقعة الصّلح ، إذا لم يكن منصوصاً بنصٍّ خاصّ او عامّ ، لاحتمال اندراج مثل هذه الصّورة في قوله (عليه‌السلام) : «لاضرر ولا ضرار في الاسلام» (١) وفيما يدلّ على حكم من اتلف مالاً لغيره ، (٢) إذ نفى الضرر غير محمول على نفي حقيقته لانّه غير منفّى بل الظاهر انّ المراد به نفي الضرر من غير جيران بحسب الشرع.

والحاصل فى مثل هذه الصورة لا يحصل العلم بل ولا الظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة ، وقد عرفت انّ شرط التمسّك بالاصل فقد ان النصّ. بل يحصل القطع حينئذٍ بتعلّق حكم شرعيّ بالضّار ولكن لايعلم انّه مجرّد التعزير أو الضّمان أو هما معاً ، فينبغي للضّار ان يحصل العلم ببراءة ذمّته بالصّلح وللمفتي الكفّ عن تعيين حكم لانّ جواز التمسّك باصالة براءة الذّمّة والحال هذه غير معلوم.

وقد روى البرقي في كتاب المحاسن عن ابيه عن [النضر بن سويد عن] درست بن أبي منصور عن محمّد بن حكيم قال : قال أبوالحسن (عليه‌السلام) :

__________________

(١) الفقيه ٤ / ٣٣٤ وفيه : لا ضرر ولا ضرار.

(٢) راجع التهذيب ٧ / ٢١٥ ، ح ٩٤٣ (صحيحة ابي ولّاد) ودعائم الإسلام ٢ / ٤٢٤.

١٢٥

«إذا جائكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم مالا تعلمون فها ـ ووضع يده على فيه ـ فقلت : ولم ذلك؟ قال : لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اتى النّاس بما اكتفوا به على عهده وما يحتاجون إليه من بعده إلى يوم القيامة» (١).

ثمّ قال :

فإن قلت : هذه الرّواية كما يدلّ على حكم ما إذا حصل الضّرر يدلّ على غيره ايضاً.

قلت لانسلّم فانّا ندّعي انّه ليس داخلاً في ما لاتعلمون فإنّ قبح تكليف الغافل معلوم وموضوعيّة ما حجب الله علمه عن العباد معلوم واباحة ما لم يرد فيه نهي معلوم للاخبار المذكورة ، وامّا في صورة الضّرر فكون التكليف حينئذٍ تكليف الغافل غير معلوم إذ الضّار يعلم انّه صار سبباً لاتلاف مال محترم وشغل الذّمة حينئذٍ في الجملة ممّا هو مركوز في الطبائع وكذا الكلام في كونه ممّا حجب الله علمه عن العباد وممّا لم يرد فيه نهي ـ انتهى ـ (٢).

اقول : ما يقتضيه النظر هو انّ التمسّك باصل البراءة لنفي شغل الذمّة انّما يكون فيما لم يتحقّق دليل صالح دالّ على شغلها والّا فلا يجوز التمسّك به لما ذكر وماذكره هذا الفاضل من الصّور المذكورة امّا قام الدّليل فيها على تحقق شغل الذّمة أو لا. فعلى الاوّل لا وجه للحكم بانّه

__________________

(١) المحاسن ٢١٣ ح ٩١

(٢) الوافية ١٩٤

١٢٦

ينبغي التوقّف عن الافتاء ولصاحب الواقعة الصّلح ، لانّ المفروض قيام الدّليل على تحقق شغل الذمّة. وان لم يقم الدّليل فيها على تحقق شغل الذمّة فيمكن التمسّك فيها بالاصل لعدم تحقّق ما يدلّ على شغل الذّمة لانّ الدليل الّذي لايمكن معه التمسّك بالاصل هو الدّليل الّذي كان صالحاً لتأسيس الحكم الشرعي لا الّذي وقع الشكّ فى انّه صالح للتأسيس أم لا. فالصور المذكورة ان علم دخولها جزماً في قوله (عليه‌السلام) : «لاضرر ولاضرار في الاسلام» أو في حكم من اتلف مالاً لغيره فيجب الحكم بشغل الذمّة ولايمكن اجراء الأصل ، لانّه لا شكّ انّ جريان الأصل انّما يكون فيما وقع الشكّ والاحتمال والّا ففي صور اليقين والجزم باحد الطّرفين فلا يحتاج إلى اجراء الأصل مطلقاً.

وماذكره من الفرق بين الصّور المذكورة وغيرها يرد عليه انّه ان قام الدّليل جزماً على انّه ضاّر وذمّته مشغولة فيصحّ الفرق ولكن حكمه اوّلاً بالتوقّف لا وجه له وان لم يقم الدّليل على سبيل الجزم ولم يحصل الجزم بمشغوليّة الذمّة فلا شكّ في دخولها في قوله (عليه‌السلام) : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» وفي «مالا يعلمون» وغير ذلك لعدم حصول العلم حينئذٍ ، لانّ مجرّد الشكّ والاحتمال لا يدخل في عنوان العلم وهو واضح بحمد الله.

وثانيهما : ان يكون الاستدلال به على نفي الحكم الشرعيّ اعني ثبوت التكليف ، لا على اثبات الحكم الشّرعي يعني التكليف لانّ الادلّة

١٢٧

الدّالّة على اعتبار هذا الأصل يدلّ على سقوط التكاليف الشّرعيّة فاثبات التكاليف به خلاف ما تقتضيه الادلّة ولذا لم يذكره الاصوليون في جملة الادلّة.

ويتفرّع على ذلك انّ أصالة براءة الذمّة من جهة إذا كانت مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخرى لا يصحّ الاستدلال بها مثلاً إذا علم يقيناً بنجاسة أحد الانائين فقط ولكن اشتبه بالاخر فإن صحّ الاستدلال باصالة عدم وجوب الاجتناب من أحدهما يلزم وجوب الاجتناب من الاخر فيثبت من أصل البراءة التكليف وهو خلاف مقتضاه. وكذا الحكم بعينه في الزّوجة المشتبهة بالاجنبيّة ، والثوبين الّذين يكون احدهما طاهراً والاخر نجساً واشتبه الطّاهر بالنّجس ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور وغير ذلك من امثال ذلك فلا يجوز اجراء الأصل فيها.

إذا عرفت هذا فاعلم انّ كلّ موضع كان اجراء أصل البراءة فيه صحيحاً يكون اجراء إستصحاب حال العقل فيه صحيحاً.

امّا أصل البراءة بالمعنى الثاني فظاهر لانّ البراءة الاصليّة من الوجوب ازليّة فيجب ان يكون مستصحبة إلى ان يقوم الدّليل كما يدلّ عليه دليل الإستصحاب فيرجع إلى إستصحاب حال العقل.

وامّا بالمعنى الاوّل اعني الاباحة فلانّ الاشياء قبل بعثة الرّسل كانت على الاباحة فيجب ان يكون مستصحبة حتى يقوم الدّليل.

ويظهر من هذا انّ كلّ موضع اريد فيه التمسّك بنفي البراءة من

١٢٨

التكليف في حقوق الله سواء كان وجوباً أو حرمة أو نفي اشتغال الذمّة من حققوق النّاس. يمكن ذلك بأصل البراءة وان لم يلاحظ الحالة السّابقة ومع عدم الملاحظة المذكورة يثبت المطلوب لانّ الادلّة الدّالة على البراءة الاصليّة تدلّ على انّ كلّ وقت لم يثبت الدّليل تكون الذمّة بريئة فلا يحتاج إلى الملاحظة المذكورة حتى يثبت المطلوب من دليل الإستصحاب. ويمكن بإستصحاب حال العقل ان لوحظت الحالة السّابقة ويكون الدّليل عليه هو دليل الإستصحاب كما ستعرف ان شاء الله تعالى.

وامّا أصل العدم فلما كان اعمّ من أصل البراءة كما عرفت فكلّ فرد منه يرجع إلى التكليف فيمكن الاستدلال به بالوجهين (١) اعني باصل البراءة وإستصحاب حال العقل وامّا ما لا يرجع إليه كاصل العدم في موضوعات الاحكام وما يتعلّق بها أو فيما لا يتعلّق بها اصلاً فلا يمكن (٢) مع قطع النّظر عن دليل الإستصحاب لانّه لم يرد شيء من الشريعة يدلّ على انّ كلّ ممكن يجب ان يكون في كلّ وقت معدوماً حتى يحصل اليقين بوجوده بل انمّا ورد في التكليف فقط.

وليس يدلّ عليه الدّليل العقلي ايضاً لانّ ما ثبت من العقل انّ الممكن ما تساوى عليه الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته ، فذاته بذاته لا يقتضي الوجود والعدم ، بل كلّ منهما مستند إلى العلّة وعدم علّة الوجود هو علّة

__________________

(١) الاستدلال على نفيه بالوجهين. خ.

(٢) فلا يمكن نفيه. خ.

١٢٩

العدم. ولما ثبت ان كلّ الممكنات حادثة فيكون اعدامها سابقة على وجودها ويكون معدومة حتّى يتحقّق علّة الوجود فإذا وقع التردّد في وقت بأنّه هل صار علّة هذا الممكن موجوداً حتى يكون هو ايضاً موجوداً أم لا؟ فلا يمكن الحكم بأنّ علّته ليس الآن موجوداً مع قطع النّظر عن الحالة السّابقة ، لانّ ما ثبت من العقل ان اعدام الممكنات سابقة على وجودها فإذا وقع التردّد في وقت بأنّ الممكن الفلاني هل هو موجود أو معدوم إذا لم يكن تكليفاً يمكن نفيه بأن يقال عدمه السّابق يقيني فلا بدّ ان يكون باقياً حتى يثبت علّة الوجود بدليل الإستصحاب كما سيجيء ان شاء الله تعالى.

وامّا مع قطع النّظر عن الحالة السابقة واجراءها إلى اللاحق فلا يمكن الحكم جزماً بانّه ليس الآن موجوداً لعدم دليل يدلّ عليه لا من الشّرع لما عرفت ولا من العقل لعدم حصول القطع بعدم حدوث علّة الوجود فكيف يمكن الحكم القطعي بنفي هذا الممكن ان لم يتمسّك بالحالة السابقة واجراءها إلى الوقت الّذي وقع فيه التّردّد.

فظهر انّ الحكم بأنّ الأصل في الممكن العدم ـ إذا كان هذا الممكن غير التكليف ـ من دون التمسّك بالحالة السابقة غير ممكن فلما ثبت أصل البراءة ويثبت (١) ايضاً إستصحاب حال العقل ان شاء الله تعالى يثبت أصل العدم ايضاً بكلا فرديه وليس هو شيئاً عليحدة كما اشرنا إليه.

__________________

(١) وثبت. خ.

١٣٠

الفصل الثالث

في حكم الشّبهة في طريق الحكم

فاعلم انّ الشبهة في طريق الحكم ما كان موضوع الحكم الشرعي مشتبها وكان نفس الحكم الشّرعي معلوماً كما إذا اشتبه اللّحم بانّه مذكّى أو ميتة مع العلم بحرمة الميتة وحليّة المذكّى ، أو اشتبه شيء بانّه نجس أم لا ، أو اشتبه شيء بانّه مسروق أو مغصوب أم لا ، وغير ذلك من الامثلة الّتي كان نفس الحكم فيها معلوماً ولكن وقع الشكّ في الموضوع.

والمجتهدون والاخباريون قاطبة ذهبوا الى ان الحكم فيها الاباحة.

ويدلّ عليه أكثر الآيات والاخبار المتقدّمة بعمومها.

ويدلّ عليه اخبار اخر بخصوصها.

١٣١

منها ما رواه ثقة الاسلام رحمه‌الله تعالى في الكافي وشيخ الطائفة روحي فداه في التهذيب عن الصّادق (عليه‌السلام) انّ اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثيرة لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكّين فقال اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) : يقوّم ما فيها ويؤكل ما يفسد (١) وليس له بقاء فإن جاء طالبها اغرم له الثمن قيل : يا اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) لا ندري سفرة مسلم أم سفرة مجوسى؟ فقال : هم في سعة حتى يعلموا (٢).

ومنها : ما روي في الصّحيح عن أبي ايّوب عن أبي بصير قال : سألت أحدهما (عليهما‌السلام) عن شراء الخيانة والسرّقة قال : لا الّا ان يكون قد اختلط معه غيره فامّا السرقة بعينها فلا (٣).

ومنها : ما روى احمد بن أبي عبدالله البرقي في المحاسن عن ابيه عن محمّد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت ابا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن وقلت له اخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة قال : امن اجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الارضين؟ إذا علمت انّه ميتة فلا تأكله وان لم تعلم فاشتر وبع (٤) ـ الحديث ـ.

__________________

(١) في المصدر : لانّه يفسد.

(٢) الكافي ٦ / ٢٩٧. الوسائل ١٧ / ٣٧٢ طبع الاسلاميّة. التهذيب ٩ / ١٠٠

(٣) الوسائل ١٧ / ٩٠ و ٣٣٥ نقلاً عن التهذيب

(٤) الوسائل ٢٥ / ١١٩ نقلاً عن المحاسن

١٣٢

ومنها : ما رواه اليقطيني عن صفوان عن معاوية بن عمّار عن رجل من اصحابنا قال : كنت عند ابى جعفر (عليه‌السلام) فسأله رجل عن الجبن؟ فقال أبوجعفر (عليه‌السلام) : انّه لطعام يعجبني فسأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (١).

ومنها : ما روي في الصّحيح عن مولانا الباقر (عليه‌السلام) قال : ان كنت تعرف انّ (٢) مالاً معروفاً ربا وتعرف اهله فخذ رأس مالك وردّ ماسوى ذلك وان كان مختلطاً فكله هنيئاً فإنّ المال مالك (٣).

ومنها : ما روي في الصّحيح ايضاً عن الصّادق (عليه‌السلام) : لو انّ رجلاً ورث من ابيه مالاً وقد عرف انّ في ذلك المال رباً ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنّه له حلال طيّب فليأكله وان عرف منه شيئاً انّه ربا فليأخذ رأس ماله وليردّ الزيادة (٤).

ومنها : ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) انّه قال : لايصلح شراء السّرقة والخيانة إذا عرفت (٥).

__________________

(١) نفس المصدر

(٢) في المصدر : ان كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفاً

(٣) الوسائل ١٨ / ١٢٩ نقلاً عن الكافى والفقيه والتهذيب

(٤) الوسائل ١٨ / ١٢٨ نقلاً عن الكافي والتهذيب

(٥) الوسائل ١٧ / ٣٣٦ نقلاً عن التهذيب.

١٣٣

ومنها : ما روي عن الباقر (عليه‌السلام) حيث سئل عن السّمن والجبن نجده في ارض المشركين بالرّوم أنأكله؟ فقال (عليه‌السلام) : امّا ما علمت انّه قد خلطه الحرام فلا تأكل وامّا ما لاتعلم فكل حتى تعلم انّه حرام (١).

ومنها : قول الصّادق (عليه‌السلام) حين سئل عن رجل اصاب مالاً من عمل بنى اميّه وهو يتصدّق منه ويصل منه قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب وهو يقول انّ الحسنات يذهبن السيّئات : ان الخطيئة لا تكفّر الخطيئه ولكن الحسنة تحطّ السيّئة ثمّ قال : «ان كان خلط الحرام حلالاً فاختلط جميعاً ولايعرف [الحرام من الحلال فلا بأس (٢).

ومنها ما روى ابو عبيدة عن ابي جعفر عليه السلام قال : سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنمها فهو يعلم انّهم يأخذون منهم اكثر من الحقّ الّذي يجب عليهم من الابل والبقر والحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعنيه (٣).

ومنها : رواية اسحق بن عمّار قال : سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم قال : يشترى منه ما لم يعلم انّه ظلم فيه أحداً (٤).

ومنها : ما روي عن الصّادق (عليه‌السلام) حيث قال لمّا سئل عن الجبن : كلّ

__________________

(١) الوسائل ٢٤ / ٢٣٦ نقلا عن التهذيب ومستطرفات السرائر.

(٢) السرائر ص ٧٧ ، الوسائل ١٧ / ٨٨. الكافي ٥ / ١٢٦.

(٣) الوسائل ١٧ / ٢١٩ نقلا عن الكافي.

(٤) الوسائل ١٧ / ٢٢١ الكافي ٥ / ٢٣٨.

١٣٤

شيء حلال حتى يجيئك شاهد ان يشهد ان عندك ان فيه ميتة (١).

ومنها : ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : اتى رجل اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) قال : انّي اكتسب مالاً اغمضت في مطالبه حلالاً وحراماً وقد اردت التّوبة ولا ادري الحلال من الحرام وقد اختلط عليّ فقال : اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) تصدّق بخمس مالك فإنّ الله عزوجل يرضى من الاشياء بالخمس [وسائر المال لك حلال (٢)].

ومنها : ما روي محمّد بن يعقوب باسناده عن عبدالله بن سليمان قال : سألت اباجعفر (عليه‌السلام) عن الجبن ـ إلى ان قال : ـ فساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٣).

روى البرقي في المحاسن عن ابن محبوب عن عبدالله بن سنان مثله (٤).

ومنها : قول الصّادق (عليه‌السلام) : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعنيه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو

__________________

(١) ـ

(٢) الوسائل ٩ / ٥٠٦ نقلاً عن الكافي والتهذيب والفقيه والمحاسن والمقنعة

(٣) الوسائل ٢٥ / ١١٨ نقلاً عن الكافي والمحاسن

(٤) المحاسن ٤٩٦ ح ٦٠١

١٣٥

خدع فبيع أو قهراً أو امرأة تحتك وهي اختك او رضيعتك ، والاشياء كلّها على هذا حتى يتبيّن (١) لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (٢).

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المجتهدين ذهبوا إلى استحباب الاجتناب هنا ايضاً كما في ما لا نصّ فيه ايضاً لاخبار الشبهة ولا ريب انّ الشبهة تصدق على ما اشتبه الموضوع فيه كما تصدق على ما اشتبه الحكم الشرعي فيه لانّه ليس للشبهة حقيقة شرعيّة ، فالواجب الرجوع إلى العرف واللّغة ، وصدق الشبهة على ما اشتبه الموضوع فيه غير خفي على الاذكياء.

ويدلّ عليه ايضاً ما ورد من مولانا اميرالمؤمنين صلوات الله عليه حيث قال : انّما سميّت الشّبهة شبهة لانّها تشبه الحقّ فامّا اولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى (٣) الحديث.

ويدلّ عليه ايضاً بعض الاخبار المتقدّمة كقوله (عليه‌السلام) : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك (٤).

فإنّه يدلّ على انّ ما سوى اليقين شبهة وما نحن فيه ما عدا اليقين.

__________________

(١) في المصادر يستبين.

(٢) الوسائل ١٧ / ٨٩ نقلاً عن الكافي ٥ / ٣١٣ والتهذيب ٧ / ٢٢٦.

(٣) كذا في الوسائل ٢٧ / ١٦١ ولكن في الاصل هكذا : فضياؤهم فيها الهدى ودليلهم سمت اليقين.

(٤) الوسائل ٢٧ / ١٥٧.

١٣٦

وكذا قوله (عليه‌السلام): (١) «انّما الامور ثلاثة امر بيّن رشده فيتّبع وامر بيّن غيّه فيتجنب وشبهات بين ذلك» يدلّ على المطلوب.

وكذا امثال ما ذكرنا من الاخبار الدالّة على التثليث لانّه يستفاد منها انّ الاحكام تنقسم إلى ثلاثة قسمان منها يقينيّان وواحد منها شبهة فكلّ امرٍ لم يكن حليّته أو حرمته يقينيّة يكون شبهة وما نحن فيه كذلك وإذا كان من جملة الشبهة يستحبّ الاجتناب عنها بناء على ما ذهب إليه الاصوليّون من اصحابنا للجمع بين الادلّة.

ويدلّ على الاجتناب ايضاً ما رواه الشيخ رحمه‌الله في باب المكاسب من كتاب التهذيب من قول الصّادق صلوات الله وسلامه عليه : تشوّفت الدّنيا إلى قوم حلالاً محضاً فلم يريدوها فدرجوا ثمّ تشوّفت إلى قومّ حلالاً وشبهة فقالوا لا حاجة لنا إلى الشبهة وتوسّعوا في الحلال وتشوّفت إلى قوم حراما وشبهة فقالوا لا حاجة لنا في الحرام وتوسّعوا في الشبهة ثمّ تشوّفت إلى قوم حراماً محضاً فطلبوها فلم يجدوها. والمؤمن يأكل في الدّنيا بمنزلة المضطرّ (٢).

وقوله ايضاً عن آبائه (عليهم‌السلام) انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة ، يقول إذا بلغك

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٨ مع اختلاف يسير

(٢) الوسائل ١٧ / ٨٢. التهذيب ٦ / ٣٦٩. الكافي ٥ / ١٢٥

١٣٧

انّك قد رضعت من لبنها وانّها لك محرّم ـ الحديث ـ (١).

وقوله (عليه‌السلام) ايضاً : إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحلال الحرام (٢).

وغير خفي انّ هذا الخبر مجمل الدّلالة على المطلوب بل الظاهر منه انّ الحلال فاعل لقوله (عليه‌السلام) : «غلب» فحينئذٍ يكون كالاخبار المتقدّمة الدالّة على الاباحة في الشبهة في موضوع الحكم الشرعي.

والعجب انّ الاخباريين استدلّوا على التوقّف في الشبهة في نفس الحكم الشّرعي اعني فيما لم يرد به نصّ ولم يعلم هل هو حلال أو حرام باخبار التثليث الدالّة على الوقوف عند الشبهة ، وصرّحوا بالاباحة في الشبهة في موضوع الحكم الشرعي مع انّ الشبهة الواردة في اخبار التثليث تصدق عليها.

قال بعض الاخباريين : ان قال قائل : ايّها السالكون في طريق الاعمال بدلالة الحديث والجاعلون بناء اموركم على التثليث : حلال بين وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، هل بلغكم بها حقيقة شرعيّة؟ أم تحكمون فيها بحقيقة لغويّة أو عرفيّة أو بامارات قطعيّة أو ظنيّة؟ فإن كان لها حقيقة شرعيّة فبيّنوها لنا ولانزاع ، والّا فكيف تحكمون بأنّ ما لا نصّ فيه وكلّ ما ليس

__________________

(١) الوسائل ٢٠ / ٢٥٩.

(٢) في غوالي اللئالي ٢ / ١٣٢ و ٣ / ٤٦٦ : ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال.

١٣٨

بحلال بيّن فهو شبهة ، مع انّ الشارع قال : «شبهات بين ذلك» ولم يقل كلّ ما كان بين ذلك فهو شبهة ، ولما كان جميع اعمالكم مقصوراً على الخبر وتقتفون ابداً اثار النّص والاثر طلبنا منكم التحديد الشّرعي بأنّ الشبهة ماذا؟ وقد قال الشارع : كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهى (١) نعم ورد النّهي بطريق العموم من ارتكاب الشبهات لكن ليس نصّاً في العموم بل يحتمل عموم الانواع لا الاجناس ، فعلى هذا اثبات هذا الحكم بطريق العموم في غاية الاشكال ولا يتمّ في نفس الامر الاستدلال بل يحتمل لقيام الاحتمال ففي ايّ موضع قال الشارع مشتبهة توقّفنا عليه واحتطنا وفي غيره ما جزمنا بالاشتباه بل حكمنا انّه داخل في أحد الفردين الاخرين وعلى طريقتكم لا على طريقتنا يلزم طرح الخبر فلا نعلم ايّ داع حداكم إلى هذه امع امكان الجمع بما لا يستلزم الحذر فأيّ الطّريقين اقرب إلى الإحتياط فيكف تحكمون وايّ الطريقين احقّ بالامن ان كنتم لا تعلمون :

فكيف جواب هذا القائل؟ وتحقيق المقام الّذي هو موافق لاحاديث ائمّة الانام (عليهم‌السلام).

واجاب بأنّ الّذي ظهر بالتأمّل والتتبّع لمواقع استعمال لفظ الشبهة انّه ليس لها حقيقة شرعيّة ولا عرفيّة يخالف اللغويّة بل المعاني الثلاثة متجدّدة (٢) بل هي ما كان فيه اشتباه وخفاء وكان حكمه غير بيّن ـ انتهى.

__________________

(١) الفقيه ١ / ٣١٧.

(٢) متّحدة.

١٣٩

ولا يخفى ان هذا الجواب صريح في انّ الشبهة شاملة للشبهة في الموضوع وهو ظاهر ، بل الحقّ على ما ذهب إليه بعض المجتهدين انّ الشبهة لا يطلق على ما لا نصّ فيه لّان حكمه اعني الاباحة ظاهر بيّن من الآيات والاخبار لا اشتباه فيه بل اطلاق الشبهة مقصور على ما تعارض فيه النّصان والشبهة في الموضوع.

والعجب انّ الاخباريين جزموا بكون ما لا نصّ فيه داخلاً في الشبهة واخرجوا الشبهة في الموضوع عن الشبهة ولا ادري ما دليلهم على ذلك؟

[كلام الشيخ الحرّ العاملى]

وقد اطال الكلام في المقام شيخنا الفاضل الكامل الحرّ العاملي (قدس‌سره) للتفرقة بين الموضوعين ، فلنذكر كلامه حتى يظهر كيفيّة الحال.

قال طاب ثراه مورداً على الاخباريين : إن قال قائل وسأل سائل يا معشر الاخباريين ويا اهل التوقّف فيما لا نصّ فيه وفي الشبهات من المحتاطين لقد جعلتم الشبهة على قسمين وسميتموها باسمين : الشبهة في نفس الحكم الشرعي وفي طريقه ، ما حدّ هذين النوعين على الوجه الّذي يرفع الاشتباه من البين؟ وهل لكم رخصة من سادة الثقلين في تقسيم

١٤٠