جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

حتى يظهر له كيفيّة الحال.

ولا يخفى عدم دلالته على الوجوب بل غاية الامر انّها تدلّ على الاستحباب.

وفيه ايضاً ما فيه لانّ الجاهل بالموضوع ليس الفحص له مستحباً حتى يحمل [على] الاستحباب. فتأمّل.

ومنها : رواية سليمان بن داود عن عبدالله بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح (عليه‌السلام) يتوارى القرص ويقبل اللّيل ثمّ يزيد الليّل ارتفاعاً وتستتر عنّا الشّمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذّنون فاصلّي حينئذٍ أو افطر ان كنت صائماً؟ أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب اليّ : ارى ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطه لدينك (١).

وهذا الخبر يدلّ ايضاً على الإحتياط في بعض افراد الحكم الشرعي.

وظاهر هذا الخبر الاستحباب كما لا يخفى فيمكن ان يقال : هذا مؤيّد لمذهب القائلين بأنّ الغروب استتار القرص.

والقائلون بانّه عبارة عن ذهاب الحمرة يحملون الاحتياط هنا على الوجوب.

ومنها : رواية شعيب الحدّاد قال : قلت لابي عبدالله (عليه‌السلام) : رجل من مواليك يقرؤك السّلام وقد اراد أن يتزوّج امراءة قد وافقته واعجبه

__________________

(١) التهذيب ٢ / ٢٥٩ ح ١٠٣١. الاستبصار ١ / ٢٦٤ ح ٩٥٢. الوافية ١٩٠.

١٠١

بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلّقها ثلاثاً على غير السنّة وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون انت آمره. فقال أبوعبدالله (عليه‌السلام) «هو الفرج وأمر الفرج شديد ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوّجها» (١).

وهذا الخبر يدلّ على الاحتياط في فرد من افراد الحكم الشرعي ويفهم منه الاحتياط في مطلق الفروج. ولاريب انّ الاحتياط في هذا الفرد ليس بواجب لأنّ الظاهر انّ المطلّق هنا مخالف ويلزم المخالف بما الزم به نفسه من صحّة الطلاق ثلاثاً وقد تطابقت على ذلك كلام علمائنا الاخيار وتظافرت به الاخبار (٢) عن ائمّتنا الاطهار عليهم صلوات الله الملك الغفّار فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب.

ومنها : صحيحة احمد بن محمّد بن أبي نصر عن الرّضا (عليه‌السلام) في المتمتّع بها ـ والحديث طويل وموضع الحاجة منه ـ اجعلوهنّ من الاربع فقال له صفوان بن يحيى على الاحتياط قال نعم (٣).

ولايخفى ما في هذا الخبر من الاجمال. وبعض الاصحاب حمل الاحتياط ههنا على الخوف من المخالفين. وبالجملة ليس فيه دلالة على

__________________

(١) الوسائل ٢٠ / ٢٥٨. الكافي ٥ / ٤٢٣. التهذيب ٧ / ٤٧٠.

(٢) الوسائل ٢٢ / ٧٢ وفيه : الزموهم من ذلك ماالزموه انفسهم وتزوّجوهنّ فلا بأس بذلك.

(٣) الوسائل ٢١ / ٢٠ نقلاً عن التهذيب ٧ / ٢٥٩ والاستبصار ٣ / ١٤٨.

١٠٢

وجوب الاحتياط.

ومنها : ما رواه العامّة والخاصّة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١).

ومنها : ما رواه في كتاب الامالي عن الرّضا (عليه‌السلام) قال : قال اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) لكميل بن زياد : «يا كميل ، اخوك دينك فاحتط لدينك» (٢).

ومنها : ما روى من قولهم (عليهم‌السلام) ليس بناكب عن الصّراط من سلك طريق الاحتياط (٣).

ومنها : ما رواه الشهيد (قدس‌سره) عن الصّادق (عليه‌السلام) ـ والحديث طويل وموضع الحاجة ـ «خذ بالاحتياط (لدينك و) (٤) في جميع امورك ما تجد إليه سبيلاً» (٥).

وهذه الاخبار الاربعة تدلّ على رجحان مطلق الاحتياط.

__________________

(١) ارسله الشهيد في الذكرى وحكاه عن الفريقين. كذا في الفرائد للشيخ الانصارى ص ٣٤٧ طبع جماعة المدرسين. غوالي اللئالي ٣ / ٣٣٠ الوسائل ٢٧ / ١٧٣ و ١٦٧ نقلاً عن تفسير جوامع الجامع.

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٦٧ نقلاً عن امالى الطوسى ١ / ١٠٩.

(٣) جامع احاديث الشيعة ١ / ٩٠.

(٤) ما بين () ليس في الوسائل.

(٥) الوسائل ٢٧ / ١٧٢.

١٠٣

إذا عرفت الاخبار الواردة في الاحتياط فاعلم انّ القول بعدم مشروعيّة الاحتياط كلام بعيد عن الصّواب ولاشكّ في رجحانه بمقتضى الاخبار المذكورة وانّما الخلاف بين الاخباريين والمجتهدين القائلين بالبراءة الاصليّة في وجوبه وعدمه. فالقائلون بالبراءة الاصليّة ينفون الوجوب.

قال المحقّق رحمه‌الله تعالى : العمل بالاحتياط غير لازم وصار اخرون إلى وجوبه. وقال آخرون مع اشتغال الذّمة يكون العمل بالاحتياط واجباً ومع عدمه لا يجب مثال ذلك إذا ولغ الكلب في الاناء نجس واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لابدّ من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لابدّ من ثلاث؟

احتجّ القائلون بالاحتياط بقوله (عليه‌السلام) : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) وبأنّ الثابت اشتغال الذّمّة يقيناً فيجب ان لا يحكم ببرائتها الّا بيقين ولايكون هذا الّا مع الاحتياط.

والجواب عن الحديث ان نقول : هو خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول. سلّمناه لكن الزام المكلّف بالاثقل مظّنة الرّيبة لانّه الزام مشقّة لم يدلّ الشرع عليها فيجب اطراحها بموجب الخبر.

والجواب عن الثاني ان نقول : البراءة الاصليّة مع عدم دلالة النّاقله حجّة وإذا كان التقدير تقدير عدم الدلالة الشّرعيّة على الزّيادة في المثال

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ١٦٧ نقلاً عن تفسير جوامع الجامع للطبرسي

١٠٤

المذكور كان العمل بالاصل اولى ، وحينئذٍ لا نسلّم اشتغالها مطلقاً بل لا نسلّم اشتغالها الّا بما حصل الاتفاق عليه أو اشتغالها بأحد الامرين.

ويمكن ان يقال قد اجمعنا على الحكم بنجاسة الاناء واختلفنا فيما به يطهر فيجب ان نأخذ بما حصل الاجماع عليه في الطّهارة ليزول ما اجمعنا عليه من النّجاسة بما اجمعنا عليه من الحكم بالطّهارة. انتهى كلامه رفع مقامه (١).

والاخباريّون النّافون للبراءة الاصليّة على وجوب الاحتياط في العمل والتوقّف في الفتوى وغير خفيّ انّه إذا بنى الامر على وجوب الاحتياط يلزم طرح الآيات والاخبار الدّالة على البراءة الاصليّة لعدم امكان حملها على معنى آخر.

فالحقّ حمل اخبار الاحتياط على الاستحباب كما هو رأي معظم الاصوليين من الاصحاب. وقد عرفت ظهور اكثر اخبار الاحتياط في هذا الحمل.

فإن قيل : اخبار الاحتياط معاضدة باخبار التوقّف لانّ التوقّف ليس الّا الوقف عن الحكم القطعي والاحتياط في العمل كما هو رأي الاخباريين.

قلت : هذا لا يضرّنا ، لانّ الاخبار الدّالة على البراءة الاصليّة إذا لو حظت مع جميع اخبار التوقّف والاحتياط يكون الرّجحان ايضاً في طرفها لموافقتها مع القرآن وكون مقتضاها مجمعاً عليه كما عرفت من نقل

__________________

(١) المعارج ص ٢١٦ طبع ١٤٠٣ ق

١٠٥

بعضهم الاجماع كالصّدوق وغيره ولموافقتها للادلّة العقليّة.

وقال بعض الاصحاب : انّ اخبار الاحتياط معارضة لاخبار التوقّف لانّ التوقّف عبارة عن ترك الامر المحتمل الحرمة وحكم آخر من الاحكام الخمسة ، والاحتياط عبارة عن ارتكاب الامر المحتمل للوجوب وحكم آخر ما عدا التّحريم كما هو ظاهر موارد التوقّف والاحتياط ، ومن توهّم انّ التوقّف هو الاحتياط فقد سهى وغفل ـ انتهى كلامه ـ (١).

اقول : لابدّ لنا من تحقيق معنى التوقّف والاحتياط حتى يظهر صحّة هذا الكلام وفساده فنقول : لاشكّ انّ التوقّف لغة هو الكفّ والترك مطلقاً ولكن ينبغي التأمّل في انّه هنا عبارة عن الكفّ عن الفتوى والحكم ، أو عنهما وعن العمل ايضاً مطلقاً ، أو منحصر بالكفّ عن الفعل المحتمل للحرمة وحكم اخر من الاحكام الخمسة كما افاده هذا البعض. وكذا ينبغي التأمّل في انّ الاحتياط منحصر فيما ذكره رحمه‌الله أم هو مختلف في المواضع والموارد ، فربّ موضع يكون الاحتياط فيه الفعل ، وربّ موضع يكون الاحتياط فيه الترك ، وربّ موضع يكون الاحتياط فيه ارتكاب افعال متعدّدة كما ذكره اكثر القوم.

ولمّا احال هذا القائل بيان الفرق المذكور إلى موارد التوقّف والاحتياط لابدّ من التأمّل في اخبارهما اوّلاً والاشارة إلى الحقّ ثانياً.

فنقول : الاخبار التي استدلّوا بها على التوّقف على ما ذكرناها جميعاً

__________________

(١) الوافية ص ١٩٢

١٠٦

كان جملة منها دالّة على عدم القول بغير علم وردّ علمه إلى الائمّة (عليهم‌السلام) وكان العمل فيها مسكوتاً عنه فلا نفهم منها الّا التوقّف في الفتوى والحكم مع انّه لايفهم منها ان الردّ المذكور هو التوقّف ، لعدم اطلاق التوقّف عليه فيها.

ورواية واحدة منها دالّة على ترك العمل إذا كان الفعل دائراً بين الحرمة وغيرها من الاحكام ، واطلق فيها التوقّف على هذا الترك كما قال القائل المذكور ، وهي رواية عمر بن حنظلة حيث قال : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ـ إلى ان قال ـ فإذا كان كذلك فارجه حتى تلقى امامك فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكات (١) فإنّها تدلّ على انّ الشبهة الدّائرة بين الحلال (كذا) والحرمة يجب تركها حتى يلقى الامام واطلق فيها على هذا الترك التوقّف حيث قال (عليه‌السلام) : فإنّ الوقوف ـ إلى آخره ـ.

وبعض منها يدلّ على الترك إذا كان الفعل دائرا بين ان يكون مأموراً به أو منهيّاً عنه الّا انّه لم يطلق فيه التوقّف على الترك المذكور كرواية سماعة بن مهران المذكورة في الاحتجاج حيث قال (عليه‌السلام) بعد قول الرّاوي : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ به والاخر ينهانا عنه : لا تعمل بواحد منهما (٢)

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ١٥٧. الكافي ١ / ٦٧

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٢٢ نقلاً عن الاحتجاج ٣٥٧.

١٠٧

فانّها تدلّ على ترك الفعل إذا كان دائراً بين ان يكون مأموراً به أو منهيّاً عنه الّا انّه لم يطلق فيها التوقّف على الترك المذكور فلا يعلم منها انّ الترك المذكور على سبيل الاحتياط أو التوقّف أو امر آخر.

وبعض منها اطلق فيه التوقّف على ترك مطلق الشبهة لا على الشبهة الدائرة بين الحرمة وما سواها من الاحكام كرواية جميل بن دراج حيث قال (عليه‌السلام) : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ـ إلى ان فرّع على ذلك قوله (عليه‌السلام) ـ فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه (١).

ويمكن ان يقال : الظاهر انّ الشبهة فيها هي الشبهة الدائرة بين الحرمة وشيء آخر من الاحكام بقرينة قوله (عليه‌السلام) : «فدعوه».

فظهر انّ الاخبار الّتي استدلّوا بها على التوقّف ليس فيها ما يدلّ على انّ التوقّف هو ترك الامر المحتمل للحرمة وشيء آخر من الاحكام ، الّا خبر واحد أو اثنين بناء على العناية المذكورة فالاخبار الّتي وقع فيها التّصريح بلفظ التوقّف يفهم منها انّ التوقّف هو ترك الامر المحتمل للحرمة وشيء آخر سوى الحرمة كما قال القائل المذكور وهو انسب بمعناه اللغوي ايضاً الّا انّ ذلك لا يثبت مطلوبه كما ستعرف.

وامّا اخبار الاحتياط فرواية زرارة بن اعين الّتي رواها ابن جمهور

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ١١٩

١٠٨

اللحساوي في العوالي (١) عن العلّامة مرفوعاً فلا يدلّ الّا على الاحتياط فيما تعارض فيه النّصان. وما تعارض فيه النّصان اعمّ من ان يكون أحدهما دالًّا على الوجوب والاخر على شيء آخر من الأحكام ، أو أحدهما على الحرمة والاخر على شيء آخر غيرها من الأحكام ، ولا شكّ انّ الامر إذا كان دائراً بين الحرمة وشيء آخر من الاحكام ما سوى الوجوب يكون الاحتياط في الترك ، بل ان احتمل الوجوب ايضاً كما ستعرف ان شاء الله العزيز ، فلا يدلّ هذا الخبر على انّ الاحتياط هو فعل الامر المحتمل للوجوب وشيء آخر سوى الحرمة كما افاده هذا القائل.

وامّا صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج (٢) فتدلّ على انّ الفعل إذا كان مردّداً بين الوجوب وغيره سوى الحرمة بل الكراهة ايضاً فالاحتياط فيه بالفعل فهي تدلّ على مطلوب القائل المذكور.

وامّا صحيحته الاخرى (٣) فاطلق الاحتياط فيها على الفحص في بعض جزئيّات موضوع الحكم الشرعي إذا كان جاهلاً به. فهي ايضاً لا تدلّ على مطلوب القائل المذكور وامّا رواية عبدالله بن وضّاح فيفهم منها انّ الفعل إذا كان دائراً بين الاستحباب والحرمة فالاحتياط فيه بالترك ، لانّ الرّاوي سأل المعصوم (عليه‌السلام)

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ / ١٣٣.

(٢) التهذيب ٥ / ٤٦٦.

(٣) الكافي ٥ / ٤٢٧.

١٠٩

عن اداء الصّلاة وقت استتار القرص أو تأخيرها إلى ذهاب الحرمة ، فامره بترك الصلاة عند الاستتار وتأخيرها إلى ذهاب الحمرة إحتياطاً. ولا شكّ ان الصّلاة عند الاستتار يحتمل ان تكون مستحبّاً إذا كان ذلك وقتاً لها لوقوعها حينئذٍ في اوّل الوقت ويحتمل الحرمة وترك الواجب إذا لم يكن عند الاستتار وقتاً لها.

فهذه الرّواية ايضاً لا تدلّ على مطلوب القائل المذكور.

وامّا رواية شعيب الحدّاد (١) ، فيفهم منها ان الفعل إذا كان دائراً بين الحرمة والمباح أو الاستحباب فالإحتياط فيه بالترك فهي ايضاً لا تدلّ على مطلوبه مطلقاً.

وامّا صحيحة احمد بن محمّد بن أبي نصر (٢) ، فقد اشرنا إلى انّها مجملة ، وبعض الاصحاب حمل الإحتياط فيها على الخوف من المخالفين.

وامّا الاخبار الاربعة الباقية فتدلّ على رجحان الإحتياط ولايفهم منها مورده بل الحديث النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اعني قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «دع ما يريبك إلى مالا يريبك» (٣) يفهم منه انّ الإحتياط يكون بالفعل والترك بل بكلّ ما لاريب فيه فإنّه قد يكون بالفعل وقد يكون بالترك وقد يكون بالجمع بين الفعلين

__________________

(١) التهذيب ٧ / ٤٧٠. الوسائل ٢٠ / ٢٥٨

(٢) الوسائل ٢١ / ٢٠

(٣) الوسائل ٢٧ / ١٧٣

١١٠

أو الافعال المتعدّدة.

فيفهم من هذا الخبر بعمومه ومن الاخبار الاخر لورودها في موارد مختلفة ان موارد الإحتياط مختلفة وليس عبارة عن ارتكاب الامر المحتمل للوجوب وشيء آخر سوى الحرمة كما ذكره هذا القائل. وستقرع سمعك تفصيل موارده إن شاء الله تعالى.

فحينئذٍ نقول : الحقّ انّ التوقّف كما يستنبط من الاخبار هو الّذي ذكره هذا القائل اعني ترك الامر المحتمل للحرمة وغيرها من الاحكام ، فيكون هو فرداً من الإحتياط لما عرفت من انّه يفهم اطلاق الإحتياط على هذا الفرد وعلى افراد اخر ، فيكون الإحتياط اعمّ مطلقاً من التوقّف. فهذا القائل ما ذكره لمعنى التوقّف صحيح ولكن ما ذكره لمعنى الإحتياط غير صحيح.

وبذلك يظهر انّ ما ذكره من انّ معنى التوقّف غير معنى الإحتياط غير صحيح لانّ التوقّف حينئذٍ فرد من افراد الإحتياط وليس هو امراً مبائناً له. وحمل الغيرية على عدم كونه هو بعينه غير مفيد له لانّ غرضه اثبات انّ اخبار الإحتياط معارضة لاخبار التوقّف ، وكون التوقّف اخصّ منه غير مفيد لذلك بل يصير اخبار الإحتياط حينئذٍ معاضدة لاخبار التوقّف كما ذكره بعض العلماء لانّ التوقّف حينئذٍ ليس إلّا بعضاً من افراد الإحتياط.

وبما قرّرنا يظهر لك ايضاً ان تخصيص التوقّف بالتوقّف في الفتوى ، والإحتياط بالإحتياط في العمل ، كما قال بعض الاصحاب خلاف مفهوم التوقّف من اللغة والاخبار. فالحقّ في بيان معنى التوقّف والاحتياط ما

١١١

ذكرناه ، فحينئذٍ يكون اخبار التوقّف معاضدة لاخبار الإحتياط.

فالحقّ في الجواب حينئذٍ ما ذكرناه من انّ الترجيح لاخبار البراءة بالنسبة اليهما جميعاً لمعاضدتها بالآيات القرآنيّة وموافقتها لاجماع الفرقة المحقّة الاثنى عشريّة وتأييدها بالادلّة العقليّة اليقينيّة فيجب حمل اخبار التوقّف والإحتياط جميعاً على الاستحباب. وقد عرفت انّ اكثر اخبار الإحتياط ظاهر في الاستحباب بل بعضها متعيّن الحمل عليه وقد عرفت وجوهاً اخر ايضاً من الايرادات على اخبار الإحتياط.

وأورد عليها ايضاً بانّه يمكن حمل اخبار الإحتياط على صورة امكان الوصول إلى المعصوم (عليه‌السلام) كالتمسّك بالاصل في هذا الزّمان قبل الفحص والتفتيش عن النصوص والادلّة وهو غير جائز باجماع الفرقة. فتأمّل.

وغير خفيّ انّ اخبار البراءة الاصليّة معاضدة باخبار التوسعة والتخيير فيما تعارض فيه النّصان لانّ التوسعة في معنى الاباحة والبراءة كما لا يخفى.

وقد ذكروا وجوهاً للاخذ بالإحتياط لا يفيد شيء منها ما يطمئنّ به النّفس.

وقد قال بعض علمائنا (١) الاخباريين : هل يجوّز أحد ان يقف عبد من عباد الله فيقال له بما كنت تعمل في الاحكام الشرعيّة فيقول كنت اعمل

__________________

(١) قيل هو السيّد نعمة الله الجزائرى (قدس‌سره). وراجع الرسائل الاصوليّة للوحيد البهبهاني ٣٧٧.

١١٢

بقول المعصوم واقتفي اثره في ما ثبت من المعلوم فإنّ اشتبه عليّ شيء عملت بالإحتياط فزلّ قدم هذا العبد عن الصّراط ويقابل بالاهانة ويؤمر به إلى النّار ويحرم مرافقة الاخيار هيهات هيهات ان يكون اهل التّسامح والتّساهل في الدّين يومئذٍ في الجنّة خالدين واهل الإحتياط في النّار معذّبين. انتهى كلامه زيد مقامه.

ولايخفى انّه لا كلام للمجتهدين في رجحان الاخذ بالإحتياط وسلوك سالكه مسلك النّجاة ولذا اطبقوا على استحبابه ، انّما كلامهم في انّ وجوبه مع دلالة الادلّة الكثيرة على البراءة غير ثابت فهذا الكلام لا يدلّ على بطلان مذهب المجتهدين بل على حسن الإحتياط ولاريب في حسنه ونحن نقول به.

إذا عرفت ذلك فلنذكر الآن تفصيل موارد الإحتياط ليظهر جليّة الحال فنقول : الإحتياط على ما يقتضيه العقل امّا ان يكون في نفس الحكم الشرعي أو في افراد موضوعه ، وكلّ منهما امّا ان يكون فيما لا نصّ فيه أو ما تعارض فيه النّصان ، فيصير الاقسام الاربعة وكلّ من الاقسام الاربعة امّا ان يكون الإحتياط فيه بالفعل أو الترك أو الجمع بين الافراد المشكوك فيها ، وحاصل ضرب الاربعة في الثلاثة اثنا عشر فيصير الاقسام المتصوّرة اثنا عشر قسماً.

الاوّل : ان يكون فيما لا نصّ فيه في نفس الحكم الشرعي والإحتياط فيه بالفعل ، كما إذا كان الفعل الّذي لم يرد به نصّ دائراً عند الفقيه بين

١١٣

الوجوب والاحكام الاخر سوى التحريم ، فالإحتياط في الفعل. فالاصوليّون على استحباب الفعل بناء على اثباتهم البراءة الاصليّة والاخباريّون على وجوبه بناء على نفيهم البراءة الاصليّة.

الثاني : ان يكون فيما لا نصّ فيه في الحكم الشرعي ايضاً ويكون الإحتياط فيه بالترك ، كما إذا كان ما لانصّ فيه عند الفقيه دائراً بين الحرمة وغيرها من الاحكام سواء كان الوجوب أو غيره. كذا قال جمع من الاصحاب مستنداً بأنّ ذلك هو المستفاد من الاخبار وهو كذلك لدلالة رواية ابن حنظلة على ذلك حيث قال (عليه‌السلام) : فإذا كان كذلك فارجه حتى تلقى امامك (١) فإنّ ارجاء الفعل هو تأخيره وتركه. ويدلّ عليه ايضاً موثقة سماعة المتقدّمة عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) حيث قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتّى يلقى من يخبره ...» (٢).

ولايخفى ان هذين الخبرين واردان فيما تعارض فيه النّصّان والظاهر انّ الاستدلال بهما على تغليب الحرمة فيما لا نصّ فيه مبنيّ على عدم القول بالفصل.

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٧.

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٠٨. الكافي ١ / ٦٦.

١١٤

وقد استدلّ بعض مشايخنا المعاصرين (١) على ذلك بموثقة زرارة في اناس [من اصحابنا] حجّوا بامرأة معهم فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلّي وجهلوا انّ مثلها ينبغي ان يحرم فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكّة وهي طامث حلال. فسألوا النّاس فقالوا : تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت إذا فعلت لم تدرك الحجّ. فسألوا ابا جعفر (عليه‌السلام) فقال : «يحرم من مكانها قد علم الله نيّتها» (٢).

ووجّه الدّلالة على ما قال انّها تركت واجباً لاحتمال الحرمة عندها وقرّرها المعصوم (عليه‌السلام) (٣).

ولايخفى ما في هذا الاستدلال فإنّ هذا الخبر لا يدلّ مطلقاً على انّ الفعل المذكور كان عندها دائراً بين الوجوب والحرمة وتركها لاحتمال الحرمه ، حتى يمكن الاستدلال بها ، بل يدلّ على انّ ترك الفعل انّما كان باعتبار الجهل ، وهو لا يدلّ على انّ وجوبه كان محتملاً عندهم.

وقد استدلّ بعض على ذلك بأنّ دفع الضّرر اهمّ من جلب المنفعة وهو ممّا ينبغي ان لايلتفت إليه ، لانّ الضّرر يوجد في ترك الواجب ايضاً ففي فعله دفع للضّرر وجلب المنفعة. فالعمدة في الاستدلال ما ذكرنا من الخبرين فتأمّل.

__________________

(١) هو صاحب الحدائق فيه ١ / ٧٠.

(٢) الحدائق ١ / ٧٠. الوسائل باب ١٤ من ابواب المواقيت.

(٣) الحدائق ١ / ٧٠.

١١٥

الثالث : ان يكون فيما لا نصّ فيه في نفس الحكم الشرعي والاحتياط بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ، كما إذا كان الفعل الّذي لم يرد به نصّ محتملاً للوجوب وغيره سوى الحرمة عند الفقيه ومع ذلك كان له افراد متعدّدة وتردّد الفقيه في افراده. فالإحتياط فيه الجمع بين الافراد المشكوك فيها امّا عند الاصولييّن فعلى سبيل الاستحباب وامّا عند الاخبارييّن فعلى سبيل الوجوب.

وعلى ما قرّرناه من تحرير محلّ النّزاع يظهر انّه إذا اشتغلت ذمّة المكلّف يقيناً بواجب ولكن تردّد بين فردين أو ازيد من افراد ذلك الواجب يجب عليه الاتيان بالجميع عند المجتهدين. فهذا الإحتياط عندهم ايضاً واجب. ومنه من اشتغلت ذمّته بفريضة من اليوميّة مع جهلها في الخمس مثلاً فإنّه يجب عليه الاتيان بالخمس لانّ تحصيل البراءة اليقينيّة غير ممكن بدون ذلك.

الرّابع : ان يكون فيما تعارض فيه النّصان في الحكم الشّرعي ويكون الإحتياط فيه بالفعل (١) كما إذا كان ما تعارض فيه النّصان دائراً عند الفقيه بين الوجوب وغيره من الاحكام سوى الحرمة فالإحتياط حينئذٍ بالفعل ايضاً.

الخامس : ان يكون فيما تعارض فيه النّصان في الحكم الشرعي ويكون الإحتياط بالترك كما إذا كان ما تعارض فيه النّصان دائر بين الحرمة

__________________

(١) بفعل واحد. خ.

١١٦

وغيرها من الأحكام. والدّليل كما عرفت. بل الدّليل هنا اظهر لورود الخبرين في هذا الشقّ.

السادس : ان يكون ما تعارض فيه النّصان في الحكم الشرعي ويكون الإحتياط بالجمع بين الافراد المشكوك فيها كما إذا كان ما تعارض فيه النّصان محتملاً للوجوب وغيره سوى الحرمة ومع ذلك كان له افراد متعدّدة وتردّد الفقيه في الافراد.

السابع : ان يكون فيما لا نصّ فيه في موضوع الحكم الشرعي ويكون الإحتياط فيه بالفعل وذلك كما إذا علم أصل حكم الفعل وكان هو الوجوب ولكن حصل الشكّ في اندراج بعض الافراد تحت الفعل المذكور ولم يرد به نصّ من الشريعة. ومن هذا القبيل صلاة الجمعة في زمان الغيبة على ما ادّعى بعض الاصحاب النافين للوجوب العيني من انّا نعلم صلاة الجمعة واجبة في كلّ وقت وزمان ولكن الصّلاة الّتي تفعل في زمان الغيبة يمكن ان لايصدق عليها عنوان صلاة الجمعة لاحتمال ان يكون امامة المعصوم داخلة في حقيقتها أو من الشّروط الّتي لا يصدق عليها العنوان المذكور بدونها. وقد بيّنا فساد هذا الكلام في بعض رسائلنا.

الثامن : ان يكون فيما لا نصّ فيه في موضوع الحكم الشرعي ويكون الإحتياط بالتّرك. وذلك كما إذا علم أصل الحكم وكان التحريم ولكن حصل الشكّ في اندراج بعض الجزئيّات والافراد تحته مع عدم ورود النّص في هذا البعض. ومن هذا القبيل الشكّ في اندراج بعض الاصوات

١١٧

تحت الغناء المعلوم تحريمه. ومنه الشكّ في اندراج الخزف تحت غير الارض المعلوم تحريم السّجدة عليه.

التّاسع : ان يكون فيما لانصّ فيه في موضوع الحكم الشّرعي ويكون الاحتياط بالجمع بين الافراد المشكوك فيها كما إذا علم انّ الفعل الفلانى حكمه كذا وكان هو الوجوب ولم يرد نصّ بأنّ هذا الامر داخل تحت الفعل المذكور أم لا وحصل الشكّ في ذلك ووقع التّردّد في افراد هذا الامر أو وقع الشكّ اوّلاً في انّ عدّة من الافراد (١) داخلة تحت الفعل المذكور أم لا فالإحتياط في الصّورتين الجمع بين الافراد المشكوك فيها.

العاشر والحادي عشر والثاني عشر : كالسّابع والثّامن والتّاسع الّا انّه هنا يكون فيما تعارض فيه النّصان وهناك كان فيما لا نصّ فيه.

وينبغي التأمّل في انّه لبعض هذه الاقسام هل يوجد امثلة من المسائل الشرعيّة أم لا.

ودليل القائلين بالحرمة فيما لا نصّ فيه انّ الفعل تصرّف في ملك الله تعالى بدون إذنه والتّصرّف في ملك الغير بدون إذنه قبيح.

واجيب بأنّ الإذن معلوم عقلاً حيث لا ضرر على المالك كالاستظلال بحائط الغير.

وغير خفي انّ الآيات والاخبار الدّالة على الاباحة والحلّ تدلّ على الاذن الشرعي ايضاً ولم نعثر لهم على دليل آخر. والله يعلم.

__________________

(١) الافعال. خ.

١١٨

الفصل الثاني

في أصل البراءة بالمعنى الثّاني

أعني أصالة عدم الوجوب والاستحباب

اعلم انّ الحقّ الحقيق بالاتّباع انّ الأصل عدم الوجوب والاستحباب حتى دلّ الدّليل على ثبوتهما فإذا لم يثبتا جزماً من قبل الشريعة يمكن نفيهما باصل البراءة وهو مذهب جميع المجتهدين. والظاهر انّ الاخباريين ايضاً هنا قائلون بأنّ الأصل نفي الوجوب والاستحباب فهم لا ينكرون أصل البراءة بالمعنى الثاني بل انّهم انّما ينكرون أصل البراءة بالمعنى الاوّل وقد صرّح بذلك بعض منهم ولكن الظاهر انّ بعضاً منهم يذهبون هنا ايضاً إلى وجوب الإحتياط اعني الاتيان بالفعل.

١١٩

لنا بعض الآيات المذكورة في أصالة البراءة بالمعنى الاوّل فانّها قسمان :

قسم منها لا يدلّ على أصالة البراءة بهذا المعنى كقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...)(١).

وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ...)(٢).

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ ...)(٣).

وقوله تعالى : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ ...)(٤).

وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ...)(٥).

وبالجملة ما يشبه ذلك لا يدلّ على أصالة البراءة بهذا المعنى.

وقسم منها تدلّ على أصالة البراءة بهذا المعنى كقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ...)(٦).

وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٧).

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) النحل : ١١٥.

(٣) البقرة : ١٦٨.

(٤) الانعام : ١٤٥.

(٥) الانعام : ١٥١.

(٦) الاسراء : ١٥.

(٧) الطلاق : ٧.

١٢٠