جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

وقد ذكر جمع من العلماء شروطا اخر الّا انّ كلّها راجع إلى عدم وجود المعارض وحدوث المزيل ، وهذا ضابطة كليّة يجب مراعاتها حتى يكون العمل بالإستصحاب صحيحاً.

البحث السادس :

في ذكر بعض الامثلة التي يتفرّع على قاعدة الإستصحاب.

منها : إستصحاب الطّهارة أو الحدث عند الشّك في المزيل.

ومنها : إستصحاب بقاء اليوم في رمضان عند الشّك في الغروب فيحرم الاكل.

ومنها : إستصحاب بقاء الليل فيه عند الشكّ في طلوع الفجر فيجوز الاكل.

ومنها : إستصحاب التحريم عند الشّكّ في انقضاء العدّة.

ومنها : استصحاب شغل الذمّة عند الشّك في فراغها في اداء الزكاة والخمس.

ومنها : إستصحاب فراغها عند الشّك في شغلها في بلوغ النّصاب.

ومنها : إستصحاب الحليّة عند الشّكّ في بلوغه نصاب الرّضاع.

ومنها : إستصحاب عادة الحائض عند الشّكّ في انقضائها فلا تصليّ.

٢٤١

ومنها : إستصحاب جواز تصرّف الولي في مال الطفل عند الشكّ في بلوغه.

ومنها : إستصحاب الطهارة عند خروج المذي والشّكّ في كونه ناقضاً.

ومنها : إستصحاب الطّهارة لو كان الماء كرّاً فوجد متغيّراً وشكّ في انّ تغيّره من النّجاسة أو من شيء طاهر.

ومنها : انّه لو وجد في ثوبه منيّاً وشكّ في كونه من آخر نومه أو تقدّمه عليه فانّه يحكم بكونه من آخر نومه لإستصحاب عدمه إلى حصول اليقين.

ومنها : انّه لو علم نجاسة الماء ثمّ شكّ في كونه كرّاً فيحكم بنجاسته استصحاباً لها إلى ان يحصل اليقين.

والقول بانّه من باب تعارض الأصلين بناء على انّه يمكن ان يقال : انّ اليقين بالطّهارة حاصل لانّ الأصل في الماء الطّهارة وحصل الشكّ في تأثيره بالنّجاسة.

مدفوع بأنّه لا معنى لاصالة الطّهارة بعد العلم بالنّجاسة.

ومنها : إستصحاب الطّهارة اذا علم بالنّجاسة بعد الطّهارة وشكّ في تقدمها وتأخّرها.

ومنها : لو تعارض الملك القديم واليد الحادثة ففي الترجيح قولان ، ونظر من قال بترجيح الاوّل إلى إستصحاب الملك.

٢٤٢

ومنها : إستصحاب عدم العيب أو سبقه على العقد لو ادعى المشتري أحدهما وانكره البائع. وكذا لو ادّعى البائع في القيمة وانكره المشتري.

ومنها : لو اتّفق الوصيّ واليتيم على الانفاق من يوم موت الموصى إلى وقت الدّعوى ، ولكن اختلفا في يوم الموت ، مثل ان يقول الوصيّ من يوم الموت إلى هذا الوقت سنتان وقال اليتيم : بل سنة ، فيقبل قول اليتيم استصحاباً لحياة الموصي.

ومنها : لو اختلف الوارث والموهوب له في تحقّق الهبة أو غيرها من التبرّعات في الصّحة أو المرض. فان علم موت الواهب المورث في المرض فالقول قول الوارث نظراً إلى استصحاب عدم تحقّق الهبة في الصّحة ، وإن لم يعلم ذلك بل احتمل ان يكون هلاكه فجاءة أو بالقتل ، فقيل حينئذٍ : يقدّم قول الموهوب له نظراً إلى أصالة العدم ، وقيل : يقدم قول الوارث مطلقاً نظراً إلى الغالب فيكون من باب تعارض الأصل والظاهر فتفكّر.

ومنها : إستصحاب صحّة الصّلاة أو الصّوم والاعتكاف أو غير ذلك من العبادات عند الشّك في عروض مبطل.

والامثلة لهذا الأصل كثيرة لانّه كثير الفروع ، الّا انّ ما ذكرناه كاف للتفريع.

٢٤٣
٢٤٤

الفصل السادس

في أصالة عدم تقدّم الحادث

مثاله كما اذا استعمل ماء ووجد فيه نجاسة بعد الاستعمال وحصل الشّك في وقوعها قبل الاستعمال أو بعده ، فيقال : الأصل عدم الوقوع قبله ، لانّ الأصل عدم تقدّم الحادث.

وهذا الأصل داخل تحت أصل العدم لانّه راجع إلى انّ الأصل في الممكن العدم.

بيان ذلك : انّه لما وقع الشكّ في تقدّم النّجاسة على الاستعمال وتأخّرها عنه ، والنّجاسة من الممكنات ، والأصل فيها العدم إلى ان يحصل اليقين ، وتقدّمها عليه غير معلوم ، فينفي ويؤخذ بالتأخّر الّذي هو المتيقّن.

وبينهما عموم وخصوص مطلقاً يعنى أصل العدم اعمّ مطلقاً من أصل تأخّر الحادث.

٢٤٥

بيان ذلك : ان حقيقة أصل عدم تقدّم الحادث راجعة إلى انّا نجزم بتحقق الحادث في الخارج الّا انّا نشكّ في انّه هل تحقّق في زمان متقدّم أو متأخّر؟ ولما كان تحقّقه في الزّمان المتقدّم غير متيقّن ينفي فيه ، واذا نفى فيه لا بدّ ان يؤخذ ما هو المتيقّن ، فالنّفي في الزّمان المتقدّم بناء على انّ الأصل في الحادث هو التمسّك باصل العدم. فكلّ أصل عدم التقدّم يصدق عليه أصل العدم ، بخلاف العكس ، فانّه اذا شكّ في تحقق وجود ممكن في زمان فنفى وجوده فيه يصدق عليه أصل العدم ولا يصدق عليه أصل تقدّم الحادث لعدم وقوع الشّك في التقدّم والتأخّر.

ثمّ انّك قد علمت في أصل العدم انّه مركّب من أصل البراءة وإستصحاب حال العقل ، يعني انّه اذا كان الممكن الّذي وقع في وجوده الشّك هو التكليف كالحرمة والوجوب وغيرهما من الاحكام يمكن نفيه بادلّة البراءة مع قطع النّظر عن ملاحظة الحالة السّابقة واجراء الحكم منها إلى اللّاحق فحينئذٍ يرجع إلى البراءة الاصليّة ، وإن امكن نفيه بالملاحظة المذكورة ايضاً حتى يكون إستصحاب حال العقل. وان لم يكن الممكن المذكور تكليفاً بل كان شيئاً آخر فلا بدّ من ملاحظة عدمه الاصلي واستمراره إلى الزّمان الّذي وقع فيه الشّك ، فنفى وجوده في الزّمان المشكوك فيه يكون من إستصحاب حال العقل.

ودليل حجيّته حينئذٍ هو دليل حجيّة إستصحاب حال العقل.

واذا عرفت هذا تعلم انّ حال أصل عدم تقدّم الحادث ايضاً كذلك

٢٤٦

لانّه اذا كان نوعاً من أصل العدم فدليل حجيّة أصل العدم يجري فيه ايضاً بلا تفاوت.

ثمّ اعلم انّه قال بعض المتأخرين : كما كان الاستدلال باصل البراءة مشروطاً بان لايثبت حكماً شرعيّاً من جهة اخرى ، فكذا الحكم هنا بعينه. مثلاً اذا استعمل أحد ماء ثمّ ظهر له انّ هذا الماء كان قبل ذلك في زمان نجساً ثمّ طهّر بالقاء كرّ عليه دفعة ولم يعلم انّ التطهير هل كان قبل الاستعمال أو بعده؟ فلا يصحّ ان يقال : الأصل عدم تقدّم تطهيره فيجب اعادة غسل مالاقى ذلك الماء في ذلك الاستعمال ، لانّه اثبات حكم بلا دليل ، فانّ حجيّة الأصل في النفي باعتبار قبح تكليف الغافل ووجوب اعلام المكلّف بالتكليف ، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدّليل ، فلو ثبت حكم شرعي بالاصل يلزم اثبات حكم من غير دليل وهو باطل اجماعاً ـ انتهى ـ (١).

اقول : فيه نظر لانّا نسلّم ما ذكر هذا القائل في أصل البراءة عن التكاليف وقد ذكرنا ذلك مفصّلاً قبل ذلك في بحث أصل البراءة ، وقد بيّنا انّ مقتضى ادلّة حجيّة أصل البراءة نفي التكليف فاذا كان الاستدلال باصل البراءة مستلزماً للتكليف من جهة اخرى فهو ساقط عن درجة الاعتبار.

وامّا أصل العدم وأصل تأخّر الحادث فان كان الحادث المقصود نفيه هو التكليف ، وكان الاستدلال على نفيه باعتبار ادلّة البراءة حتى يكون

__________________

(١) وافية الاصول ص ١٨٧

٢٤٧

أصل البراءة فالحكم فيهما ايضاً كذلك.

وامّا ان لم يكن الحادث المقصود نفيه من التكاليف الشرعيّة ، أو كان ولكن لم يكن الاستدلال على نفيه بادلّة البراءة ، بل بادلّة إستصحاب حال العقل ، لا يكون الحكم فيه كذلك لانّ الاستدلال في هاتين الصّورتين يكون من إستصحاب حال العقل وهو جار في كلّ الممكنات سواء كان الاستدلال به مستلزماً لاثبات تكليف اخر أم لا ، كيف وادلّة إستصحاب حال العقل هي بعينها ادلّة إستصحاب حال الشرع وهي مبقية للتكاليف.

وبالجملة انّ هذا الشّرط مختصّ باصل البراءة وهو ظاهر لا يشكّ فيه لبيب ماهر.

نعم حجّيّة أصل العدم وأصل عدم تقدّم الحادث مشروطة بعدم تعارضهما مع مثلهما أو شيء آخر من الادلّة والامارات هذا.

وقال بعض الافاضل من المتأخرين : يشترط في الامر المتمسّك فيه بالاصل ، ان لايكون جزء عبادة مركّبة ، سواء كان الأصل أصل البراءة أو أصل عدم تقدّم الحادث ، فلا يجوز التمسّك به في نفيه لو وقع الاختلاف فيه في ثبوته ونفيه (١).

وقال : ما حاصله : هذه العبادة المركّبة امّا ورد نصّ في بيان اجزائها أم لا ، فإن ورد فيه نصّ ولم يكن هذا النّص مشتملاً على هذا الجزء المختلف

__________________

(١) اصل هذا الكلام في وافية الاصول ١٩٥ ولعلّ ذيله والتوضح من السيّد الصدر القمي فراجع.

٢٤٨

فيه فيكون هذا الجزء منفياً بالنّص لا بالاصل ، وان لم يرد فيها النّص فلا يمكن نفيه بالاصل ، لانّ العبادة توقيفيّة موقوفة على بيان الشارع فإذا لم يرد بيان من الشارع يجب ان يعمل جميع المحتملات حتى يحصل اليقين بالبراءة لانّ شغل الذّمة اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.

اقول : هذا الكلام في غاية الوهن والضعف وذلك لانّه يرد على الصّورة الاولى اعني ورد النّص انّ النّص الّذي ورد لبيان الاجزاء اثبت بعض الاجزاء ولم يثبت منه نفي هذا الجزء الّذي يراد نفيه بالاصل لانّه ان ثبت نفي هذا الجزء لا ينتفي بالاصل ، لانّ المفروض ، الجزء الّذي لم يدلّ النّص صريحاً على نفيه ، فحينئذٍ كيف يكون هذا الجزء منفيّاً بالنّص بل نفيه محتاج إلى ضميمة الأصل.

ويرد على الصّورة الثانية ـ اعني عدم ورود النّص ـ ايضاً انّ الجزء المشكوك فيه ايضاً يمكن نفيه بالاصل ، لانّ الادلّة الدّالة على ثبوت البراءة الاصليّة شاملة لجميع اقسامها سواء كانت في العبادة أو غيرها ، وموقوفيّة العبادة على بيان الشارع لاينافي اجراء أصل البراءة فيها ، بل مؤكّده له ، لانّ العبادة إذا كانت بيانها من الشارع فكلّ جزء منها لم يثبت من الشّارع يجب ان يترك حتى لا يلزم ان يجعل من العبادة شيء ليس من الشارع.

مع انّ اجراء أصل البراءة ايضاً من الشارع ، لانّ ثبوته من نصّه وبيانه.

والقول بانّه إذا علم ثبوت عبادة مركّبة وحصل الشّك في اجزائه يجب ان يعمل جميع محتملاته لانّ شغل الذمّة اليقيني يحتاج إلى البراءة

٢٤٩

اليقينيّة ساقط عن درجة الاعتبار ، لانّ المحتاج إلى البراءة اليقينيّة هو القدر المتيقّن ثبوته من الشارع لا القدر المشكوك ايضاً. مع انّ هذا مشترك بين العبادة وغيرها ايضاً فالتخصيص بالعبادة تحكّم ، فتأمّل.

٢٥٠

الفصل السابع

في أصل التمسّك بعدم الدليل

فيقال : عدم الدليل على الحكم الكذائي يدلّ على انتفائه. مثاله ان يقال : لا يجب على الولي منع الصّبيان من مسّ المصحف لانّ عدم الدّليل على الوجوب يدلّ على انتفاءه.

وقال الشهيد في الذّكرى : مرجع هذا الأصل إلى البراءة الاصليّة (١).

لانّ ما يلزم من هذا الأصل اسقاط التكليف لا نفي الحكم الواقعي.

إذا عرفت هذا فاعلم انّ جماعة من العامّة ذهبت إلى انّ عدم المدرك مدرك العدم ، يعنى ان كلّ حكم لم يكن عليه دليل فهذا يدلّ على نفي هذا الحكم في الواقع ، وهذا باطلاقه ليس عندنا صحيحاً لانّ مذهبنا انّ لكلّ

__________________

(١) الذكرى ١ / ٥٣

٢٥١

قضيّة وواقعة حكماً مودعاً عند ائمّتنا صلوات الله عليهم اجمعين (١) الّا انّهم (عليهم‌السلام) لم يتمكّنوا من اظهار الجميع للتقيّة وغيرها. فكلّ حكم لم يصل الينا مدركه لا يمكن لنا ان نحكم بعدمه في الواقع ، إذ يمكن ان يكون له مدرك عند الائمّة (عليهم‌السلام) الّا انّه يكون من الاحكام التّي لم يتمكّنوا (عليهم‌السلام) من اظهاره. بل حينئذٍ عدم المدرك يدلّ على انتفاء التكليف في حقّنا لا على نفي الحكم في الواقع.

نعم هذا الحكم ان كان ممّا يعمّ به البلوى ولم يكن عليه مدرك شرعي يمكن الحكم بنفي الحكم في الواقع لانّه لاشكّ انّ الاحكام الّتي يعمّ بها البلوى ويحتاج النّاس اليها كثيراً صدرت من الائمّة (عليهم‌السلام) ولذا حكم جمع من محقّقى اصحابنا بأنّ عدم المدرك في الاحكام الّتي يعمّ بها البلوى مدرك العدم في الواقع فإذا بذل الفقيه جهده واستفرغ وسعه في الامور الّتي يعمّ بها البلوى ومع ذلك لم يجد عليها مدركاً يحصل له الظّن التّام بعدم الحكم في الواقع.

قال المحقّق (قدس‌سره) في المعتبر : وهذا يصحّ فيما علم انّه لو كان هناك دليل لظفر به امّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ولايكون ذلك الاستدلال حجّة (٢).

وقد تمسّك العلامّة (قدس‌سره) ايضاً بهذا الأصل في مقام الاستدلال على الامور التي يعمّ بها البلوى.

__________________

(١) الفصول المهمّة ١ / ٤٨٠.

(٢) المعتبر ص ٧ الطبع الحجرى.

٢٥٢

قال (قدس‌سره) في المختلف في الاستدلال على عدم نقض الوضوء بخروج المذي : انّه ممّا يعمّ به البلوى ويحصل لاكثر النّاس في اكثر الاوقات فلو كان ناقضاً لوجب ان يعلم من الدّين كما علم نقض الوضوء بالغائط والتالي باطل لعدم النقل الظاهر فيه فالمقدّم مثله.

ثمّ قال : لا يقال : عموميّة البلوى به يستلزم معرفة حكمه امّا بالنّقض أو عدمه ، فنقول : لو لم يكن ناقضاً لعلم ذلك من دين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قلتم والتالي باطل لانّ الجمهور كافّة يخالفون في ذلك.

لانّا نقول لا يشترط نقل احكام العدم ، بل ولا النّص عليها لانّها باقية على الأصل ، وانّما المفتقر إلى النّقل الثبوت الرافع لحكم الأصل ـ انتهى (١).

فظهر انّ بناء هذا الأصل على نفي الحكم في الواقع في الامور الّتي يعمّ بها البلوى ، وأصل البراءة على نفي التكليف لا على الحكم في الواقع ، ولذا عدّا قسمين فحينئذٍ يكون هذا الأصل اخصّ مطلقاً من أصل البراءة فكلمّا تحقّق هذا الأصل تحقّق أصل البراءة لاستلزام اسقاط الحكم في الواقع اسقاط التكليف به ، بخلاف العكس والله يعلم.

__________________

(١) المختلف ١ / ٩٤ ـ ٩٥ طبع ١٤١٢.

٢٥٣
٢٥٤

الفصل الثامن

في أصل الاخذ بالاقلّ عند فقد الدّليل على الاكثر

كما إذا قيل في عين الداّبه نصف قيمتها ، فيرد عليه بأنّ الربع ثبت اجماعاً فينفي الزائد بالاصل.

والحقّ انّ هذا الأصل شعبة من أصل البراءة ، ولذا عدّة المحقّق في المعتبر منها (١) وقال الشهيد في الذكرى انّه راجع اليها (٢).

وإذا كان داخلاً تحت أصل البراءة فدليل حجيّته ظاهر.

وقيل : ان التمسّك بهذا الأصل لا يكاد يصحّ الّا ان يعلم اجماع شرعي أو دليل آخر على ثبوت الاقل والّا فشغل الذمّة معلوم فيجب العلم بتحصيل براءة الذمّة وهي لا تعلم بالاقلّ (٣).

__________________

(١) المعتبر ص ٦.

(٢) الذكرى ١ / ٥٣.

(٣) الوافية ١٩٨.

٢٥٥

اقول : هذا الكلام محلّ تأمّل ونظر وذلك لانّ ما يحتاج إلى تحصيل البراءة اليقينيّة هو القدر المتيقّن من التكليف لا القدر المشكوك ايضاً ففي عين الدّابة مثلاً ان علمنا انّ الربع ثابت جزماً والباقي مشكوك فيه فنأخذ بالثابت ونترك المشكوك فيه كما اعترف به هذا القائل ايضاً. وامّا إذا لم يثبت هذا الاقلّ ايضاً بل القدر المتيقّن لنا انّ في عين الدّابة شيئاً من الدّيّة ولم يكن شيء من الربع أو الاكثر متيقناً ، فحيئنذٍ يجب ان يؤخذ باقلّ ما يصدق عليه اسم الدّية ، لانّ هذا القدر هو المتيقّن والباقي مشكوك فيه بناء على عدم حصول شغل الذمّة اليقيني به. فحينئذٍ إذا حصل الشّك في وجوب اقلّ ما يصدق عليه اسم الدّيّة ايضاً ، بمعنى ان يحصل الشكّ في أصل التكليف بالديّة فينفي الجميع بالاصل ولايكون حينئذٍ من هذا الأصل.

وبالجملة الاقلّ ان كان معلوماً فيؤخذ به ويترك الباقي ، وان لم يكن هو ايضاً معلوماً فهو ايضاً متروك لحصول الشّك في أصل التكيلف ، فكيف يحصل شغل الذّمة اليقيني حتى يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.

٢٥٦

الفصل التاسع

في انّ الأصل في الكلام الحقيقة

اعلم انّه قد اشتهر عند الطّلبة انّ الأصل في الكلام الحقيقة ولكنّه اشتبه على كثير منهم حقيقة الامر ، ولذا يوردونه في غير موضعه ، فينبغي لنا ان نشير إلى الصّور المتصّورة في هذه المسألة ونشير إلى انّ غرض القوم اي صورة من الصّور المذكورة فنقول : ههنا صور :

الاولى : لا كلام في انّ اللفظ إذا كان مع القرينة الدّالّة على المعنى الحقيقي يجب حمله عليه. وكذا إذا كان معه قرينة صارفة عن معنى الحقيقي دالّة على المعنى المجازي يجب حمله عليه. فهذا لا دخل له بما نحن فيه.

الثانية : إذا كان الاستعمال معلوماً ولم يعلم انّ هذا الاستعمال على سبيل الحقيقة او المجاز ، ولم يعلم في الخارج انّ لهذا اللّفظ معنى حقيقيّاً أو مجازياً بل كان المعلوميّة منحصرة في انّ اللفظ مستعمل في هذا المعنى

٢٥٧

الّذي لايعلم انّه فيه حقيقة أو مجاز ، فالمشهور بين القوم انّ هذا الاستعمال اعمّ من الحقيقة والمجاز ولا يجزم باحدهما.

وذهب سيّدنا الاجلّ المرتضى إلى انّ الأصل في الاستعمال في هذه الصّورة الحقيقة (١).

وذهب بعض المحقّقين من المتأخرين إلى انّ الأصل فيه المجاز نظراً إلى كثرة ورود المجاز في الشرع والعرف واللّغة (٢).

ولا شكّ انّ الحقّ مع المشهور لانّ اطلاق هذا اللفّظ في هذا المعنى يحتمل الحقيقة والمجاز والحمل على أحدهما محتاج إلى قرينة ، فبدونها يلزم الترجيح بلا مرجّح. فهذا ايضاً لا دخل له بما نحن فيه.

الثالثة : إذا علم للفظ معنى حقيقي واستعمل في معنى آخر ولكن لا يعلم انّ هذا المعنى الثاني حقيقي حتى يكون اللفظ مشتركاً أو مجازي ولم يصدق عليه امارات المجاز من عدم التّبادر وصحّة السّلب.

والمشهور حينئذٍ بين القوم انّ الاستعمال في هذا المعنى الثاني بعنوان المجاز لانّ الأصل عدم تعدّد الحقيقة وعدم الاشتراك والسيّد هنا ايضاً مخالف للمشهور ويقول انّ هذا المعنى الثاني ايضاً حقيقى ويكون اللفظ مشتركاً (٣) وغير خفي انّ الحقّ هنا مع المشهور لما ذكرنا.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ص ١٣ و ١٩ و ٢٧ و ٢٩ و ١٨٣ و ٢٠٢ و ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٢)

(٣) الذريعة ١٨٣ و ٢٠٢ و ٢٠٥ و ٢٠٦.

٢٥٨

الرابعة : إذا كان للفظ معنى حقيقي ومجازي وكان المعنيان معلومين بعنوان انّ احدهما حقيقة والاخر مجاز واطلق الشارع أو غيره هذا اللفظ بدون القرينة بحيث لم يعلم من القرينة انّ المتكلّم اي المعنيين اراد ، فالظاهر الاتفاق على انّه يجب حمله على معناه الحقيقي ، وهذا هو مراد القوم من انّ الأصل في الكلام الحقيقة. ومن لم يحصّل المرام واشتبه عليه غرض الاقوام يزلّ قدمه كثيراً ما في هذا المقام.

وامّا الدّليل على انّه يجب حمل اللّفظ في هذه الصورة على المعنى الحقيقي فهو انّه لا شكّ انّ المخاطب لا يفهم من هذا اللفظ بدون القرينة الّا المعنى الحقيقي لانّه المتبادر إلى فهمه وانّه مصطلحه ، ومع ذلك إذا كان غرض المتكلّم المعنى المجازي ، يلزم الاغراء بالجهل والتكليف بما لا يطاق.

ويدلّ عليه ايضاً انّ بناء جميع ارباب المحاورات من ايّ فرقة كانت على ذلك ، كما يظهر من المتتبّع لأقاويلهم وكلماتهم وينكشف من التطلّع على اساطيرهم وعباراتهم.

ويدلّ على انّ الاطلاق في كلام الشارع كذلك ـ مضافاً إلى ما ذكرنا ـ قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(١) ومارود عن بعض الصّادقين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين انّ الله اجلّ من ان

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

٢٥٩

يخاطب مع قوم ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه (١).

وغير خفي انّ هذا الأصل داخل تحت القاعدة وذكر الشهيد الثاني (٢) انّه داخل تحت الراجح وهو صحيح ايضاً نظراً إلى أنّ الغالب حمل اللفظ على المعنى الحقيقي.

__________________

(١) بحار الانوار ٢٤ / ٣٠٠ : عن ابي عبدالله (عليه‌السلام) ما كان الله عزوجل ليخاطب خلقه بما لا يعلمون.

ولم اقف على الرواية باللفظ الّذي رواه المؤلّف (قدس‌سره)

(٢) تمهيد القواعد ص ٣٢

٢٦٠