جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

حيث احلّ وحرّم فيما لا يعلم» (١).

ومنها : قولهم (عليهم‌السلام) : انّ الله خصّ عباده بآيتين من كتابه ان لا يقولوا حتّى يعلموا ولايردّ واما لايعلمون قال عزوجل (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)(٢) وقال (٣)(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)(٤).

ومنها : قوله عليه الصّلاة والسّلام : لايسعكم فيما ينزل بكم مّما لاتعلمون الّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى ائمّة الهدى حيث يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحقّ قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٥).

ومنها : قوله (عليه‌السلام) : «لا يسع النّاس حتى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا امامهم ويسعهم ان يأخذوا بما يقول وان كان تقيّة» (٦).

ومنها : رواية سماعة عنه (عليه‌السلام) حيث سأله (عليه‌السلام) وقال : «انّا نجتمع

__________________

(١) الكافي ١ / ٥٨ وفيه «ضادّ».

(٢) الاعراف : ١٦٩.

(٣) يونس : ٤٠.

(٤) الكافي ١ / ٤٣.

(٥) الكافي ١ / ٥٠ المحاسن ٢١٦ / ١٠٦ الوسائل ٢٧ / ١٥٥ والآية في سورة النحل : ٤٣ والأنبياء : ٧.

(٦) الكافي ١ / ٤٠.

٦١

فنتذاكر ما عندنا ـ إلى ان قال ـ فنقيس على (إلى خ) احسنه فقال : مالكم والقياس انّما هلك من هلك من قبلكم من القياس ثمّ قال إذا جاءكم ماتعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون ـ فها واهوى بيده إلى فيه ـ ...» (١).

ومنها : قوله (عليه‌السلام) : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس» (٢).

والاخبار الواردة بهذا المضمون اعني النّهي عن القول بغير علم كثيرة غاية الكثرة.

والآيات ايضاً كثيرة بهذا المضمون.

كقوله سبحانه : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٣).

وقوله عزوجل : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)(٤).

ووجه الاستدلال بهذه الاخبار انّها تدلّ على انّ ما لم يأت علمه من الله ورسوله فيجب فيه التوقّف وعدم القول وما لا نصّ فيه كذلك فيجب عنده التوقّف والتثبّت.

ومنها الاخبار الكثيرة المستفيضة الواردة بانّ لله تعالى في كلّ واقعة

__________________

(١) الكافي ١ / ٥٧.

(٢) الكافي ١ / ٥٨.

(٣) الاسراء : ٣٦.

(٤) النساء : ١٧١.

٦٢

حكماً مخزوناً عند اهله حتى في ارش الخدش ونصف الجلدة والجلدة (١).

وحينئذٍ فكلّ حكم من الاحكام وكلّ امر من الامور قد ورد فيه خطاب من جانب الشريعة وهو مخزون عند ائمّتنا الرّاشدين صلوات الله عليهم اجمعين وعدم اظهارهم للتقيّة وظهور الفتنة ولذا في بعض الاوقات كانوا يجيبون كما هو عليه في الواقع وفي بعضها يجيبون على نحو تقتضيه التقيّة وفي بعضها لا يجيبون مطلقاً كلّ ذلك كان بحسب ما يقتضيه الوقت والمصلحة فإذا ورد في كلّ حكم خطاب شرعيّ فكيف يمكن الحكم بأصل البراءة والاباحة.

ومجمل القول انّ استدلالهم منحصر في اخبار حاصرة بين اقسام ثلاثة :

القسم الاوّل : الاخبار الدّالة على التثليث

ووجه استدلالهم بها أنّ القول بالبراءة والاباحة ينفي التثليث ويتعيّن القول بالتثنية لانّ الاحكام حينئذٍ تنحصر في الحلال والحرام ولايبقى للثالث فرد حتّى يدخل فيه.

القسم الثاني : الاخبار الدّالة على النّهي عن القول بغير علم وردّ مالايعلم إلى اهله

__________________

(١) الكافي ١ / ٥٩

٦٣

ووجه استدلالهم بها انّ ما نحن فيه من قبيل ما لايعلم فيجب ردّه إلى اهله.

القسم الثالث : الاخبار الواردة بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً مودعاً إلى اهله.

ووجه استدلالهم بها انّ هذا الاخبار تدلّ على انّ لهذا الامر حكماً شرعيّاً عند اهله والقول بالاباحة منافٍ لهذا.

هذه هي جملة الاخبار الّتي استدلّوا بها القائلون بالتوقّف.

ويمكن الجواب بوجوه :

الاوّل : انّ اخبارنا موافقة للقرآن وهذه الاخبار غير موافقة له ، وورد في الاخبار الكثيرة انّ الاخبار إذا تعارضت يجب الاخذ بما يوفق القرآن فيتعيّن الاخذ بالاخبار الدّالة على الاباحة.

لايقال : الاخبار الدّالة على التوقّف اكثر عدداً واصحّ سنداً.

لانّا نقول : القسم الثاني لا يدلّ على مطلوبهم مطلقاً لانّ القول بالاباحة ليس قولاً بغير علم بعد دلالة الآيات والاخبار الكثيرة عليه. وكذا القسم الثالث لانّا قائلون بمضمونه ومعترفون بأنّ لكلّ واقعة حكماً خاصّاً مخزوناً عند اهله ولانقول بعدم الحكم في الواقع بل غرضنا من الاباحة والبراءة عدم تعلّق التكليف بنا وبراءة ذمّتنا منه لأنّ التكليف لايكون الّا بعد

٦٤

الارشاد والبيان كما يدلّ عليه العقل فلايبقى حينئذٍ الّا الاخبار الدّالة على التثليث اعني القسم الاوّل وهو ـ مع انّه لا يقاوم الاخبار الدّالة على البراءة ـ مخالفة للقرآن والادلّة العقليّة ، مع انّك ستعرف ما في هذا القسم ايضاً.

لايقال : الايراد على القسم الثاني من الاخبار ليس بصحيح لانّ دلالة الآيات والاخبار على أصل البراءة والاباحة واثباته بها حتى لايكون القول به قولاً بغير علم موقوف على ان لايكون لها معارض اقوى منها مع انّها في اوّل الامر معارضة بالاقسام الثلاثة من الاخبار المستفيضة ولايمكن معارضتها لهذه الاخبار المتواترة لحصول العلم منها بمضمونها بخلافها.

لانّا نجيب عن ذلك بالنقض والحلّ.

وامّا النقض فلانّ هذا ان كان وارداً على ما نحن فيه يرد على كلّ الاحكام حتّى على القول بالتثليث أيضاً بأن يقال : الاخبار الدّاله على النّهي عن القول بغير علم مستفيضة بل متواترة وهي معارضه للاخبار الّدالّة على التّثليث وهي اقوى من اخبار التثليث لاستفاضتها وتواترها وتقويتها بعمل الطّائفة فلا يقاومها اخبار التّثليث. وهكذا يمكن اجراؤه في جميع الاحكام الّا في حكم ورد فيه اخبار اقوى منها وهو قليل.

وامّا الحلّ فلانّ العلم في الاخبار المذكورة بمعناه الاعمّ اعني الرّاجح سواء كان اعتقاداً جازماً أو ظنّاً لانّه ان لم يكن شاملاً للظنّ يلزم تعطيل احكام الله تعالى وانسداد باب المسائل الشّرعيّة لانّ حصول العلم في الاحكام الشّرعيّة أمر غير ممكن الّا في نادر غاية النّدرة ولهذا وقع

٦٥

الاجماع على اعتبار ظنّ المجتهد فحينئذٍ نقول : حصل القطع من الاخبار المذكورة بأنّه لابدّ من حصول العلم في الاحكام الشّرعيّة فيجب في كلّ حكم من احكام الله حصول العلم ، فإن كان هذا العلم بمعناه الاخصّ فيجب في كلّ حكم ان يحصل القطع بانّ هذا حكم الله وهذا امر غير ممكن فيتعيّن حمله على مايشمل الظنّ ايضاً فكلّ موضع حصل الجزم بحصول الظنّ يكون كافياً وهو المطلوب. هذا مع انّ ما نحن فيه ممّا يحصل فيه القطع لورود الآيات والاخبار الكثيرة ومعاضدتهما بالعقل والاجماع والاعتبارات الاخر كما عرفت.

فإن قلت الاخبار الدّالة على أصل الاباحة موافقة لمذهب المخالفين لانّهم يقولون بالتثنية في احكام الله وليسوا قائلين بالتّثليث فيمكن حملها على انّها خارجة مخرج التقيّة فيبقى الاخبار الدّالّة على التوقّف سالمة عن المعارض.

ففيه ان سلّم موافقتها لمذهب العامّة نقول : في مقام التراجيح الا وفقيه بكلام الله العزيز مقدّم على المخالفة لمذهب العامّة كما هو غير خفي على المطّلع بالاخبار الواردة للتراجيح. هذا مع انّه ان قطع النّظر من الاخبار المذكورة تبقى الآيات والادلّة العقليّة والاجماع وهي ممّا يمكن تقاومها مع الاخبار المذكورة الدّالة على التوقّف بل الترجيح لها كما لايخفى.

الثاني : ما اجاب به بعض الفضلاء وهو انّ المحرّم ما يجب اجتنابه وهذه الاخبار كالصّريحة في انّ الشبهة ليست من المحرّمات فلا يكون

٦٦

اجتنابها واجباً بل لمّا كانت ممّا ينجر ويفضى إلى ارتكاب المحرّمات يكون اجتنابها مستحبّاً وارتكابها مكروهاً ولهذا وقع طلب ترك ارتكاب الشبهة في هذه الرّوايات بطريق النّصيحة والموعظة لا بطريق النّهي الظاهر في الالزام. انتهى (١).

وهو جواب صحيح.

ويدلّ عليه ما روى في كتاب «الكفاية في النّصوص» تصنيف على بن خزّاز بسنده عن الحسن بن علي (عليهما‌السلام) انّه قال له (عليه‌السلام) : «واعلم انّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك الّا كنت فيه خازناً لغيرك اعلم انّ في حلالها ـ اي الدّنيا ـ حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب فانزل الدّنيا بمنزلة الميتة خذمنها ما يغنيك (٢) فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها وان كان حراماً لم تكن [فيه وزر فاخذت كما] قد اخذت من الميتة وان كان العتاب فإنّ العتاب يسير (٣).

فهذا الخبر صريح في انّ اجتناب الشبهة ليس بواجب بل هو مستحبّ لئلّا يودّي إلى المحرّم فإن عدم المبالاة بالقليل ينجرّ إلى عدمها بالكثير كما لايخفى.

__________________

(١) وافية الاصول ١٩١

(٢) في البحار : يكفيك

(٣) البحار ٤٤ / ١٣٩ نقلاً عن الكفاية.

٦٧

لا يقال : هذا الخبر لايمكن الاعتماد عليه لانّ الكتاب المذكور ليس من الكتب المعتبرة عند الاصحاب وليس بمعلوم انّه من تصنيف علي بن خزاز الثّقة.

قلت : قد صرّح جمع من علمائنا الاعلام بانّه تصنيف هذا الثّقة الجليل منهم العلّامة الحلّي في اجازته لاولاد زهره ومنهم السيّد الجليل العظيم السيّد عبدالكريم بن طاوس في فرحة الغريّ ومنهم الشيخ الحرفي الوسائل وغيرهم من الفقهاء كابن شهر آشوب في معالمه وغيره ايضاً (١).

فإن قلت : بناء على ما ذكرت من التوجيه من انّه لايكون ارتكاب الشبهات حراماً ولاتكون على فاعلها عقاب وعذاب يجب ان لايكون فعل الشبهة فعل الحرام ولايكون ارتكابها هلاكاً مع انّ بعض الاخبار كالخبر الاوّل تدلّ على انّ من ارتكب الشبهة ارتكب الحرام بعينه وهلك ، وبعضها تدلّ على انّ ارتكاب الشبهة هو الاقتحام في الهلاكة بعينه كالخبرين الاخيرين فمع ذلك كيف يمكن حمل هذه الاخبار على الاستحباب.

قلت : يمكن الجواب بوجهين :

احدهما ان يكون المراد من كلّ من الهلاكة وارتكاب الحرام هو التأثير الّذي يحصل من الحرام من الاضرار بصفاء النّفس وازالته عنها

__________________

(١) راجع الذريعة للعلامة الطهرانى ١٧ / ٨٦ ومقالنا حول هذا الكتاب في كتابنا : «بيست مقاله»

٦٨

ورفع الحالات الحسنة والاخلاق الحميدة عنها واحداث الكدرة والاخلاق السيّئة والحالات المذمومة الرديّة فيها فإن هذه التأثيرات يحصل من الحرام الواقعي وان لم يعلم الفاعل انّه حرام ، ولاشكّ انّه لا يترتّب عليه العقاب ولكن هذه التأثيرات لاينفكّ عنه ولذا يأمر العرفاء من يريد كسب صفاء النّفس وتهذيب الاخلاق بالاجتناب عن جميع الشّبهات فانّها ان كانت حراماً اثرّت اثره وان لم يترتب عليه العقاب فإنّ كثيراً من العرفاء اعترفوا وكتبوا في مصنّفاتهم وكتبهم وبيّنوا في مؤلّفاتهم وزبرهم بأنّهم بمجرّد فعل بعض المحرّمات الواقعيّة الّتي ما كانوا عالمين به زال عنهم صفاء النّفس وحدث الكدروة بل وفي بعض النّاس المحرّمات الواقعيّة يضرّ بأبدانهم وان لم يكونوا عالمين بها فأنّي عثرت على شخص إذا اكل شيئاً محرّماً وإن لم يكن عالماً به عرض له بمجرّد الاكل الخفقان واضطراب القلب في غاية الشدّة.

فالمراد من الهلاكة هو هذه الامور ولاشكّ انّها نوع من الهلاكة وبالجملة من تأمّل يجد انّ الحرام من حيث انّه حرام موجب لاحداث شقاوة في النّفوس الانسانيّة ولذا حرّمه الشارع وهذا أحد اسرار الخفيّة والفائدة العظيمة لارسال الرسل وانزال الكتب.

قال : سيّدنا الصّادق صلوات الله عليه وعلى آبائه وأولاده حين سئل لم حرّم الله الخمر والميتة والدّم ولحم الخنزير :

انّ الله تعالى لم يحرّم ذلك على عباده واحلّ سواه رغبة منه فيما

٦٩

حرّم عليهم وزهداً فيما احلّ لهم (١) ولكنّه خلق الخلق وعلم تعالى ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فاحلّه لهم واباحه تفضّلاً منه عليهم لمصلحتهم وعلم ما يضرّهم فنها هم عنه وحرّمه عليهم ، ثمّ اباحه للمضطر واباحه له في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به وأمره ان ينال منه بقدر البلغة لاغير ذلك.

ثمّ قال امّا الميتة فأنّه لا يدمنها أحد الّا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوّته وانقطع نسله ولايموت آكل الميتة الا فجاءة.

وامّا الدّم فأنّه يورث اكله الماء الاصفر ويبخر الفمّ وينتن الرائحة ويسيء الخلق ويورث الكلب والقسوة في القلب وقلّة الرأفة والرّحمة حتى لا يؤمن ان يقتل ولده ووالديه ولايؤمن على حميمه ولايؤمن على من يصحبه.

وامّا لحم الخنزير فإنّ الله تعالى مسخ قوماً في صورة شتّى شبه الخنزير والقردة والدّب وما كان من المسوخ نهي عن أكله للمثلة لكيلا ينتفع النّاس بها ولايستخفّ النّاس بعقوبتها.

وامّا الخمر فأنّه حرّمها لفعلها وافسادها (٢) وقال مدمن الخمر كعابد وثن يورثه الارتعاش وتذهب بنوره وتهدم مروّته وتحمله على

__________________

(١) في العلل : من رغبة فيما احلّ لهم ولا زهد فيها حرّم عليهم

(٢) في الكافي : «ولفسادها» مكان «وافسادها»

٧٠

ان يجرء (١) على المحارم من سفك الدّماء وركوب الزنا فلا يؤمن إذا سكران يثب على محرمه (٢) وهو لا يعقل ذلك والخمر لا يزداد شاربها الّا كلّ شرّ (٣).

والاخبار الواردة الدّالة على انّ لكلّ حرام تأثيراً رديّاً خاصّاً يحدثه في النّفس كثيرة ويدلّ عليه العقل والتجربة والاعتبار ايضاً كما لا يخفى على من له ادنى تنبّه.

الثاني ان يكون المراد من قوله (عليه‌السلام) : «ارتكب الحرام» و «هلك» وامثالهما مما ورد بمعنى اشرف على ارتكاب المحرّمات وتعرّض لما هو محتمل لذلك فإنّ امثال هذه العبارات في هذه المقامات محمولة على هذه المعانى كما يقال : من سافر وحده ضلّ عن الطريق أو اكله السّبع وغير ذلك من الامثلة كما إذا ذهب أحد إلى حرب الاسد أو ادخل نفسه في السفينة في وقت الطوفان فيقال اهلك نفسه وكلّ من هذه الامثلة مجاز باعتبار ما يؤل إليه.

ويمكن تأئيد هذا الحمل بما ورد في بعض خطب اميرالمؤمنين (عليه‌السلام)

__________________

(١) يجسر خ.

(٢) حرمه خ.

(٣) الكافي ٦ / ٢٤٢ ـ البحار ٦٢ / ١٣٤ نقلاً عن المحاسن ٢٠٤ ومثل هذه الرواية عن الباقر (عليه‌السلام) في علل الشرائع ٢ / ١٦٩.

٧١

حيث قال : انّ الله تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تتكلّفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها ثمّ قال (عليه‌السلام) حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك والمعاصي حمى الله عزوجل فمن يرتع حولها يوشك ان يدخلها (١).

فإنّ الظاهر ان قوله (عليه‌السلام) : «فمن يرتع حولها» اشارة إلى ارتكاب الشبهة لعدم تصوّر فرد آخر يكون مصداقاً له ولايخفى أنّ قوله (عليه‌السلام) : «فلا تتكفّلوها رحمة من الله لكم» صريح في اباحة الاشياء الّتي لم يرد بها نصّ.

الثالث [اي من الاجوبة عن اخبار التوقّف] انّ اخبار التوقّف ان كانت مثبتة للتوقّف لكانت شاملة للتوقّف في نفس الحكم الشرعي وفي الشبهة في طريق الحكم الشرعي (وفيما احتمل الحرمة أم لا؟) (٢) مع انّ القائلين بالتوقّف يقولون بأصل الاباحة في الشبهة في طريق الحكم الشرعي أو نفس الحكم الشرعي إذا لم يحتمل الحرمة.

الرابع منع انّ مالم يرد فيه نصّ أو لم يبلغنا دليله داخل في الشبهة ، إذ

__________________

(١) الفقيه ٤ / ٧٥ طبع مكتبة الصدوق. الوسائل ٢٧ / ١٧٥

(٢) ما بين () ليس في تلك النسخة

٧٢

ادلّة التوقّف واردة فيما ورد فيه من الشرع نصّان متعارضان فإلحاق غير المنصوص به قياس باطل عند القائلين بالقياس ايضاً لانتفاء الجامع بين الأصل والفرع. كذا قال بعض الفضلاء (١).

اقول : ان قلت : ما تعارض فيه النّصان فعند القائلين بالتوقّف فيما لا نصّ فيه يجب التوقّف فيه ايضاً وعند اكثر القائلين بالاباحة فيما لا نصّ فيه [الحكم] التخيير فيه لانّه في معنى البراءة فحينئذٍ حمل اخبار التوقّف على ما تعارض فيه النّصّان لا يناسب مذهب القائلين بالاباحة فيما لا نصّ فيه.

قلنا : والامر وان كان كذلك الّا انّهم لا يجزمون بالتوسعة فيما تعارض فيه النّصّان في المداينات والمواريث لانّ الحكم بالتخيير فيها امر مشكل بل لا يمكن.

__________________

(١) هو الفاضل التوني في الوافية ص ١٩٠.

٧٣

[حكم ما تعارض فيه النّصان]

ولمّا انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس أن نشير إلى حكم ما تعارض فيه نصّان والخلاف الّذي وقع فيه والاشارة إلى دليل الطرفين ليظهر لك حقيقة الحال وتحيط بأطراف المقال ولايبقى للشبهة حينئذٍ مجال ثمّ نرجع إلى ما كنّا فيه.

فنقول : ما تعارض فيه نصّان وكان لاحدهما مرجّح من المرجّحات المنصوصة من الشريعة فلا شبهة في انّه يجب الاخذ به ويتعيّن العمل به. وبعضهم يعمل بكلّ مرجّح اعتبرها الاصوليّون لئلّا يلزم ترجيح المرجوح ، ان عمل بالطّرف المرجوح ، ويساوي الراجح والمرجوح ، ان لم يعلم بأحدهما وتوقّف في الحكم ، وليس المقام موضع تحقيق هذا فإنّه محتاج إلى نظر آخر. انّما الغرض هنا بيان الحكم فيما تعارض فيه نصّان وفقد الترجيح في نظر الفقيه.

فنقول : اكثر القائلين بالاباحة والبراءة فيما لا نصّ فيه ذهبوا إلى التّوسعة والتخيير فيما تعارض فيه نصّان والقائلون بالتوقّف فيما لا نصّ فيه

٧٤

ذهبو إلى التوقّف هنا ايضاً والاخبار ايضاً مختلفة في ذلك بعضها يدلّ على المذهب الاوّل وبعضها يدلّ على المذهب الثاني فلنذكر شطراً من الاخبار الواردة في هذا الباب ثمّ نشير إلى ما هو الحقّ في نظرنا حتى يظهر جليّة الحال.

فالّتي تدلّ على المذهب الاوّل.

منها : ما رواه الحسن بن الجهم عن الرّضا (عليه‌السلام) قال قلت للرّضا (عليه‌السلام) : تجيئني الاحاديث عنكم مختلفة قال ما جاءك عنّا اعرضه (١) على كتاب الله عزوجل واحاديثنا فإن كان ذلك يشبههما فهو منّا وان لم يكن يشبههما فليس منّا.

قلت : يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلم نعلم ايّهما الحقّ قال إذا لم تعلم فموسّع عليك بايّهما أخذت (٢).

ومنها : ما رواه الكلينى في الصّحيح عن سماعة عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه.

وفي رواية اخرى : بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك (٣).

__________________

(١) فقس. خ

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٢١ نقلاً عن الاحتجاج ٣٥٧

(٣) الكافي ١ / ٦٦. الوسائل ٢٧ / ١٠٨

٧٥

ومنها : ما رواه محمّد بن ابراهيم بن أبي جمهور اللّحساوي في كتابه عوالي الّلألي عن العلّامه مرفوعاً إلى زرارة بن اعين قال : سألت الباقر (عليه‌السلام) فقلت : جلعت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : «يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشّاذ النّادر. فقلت : يا سيّدي انّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال (عليه‌السلام) : خذ بما يقول اعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت : انّهما معاً عدلان مرضيّان موثقان فقال : ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم فقلت : ربّما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين فكيف اصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الإحتياط. فقلت : انّهما معاً موافقان للإحتياط أو مخالفان له فكيف اصنع؟ فقال (عليه‌السلام) : فاذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الاخر.

وقال بعد ذكر هذا الخبر : وفي رواية اخرى انّه (عليه‌السلام) قال : «فاذن فارجه تلقى امامك فتسأله» (١).

ومنها : ما رواه الشيخ الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب الاحتجاج في احتجاج مولانا وسيّدنا الصادق (عليه‌السلام) عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : «إذا سمعت من اصحابك الحديث وكّلهم ثقة فموسّع عليك

__________________

(١) غوالي اللئالي ٤ / ١٣٣. الوافية ٣٢٩

٧٦

حتى ترى القائم (عليه‌السلام) فتردّه إليه» (١).

ومنها : ما رواه عليّ بن مهزيار في الصّحيح قال : قرأت في كتاب لعبدالله بن محمّد إلى ابي الحسن (عليه‌السلام) : اختلف اصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) في ركعتي الفجر في السّفر فروى بعضهم ان صلّها في المحمل وروى بعضهم ان لا تصلّهما الّا على وجه الارض فاعلمنى كيف تصنع انت؟ لاقتدى بك في ذلك فوقع (عليه‌السلام) : موسّع عليك بأيّهما عملت (٢).

ولا يخفى انّ هذا الخبر لا يدلّ على المطلوب مطلقاً لأنّ المعصوم (عليه‌السلام) هنا لم يأمر بالتّوسعة والتخيير باعتبار اختلاف الرّوايات عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) بل امره بالتّوسعة كان حكماً استينافيّاً صادراً منه (عليه‌السلام) وكيف يمكن حمله على الاوّل مع تحقّق الحكم الواقعي عنده (عليه‌السلام)؟ فتأمّل.

ومنها ما روى الشيخ الطبرسي رحمه‌الله تعالى في جواب مكاتبة محمّد بن عبدالله الحميري (قدس‌سره) إلى صاحب الزّمان (عليه‌السلام) يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الاولى إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبّر؟ فإنّ بعض اصحابنا قال : لايجب عليه تكبيرة ويجزيه ان يقول : بحول الله وقوّته اقوم واقعد فوقّع (عليه‌السلام) في الجواب

__________________

(١) الاحتجاج ٣٥٧ طبع ١٤٠٣. الوافية ٣٢٤. الوسائل ٢٧ / ١٢٢

(٢) التهذيب ٣ / ٢٢٨. الوسائل ٢٧ / ١٢٢

٧٧

عن ذلك حديثان امّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير وامّا الحديث الاخر فإنّه روى إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الاوّل يجري هذا المجرى فبأيّهما أخذت من باب التّسليم كان صواباً (١).

تأمّل في هذا الحديث ايضاً.

ومنها : ما روى ثقة الاسلام في خطبة الكافي عن العالم (عليه‌السلام) وفي موضع اخر منه ايضاً بقوله : وفي رواية : بايّهما أخذت من باب التسليم وسعلك (٢).

وامّا الاخبار الدّالة على المذهب الثاني فروايات.

منها : مقبولة ابن حنظلة حيث قال (عليه‌السلام) في آخره : «إذا كان كذلك فارجه حتّى تلقى امامك فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٣).

ومنها : ما رواه الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن سماعة بن مهران قال : سألت اباعبدالله (عليه‌السلام) قال : قلت له : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ١٢١ نقلاً عن الاحتجاج ٤٨٣

(٢) الكافي ١ / ٩ و ٦٦

(٣) الوسائل ٢٧ / ١٠٧ وفيه : فارجئه.

٧٨

بالاخذ به والاخر ينهانا عنه قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى (١) تأتي صاحبك فتسأله عنه قال : قلت : لابدّ ان نعمل بأحدهما قال : خذ بما فيه خلاف العّامّة (٢).

ومنها : ما اشرنا إليه من قول أبي جمهور اللّحساوي حيث قال : وفي رواية اخرى انّه (عليه‌السلام) قال : إذن فارجه حتى تلقى امامك فتسأله (٣).

ومنها : موثقة سماعة المتقدّمة في طيّ اخبار المذهب الاوّل حيث قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : يرجه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه (٤).

وانمّا ذكرنا هذا الخبر في المقامين لامكان الاستدلال به على كلّ من المذهبين.

هذه جملة الاخبار الواردة في المقام ولاشكّ انّ الترجيح للقسم الاوّل من الاخبار لاكثريته واصحيّة سنده وأوفقيّته بالملّة السّمحة السّهلة واشهرتيّه بين الفرقة المحقّة وعدم منافات قوله (عليه‌السلام) : «فارجئه حتى تلقى امامك» الوراد في القسم الثاني من الاخبار الّذي هو موضع الاستدلال

__________________

(١) في الاصل : حتى تأتي.

(٢) الاحتجاج ٣٥٧. الوسائل ٢٧ / ١٢٢.

(٣) غوالى اللئالي ٤ / ١٣٣.

(٤) الوسائل ٢٧ / ١٠٨. الكافي ١ / ٦٦.

٧٩

للتوسعة والتخيير ، لانّه يمكن ان يكون المراد من الارجاء هو ارجاء الحكم الواقعي ، فإن العلم بالحكم الواقعي موقوف على الاستماع من الامام وهذا لاينافي التّوسعة والتخيير في أحدهما في العمل من باب الرّخصة والاباحة كما يدلّ عليه القسم الاوّل من الاخبار.

وبالجملة غرضهم (عليهم‌السلام) من الردّ إلى العالم هو ردّ العلم ، ولاينافي ذلك العمل من باب الرّخصة.

ويدلّ على ذلك كلام ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني في خطبة الكافي حيث قال مخاطباً لمن سأل تصنيف الكافي : قلت : انّك تحبّ ان يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفى به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ من يريد علم الدّين والعمل به بالاثار الصّحيحة عن الصّادقين (عليهم‌السلام) ... فاعلم يا اخي ارشدك الله انّه لا يسع احداً تمييز شيء مما اختلفت الرّواية فيه عن العلماء (عليهم‌السلام) برأيه الّا ما اطلقه العالم بقوله (عليه‌السلام) :

اعرضوها على كتاب الله عزوجل [فما وافى كتاب الله عزوجل] فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه.

وقوله (عليه‌السلام) : دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم.

وقوله (عليه‌السلام) : خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لاريب فيه.

ونحن لانعرف من جميع ذلك الّا أقلّه ولانجد شيئاً احوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم وقبول ما وسع من الامر بقوله : بأيّهما

٨٠