جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

الشبهة إلى هذين القسمين وانتم توجبون التوقّف في أحدهما دون الاخر مع انّ اسم الشبهة يصدق عليهما صدقاً صريحاً في الظاهر. وعلى القاعدة الّتي قررتموها يلزم انّ شرب التّتن صدر من الشارع على طريق الحظر وعلى هذا كلّ ما لا نصّ عليه بالحرمة من المطعومات والمشروبات وهو حلال مباح غير محرّم فكيف الجواب وماطريق ارشاده إلى الصّواب؟

واجاب بأنّ حدّ الشبهة في نفس الحكم الشرعي ما اشتبه حكمه الشرعي اعني الاباحة والتحريم كمن شكّ في انّ اكل الميتة حلال أو حرام وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعي ما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي مع كون محموله معلوماً كما في اشتباه اللّحم الّذي يشترى من السّوق انّه مذكّى أم ميتة مع العلم بأنّ الميتة حرام والمذكّى حلال وهذا التقسيم يستفاد من احاديث الائمّة (عليهم‌السلام) ومن وجوه عقليّه مؤيّدة لتلك الاحاديث ويأتي جملة منها وبقى قسم متردّد بين القسمين وهو الافراد الّتي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الانواع وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيويّة كاختلاط الحلال بالحرام بل اشتباهها بسبب امر ذاتي اعني اشتباه صفتها في نفسها كبعض افراد الغناء الّذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبهت انواعه في افراد يسيرة وبعض افراد الخبائث الّذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض افراده حتى اختلف العقلاء فيها ومنها شرب التتن وهذا النّوع يظهر من الاحاديث دخوله في الشبهات الّتي ورد الامر باجتنابها وهذه التفاصيل يستفاد من مجموع الاحاديث ونذكر ما يدلّ على ذلك.

١٤١

منها : قولهم (عليهم‌السلام) : كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه فهذا واشباهه صادق على الشبهة الّتي في طريق الحكم الشرعي فإنّ اللّحم الّذي فيه حلال وهو المذكى وحرام وهو الميتة قد اشتبهت افراده في السّوق ونحوه وكالخبز الّذي هو ملك لبايعه أو سرقة مغصوب في مالكه وكذلك سائر الاشياء داخلة تحت هذه القاعدة الشريفة المنصوصة. فإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة مثلاً لا يصدق عليها انّ فيها حلالاً وحراماً.

ومنها : قولهم حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك وهذا انّما ينطبق على ما اشتبه فيه نفس الحكم الشرعي والّا لم يكن. الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ولايعلم احدهما من الاخر الّا علّام الغيوب وهذا ظاهر واضح.

ومنها : انّه قد ورد الامر البليغ باجتناب ما يحتمل التحريم والاباحة بسبب تعارض الادلّة وعدم النّص ونحوهما وذلك واضح الدّلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعي ومنها : انه قد ورد النهي عن اجتناب كثير من افراد الشبهات في طريق الحكم الشرعي كقولهم عليهم‌السلام في اللحم والجبن ونحوهما : اشتر من اسواق المسلمين وكل ولا تسأل عنه نحو ذلك.

ومنها : انّ ما ورد في وجوب اجتناب الشبهات ظاهر العموم والاطلاق شامل لاشتباه نفس الحكم الشرعي وللافراد الغير الظاهرة

١٤٢

الفرديّة وغير ذلك خرج منه الشبهات في طريق الحكم الشرعي بالاحاديث الّتي اشرنا اليها والوجوه الّتي يؤيّدها ففي الباقي ليس له مخصّص.

ومنها : اّن ذلك وجه للجمع للاخبار لايكاد يوجد اقرب منه.

ومنها : انّ نفس الحكم الشرعي يجب سؤال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والامام (عليه‌السلام) عنه وكذا الافراد الّتي ليس بظاهر الفرديّة وقد سئل الائمّة (عليهم‌السلام) عن ذلك فاجابوا وطريق الحكم الشرعي لا يجب سؤال الائمّة (عليهم‌السلام) عنه ولا كانوا يسألون عنه وهو اوضح.

بل علمهم بجميع افراده غير معلوم أو معلوم العدم لكونه من علم الغيب فلا يعلمه الّا الله وان كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا ان يعلموا شيئاً علموه.

ومنها : انّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم الشرعي امر ممكن مقدور لانّ انواعه قليلة لكثرة الانواع الّتي ورد النصّ باباحتها والانواع الّتي ورد النّص بتحريمها وجميع الانواع الّتي يعمّ به البلوى منصوصة وكلّ ما كان في زمان الائمّة (عليهم‌السلام) متداولاً ولم يرد النّهي عنه فتقريرهم فيه كاف. وامّا الشبهة في طريق الحكم الشرعي فاجتنابها غير ممكن لما اشرنا إليه سابقاً وعدم وجود الحلال البيّن فيها وتكليف ما لا يطاق باطل عقلاً ونقلاً ووجوب اجتناب كلّما زاد على قدر الضّرورة حرج عظيم وعسر شديد وهو منفي لاستلزامه وجوب الاقتصار في اليوم واللّيلة على اللقمة الواحدة

١٤٣

وترك جميع الانتفاعات الّا ما استلزم تركه الهلاك ، والاعتذار بامكان الحمل على الاستحباب لا يفيد شيئاً لأنّ تكليف ما لا يطاق باطل بطريق الوجوب والاستحباب كما لو كان صعود الانسان إلى السّماء واجباً أو مستحبّاً فإن كلّا منهما محال من الحكيم.

ومنها : انّه قد ثبت وجوب اجتناب الحرام عقلاً ونقلاً ولايتم الّا باجتناب ما يحتمل التحريم مما اشتبه حكمه الشرعي ومن الافراد الّتي ليست بظاهرة الفرديّة وما لا يتمّ الواجب الّا به وكان مقدوراً فهو واجب.

إلى غير ذلك من الوجوه وان امكن المناقشة في بعضها فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام والله تعالى أعلم بحقائق الاحكام انتهى كلامه رفع مقامه وزيد اكرامه (١).

[حول كلام الشيخ الحرّ]

إذا عرفت ذلك فيجب علينا ان نتكلّم في كلّ جزء من كلامه حتى يظهران ما اتى به لوجه الفرق بين حكم الشبهة في نفس الحكم والشبهة في موضوعه غير سديد.

__________________

(١) الفوائد الطوسيّة للشيخ الحرّ العاملي ص ٥١٨

١٤٤

فنقول : ما اتى به لوجه الفرق بين الشبهة في نفس الحكم والشبهة في موضوعه صحيح ولكن لا شكّ ان الشبهة تصدق عليهما معاً والقسم الّذي افاد انّه يبقى متردداً بين القسمين ليس الّا من قسم الشبهة في الموضوع وذلك لانّه إذا وقع شكّ في انّ هذا الفرد داخل تحت الغناء الّذي يثبت تحريمه لا يرجع هذا الشكّ الّا إلى صدق الموضوع الثابت تحريمه اعني الغناء على الفرد المذكور فهو ليس الّا من الشبهة في موضوع الحكم الشرعى وكذا الحكم بعينه في بعض افراد الخبائث الّذي يثبت تحريم نوعه فهذا ليس قسماً عليحدة حتى يتغيّر حكمه مع حكم الشبهة في الموضوع.

وما قال من انّ هذا النوع يظهر من الاحاديث دخوله في الشبهات ـ الى آخره ـ.

ففيه انّ هذا مسلّم ولكن لا يخصّص لهذه الامثلة بل جميع الشبهات في طريق الحكم داخل تحت الشبهة وورد الاخبار باجتنابها فانتم معاشر الاخباريين ان توجبوا الاجتناب عن الشبهة فلم لا توجبون فيما اشتبه فيه الموضوع مع انّ صدق الشبهة عليه اظهر وان لم توجبوا فلم تنسبون انفسكم إلى التثليث وتقولون نحن اصحاب التثليث القائلون بأنّ الحكم ثلاثة حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك.

ثم اعلم انّي لست الآن متذكراً بأنّ الاخباريين يقولون ما اشتبه فيه الموضوع ليس من الشبهة مطلقاً بل الحلال البيّن ، أو يقولون من الشبهة ولكن ليس من الشبهة الّتي يجب الاجتناب عنها بل يستحبّ ، أو من الشبهة

١٤٥

ولا يستحبّ الاجتناب عنها ايضاً ، ولم يكن كتبهم عندي وقت تأليف الرّسالة حتى احقّق الحال في ذلك.

فإنّ كان مذهبهم الاوّل ،

فيرد عليه انّ ذلك خروج عن الحقّ لصدق الشبهة عليه لغة وعرفاً ولذا يحترزون عنه العلماء الاخيار والصلحاء الابرار في الاقطار والامصار مدى الاعصار. بل يمكن ان يقال : ذلك خلاف ما عليه المسلمون لما نرى ان دينهم وشعارهم وشنشنتهم ودثارهم الاجتناب من امثال ما نحن فيه وقد عرفت دلالة بعض الاخبار عليه ايضاً.

وان كان الثاني فيرد عليه.

امّا اوّلاً فبأنّ هذه التفرقة لا يدلّ عليها دليل لا من العقل ولا من النقل.

وامّا ثانياً فلانّ الاحكام حينئذٍ يكون اربعة مع انّكم ثلثتموها.

وان كان الثالث فبطلانه اظهر من الاوّلين كما لا يخفى.

فإن قيل : انّهم يقولون بالتثليث في نفس الحكم الشرعي ويخصّصون الاخبار الواردة في التثليث به فيقولون المراد من الامور في قوله (عليه‌السلام) : «انمّا الامور ثلاثة» الامور بالقياس إلى نفس الحكم الشرعي.

قلت : هذا التخصيص لا دليل عليه فإنّ قوله «الامور» جمع محلّى بالّلام يفيد العموم وكذا لفظ «الشبهة» صادق لغة وعرفاً على ما اشتبه نفس الحكم الشرعي أو موضوعه كما اشرنا إليه مراراً فمن اين يحكمون بهذا التخصيص؟ وبأيّ دليل يرتكبون هذا الامر الّذي هو خلاف الأصل؟

١٤٦

فإن قلت : جميع الادلّة الدّالة على الاباحة فيما لا نصّ فيه كان بعمومه دالًّا على انّ الأصل فيما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي الاباحة ويدلّ عليها الاخبار الاخر بخصوصها ايضاً كما ذكرتها ، فالادلّة الدّالة على اباحة الشبهة في طريق الحكم لمّا كانت كثيرة بحيث لا يتقاوم معها ادلّة التوقّف فلذا حكموا بالاباحة في الشبهة في طريق الحكم بخلاف الادلّة الدّالة على الاباحة فيما لا نصّ فيه فإنّها لم يكن كالادلّة على اباحة الشبهة في طريق الحكم كثرة ، فكان ادّلة التوقّف راجحة عليها فلذا أخذوا بادلّة التوقّف.

قلت : قد عرفت أن ادلّة الاباحة فيما لا نصّ فيه كانت راجحة على ادلّة التوقّف فيه بوجوه شتّى بل ما كانت ادلّة التوقّف صالحة للتقاوم مع ادلّة الاباحة فكيف يكون ادلّة التوقّف راجحة على ادلّة الاباحة؟

وامّا الوجوه الّتي اتى بها شيخنا المتبحّر الشيخ الحُرّ طاب ثراه للفرق بين حكم الشبهة في نفس الحكم والشبهة في طريقه فلا تصلح لعليّة الفرق.

امّا الوجه الاوّل ، فلانا نسلّم ان قوله (عليه‌السلام) كلّ شيء فيه حلال وحرام ـ إلى آخره ـ صادق على الشبهة في طريق الحكم وهذا لا يدفع كون حكم الشبهة في نفس الحكم ايضاً كذلك باعتبار ادلّة اخر فغاية ما في الباب انّ هذا الخبر يدلّ على الاباحة في شبهة طريق الحكم فقط ولا ينفى كون حكم الشبهة فى نفس الحكم ايضاً كذلك فيبقى جميع الادلّة الدالّة على الاباحة فيما لا نصّ فيه سالماً عن المعارض كما ذكرناها وكان اعتمادنا على هذه الادلّة لا على هذا الخبر وهو واضح

١٤٧

وايضاً كما عرفت يصدق الشبهة على ما اشتبه فيه الموضوع والاخبار الدّالة على التوقّف في الشبهات كثيرة فكيف يحكم بالحليّة فيها بمجرّد هذا الخبر.

وامّا الوجه الثاني ، فلمّا كان في مطلبه ادنى خفاء فلنوضح مطلبه ثمّ نأتي بالجواب عنه.

فنقول : غرضه (قدس‌سره) انّ المراد من الشبهات في الخبر هو الشبهات في نفس الحكم الشرعي ، بأن اشتبه علينا بأن هذا الشيء حلال أو حرام ولكن علمنا بأنّ هذا الامر ماذا ، وليس المراد منها الشبهات في طريق الحكم بأن اشتبه علينا مثلاً بأن هذا الشيء داخل تحت الغناء الذي تحريمه ثابت أم لا ، لانّ المراد من الشّبهات ان لم يكن ذلك لم يحصل العلم لاحد بالحلال والحرام الّا علّام الغيوب لانّ كل ما جزمنا بانّه حلال يمكن ان يكون موضوعه مشتبهاً ، مثلاً إذا قلنا : هذا الخبز أو الحنطة أو اللّحم أو غير ذلك من الاشياء حلال إذا اخذناها من يد مسلم يمكن ان يقال : ليست هذه الاشياء بحلال بيّن لانّ كلاً منها مشتبه الموضوع لانّها يمكن ان يكون مغصوبة أو مسروقةاو غير ذلك وكذا الحكم في جميع ما تصوّر.

فإذا بنى الامر على انّ المراد بالشبهات الشبهات في الموضوع يدخل فيها جميع ما هو حلال عندنا فيجب ان يحمل على الشبهة في نفس الحكم الشرعي حتى يكون الشبهات في طريق الحكم داخلة في الحلال البيّن حتى لا يلزم ذلك.

١٤٨

وامّا الجواب عنه فهو انّ المراد بالحلال البيّن والحرام البيّن الواردين في الخبر هو الحلال والحرام البيّنين عند المكلّف لا ماهو حلال أو حرام في الواقع ونفس الامر ، والدليل على ذلك وقوع تقابلهما مع الشبهات ، فإنّه لا شكّ ان المراد من الشبهات ليس الشبهات في الواقع ونفس الامر لانّ لجميع القضايا والوقائع ولكلّ الامور والصّوادر حكماً ثابتاً عند الله تعالى فيكون لجميع القضايا ، والامور احكام واقعيّة نفس الامريّة والامور الّتي وقعت فيها الشبهة انّما هو عندنا ، فالمراد بالشبهات في الخبر ، الامور الّتي شبهات عندنا قطعاً فيجب ان نحمل الحلال والحرام الواردين في الخبر ايضاً على ما هو كذلك عندنا. ويشعر إلى ذلك لفظ «البيّن» كما لا يخفى على العارف الفطن.

وإذا كان الامر كذلك نقول : إذا اخذنا الحنظة أو اللحم أو الخبز أو غير ذلك من الاشياء عن يد مسلم ولم يدلّ دليل أو امارة أو قرينة على انّها مغصوبة أو مسروقة لا يحصل لنا شبهة مطلقاً بانّها يمكن ان يكون مغصوبة أو مسروقة لعدم تكليفنا بهذه الاحتمالات كما يدلّ عليه الاخبار فيكون كلّها من الحلال البيّن.

هذا مع انّه ان بني الامر على ان المراد بالحلال والحرام البيّنين ما هو كذلك في الواقع ونفس الامر ، يرد عليه انّه يلزم حينئذٍ ان لا يحصل العلم لاحد بالحرام والحلال ، بل كاد ان ينسلك ذلك في سلك المحال اللهمّ الا في احكام نادرة ومسائل قليلة لانّ القطع بحكم الله الواقعي من الممتنعات

١٤٩

والجزم بمطلوبه النفس الأمر من المحالات الا في قليل من الأحكام ، لانّ ادلّة الأحكام عندنا منحصرة بالكتاب والسنّة والعقل والاجماع.

والاوّل : اعني القرآن لا يفيد الّا الظنّ لعدم قطعيّة دلالته وان كان سنده قطعيّاً.

والثاني : يعني الاخبار ايضاً لا يفيد الّا الظن لعدم قطعيّة سندها لوجوه متعدّدة وان كان متنها قطعيّاً ، والمتواتر منها قليل جدّاً.

والثالث : اعني الادلّة العقليّة منحصرة بالإستصحاب وهو ايضاً لا يفيد الّا الظنّ لانّ العمدة في حجيته هي الاخبار وهي لم تبلغ حدّ التواتر حتى يفيد العلم.

وامّا الرابع : اعني الاجماع فالمنقول منه باخبار الاحاد فحكمه كذلك ، والّذي بلغ ناقلوه بحدّ التواتر قليل جدّاً ، والاستنباطي الّذي كان مفيداً للعلم ايضاً في غاية القلّة.

فظهر من هذا ان معظم الاحكام الشرعيّة وجلّ المسائل الفقهيّة انّما يستنبط من الظنّ ولا طريق للعلم إليه ، ولذا تحقق الاجماع من علمائنا على الاكتفاء بالظنون الاجتهاديّة في الاحكام الشرعيّة لئلا يلزم تعطيل الاحكام وانسداد أبواب الحلال والحرام. فحينئذٍ كيف يمكن حصول القطع في جميع الاحكام أو جلّها فلايمكن حمل الحلال البيّن والحرام البيّن على ما ذكرت.

فظهر انّ الحلال البيّن والحرام البيّن ان كان المراد منهما الحلال البيّن

١٥٠

والحرام البيّن عند المكلّف بالنّحو الّذي كلّف به لايلزم ما ذكرت من عدم وجدانهما وعدم حصول العلم لاحد بهما الّا العلّام الغيوب إذا حمل الشبهات على العموم بحيث يشمل الشبهة في نفس الحكم الشرعي وفي طريقه ايضاً ، لانّه حينئذٍ كلّ شيء حصل للمكلّف الظنّ بحليّته يكون داخلاً في الحلال ولايضّره احتمال كونه مغصوباً أو مسروقاً أو غير ذلك وكذا الحكم بعينه في الحرام ، وكلّ شيء لم يحصل له الظنّ بأحد الطرفين يكون داخلاً في الشبهات سواء كان مما اشتبه فيه نفس الحكم أو موضوعه. مثلاً إذا اخذ في سوق المسلمين شيء كاللحم أو الخبز أو الحنطة أو غير ذلك من يد مسلم ولم يعلم انّه مغصوب أو سرقة ولم ينشأ ايضاً ما يصير به عليه متشبهاً مثل ان يقول أحد انّه حرام أو كان هذا الشيء مخلوطاً بشيء آخر هو حرام ، فهو حلال بيّن له لانّ الحلال ليس الّا ما لا مؤاخذة فيه ، والبيّن ما كان عدم المؤاخذة فيه ظاهراً ولا ريب انّه إذا اخذ الشيء المذكور بالنحو المذكور ليس عليه مؤاخذة وهذا ظاهر بيّن لما تدلّ عليه الاخبار وان علم انّه مغصوب أو مسروق فهو حرام بيّن وان قال أحد انّه حرام ولكن لم يحصل له العلم أو الظنّ المعتبر شرعاً فهو مشتبه. وكذا الحكم بعينه في غير ذلك من الامور مثل انّه ان تزوّج بامرأة ولم يعلم أولم يشعر بامر مطلقاً فهي له حلال وان علم شيئاً من الاسباب المحرّمة فهي له حرام وان اشعر بشيء منها فيصير عليه شبهة. وكذا الحكم بعينه إذا وصل إلى الرجل ميراث من ابيه. وكذا الحكم بعينه في امثال هذه الامور

١٥١

وان كان المراد منهما الحلال والحرام في نفس الامر والواقع يلزم عدم العمل بالحلال والحرام سواء حمل الشبهات على شبهة الموضوع أو المحمول فيرد الايراد الّذي ذكرت عليك ايضاً.

وامّا الوجه الثالث ، فيرد عليه ان دلالة بعض الاخبار على ترك ما يحتمل التحريم والاباحة لا يدلّ على الفرق بين الشبهة في نفس الحكم الشرعي وبين الشبهة في طريقه.

امّا اولاً فلانّانسلّم دلالة هذه الاخبار على الاجتناب في خصوص شبهة نفس الحكم ولكن ما تفعل بالادلّة الاخر من الاخبار الدّالة على الاجتناب من الشبهات مع صدق الشبهة على ما نحن فيه لغة وعرفاً.

وامّا ثانياً فلانّه لا شكّ ان الشبهة في طريق الحكم إذا كانت مما اشتبه علينا بأنّ هذا الفرد داخل تحت النّوع المحرّم والمباح يصدق عليه انّه مما يحتمل الحرمة والاباحة فيشمله هذه الاخبار.

امّا الوجه الرابع ، فيرد عليه انّ هذا الجمع ليس بصحيح مطلقاً لانّه مستلزم لطرح الآيات والاخبار الدّالة على الاباحة فيما لا نصّ فيه كما عرفت فيما سبق ، ومستلزم لطرح الاخبار الدالّة على الاجتناب من الشبهة ايضاً ، لانّ الشبهة صادقة على ما اشتبه فيه الموضوع ، مع انّكم اخرجتموه من حكم الشبهة.

بل الجمع الصّحيح بين الادلّة هو الّذي ارتكبه الاصوليون اعني حمل اخبار اجتناب الشبهة مطلقاً على الاستحباب وبقاء الاخبار الدّالة على

١٥٢

الاباحة على حالها لموافقتها للقرآن والادلّة العقليّة ودعوى الاجماع ، وقد عرفت تحقيق الكلام في هذا المقام قبل ذلك.

وامّا الوجه الخامس ، فيرد عليه انّ انحصار سؤال النّبي والائمّة (عليهم‌السلام) في نفس الحكم الشرعي ممنوع بل كثيراً كان الصّحابة يسألون عنهم (عليهم‌السلام) حكم موضوعات الاحكام وكانوا صلوات الله عليهم يجيبونهم والاخبار الواردة في موضوعات الاحكام كثيرة جدّاً وقد مرّت جملة منها ، ونحن لا نشكّ في انّه يمكن استعلام طريق الحكم باللغة والعرف وامور اخرى ولكن كثيراً ما يشتبه بحيث لا يمكن استعلامه بالامور المذكورة ، ولا شكّ انّه إذا امكن الوصول إلى المعصوم (عليه‌السلام) يجب السؤال عنه.

سلمنا انّ طريق الحكم لا يسأل من المعصوم (عليه‌السلام) بل ما يسأل عن (عليه‌السلام) منحصر بنفس الحكم الشرعي ، ولكن كيف يحكم بوجوب التوقّف فيما لا نصّ فيه مع ورود الآيات والاخبار الكثيرة المعاضدة بالعقل والاجماع على الاباحة فيه؟ فهل اخبار التوقّف راجحة عليها حتى ناخذ بها ونطرح جميع هذه الامور الدّالة على الاباحة فيه؟

وامّا الوجه السادس ، فيرد عليه ،

امّا اولّا فبأنّ الاجتناب عن الشبهة في نفس الحكم الشرعي إذا كان امراً ممكناً مقدوراً كيف يصير علّة لوجوب الاجتناب بعد ورود الآيات والاخبار الكثيرة المعاضدة بالعقل والاجماع على الاباحة فيها.

وامّا ثانياً فلانّ عدم الامكان والقدرة على الاجتناب عن الشبهة في

١٥٣

طريق الحكم ممنوع لما عرفت في الجواب عن الوجه الثاني.

وامّا الوجه السابع ، فيرد عليه انّ ثبوت اجتناب الحرام عقلاً ونقلاً مسلّم ولكن هذا لا يدلّ على وجوب الاجتناب عن الشبهة في نفس الحكم بعد ورود الآيات والاخبار الكثيرة على الاباحة فيها.

وما ذكره من انّ مالايتمّ الواجب الّا به وكان مقدرواً فهو واجب.

ففيه امّا اوّلاً عدم تسليم كون ما نحن فيه من هذا القبيل.

وامّا ثانياً فلان هذا يرد بعينه في الشبهة في طريق الحكم ايضاً.

وامّا ثالثاً فلانّ هذا مسلّم فيما لم يقم دليل على خلافه ، وما نحن فيه ليس كذلك لقيام الادلّة الكثيرة من الآيات القرآنيّة والاخبار المعصوميّة (عليهم‌السلام) والمقدّمات البرهانيّة اليقينيّة على انّ الأصل فيها الاباحة ، كما عرفتها فلا يبقى لهذا الكلام وقع حينئذٍ مطلقاً.

فظهر انّ الحقّ الحقيق بالاتّباع عدم الفرق بين الشبهة في نفس الحكم والشبهة في موضوعه ، بل الحكم في كليهما واحد وهو الاباحة كما ذهب إليه المجتهدون رضوان الله عليهم.

وظهر بما ذكرنا جواب ما قال الشيخ الفاضل المذكور (قدس‌سره) في كليّاته ايضاً حيث قال بعد ذكر جملة من الاخبار الدّالة على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة :

اقول : والاحاديث فيه كثيرة ولا ينافي ما مرّ في وجوب التوقّف والإحتياط في نفس الحكم الشرعي عند عدم العلم به لانّ هذه الاحاديث

١٥٤

مخصوصة بموضوعات الاحكام كما هو ظاهر من الامثلة وذكر البيّنة وغير ذلك ، وتلك الاحاديث مخصوصة بنفس الحكم الشرعي.

الا ترى انّ قولهم (عليهم‌السلام) هنا «كلّ شيء فيه حلال وحرام» فعلم انّ المفروض نوع منقسم إلى حلال وحرام وافراده مشتبهه الاترى إلى قولهم (عليهم‌السلام) هناك «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك» فلولا كان موضوعات الاحكام وافرادها مراداً لم يكن للحلال البيّن وجود ولا للحرام البيّن ، لاختلاط افراد الحلال بالحرام واشتباهها بها من زمان آدم (عليه‌السلام) إلى الآن ، ويلزم [من ذلك] ايضاً تكليف ما لا يطاق لعدم امكان اجتناب الجميع [والاحاديث في المقامين دالّة على ما قلناه دلالة واضحة ظاهرة] ـ انتهى ـ (١).

وبعد الاحاطة بما ذكرناه جوابه ظاهر في كمال الظهور.

[الشبهة المحصورة وغير المحصورة]

ثمّ انّ جميعاً من المجتهدين جعلوا الشبهة في موضوع الحكم على قسمين :

احدهما : الشبهة في المحصور.

__________________

(١) الفصول المهمّة للشيخ الحرّ العاملي ١ / ٦٣٥

١٥٥

وثانيهما : الشبهة في غير المحصور.

واوجبوا الاجتناب في الاولى دون الثانية فلابدّ ان نشير إلى ما هو الحقّ.

فنقول : غرضهم من المحصور ما يعدّه العرف محصوراً وكذا غرضهم من غير المحصور ، والّا فكلّ عدد فرض كائناً ما كان يكون متناهياً.

وإذا عرفت ذلك فهؤلاء المفصّلون يقولون إذا حصل الشبهة بين امور يحكم العرف بانّها اعداد محصورة يجب الاجتناب عنها جميعاً كالانائين اللّذين كان أحدهما نجساً واشتبه بالاخر ، والثوبين كذلك ، والدّرهمين اللّذين كان أحدهما مغصوباً واشتبه بالاخر ، والمكانين اللّذين علم نجاسة أحدهما قطعاً واشتبه بالاخر الطّاهر ، إلى غير ذلك من الامثلة الّتي يحكم العرف بكون ما وقع فيه الاشتباه اعداد محصورة ، بخلاف ما لا يحكم العرف كذلك كما إذا اشتبه اناء واحد نجس بالاواني الكثيرة الطّاهرة كخمسين مثلاً أو ستين أو اقل أو اكثر ممّا يعدّه العرف غير محصور بمعنى انّ حصرها متعسّر.

واستدلّوا بانّه لا شكّ في وجود النجس القطعي والحرام القطعي بين الامور المذكورة فالحكم بحلّيّة المجموع أو طهارته مستلزم لحليّة ما هو حرام قطعاً ونجس قطعاً وهو باطل والحكم بحليّة احدها دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

ولما اورد عليهم بأنّ هذا جاء بعينه في غير المحصور ايضاً لانّه لا

١٥٦

شكّ في تحقيق الحرام القطعي بين الامور الغير المحصورة بحسب العرف فالحكم باستعمال الجميع مستلزم لاستعمال ما هو حرام قطعّي أو نجس قطعي وهو ايضاً باطل والحكم بحلّيّة احدها دون الاخر مستلزم للترجيح بلا مرجّح وهو ايضاً باطل.

اجابوا بانّه يمكن الاجتناب عن المحصور بحيث لا يلزم الحرج المنفيّ بخلاف الاجتناب عن غير المحصور فإنّ التنزّه عن الجميع مستلزم للحرج المنفيّ.

والجواب امّا اوّلاً انّ هذا مجرّد دعوى لا شاهد له فإنّ الاجتناب عن امثال هذه الامور لا ينجرّ إلى الحرج مطلقاً ، بل بهذا الاعتبار لا فرق بين المحصور وغيره لانّه كما يمكن الاجتناب إذا اشتبه آنية واحدة نجسة بآنية اخرى طاهرة فكذلك يمكن الاجتناب بعنيه إذا اشتبهت بأوان كثيرة من دون حرج وعسر ، والرجوع إلى ماء اخر أو إلى التيمّم وهذا ظاهر.

وامّا ثانياً فلأنّ وجود الحرام القطعي أو النجس القطعي بين الامور المذكورة أو الامرين المذكورين لا يستلزم وجوب الاجتناب عن المجموع ، لانّ هذا يدلّ على وجوب الاجتناب مما يحصل به القطع باجتناب الحرام أو النّجس ، وانّما يحصل ذلك بارتكاب جميع الامور الّتي حصل فيها الاشتباه ، فإذا كان ما حصل فيه الاشتباه انائين أو ثوبين أو درهمين لا يحصل القطع الّا باستعمالهما معاً وامّا باستعمال أحدهما فلا يحصل القطع المذكور ، بل لامانع من استعمال أحدهما بناء على انّ

١٥٧

الأصل في الشبهة في طريق الحكم الاباحة. وكذا الحكم بعينه إذا كان ما حصل فيه الاشتباه اكثر من اثنين فإنّه يجوز استعمال كلّ واحد واحد إلى ان بقى واحد فحينئذٍ لا يجوز استعماله لانّه يؤدّي إلى القطع المذكور.

فإن قيل : كلّ واحد من النّجاسة والحرمة تكليف يجب فيهما الامتثال ولا يحصل الامتثال الّا بترك جميع المحتملات من باب مقدّمة الواجب.

قلنا :

اوّلاً فبانّ هذا وارد في صورة غير المحصور ايضاً والقول بلزوم الحرج قد عرفت فساده.

وامّا ثانياً فلأنّ وجوب مقدّمة الواجب انما هو مسلّم فيما كان واجب يقيني متعيّن ولم يحصل الّابارتكاب امر آخر وما نحن فيه ليس كذلك.

وامّا ثالثاً فلانّا سلّمنا انّ ما نحن فيه من باب مقدّمة الواجب لكن نقول ترك (١) مقدّمة الواجب واجب مالم يقم دليل على خلافه وهنا دلّ الادلّة الدّالة على انّ الأصل في الشبهة في طريق الحكم الاباحة على استثناء ما نحن فيه فتأمّل.

ويمكن الاستدلال ايضاً للمفصلين بأنّ في الشبهة في المحصور يتحقّق العلم في الاكثر بارتكاب جميع المحتملات فيحصل العلم القطعي باستعمال النّجس أو الحرام بخلاف غير المحصور فإنّه لا يتحقّق العلم فيه عادة باستعمال جميع المحتملات وان حصل بالنّسبة إلى جميع المكلّفين ،

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة «ترك»

١٥٨

وهذا غير مضرّ لانّ كلّ أحد مكلّف بعلم نفسه ، فالمعيار حصول العلم له باستعمال النّجس أو الحرام ، ولذا فرق بين واجدى المني في الثوب المشترك وبين من كان له ثوبان وكان أحدهما نجساً فإنّه يجب عليه الاجتناب عن كليهما حتى يحصل الامتثال ، بخلاف الاوّل فإنّه لا يجب على كلّ واحد منهما الاجتناب عن الثوب المذكور.

اقول : وبعدما عرفت ما ذكرنا تعرف ما في هذا الكلام من الاختلال وعدم الانتظام فإنّ بناء أدلّة البراءة على انّه ما لم يحصل العلم بالحرمة والنجاسة لا يجب الاجتناب ، فالمحصور وغير المحصور ان بقي منهما فرد كان بحيث إذا ارتكبه المكلّف حصل العلم القطعي بارتكاب جميع المحتملات ويحصل العلم بارتكاب الحرام أو النّجاسة يجب الاجتناب عن هذا الفرد والّا حصل العلم القطعيّ بارتكاب الحرام أو النّجاسة الواقعيين وخرج حينئذٍ من الشبهة ، وان لم يكن الفرد الّذي يرتكبه المكلّف ممّا يحصل بارتكابه العلم المذكور فليس الاجتناب واجباً لما عرفت.

فحصول العلم العادي باستعمال النّجس أو الحرام في المحصور ان كان بالنّسبة إلى بعض الافراد فممنوع وهو ظاهر ، وان كان بالنسبة إلى كلّ الافراد فمسلّم ، ولكن الحكم في غير المحصور ايضاً كذلك ، والمثالان المذكوران لا فرق بينهما مطلقاً لانّ كلّ واحد من الثوبين الّذين كان أحدهما نجساً كما يحتمل ان يكون نجساً وبهذا الاعتبار كان الاجتناب

١٥٩

على المكلّف واجباً فكذلك يحتمل ان يكون المنّي المذكور من كلّ واحد من الرجلين فيجب على كلّ واحد منهما الاجتناب.

وبالجملة الحقّ انّه لا فرق بينهما لانّه إذا بنى الامر على أصل البراءة فيجب ان يحصل العلم بالتكليف حتى يجب الاجتناب وفي كلّ واحد واحد من افراد المحصور وغير المحصور لا يحصل هذا العلم ، فما لم ينجرّ إلى ارتكاب جميع الافراد لا يحصل العلم المذكور ، والفرق بأنّ حرمة أحد الفردين في المحصور قطعيّة فيجب ترك الفرد الاخر من باب المقدّمة لعدم عسر وحرج بخلاف غير المحصور فإنّه وان كان افراده حراماً قطعيّاً الّا انّه ان كان جميع الافراد تركه واجباً من باب المقدّمه يلزم الحرج والعسر المنفييّن ، قد عرفت فساده مراراً.

فالحقّ انّه ما لم يحصل العلم لا يجب الكفّ سواء كان في المحصور أو غيره.

ويدلّ عليه ما ورد في بعض الاخبار (١) انّه لايجب في اوّل الامر الفحص عن النّجاسه بانّها هل بلغت البدن أو الثوب ، بل ولايجب عند امارة ايضاً حتى يحصل العلم.

ويدلّ عليه ايضاً رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة حيث قال (عليه‌السلام) : كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك ابداً حتى تعرف الحرام

__________________

(١)

١٦٠