جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

ماكانوا قادرين على أمر أصلاً لا على ما يجب أن يأخذوا به ولا على ما يجب أن يتركوا ، لعدم علمهم بهذا وكون بيانه موكولاً على الله سبحانه ، فيعلم منه أنّهم لم يكونوا مكلّفين والّا كان تكليفاً بما لايطاق.

ولايخفى انّ هذا الاستدلال ليس من مجرّد الآيات بل بضميمة العقل كما لايخفى ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : انّ الآيات المذكورة والاخبار الواردة في تفسيرها تدلّ على انّ بيان طريقى الحقّ والباطل على الله فقبل بيانه لايوجد شيء من الاحكام أعني الوجوب والحرمة فيكون الاشياء على الاباحة.

ومنها : ما يدلّ على الشقّين أعني حلّيّة الاشياء دون الافعال سواء كان قبل البعثة أو بعدها.

كرواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : «كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو حلال لك ابداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١).

وهذا الخبر مذكور في النوادر من المعيشة من «الكافي».

قال صاحب الفوائد المكيّة : انّ الاستدلال بمثل هذا الحديث على الحلّ إذا كان الحيرة والاشتباه في حكم الله تعالى فهو من اغلاط المتأخرين بل مرادهم (عليهم‌السلام) الاشتباه في فرد من الاجناس الّتي علمنا انّ بعض افرادها حلال وبعض افرادها حرام كاللحم والجبن لا في الحكم

__________________

(١) الكافى ٥ / ٣١٣. وراجع المحاسن ٤٩٥

٤١

الّتي لم نعلم حكمها اصلاً ـ انتهى ـ (١).

وكلامه هنا غير بعيد عن الصّواب لدلالة قوله (عليه‌السلام) : «يكون فيه حرام وحلال» على ماذكره ، فالتعميم غير مستفاد من الخبر الّا انّك ستعرف إن شاء الله في فصل الشبهة في طريق الحكم حقيقة الحال.

ومنها : ما يدلّ على شقّين آخرين أعنى الاشياء أو الافعال بعد البعثة كصحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن امّتى تسعة : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ومالا يطيقون ومالا يعلمون وما اضطرّوا إليه والحسد والطّيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة» (٢).

وهذا الحديث مذكور في كتاب «التوحيد» للصّدوق وفي أوائل «من لايحضره الفقيه» (٣) وما نحن فيه داخل فيما لايعلمون.

وممّا يدلّ على المطلوب الاخبار الواردة الدالّة على انّ التكليف لم يتعلّق بأحد الّا بعد بعثة الرّسل ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة (٤).

__________________

(١) راجع الفوائد المدنيّة صفحه ١٤٨

(٢) التوحيد ٣٥٣. الخصال ٢ / ٤٤. الوسائل ١١ / ٢٩٥ طبع الاسلاميّة

(٣) الفقيه ١ / ٥٩. الوسائل الباب ٣٧ من ابواب قواطع الصلاة

(٤) راجع توحيد الصدوق صفحه ٤٥ ، والبحار ٥ / ٢٩٨ الباب ١٤ من كتاب العدل والمعاد

٤٢

وكذا الاخبار الواردة الدّالة على انّ المجانين والاطفال واشباههم معذورون ويتعلّق التكليف بهم في يوم القيامة (١) وقد نقل تواتر هذين القسمين من الاخبار.

وكذا يدلّ عليه الاخبار الواردة في انّ الزّمان لايخلو عن امام معصوم ليعرّف النّاس ما يصلحهم ويفسدهم (٢).

وكذا الاخبار الدّالة على انّه على الله بيان ما يصلح النّاس ومايفسدهم (٣).

ودلالة القسمين الاخيرين على المطلوب انّما يتمّ إذا ثبت أنّ المفهوم منهما أنّ طريق العلم بهما منحصر في ذلك.

وقد سبق منّا إشارة إلى بعض القسم الاخير.

الثالث : الاجماع

نقله جماعة من فحول علمائنا كالصدوق في اعتقاداته والمحقّق والعلّامة. كذا نقل بعض الاعلام.

وكلام الصّدوق ليس صريحاً في دعوى الاجماع لانّه قال في

__________________

(١) راجع البحار ٥ / ٢٨٨ باب الاطفال ومن لم يتمّ عليهم الحجّة في الدّنيا

(٢) راجع البحار جلد ٢٣ باب الاضطرار إلى الحجّة

(٣) التوحيد ٤١٤ ـ ٤١١

٤٣

اعتقاداته : باب الحظر والاباحة. اعتقادنا في ذلك انّ الاشياء كلّها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهى (١).

وهذا كماترى لايدلّ صريحاً على دعوى الاجماع لانّ بعضاً من الامور الّتي قال اعتقادنا فيه كذا وكذا مختلف فيه. فتأمّل.

الرّابع العقل وهو عدّة دلائل.

منها : انا نعلم انّ الصحابة والتابعين في عصر سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين وكذا اصحاب ائمّتنا الراشدين صلوات الله عليهم اجمعين ما كانوا يتوقفون في كلّ واحد من افعالهم الّتي لم يرد بها نصّ بل كان بناؤهم على أصل الاباحة الّا في الامور الّتي كان التحريم فيها منصوصاً من الشارع. وكذا ما كانوا متأمّلين في حليّة الاشياء الّا الاشياء الّتي كان تحريمها منصوصاً.

ولا يخفى انّ هذا الدليل لا يفيد شيئاً من الظنّ والعلم وذلك لّان المراد من افعالهم ان كان الامور الّتي لا يمكن انفكاكها عنهم عقلاً كالحركة والسكون والاكل والشّرب والنّوم واليقظة والاحتباس والاستفراغ وامثالها أو عادة كاللّبس والاستماع واللّمس والنظر إلى المبصرات واشباهها فاباحتها كانت معلومة عندهم من طريقة الشارع

__________________

(١) الاعتقادات صفحه ١٠٧ الطبع الحجرى ١٢٩٢

٤٤

وسيرته ، وان كان الامور الاخر فكان دأبهم السّؤال عنها والاستفسار عن حقيقتها وكيفيّة حالها وما كانوا يرتكبون امراً بدون إذن الشارع ورخصته الّا فيما كان الرّخصة وصلت اليهم خاصّاً أو عامّاً قولاً أو فعلاً أو تقريراً كما لا يخفى على المطّلع على الاخبار المتتبّع للآثار.

نعم يمكن ان يقال : نحن نعلم انّ كثيراً ما كان الصحابة والتابعون في عصر النّبي والائمّة (عليهم‌السلام) يرتكبون اموراً لاعتقادهم اباحتها ولم يؤاخذهم الشارع على ذلك مع انّه إن لم يكن الأصل في الافعال والاشياء الاباحة كان الواجب على الشارع ان يمنعهم من جميع افعالهم وحركاتهم وسكناتهم بدون رخصته مع انّ الامر لم يكن كذلك في عهده.

ومنها : ان الاباحة انسب بالملّة السمحة السّهلة بل عدم كون الأصل في الافعال والاشياء الاباحة مناف لكون هذه الملّة سهلة سمحة كما لا يخفى. وهذا الدّليل لا يفيد الّا الظنّ.

ثم هذان الدّليلان مختصّان بما بعد البعثة.

ومنها : انّ العقل يحكم حكماً قطعيّاً بقبح الحكم والتكليف مع عدم البيان لانّه تكليف مالايطاق وهو محال على الله تعالى.

وأورد عليه بانّ هذا لايدفع ان يوجد في الواقع ونفس الامر حكم وتكليف. فالحقّ ان يقال : يحكم العقل حكماً جزميّاً بقبح العقاب مع عدم البيان للزوم الظّلم على الله. فاللّازم من الدّليل اباحة الاشياء والافعال بمعنى عدم العذاب والعقاب على الترك قبل النّص والبيان ، لاعدم الحكم

٤٥

في الواقع ونفس الامر مطلقاً لانّ هذا ليس على مذهبنا صحيحاً لانّ اعتقادنا انّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أودع جميع الشّرائع والاحكام وكلّ ما يتعلّق بالحلال والحرام عند اهل بيته الكرام عليهم صلوات الله الملك العلامّ بحيث لم يشذّ عنه شيء حتّى ارش الخدش واقلّ ولكنّهم (عليهم‌السلام) ما تمكّنوا من إظهار الجميع لخوف التقيّة ولظهور الفتنة وغير ذلك. مع انّ الاحكام الّتي اظهروها لم يصل كلّها الينا لظهور الفساد والفتنة بعدهم (عليهم‌السلام) واعتراء الاختلال والاندراس في الكتب الاربعمائة. فيحنئذٍ لا يمكن لنا القول بالعدم الواقعى.

نعم هذا يمكن القول به على طريقة العامّة حيث يقولون إنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اظهر كلّ ما جاء به وتوفّر الّدواعي على اخذه ونشره بحيث لم يشذّ منه شيء فحينئذ إذا تتبّعنا ولم نجد الحكم ، نحكم بعدم الحكم في الواقع ونفس الامر.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كثيراً من الاصحاب استدلّ بالايات والاخبار المذكورة على أنّ الوجوب والحرمة الشرعيّين موقوفان على النّص من قبل الشريعة لايمكن للعقل اثباتهما نعم يمكن ادراك الوجوب والحرمة العقليين بالعقل.

والواجب العقلي ما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذّم ، والشّرعي ما يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب ، والحرام العقلي ما يستحقّ فاعله الذمّ وتاركه المدح ، والحرام الشرعي ما يستحقّ فاعله العقاب وتاركه الثّواب

٤٦

وامكان ادراك العقل الوجوب والحرمة العقليّين مبنى على ماهو التحقيق عندنا من كون الحسن والقبح عقليّين ـ وتحقيق القول فيه يليق بموضع ـ آخر فيمكنه ان يحكم بانّ بعض الافعال واجب في الواقع بالمعنى المذكور كوجوب قضاء الدين وردّ الوديعة وبعضها حرام كازهاق النّفس ظلماً ، بل يمكنه ادراك المستحبّ العقلي ايضاً كاستحباب الاحسان.

وقد ذكر ذلك جمع من علمائنا منهم المحقّق في «المعتبر» (١) والشهيد في «الذكرى» (٢) مع انّ الظاهر انّه بديهيّ لا يحتاج إلى التأمّل ولكن قالوا : لايمكن اثبات الوجوب والحرمة الشرعيّين بالعقل وستعرف إن شاء الله ما هو الحقّ في المسألة.

انّهم استدلّوا على مطلبهم بما عرفت من الآيات والاخبار والادلّة الأُخر.

وبصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : بني الاسلام على خمسة اشياء ـ إلى ان قال ـ اما لو انّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع اعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولاكان من أهل الايمان (٣) ـ الحديث ـ

__________________

(١) المعتبر صفحه ١٠٦ الطبع الحجري

(٢) الذكرى صفحه ٥. الطبع الحجري و ١ / ٥٢ الطبع الحديث

(٣) الكافى ٢ / ١٩. الوسائل ١ / ٥ و ٩٠ نقلاً عن الكافى والمحاسن

٤٧

وبأنّه يبعد كون احكام الله بمجرّد العقول مع تباينها وشدّة اختلافها ولذا ترى لم يوافق العقلان في مسألة من المسائل العقليّه.

ولما ذكره اصحابنا والمعتزلة من انّ التكليف فيما يستقل به العقل لطف والعقاب بدون اللطف قبيح على الله فقبل البيان لا يكون من الله عذاب وعقاب.

ولأنّ العقل لو كان مستقلاً في ادراك الوجوب والحرمة الشرعييّن لم يكن لطلب الشارع ونهيه فائدة اصلاً ، مع انّا نعلم قطعاً انّ لكلّ من الطّلب والنّهي فائدة لم يكن قبل ورودهما.

قال حجّة الفرقة المحقّة نصير الملّة والدّين الطوسي قدّس الله نفسه الزكيّة في بعض كتبه : انّ القبيح العقلي ما ينفر الحكيم عنه وينسب فاعله إلى السّفه (١).

وقال بعض المتأخرين من اصحابنا :

لايقال قوله (عليه‌السلام) : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (٢) يبطل الحسن والقبح الذاتيين.

لانّا نقول هاهنا مسألتان :

الاولى الحسن والقبح الذاتيان.

والاخرى الوجوب والحرمة الذاتيان.

__________________

(١) الفوائد المدنيّة ١٦١

(٢) الفقيه ١ / ٣١٧

٤٨

والذي يلزم من ذلك ، بطلان الثانية لا الاولى ، وبينهما بون بعيد. الا ترى انّ كثيراً من القبائح العقليّة ليس بحرام في الشريعة ونقيضه ليس بواجب ـ انتهى كلامه الشريف ـ (١).

وقال سيّدنا الاجلّ المرتضى رضى الله عنه في «الذّريعة» في مقام الاستدلال على انّ الاشياء التي لم يرد بها نصّ مباحة ـ بعد ان ادّعى انّه ليس عليها المضرّة العاجلة ـ : وامّا المضرّة الاجلة فهي العقاب وانّما يعلم انتفاء ذلك لفقد السمع الّذي يجب ان يرد به لو كان ثابتاً لانّ الله تعالى لابدّ ان يعلمنا ما علينا من المضارّ الآجلة الّتي هي العقاب الذي يقتضيه قبح العقل وإذا فقدنا هذا الاعلام قطعنا على انتفاء المضرّة الآجلة ايضاً ـ انتهى عباراته الشريفة ـ (٢).

ثمّ انّ بعض الفضلاء المتأخرين تردّد في المسألة وبعد الاستدلال على ما ذكرنا من المذهب الحقّ اعنى عدم استقلال العقل بادراك الوجوب والحرمة الشرعييّن قال :

فإن قلت : فإذا كان الامر على ما ذكرت فلم لم تحكم بعدم حجيّة هذه الطريقة على البتّ ، بل جعلت حجيّتها محلّ التأمّل المشعر بالشكّ والتردّد.

قلت : وجه التردّد ممّا مرّ ومن أنّ اخباره تعالى بنفي التعذيب فيما هو مذموم ومكروه عنده اغراء منه تعالى للمكلّف على هذا المذموم وهو

__________________

(١) الفوائد المدنيّة ١٦١

(٢) الذريعة ٨١١ طبع طهران

٤٩

قبيح ونقض للغرض وحينئذٍ لا يكون ما يندرج في هذه الطريقة مندرجاً في قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) وحينئذٍ فيبقى الكلام في صحّة الملازمة المذكورة وعدمها ـ انتهى ـ (٢).

وغرضه من الملازمة المذكورة الملازمة بين الوجوب والحرمة العقلييّن والشّرعييّن يعنى كلّما وجد العقليّان يوجد الشرعيّان أم لا.

ثمّ انّ هذا البعض المتقدّم ذكره أورد على المسألة بقوله :

فان قلت : الواجب العقلى هو مايكون تاركه مذموماً عند كلّ عاقل وحكيم والحرام العقلي ما يكون فاعله مذموماً كذلك فالحرام العقلي مثلاً لابدّ وان يكون مكروهاً وممقوتاً لله تعالى وليس الحرام الشرعي الّا ذلك لانّ فاعل فعل هو مكروه عندالله تعالى ممقوت له تعالى مستحقّ لعقابه ضرورة.

واجاب بأنّ الحرام الشرعي ما يجوز المكلّف العقاب عليه ولا يكفي مجرّد الاستحقاق وان علم انتفاؤه بسبب ما كأخباره بذلك.

ثمّ قال : وايضاً بداهة استلزام المكروهيّة عند الله تعالى استحقاق عقابه محلّ نظر ومنع ـ انتهى ـ (٣).

وتوضيح كلامه : انّك قد عرفت بامكان ادراك العقل الوجوب

__________________

(١) الاسراء : ١٥

(٢) الوافية للفاضل التوني ص ١٧٤

(٣) الوافية ص ١٧٥

٥٠

والحرمة العقلييّن ، وقلت : المكلّف إذا ادركهما ومع ذلك ترك الواجب المذكور وفعل الحرام المزبور لا يكون عليه عقاب ، ولاشكّ انّ الحرام العقلي مكروه عندالله ايضاً لأنّه ما يكون مكروهاً عند كلّ عاقل وحكيم ، وترك الواجب العقلي ايضاً كذلك بعينه. وحينئذٍ كيف لا يكون على فعل هذا الحرام وترك هذا الواجب عقاب بعد ان ادركهما العقل وعلم جهة حسنهما وقبحهما؟ وكيف يخبرالله تعالى بأنّ الامر الّذي هو مكروه عندي وانت عرفت بعقلك انّه مكروه عند كلّ عاقل وحكيم لا اعذّبك بفعله؟ وكذا كيف يخبر بأنّ الامر الّذي هو حسن عندي وانت عرفت ايضاً ذلك لا اعذّبك [بتركه]؟ فهذا اغراء منه تعالى للمكلّف إلى الامر القبيح المذموم وهو غير صحيح.

فحينئذٍ يبقى الكلام في انّه هل يمكن أن يكون فعل مكروها عند الله تعالى ومع ذلك يكون (١) فاعله عنده غير مستحق للعقاب أولا يمكن.

فعلى الاول يكون القول بعدم اثبات الوجوب والحرمة الشرعيّين بالعقل صحيحاً وعلى الثاني لايكون صحيحاً لانّ ما يدركه العقل حينئذٍ بانّه مذموم يكون على فعله العقاب.

وحينئذٍ يجب ان يخصّص الاية وغيرها بما لايدرك العقل وجوبه أو حرمته.

اقول : تحقيق المقام ان يقال : انّ الامور ينقسم إلى قسمين :

__________________

(١) في الاصل : لا يكون.

٥١

قسم لا يدرك العقل حسنه وقبحه مطلقاً وهذا كثير بحيث لا تعدّ ولاتحصى ولاشكّ انّ هذا القسم موقوف على نصّ الشارع ومادام لم يرد بها نصّ يكون على أصل الاباحة ولايكون على فعلها عقاب وكذا على تركها لأنّ المفروض انّ العقل غير متمكّن من ادراكها.

وقسم يدرك العقل حسنه وقبحه وهذا هو المتنازع فيه بين العقلاء بحيث صار محطّاً لرحال العلماء والاعلام وغرضاً لسهام النّقض والابرام فبعضهم يقول : انّ حسنها وقبحها ثابت بالعقل ولكن الثواب والعقاب موقوفان على نصّ من الشّارع فإن ورد نصّ من الشارع على فعلها أو تركها يثبت الثواب والعقاب ايضاً والّا فلا فهؤلاء يقولون لا ملازمة بين الوجوب والحرمة العقليّين والوجوب والحرمة الشرعيّين فربّما وجد الاوّل ولم يوجد الثاني وبالعكس وعرفت دلالة كلام المحقّق الطوسي (قدس‌سره) عليه حيث قال : الا ترى انّ كثيراً من القبائح العقليّة ليس بحرام في الشريعة ونقيضه ليس بواجب (١) ، وكلام السيّد المرتضى (قدس‌سره) (٢) ايضاً ينظر إلى هذا ، واختاره جمع آخر ايضاً.

قال شارح جمع الجوامع (٣) : «وتوسّط قوم فقالوا : قبحها ثابت بالعقل ،

__________________

(١ و ٢) راجع ص ٤٨ وليس هذا من كلام المحقّق الطوسى بل من صاحب الفوائد المدنيّة فراجع.

(٣) قال في كشف الظنون : جمع الجوامع في اصول الفقه لتاج الدين عبدالوهاب السبكى الشافعي المتوفّى ٧٧١ وله شروح كثيرة ... ومن شروحه شرح بدرالدين محمّد

٥٢

والعقاب يتوقّف على الشرع ، وهو الّذي ذكره اسعد بن علي الزنجاني من اصحابنا وأبوالخطّاب من الحنابلة وذكره الحنفيّة وحكوه عن أبي حنيفة نصّاً وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته عن الوهن والتناقض.

فهاهنا امران :

الاوّل ادراك العقل حسن الاشياء وقبحها.

والثاني ان ذلك كاف في الثواب والعقاب وان لم يرد شرع ، ولا ملازمة بين الامرين ، بدليل ذلك ان لم يكن (رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) ـ اي بقبح فعلهم ـ (وَأَهْلُها غافِلُونَ)(١) اي لم يأتهم الرّسل والشرائع. ومثله (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً)(٢) ـ انتهى [كلام الفاضل الزركشي] ـ (٣).

واستدلال القائلين بعدم الملازمة هو اطلاقات الآيات والاخبار المذكورة فإنّها بإطلاقها تدلّ على انّ مالم يرد به الشّرع سواء ادرك العقل حسنه وقبحه ام لا لا يكون عليه عقاب.

__________________

الزركشى المتوفى ٧٤٩.

(١) الانعام : ١٣١

(٢) طه : ١٣٤

(٣) هذه العبارة منقولة عن الفوائد المدنيّة ص ١٦٢ نقلاً عن شرح جمع الجوامع لبدر الدين الزركشي.

٥٣

ويرد على هذا المذهب امور :

منها : الاغراء للمكلّف على القبيح المذموم كما تقدّم.

ومنها : انّ العقل من الادلّة الشرعيّة ايضاً وعلى هذا المذهب يلزم خلعه بالمرّة في الاحكام الشرعيّة ، لانّ الامور التي لم يرد بها نصّ لا يمكن للعقل اثبات الوجوب والحرمة لها ، والّتي ورد بها نصّ لا يحتاج إلى العقل.

ومنها : انّه ورد انّ العقل والشرع متلازمان لايمكن انفكاك أحدهما عن الاخر فإنّ العقل الشرع الباطن ، كما انّ الشرع العقل الظاهر ، وقد ورد عن سيّد المتّقين واميرالمؤمنين صلوات الله عليه وعلى أولاده الطّاهرين :

«رايت العقل عقلين : مطبوع ومسموع

ولاينفع مسموع إذا لم يك مطبوع

كما لاينفع الشمس وضوء العين ممنوع» (١).

ومنها : انّه لاشبهة في انّ ما هو مقتضى العقل الصّحيح صحيح وخلافه مذموم قبيح فكيف يمكن ان يتحقّق في موضع ما هو مقتضى العقل الصّحيح واثبت الشارع الّذي هو اعقل العقلاء خلافه؟ نعم ان ظنّ في موضع هذا في باديء النظر يحكم جزماً بأنّ هذا العقل ليس بصحيح ، لا اّن الشارع قال خلافه.

__________________

(١) راجع الاصول الاصيلة للفيض (قدس‌سره) ص ١٢٠ وذيله.

٥٤

ولما ذكرنا ذهب قوم إلى انّ بين العقل والشرع تلازماً لايمكن ان ينفكّ أحدهما عن الاخر فإذا حكم العقل الصحيح بانّ هذا حسن أو قيبح يجزم من هذا بأنّ حكم الشّرع ايضاً كذلك ، فحكم العقل كاشف عن حكم الشرع وهو تابع للعقل والمعتزلة ايضاً هكذا تقولون.

قال شارح جمع الجوامع : انّ المعتزلة لا ينكرون انّ الله تعالى هو الشّارع للاحكام ، انّما يقولون انّ العقل يدرك انّ الله تعالى شرع احكام الافعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها فهما عندهم مؤدّيان إلى العلم بالحكم الشّرعي تابع لهما لا عينهما فما كان حسناً جوّزه الشّارع وماكان قبيحاً منعه. فصار عند المعتزلة حكمان احدهما عقلى والاخر شرعي تابع له. فبان انّهم لايقولون انّه بمعنى العقاب والثواب ليس بشرعيّ اصلاً خلافاً لما يوهمه ظاهر عبارة المصنّف وغيره ـ انتهى كلامه ـ (١).

ويرد على هذا القول شيئان ولكن جوابهما معلوم.

الاوّل انّا نرى انّ كثيراً من المحسّنات العقليّة صارت محرّمة في الشرع وكثيراً من القبائح العقليّة أوجبها الشارع فكيف يدعى التلازم بينهما؟

وجوابه ظاهر لانّا لانسلّم انّ الشارع حرّم المحسنّات العقليّة أو أوجب القبائح العقليّة بل انّ ظنّ ذلك في باديء النظر فانّما هو ناشء عن العقول القاصرة والفهوم العاجزة البائرة فإنّ كلّ عقل ليس بصحيح وكلّ درك ليس بمستقيم بل الموافق للعقل السلّيم والموافق للفهم المستقيم ما قال به

__________________

(١) الفوائد المدنيّة ١٦٤ نقلاً عن شرح جمع الجوامع للزركشي.

٥٥

الشارع ، ولذا ان تأمّل من على الفطرة السليمة في الاحكام الشّرعيّة وتتبّع من كان متّصفاً بجودة التعقّل والفهم في المسائل الفرعيّة يجد أنّ جميعها مقتضى العقل.

نقل ان فاضلاً من ارباب العقول الّذي صرف عمره جميعاً في العلوم العقليّة ولم يحصّل شيئاً من العلوم النقليّة ولم تقرع على سمعه مسألة من المسائل الفقهيّة ـ وسمعت انّه الفاضل الخفري (١) ـ دخل في بلد وشرع فيه بالافتاء من غير رجوع إلى الكتب الفقهيّة بل بمجرّد العقل حتى مضى من ذلك مدّة طويلة فدخل فيها فقيه فاضل ـ وسمعت أورايت في موضع انّه المحقّق الثاني رحمه‌الله (٢) ـ فزجره عن ذلك وامر بجمع فتاويه حتى يرى كيف فعل فلمّا جمع فتاويه فرأى الشيخ المحقّق (قدس‌سره) انّ كلامه في جميع المسائل المذكورة موافق لما هو مفتي به الّا مسائل نادرة قليلة.

وهذا النقل مؤيّد لما قلنا.

الثاني انّ هذا القول مخالف لما يفهم من اطلاقات الآيات والاخبار كما تقدّم.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجوه :

الاوّل تخصيصها بالمواضع الّتي لم يحكم العقل فيها بالحكم الجزمي ولايتمكّن من ادراكه لما ذكرنا من الادلّة.

__________________

(١) صاحب الحاشية على شرح التجريد المتوفي ٩٣٢.

(٢) صاحب جامع المقاصد المتوفي ٩٤٠.

٥٦

الثاني تخصيصها بما قبل البعثة.

وفيه مافيه لانّك عرفت انّ بعضها لايمكن حمله على ما قبل البعثة مع انّ ما يمكن ان يقال به بعد البعثة يمكن أن يقال به قبلها ايضاً فالفرق بينها تحكّم ظاهر مع انّ التفرقة لا تعقل لانّ الظاهر انّ المراد بقبل البعثة قبل بعثة مطلق الانبياء ولاشكّ انّ آدم (عليه‌السلام) كان قبل كلّ أحد وقبله لم يكن أحد فكلّ زمان صدق عليه انّه بعد البعثة ولايتحقّق زمان قبل البعثة. فتأمّل.

الثالث حمل الآيات والاخبار على العفو بأن يقال يجوز ان يستحقّ العذاب والعقاب الّا انّه تعالى بناء على لطفه ورحتمه لا يعذّبه الّا بعد البيان كما صرّح به الفاضل المحقّق الخوانساري في حواشيه على شرح المختصر للعضدي (١).

وأجيب عن هذا بأنّ الحرام الشّرعي ما يجوز المكلّف العقاب على فعله والواجب الشّرعي ما يجوز العذاب على تركه وهذا التجويز هنا محال لاخبار الله تعالى بعدم العذاب والعقاب.

ولايخفى ما في هذا الجواب.

الرابع انّ حكم العقل بالحسن والقبح كاشف عن الوجوب والحرمة كما عرفت لتلازمهما فكلّ موضع حكم العقل حكماً جزميّاً بالحسن والقبح يحصل الجزم بالحكم الشرعي ايضاً ولايصدق انّه حينئذٍ من باب مالا نصّ فيه أو باب المطلق بل يكون ممّا ورد حكمه من الشارع. فتأمّل.

__________________

(١) مخطوط.

٥٧

إذا عرفت هذا فتعلم انّ الترجيح لهذا المذهب وان كان مخالفاً لما عليه الفحول ومبائناً لما قبله اقوياء العقول.

ثمّ انّ بناء على المذهب الاوّل يكون الأصل في كلّ ما لم يرد به الشّرع الاباحة ، وبناء على المذهب الثاني يكون الأصل في كلّ ما لم يرد به الشرع ولايحكم به العقل ايضاً الاباحة.

ثمّ حكم العقل إمّا على سبيل القطع أو الجزم أو على سبيل الظنّ.

فالاوّل لاكلام فيه.

وامّا الثاني فيبنى الامر على انّ الظنون كافية في الاحكام الشرعيّة أم لا. فعلى ما ذهب إليه المجتهدون إذا حكم العقل بالحسن والقبح على سبيل الظنّ يحصل (العلم بالحكم الشرعي ايضاً على سبيل الظنّ) (١) فيكون هذا الظنّ كافياً في اثبات هذا الحكم الشّرعي وعلى مذهب الاخباريّين لا يكون كافياً مع انّهم ينكرون أصل الاباحة مطلقاً

[حجّة القائلين بالتوقّف]

وبناء على التوقّف حجّة القائلين بالتوقّف اخبار كثيرة :

منها : ما روى عمر بن حنظله عن الصّادق (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشّبهات

__________________

(١) في بعض النسخ «الظنّ بالحكم الشرعي» مكان ما بين ()

٥٨

نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لايعلم» (١). وقال (عليه‌السلام) في اخره بعد بيان جميع وجوه التراجيح في الخبرين المختلفين : «فإذا كان كذلك فارجه حتّى تلقى امامك فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٢).

ومنها : ما روى الرّاوندي عن الصّدوق (قدس‌سره) قال : اخبرنا أبي قال اخبرنا سعد بن عبدالله عن يعقوب بن يزيد عن محمّد بن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة انّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (٣).

ومنها : ما ورد عنهم (عليهم‌السلام) «انّما الامور ثلاثة امر بيّن رشده فيتّبع وامر بيّن غيّه ، فيجتنب وامر مشكل يردّ علمه إلى الله تعالى ورسوله» (٤).

ووجه استدلالهم بهذه الاخبار الثلاثة انّ ما لانصّ فيه من افراد الشّبهة والمشكل فيجب فيه الوقوف وردّ علمه إلى الله تعالى ورسوله.

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٨. الوسائل ١٨ / ٧٦ طبع الاسلاميّة

(٢) الكافي ١ / ٦٨. الوسائل ١٨ / ٧٦

(٣) الوسائل ١٨ / ٨٦ نقلاً عن رسالة للراوندي

(٤) الكافي ١ / ٦٧

٥٩

ومنها : ما روي في «الكافي» في باب النّهي عن القول بغير علم عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : «انهاك عن خصلتين فيهما هلك الرّجال انهاك أن تدين الله بالباطل وتفتى النّاس بمالاتعلم» (١).

ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : سألته ما حقّ الله على العباد؟ قال : «ان يقولوا ما لايعلمون ويقفوا عند ما لايعلمون» (٢).

ومنها : ما روي في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «من فرّط تفرّط ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغّل في ما لا يعلم ومن هجم على امر بغير علم جذع انف نفسه» (٣).

ومنها : قول سيّدنا اميرالمؤمنين صلوات الله عليه في «نهج البلاغة» في وصيّته لابنه الحسن صلوات الله عليه : «ودع القول فيما لا تعلم والخطاب فيها لا تكلّف وامسك طريق إذا خفت الضّلالة فإنّ الكفّ عند حيرة الضلالة خير من ركوب الاهوال» (٤).

ومنها : ما روي عن الباقر صلوات الله عليه قال : «من افتى النّاس برأيه فقد دان الله بمالايعلم ومن دان الله بما يعلم فقد صادّ الله

__________________

(١) الكافي ١ / ٤٢.

(٢) الكافي ١ / ٤٣.

(٣) الكافي ١ / ٢٧.

(٤) الوسائل ٢٧ / ١٦٠ نقلاً عن نهج البلاغة ٣ / ٤٤ طبع مصر. شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ / ٧.

٦٠