جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

اقول : امّا القسم الثاني فلا نزاع فيه لانّه نصّ الحديث عن الصّادق (عليه‌السلام) وهو موافق للتوهّم الّذي نسبه إلى بعضهم. وامّا الاوّل فإذا حكمنا بالطّهارة في الصنف الّذي فيه طاهر وفيه نجس فكيف لا نحكم بالطّهارة في الّذي لم يرد في شيء منه نجاسة ، لانّ قبول ذلك الفرد من الصنف الّذي ورد في بعضه نجاسة ، للنجاسة باعتبار المشاكلة اقرب من الّذي لم يرد في شيء من افراده نجاسة ، فكانت الطهارة فيه أولى من الاخر. وكذلك القول ايضاً في الّذي لم يرد فيه تحريم. انتهى كلامه (١).

وقال المحقّق الاسترآبادى ايضاً في الفوائد المكيّة بعد ذكر الاخبار الواردة في حجيّة الاستصحاب :

لا يقال هذه القاعدة يقتضى جواز العمل بإستصحاب احكام الله تعالى كما ذهب إليه المفيد والعلامّة من اصحابنا والشافعيّة قاطبة ، ويقتضى بطلان قول اكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به.

لانّا نقول هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليين والفقهاء وقد اجبنا عنها في الفوائد المدنيّة.

تارة بما ملخّصه انّ صور الإستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة إلى انّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم انّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة

__________________

(١) الشواهد المكيّة ١٥٤.

٢٠١

بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالّذي سموّه استصحاباً راجح إلى اسراء حكم إلى موضوع اخر يتّحد معه بالذّات ويغايره بالقيد والصّفات ، ومن المعلوم عند الحكيم انّ هذا المعنى غير معتبر شرعاً وانّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة بأنّ إستصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل اي الحالة الّتي إذا خلّى الشّيء ونفسه كان عليها انّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما وقد ظهر في محلّ النزاع.

بيان ذلك انّه تواترت الاخبار عنهم بأنّ كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ورد فيه خطاب وحكم حتى ارش الخدش وكثير ممّا ورد مخزون عند اهل الذّكر (عليهم‌السلام) (١) فعلم انّه ورد في محل النزّاع احكام لا نعلمها بعينها وتواترت الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) (٢) بحصر المسائل في ثلاث : امر بيّن رشده وبيّن غيّه اي مقطوع به لاريب فيه وماليس هذا ولا ذاك وبوجوب التوقف في الثالث. انتهى كلامه رفع مقامه (٣).

وكلا الجوابان في غاية الضعف.

امّا اوّلهما لانّ خلاصته : انّ الإستصحاب المختلف فيه هو ان يتغيّر وصف الموضوع ، والاخبار لا تناول ذلك بل هي شاملة لما لم يتغيّر

__________________

(١) الفصول المهمّة ١ / ٤٨٠ باب ان كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة ...

(٢) راجع الوسائل ٢٧ / ١٥٤ باب وجوب التوقّف ...

(٣) الفوائد المكيّة مخطوط.

٢٠٢

وصف الموضوع.

وفيه انّ الاخبار تدلّ على صورة تبدّل وصف الموضوع والّا فلا معنى لحدوث الشكّ ، فإن بعض الاخبار يدلّ على انّ الطّهارة إذا كانت يقينيّة ثمّ حصل الشكّ في عروض حدث لا يعباء به ، ولا شكّ انّ حالة الشكّ غير الحالة الاولى يعني تغير وصف الموضوع اي حدث شيء يجوز العقل رفع الطّهارة [به]. وكذا إذا عرض الخفقة أو الخفقتان كما يدلّ بعض الاخبار الاخر (١).

وامّا الثاني فلان ملخصه : انّ الإستصحاب حجّة إذا لم يظهر مخرج فيمكن ان يكون له مخرج وكان عندهم (عليهم‌السلام) فيكون داخلاً في الّذي نحن لا نعلم حكمه فيجب فيه التوقّف.

وفيه انّه من الامور الّذي رشده بيّن ، لدلالة الاخبار الكثيرة عليه ، مع انّك قد عرفت ضعف قاعدة التثليث.

[الثانى من ادلّة حجيّة الاستصحاب الاستقراء]

الثاني : من وجوه الادلّة الاستقراء فإنّه يفهم من حكم الشّارع في مواضع كثيرة بالبناء على الإستصحاب ، حجيّته ويحصل من اجتماعها ظنّ

__________________

(١) الوسائل ١ / ٢٥٤ نقلاً عن التهذيب ١ / ٨ والاستبصار ١ / ٨٠.

٢٠٣

متاخم للعلم بكونه حجّة ، فإنّ من تتبّع وتفحّص كلمات الشارع يجد انّ الشارع حكم في مواضع كثيرة بالبناء على الإستصحاب كحكمه بعدم جواز قسمة تركة الغائب وان طال غيبته ، وعدم تزويج زوجاته ، وجواز اعتاق العبد الآبق في الكفّارة ، وحكمه ببقاء الملك حتى يعلم الرافع ، وجواز الشّهادة عليه ، وحكمه ببقاء اللّيل والنهّار حتى يعلم يقيناً انقضائهما وغير ذلك من المواضع الكثيرة.

فهذا الاستقراء والتصفّح يدلّ على حجيّة الإستصحاب.

فلنذكر جملة اخرى من الاخبار الّتي تدلّ على ثبوت الإستصحاب في مواضع مخصوصة.

منها : صحيحة معاوية بن عمّار قال : سألت ابا عبدالله (عليه‌السلام) عن الثياب السّابريه تعملها المجوس وهم اخباث وهم يشربون الخمر ونساءهم على تلك الحالة ، البسها ولا اغسلها واصلّى فيها؟ قال : نعم. قال معاوية : فقطعت له قيمصاً وخيّطته وفتلت له ازراراً ورداء من السّابري ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النّهار ، فكانّه عرف ما اريد فخرج بها إلى الجمعة (١).

ومنها : صحيحة عبيدالله بن على الحلبى قال : سألت ابا عبدالله (عليه‌السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسى؟ فقال : يرش بالماء (٢).

ومنها : صحيحة ابراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرّضا (عليه‌السلام) : الخياط

__________________

(١) الوسائل ٣ / ٥١٨ نقلاً عن التهذيب ٢ / ٣٦٢.

(٢) الوسائل ٣ / ٥١٩ نقلاً عن التهذيب ٢ / ٣٦٢.

٢٠٤

والقصّار يكون يهوديّاً أو نصرانيّاً وانت تعلم يبول ولا يتوضّأ. ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس (١).

ومنها : صحيحة حنان بن سدير عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) انّه سئل وانا حاضر عنده عن جدى رضع من لبن خنزير حتى شب وكبر واشتدّ عظمه ثمّ استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ، ما تقول في نسله؟ فقال : اما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه وامّا ما لا تعرفه فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه (٢).

ومنها : ما روى معاوية بن وهب قال : قلت لابي عبدالله (عليه‌السلام) : الرّجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولاندرى ما حدث له من الولد إلّا انّا لا نعلم انّه أحدث في داره شيئاً ولا حدث له ولد ولا تقسم هذه الدّار بين ورثته الّذين ترك في الدّار حتى يشهد شاهداً عدل انّ هذه الدّار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان افتشهد على هذا؟ قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والامة فيقول : ابق غلامي وابقت امتي فيوجد في البلد فيكلّفه القاضي البيّنة انّ هذا الغلام لفلان لم يبعه ولم يهبه ، أفنشهد على هذا ان كلّفناه ونحن لم اعلم أحدث شيئاً؟ قال فكلّما غاب عن يد

__________________

(١) لم نقف عليه مع الفحص الكثير.

(٢) الوسائل ٢٤ / ١٦١ نقلاً عن الكافي والفقيه وقرب الاسناد والمقنع والتهذيب.

٢٠٥

المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه (١).

ومنها : رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال له رجل رأيت إذا رأيت شيئاً في يد رجل ايجوز لى ان اشهد له؟ قال : نعم. قال : فقال الرّجل : اشهد انّه له في يده ولا اشهد انّه له فلعلّه لغيره قال أبوعبدالله (عليه‌السلام) : افيحلّ الشراء منه؟ فقال : نعم فقال أبوعبدالله (عليه‌السلام) : لعله لغيره فمن اين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله اليك؟ ثمّ قال أبوعبدالله (عليه‌السلام) : لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق (٢).

ومنها : ما روى عن الصّادق (عليه‌السلام) بطرق متعدّدة انّه (عليه‌السلام) قال : كلّ ماء طاهر حتى تعلم انّه قذر (٣).

ومنها : رواية سماعة قال سألته عن اكل الجبن وتقليد السّيف وفيه الكيمخت والغراء (الفراء)؟ فقال : لا بأس ما لم تعلم ميتة (٤).

ومنها : صحيحة فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم انّم سألوا ابا جعفر (عليه‌السلام) عن شراء اللحم من الاسواق ولا يدرون ما فعل القصّابون قال :

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ٣٣٦ نقلاً عن الكافي ٧ / ٣٨٧ والتهذيب ٦ / ٢٦٢.

(٢) الوسائل ٢٧ / ٢٩٢ نقلاً عن الكافي ٧ / ٣٨٧ والتهذيب والفقيه.

(٣) الوسائل ٢٧ / ١٧٤ و ١ / ١٣٣ و ١٣٤.

(٤) الوسائل ٢٤ / ٩٠ نقلاً عن الفقيه ج ١ ح ٨١١ والتهذيب ٩ / ٧٨ ح ٣٣١.

٢٠٦

كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولاتسأل عنه (٤).

ومنها : رواية السّكوني عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) انّ اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين. قال اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل لانّه يفسد وليس له بقاء فإن جاءت طالبها غرموا له الثمن. قيل : يا اميرالمؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال : هم في سعة حتى يعلموا (٥).

هذه جملة من الاخبار الواردة في ثبوت الإستصحاب في مواضع مخصوصة. والاخبار الاخر ايضاً كثيرة حتى انّ الفاضل الاسترآبادى مع انكاره الإستصحاب اعترف بأنّ هذا القسم من الاخبار متواترة بالمعنى (١).

ولا يخفى انّ من تظاهرها (٢) وتعاضدها يحصل الظنّ التّام بالمطلوب.

[الثالث من أدلّة حجية الاستصحاب]

الثالث من وجوه الادلّة : انّ شغل الذّمة اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وقد ادّعى على ذلك الاجماع. فإذا شغل ذمّتنا بحكم من الاحكام

__________________

(٤) الوسائل ٢٤ / ٧٠ نقلاً عن الكافى والفقيه والتهذيب.

(٥) الوسائل ٣ / ٣٩٣ نقلاً عن الكافي والمحاسن.

(١) الفوائد المدنية ص ١٤٨.

(٢) تظافرها.

٢٠٧

الشرعيّة على سبيل الجزم واليقين فيجب ان يكون في كلّ وقت ثبت ذلك فيه كذلك إلى ان يثبت المزيل اليقيني من قبل الشريعة.

وهذا الدّليل لا يشمل جميع صور الإستصحاب بل يدلّ على حجيّة بعض صوره وهو ما سوى الموضعين الاخيرين كما اشرنا إليه ، لانّ فيهما لم يحصل الجزم بشغل الذمّة في الوقت المشكوك فيه.

[الرابع من الادلّة]

الرابع من وجوه الادلّة : انّ ما ثبت وتحقّق وجوده في زمان أو حال ولم يعلم أو لم يظنّ حدوث ما يزيله يلزم ظنّ البقاء. فالفقيه إذا علم ثبوت حكم من الاحكام الشرعيّة في وقت أو حالة ثمّ جاء وقت ثان أو حالة ثانية ولم يظنّ حدوث ما يرفع الحكم الثابت اوّلاً ، يحصل له الظنّ ببقاء الحكم المذكور في الوقت الثاني او الحالة الثانية ، وظنّ الفقيه الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد حجّة.

والدليل على حجيّة ظنّه امور :

منها : الاجماع.

ومنها : انّه لو لم يكن ظنّ المجتهد حجّة يلزم سدّ أبواب الاحكام الالهيّة ، لانّ طرق العلم مسدودة ، لانّ القرآن ظنّي الدّلالة وان كان قطعي

٢٠٨

المتن فلا يفيد الّا الظنّ واخبار الاحاد ايضاً لا تفيد الّا الظنّ لوجوه كثيرة كظنيّة السند والدّلالة وتعارضهما والتقطيعات الّتي وقعت فيها وخروج كثير منها مخرج التقيّة وغير ذلك من الامور الّتي توجب ظنيّتها ، والاخبار المتواترة قليلة غاية القلّة حتى رام بعضهم انكارها مطلقاً ، والاجماعات المنقولة ايضاً لا تفيد الّا الظنّ ، فينحصر استنباط جلّ الاحكام بالظنون الاجتهاديّة.

ومنها : انّ الظنّ طرف الرّاجح ، فلو لم يعمل به بل عمل بالطرف المرجوح يلزم ترجيح المرجوح وهو باطل.

قال المحقّق الشيخ حسن في المعالم : وانّما اكتفينا بالظنّ ولم نشترط القطع لانّه ممّا لا سبيل إليه غالباً [إذ غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يدلّ على عدم الوجود] فلو اشترط لادّى إلى بطلان العمل باكثر العمومات (١).

وهذا المحظور بعنيه يتأتى في الاخبار لو اشترطنا العمل بصحّتها وبثبوتها ـ انتهى ـ (٢).

وأورد عليه اوّلاً بانّا لا نسلّم حجيّة ظنّ المجتهد مطلقاً بل الظنّ الّذي حجّة هو الظنّ الّذي حصل من الآيات والاخبار والاجماعات لا الظنّ الحاصل من الإستصحاب.

وثانياً : بانّا لا نسلّم حصول الظّن.

__________________

(١) معالم الدين ٣٨٩ في بحث حجّة العام قبل الفحص عن المخصّص.

(٢) لم أجد هذه العبارة في المعالم فراجع.

٢٠٩

والجواب عن الأوّل انّ الادلّة الّتي تدلّ على حجيّة ظنّ المجتهد تدلّ على حجيّته مطلقاً ، وتخصيص أحد الظّنون بالحجيّة دون الاخر تخصيص بلا مخصّص وترجيح بلا مرجّح.

مع انّ عمدة ادلّة حجيّة الخبر الواحد ايضاً هو ادلّة حجيّة ظنّ المجتهد كما عرفت من كلام صاحب المعالم. نعم بعض الظنون خارج باعتبار النصّ والاجماع كالظّنون الحاصلة من القياس أو الاستحسان واشباههما.

والجواب عن الثاني انّ الممكنات القارّة اكثر من غير القارّة والاغلب في افراد الممكنات القارة ان تستمرّ وجوداتها بعد التحقق والثبوت وكيف لا والّا لزم ان يكون ارسال الهدايا والمكاتيب والمسافرة إلى البلدان سفهاً لاحتمال زوال البلدان والاشخاص مع انّ الامر ليس كذلك لانّ الظنّ لكلّ أحد حاصل بتحقّق الاشخاص والبلدان الثابتة عنده حتى يظهر خلافه.

وهذا الممكن الخاصّ اعني الحكم الثابت من الشرع لما كان استمراره وعدم استمراره سواء في نظر العقل ، لانّ الممكن بعد وجوده جاز ان يدوم وان لا يدوم وبقاؤه يحتاج إلى علّة ولم يعلم هل هو قارّ أو غير قارّ لكن يكون بقاؤه راجحاً الحاقاً له بالاعمّ الاغلب ، فإنّ الشيء إذا كان مردّداً بين كونه من هذا او ذاك وكان افراد أحدهما اغلب واكثر يحصل الظنّ بكونه من افراد الاغلب الاكثر لا سيّما إذا كان الاغلبيّة والاكثرية كثيرة جدّاً كما فيما نحن فيه مع تائيده بالامارات والعلامات

٢١٠

الاخر كما لا يخفى على الفطن.

وهذا الدّليل يشمل جميع صور الإستصحاب لانّ كلّها مشترك في حصول الظنّ المذكور فيه.

ولما كان عمدة دليل القوم لا سيّما الاوائل هذا الدّليل حكموا بحجيّة الإستصحاب مطلقاً.

وقال العلّامة (قدس‌سره) : انّ الاستحصاب بنفسه لا يكون دليلاً على الحكم الباقي بنفسه لكنّه دليل الدّليل على الحكم لما تقدّم في مسألة الإستصحاب من وجود غلبة الظنّ ببقاء كل ما كان متحقّقاً على حالة ، وهو يدلّ من حيث الاجمال على دليل موجب لذلك الظنّ انتهى كلامه رفع قدره ومقامه (١).

وغرضه رحمه‌الله انّ الحكم إذا كان متحقّقاً في حالة أو وقت ثمّ جاء حالة اخرى أو وقت آخر وحصل الشكّ في ثبوت الحكم المذكور في الحالة الثانية أو الوقت الثاني يحصل الظنّ حينئذٍ ببقاء الحكم على ما كان ، وهذا الظّن له دليل وموجب ، يكون حجيّة هذا الظنّ باعتبار هذا الدّليل ، وهذا الدّليل هو النّص الّذي ورد لثبوت الحكم في الوقت الاوّل مع انضمام انّ الاغلب في الممكن المتحقّق الاستمرار. فتأمّل.

وقال المحقّق رحمه‌الله : إذا ثبت حكم في وقت ثمّ جاء وقت ولم

__________________

(١) لا توجد هذه العبارة في باب الاستصحاب من تهذيب الاصول ومباديء الاصول للعلّامة الحلّي وكتاب النهاية النهاية له مخطوط ليس عندنا.

٢١١

يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه على ما كان؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة كما يفتقر نفيه إلى الدلالة؟

حكى عن المفيد انّه يحكم ببقائه مالم يقم دلالة على نفيه وهو المختار.

وقال المرتضى : لا يحكم باحد الامرين الّا لدلالة مثال ذلك المتيمّم إذا دخل في الصّلاة فقد اجمعوا على المضي فيها ، فإذا راى الماء في اثناء الصلاة هل يستمر على فعلها استصحاباً للحال الاوّل أم يستأنف الصّلاة بالوضوء؟ فمن قال بالإستصحاب قال بالاوّل ومن اطرحه قال بالثاني.

لنا وجوه :

الاوّل : ان المقتضى للحكم الاوّل ثابت فيثبت الحكم ، والعارض لا يصلح رافعاً له فيجب الحكم بثبوته في الثاني.

امّا ان مقتضى الحكم الاوّل ثابت فلانّا نتكلّم على هذا التقدير.

وامّا ان العارض لا يصلح رافعاً له فلانّ العارض انّما هو احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه فيكون كلّ منهما مدفوعاً بمقابله فيبقى الحكم الثابت سليماً عن رافع ـ انتهى ـ (١).

ولي في هذا الدّليل تأمّل ، وذلك لانّ العارض وهو احتمال عدمه مستلزم لثبوت الحكم فيه ، فإذا تعارضا وتساقطا لا يكون الحكم في الوقت

__________________

(١) معارج الاصول ص ٢٠٦

٢١٢

الثاني لا ثابتاً جزماً ولا زائلاً كذلك ، ومقتضى ذلك ليس الّا التوقّف فما معنى بقاء الحكم سليماً في الوقت الثاني؟

نعم يبقى الحكم في الوقت الاوّل سليماً وهو غير محل النّزاع.

فالاظهر في الاستدلال على ماذكرنا ان يقال : ان الاحتمالين وان كانا متحقّقين الّا انّ احتمال العدم راجح في نظر الفقيه بناء على انّ الاغلب في الممكن الاستمرار. فتأمّل.

واستدلّ بعضهم على حجيّته بأن الثابت أولاً قابل للثبوت ثانياً والّا لانقلب من الامكان الذّاتي إلى الاستحالة ، فيجب ان يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولاً ، فلا ينعدم الّا لمؤثّر لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه إلى الاخر لا لمؤثّر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر يكون بقاؤه ارجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالرّاجح واجب ـ انتهى ـ.

والظاهر انّ غرضه به إذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر يكون البقاء ارجح بناء على انّ الاغلب في الممكن القارّ البقاء والاستمرار.

وبهذه العناية يندفع عنه ما اورد عليه بعض الافاضل حيث قال :

هذا ممنوع إذ كما انّ التقدير عدم العلم بالمؤثّر في العدم في الزمان الثاني كذا لا يعلم المؤثّر في الوجود في الزّمان الثاني إذ الممكن نسبته بذاته إلى الطرفين في كلّ ان على السّواء والعلم بالمؤثّر في الوجود في الزّمان الاوّل لايكفي بالنّسبة إلى الزمان الثاني الّا ان يقال بعدم احتياج

٢١٣

الممكن في البقاء إلى مائز (مؤثر) جديد وهو ممنوع ولا سيّما كليّته ولا يتنفع ههنا الّا الكليّة. فتأمّل ـ انتهى ـ.

وذلك لانّه وان لم يعلم المؤثّر في الوجود كما لا يعلم المؤثّر في العدم الّا انّ الاغلب في الممكن القارّ لمّا كان البقاء والاستمرار يكون بقاؤه عند المجتهد ارجح.

ولا يبعد ان يقال : امره بالتأمّل اشارة إلى ما ذكرنا.

ثمّ اعلم انّ في كتب القوم وجوها آخر من الادلّة على حجيّة الإستصحاب الّا انّها لما كانت عند الانصاف غير سديدة طوينا عنها كشحاً. والله هو الموفق.

وإذ ثبت بحمد الله حجيّة الإستصحاب مطلقاً فلنذكر الآن ادلّة المخالفين للمشهور ونشير إلى ما يرد عليها.

البحث الرابع :

في ادلّة المخالفين للمشهور.

[أدلة النافين]

امّا ادلّة النافين مطلقاً فاحتجّ السيّد المرتضى رضى الله عنه على ما نقله صاحب المعالم بأن في إستصحاب الحال جمعاً بين حالين في حكم من غير دلالة لانّ الحالين مختلفان من حيث كان غير واجد للماء في

٢١٤

احديهما واجداً له في الاخرى فكيف سوّى بين الحالين من غير دلالة؟

قال : وإذا كنّا اثبتنا الحكم في الحالة الاولى بدليل فالواجب ان ننظر فإذا كان الدّليل يتناول الحالين سوّينا بينهما فيه وليس ههنا إستصحاب ، وان كان متناول الدّليل انّما هو الحال الاولى فقط والثانية عارية من دليل ، فلا يجوز اثبات مثل الحكم لها من غير دليل ، وجرت هذه الحال مع الخلوّ من الدّليل مجرى الاولى لو خلت من دلالة. فإذا لم يجز اثبات الحكم للاولى الّا بدليل فكذلك الثانية ـ انتهى ـ (١).

واجيب عنه بأنّ جميع صور الإستصحاب مشترك في حصول الشكّ في الحالة الثانية بأن الدّليل هل يتناولها أم لا؟ فالدّليل ان تناول الحالة الثانية جزماً ومع ذلك لم يحدث شكّ أو لم يتناولها قطعاً فلا شكّ في عدم الإستصحاب هنا ، ولكن هنا شقٌ آخر وهو انّ يحدث الشكّ في تناول الدّليل للحالة الثانية وعدمه وحينئذٍ يتمسّك ببقاء الحكم في الحالة الثانية بالاخبار المذكورة وسائر الادلّة الّتي ذكرناها.

ثمّ انّ السيّد قدّس الله نفسه الزكيّة أورد سؤالاً حاصله على ما ذكره صاحب المعالم ايضاً : انّ ثبوت الحكم في الحالة الاولى يقتضى استمراره الّا لمانع إذ لو لم يجب ذلك لم يعلم استمرار الاحكام في موضع وحدوث الحوادث لا يمنع من ذلك كما لا يمنع حركة الفلك وما جرى مجراه من الحوادث ، فيجب إستصحاب الحال مالم يمنع مانع.

__________________

(١) معالم الدين ٥٢١

٢١٥

واجاب بانّه لا بدّ من اعتبار الدّليل الدّال على ثبوت الحكم في الحالة الاولى وكيفيّة اثباته ، وهل يثبت ذلك في حالة واحدة أو على سبيل الاستمرار ، وهل تعلّق بشرط مراعى أو لم يتعلّق.

قال : وقد علمنا انّ الحكم الثابت في الحالة الاولى انّما يثبت بشرط فقد الماء والماء في الحالة الثانية موجود ، واتفقت الامّة بثبوته في الاولى واختلفت في الثانية والحالتان مختلفتان ، وقد ثبت في العقول انّ من شاهد زيداً في الدّار ثمّ غاب عنه لا يحسن ان يعتقد استمرار كونه في الدّار الّا بدليل متجدّد. وصار كونه في الدّار في الثاني وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمرو فيها مع فقد الرّؤية.

وامّا القضاء بأنّ حركة الفلك وماجرى مجراها لا يمنع من استمرار الاحكام فذلك معلوم بالادلّة ، وعلى من ادّعى انّ رؤية الماء لم يغيّر الحكم الدّلالة.

ثمّ قال : وبمثل ذلك نجيب من قال : فيجب ان لانقطع بخبر من اخبرنا عن مكّة وما جرى مجراها من البلدان على استمرار وجودها وذلك انّه لا بدّ للقطع على الاستمرار من دليل امّا عادة أو ما يقوم مقامها ولو كان البلد الّذي اخبرنا عنه على ساحل البحر لجوّزنا زواله لغلبة البحر الّا ان يمنع من ذلك خبر متواتر ، فالدّليل على ذلك كلّه لا بدّ منه ـ انتهى عباراته الشريفة ـ (١).

__________________

(١) معالم الدين ٥٢١ ـ ٥٢٢

٢١٦

وملخّصها كما تقدّم في كلامه الاوّل : انّ ثبوت الحكم في الحالة الثانية يحتاج إلى دليل ولم يعلم تناول الدّليل الحالة الثانية ، بل المحقّق تناوله الحالة الاولى فقط فلا يمكن اثبات الحكم في الحالة الثانية بهذا الدّليل.

وجوابه ظاهر ، فإنّ الاخبار الكثيرة كما عرفتها دالّة على انّ اليقين الاوّل لا يترك باعتبار الشكّ في الحالة الثانية ، وبعد دلالة الاخبار لا يمكن نفي الحكم بهذا الكلام لاسيّما مع تعاضدها بادلّة اخر كما عرفتها.

واستدلّ بعضهم على عدم حجيّة الإستصحاب بأنّ الوجوب والحلّ والحرمة والطهارة والنّجاسة من الاحكام الشرعيّة والاحكام الشرعيّة يجب ان يثبت بالادلّة المنصوبة من قبل الشارع ، والادلّة المنصوبة من قبل الشارع منحصرة في الكتاب والسنّة والاجماع ، والإستصحاب ليس واحداً منها.

ولا يخفى ما فيه لانّ حجيّة الإستصحاب يظهر من الاخبار المستفيضة الكثيرة الدّالة على انّ ما تحقّق في زمان يكون باقياً في الزمان الثاني. فالنصّ الدّال على تحقق الحكم في الزمان الاوّل بضميمة الاخبار المذكورة يدلّ على بقاء الحكم في الزمان الثاني. هذا مع معاضدتها بوجوه اخر من الادلّة كما عرفتها.

٢١٧

[ما ذهب إليه صاحب الذخيرة]

أمّا ما ذهب إليه الفاضل النّحرير صاحب الذخيرة وبعض اخر وهو إنّ الإستصحاب الّذي ثبت حجيّته هو الإستصحاب في موضوع الحكم الشرعي دون نفسه ، فحجّته انّ الاعتماد في حجيّة الإستصحاب انّما هو على الاخبار ، لقصور الادلّة الاخر عنده ، والاخبار كلّها تدلّ على حجيّة الإستصحاب في موضوع الحكم الشرعي دون نفسه ، لانّ مضمونها إذا حصل الشكّ بالحدث اليقيني بعد اليقين بالطّهارة لاينقض هذا اليقين بالطّهارة ، وليس فيها ما يدلّ على انّه إذا حصل الشكّ في كون الشيء الفلاني اليقيني الوجود مزيلاً للحكم يجب ان لا يعبأ بهذا الشكّ.

وفيه كما عرفت انّ كثيراً من الاخبار يدلّ على انّ مطلق اليقين لا يترك بمطلق الشك ، سواء كان الشكّ في نفس الحكم أو موضوعه ، وبعضها يدلّ على طهارة كلّ شيء ما لم يعلم انّه قذر ، وهذا ايضاً يعمّ الصّورتين ، مع انّ الشكّ في الموضوع مستلزم للشكّ في نفس الحكم الشرعى ، وقد تقدّم كل ذلك مفصّلاً في ردّ كلام الفاضلين المتبحرّين الفاضل الاسترآبادي والفاضل الشيخ الحرّ العاملى رحمهما‌الله فلا نعيده ثانياً فإن شئت فارجع إليه.

٢١٨

[ما ذهب إليه المحقّق الخوانساري]

أما ما ذهب إليه المحقّق الاستاذ الخوانساري طاب ثراه فلنذكر عباراته الشريفة حتى يظهر دليله.

قال طاب ثراه في شرحه للدّروس : اعلم انّ القوم ذكروا انّ الإستصحاب اثبات حكم شرعي في زمان لوجوده في زمان سابق عليه وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره.

فالاوّل مثل ما إذا ثبت حكم الشرع بنجاسة ثوب أو بدن مثلاً في زمان ، فيقولون : انّ بعد ذلك الزمان ايضاً يجب الحكم بالنّجاسة إذا لم يحصل اليقين بما يرفعها.

والثاني : مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان فبعد ذلك الزمان ايضاً يحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف.

وذهب بعضهم إلى حجيّته بقسميه وبعضهم إلى حجيّة القسم الاول فقط.

واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ، كلّها قاصرة عن افادة المرام كما يظهر عند التأمّل فيها ولم نتعرّض لذكرها ههنا بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا.

٢١٩

فنقول : الظاهر انّ الإستصحاب بهذا المعنى لا حجيّة فيه اصلاً بكلا قسميه إذ لا دليل عليه تامّاً لا عقلاً ولا نقلاً. نعم الظّاهر حجيّة الإستصحاب بمعنى آخر وهو ان يكون دليل شرعي على انّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى حدوث حال كذا ووقت كذا مثلاً معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء اصلاً ، فحينئذٍ إذا حصل ذلك الحكم يحكم (١) باستمراره إلى ان نعلم وجود ما جعل مزيلاً له ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشّك في وجوده والدّليل على حجيّته امران :

الاوّل : ان ذلك الحكم امّا وضعيّ أو أقتضائي أو تخييري ولما كان الاوّل ايضاً عند التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الاخيرين وعلى التقديرين يثبت ما ذكرنا.

امّا على الاوّل : فلانّه إذا كان امر أو نهي بفعل إلى غاية مثلاً فعند الشكّ بحدوث الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال فلا بدّ من بقاء ذلك التكليف حال الشكّ ايضاً وهو المطلوب.

وامّا على الثاني فالامر ظاهر (٢) كما لا يخفى.

والثاني : ما ورد في الروايات من انّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

فإن قلت : هذا كما يدلّ على حجيّة المعنى الّذي ذكرته كذلك يدلّ

__________________

(١) في المصدر : فيلزم الحكم باستمراره

(٢) في المصدر : اظهر

٢٢٠