جامعة الأصول

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

جامعة الأصول

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

اخذتم من باب التسليم وسعكم. انتهى موضع الحاجة من كلامه (١) شكر الله مساعيه الجميلة.

وذلك لانّه (قدس‌سره) قال : ولانجد شيئاً احوط وأوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم وقبول ما وسع من الامر الخ.

فإنّ المردود إلى العالم هو العلم لا الأخذ بأحدهما. وكلامه (قدس‌سره) صريح في انّ الحكم فيما اختلف فيه الروايات بعد العجز عن الترجيح هو التوسعة والتخيير. والظاهر انّ مستند بعض علمائنا في نسبة هذا المذهب إلى هذا الشيخ الجليل هذه العبارة وهو كذلك بلا تأمّل هذا.

وبعضهم (٢) حمل الاخبار الدّالة على التخيير على العبادات المحضة والاخبار الدّالة على التوقّف على ما ليس كذلك كالدين والميراث ونحوهما.

ونفى البعد عنه بعض المتأخرين (٣) مستدلاً بأنّ هذه الاخبار وردت في المنازعات والمخاصمات.

ويمكن حمل اخبار التوقّف على صورة كان الملكّف متمكناً من الوصول إلى الامام كما جمع الاخبار بهذا النحو الشيخ الجليل الطبرسي (قدس‌سره)

__________________

(١) الكافي ١ / ٨ و ٩.

(٢) هو الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة ١٩٢.

(٣) لعلّ المقصود الشيخ الحرّ في الوسائل ٢٧ / ١٠٨ و ١١٢ ولكن الفاضل التوني قال في الوافية ٣٣٥ : ظاهر الروايات يأبى هذا الجمع ... فراجع.

٨١

في الاحتجاج حيث قال بعد ذكر خبر :

جاء هذا الخبر على سبيل التقدير لانّه قلّما يتّفق ان يرد في الاثار خبران مختلفان في حكم من الاحكام موافقين للكتاب والسنّة وذلك مثل الحكم في غسل الوجه واليدين في الوضوء فإنّ الاخبار جاءت بغسلها مرّة مرّة وبغسلها مرّتين وظاهر القرآن لا يقتضى خلاف ذلك بل يحتمل كلتا الروايتين ومثل ذلك يوجد في احكام الشرع.

وامّا قوله : «ارجئه وقف حتى تلقي امامك» امره بذلك عند تمكّنه من الوصول إلى الامام فأمّا إذا كان غائباً ولا يتمكّن من الوصول إليه والاصحاب كلّهم مجمعون على الخبرين ولم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على رواة الاخر بالكثرة والعدالة كان الحكم بهما من باب التخيير.

ويدلّ على ما قلناه ما روى عن الحسن بن الجهم عن الرّضا (عليه‌السلام) قال : قلت له : تجيئنا الاحاديث عنكم مختلفة. قال : «ما جاءك عنّا فاعرضه على كتاب الله واحاديثنا فإن كان يشبههما فليس منّا [وان لم يكن يشبههما فليس منّا] قلت : يجيئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم ايّهما الحقّ. فقال «إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».

وما رواه الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله (عليه‌السلام) قال : «إذا سمعت من اصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم

٨٢

صلوات الله عليه وتردّه عليه» (١) انتهى كلام شيخنا الطبرسي (قدس‌سره).

ولايخفى انّ في رواية الحارث بن المغيرة اشعار بهذا الجمع كما لايخفى.

ويمكن حمل اخبار التوقّف على الاستحباب لانّك عرفت انّ الظاهر ان ترك الشبهة مستحبّ ولاشكّ انّ ما تعارض فيه النّصان من الشّبهة.

ويدلّ على استحباب ترك الشبهة مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً ما ورد انّ من ترك المحرّمات فهو اتقي النّاس (٢).

ووجه الاستدلال انّه يصير اتقى بمجرّد ترك المحرّمات وان لم يترك الشبهات.

وماورد من انّ لا ورع مثل ترك الشبهة (٣).

وأورع النّاس من ترك الشبهة (٤).

وفي دلالة الاخيرين تأمّل.

ويمكن حمل اخبار التوقّف ايضاً بانّ الردّ باعتبار الحكم الواقعي

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٢٦٣ طبع الاسوة

(٢) راجع وسائل الشيعة ١٥ / ٢٦١ وفيه اورع النّاس. وراجع الرسائل الاصوليّة (رسالة اصالة البرائة) للوحيد البهبهاني ص ٣٨٧ وذيله

(٣) نهج البلاغة ١١٣٠ من الكلمات القصار وفيه لا ورع كالوقوف عند الشبهة وراجع الوسائل ٢٧ / ١٦١

(٤) الخصال ١٦. وسائل الشيعة ٢٧ / ١٦٢

٨٣

واخبار التوسعة على التخيير في العمل.

وإليه ذهب شيخنا الفقيه المتألّه مولاعبدالمحسن الكاشاني (قدس‌سره) في الوافي حيث قال :

ولايخفى انّ ردّ علمه اليهم (عليهم‌السلام) لاينافي التخيير في العمل من باب التسليم فلا يجوز الفتوى بأنّه حكم الله في الواقع وان جاز الفتوى بجواز العمل به وجاز العمل به. انتهى كلامه رفع في اعلى علييّن مقامه (١).

وبعضهم حمل اخبار التوقّف على الامور المستحبّة واخبار التوسعة على الواجبة.

ولايخفى ضعف هذا الحمل وعدم صحّته.

ثمّ اعلم انّ الاخباريين القائلين بالتوقّف فيما تعارض فيه النصّان لم يجيبوا عن اخبار التوسعة الّا بالمعارضة باخبار التوقّف.

قال شيخنا المتقدّم ذكره في الوافي بعد ذكر رواية زرارة المتقدّمة الّتي رواها محمّد بن ابراهيم بن أبي جمهور اللّحساوي في كتاب العوالي اللآلي عن العلامة مرفوعاً :

والاخبار في هذا المعنى كثيرة وقد أوردنا شطراً منه في كتابنا المسمّى بسفينة النجاة (٢) وفي كتابنا (٣) الموسوم بالاصول الاصيلة. (٤)

__________________

(١) الوافي ١ / ٦٦ الطبع الحجري

(٢) سفينة النجاة

(٣) الاصول الاصليّة ص ٨٦

(٤) الوافي ١ / ٦٦

٨٤

والجواب (١) من جواب الاخباريين المعارضة بعموم الادلّة السّابقة بل الموضع اظهر افراده وخصوص رواية عمر بن حنظلة حيث قال : إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى امامك فإن الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات (٢) وقوله (عليه‌السلام) في رواية سماعة : يرجئه حتى يلقى من يخبره وهو في سعة حتى يلقاه (٣).

وقال ايضاً : وفي بعض ما أوردته من الاخبار في كتابنا المسمّى بسفينة النّجاة وفي كتابنا المسمّى بأصول الاصيلة : وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا الينا علمه فنحن أولى بذلك ولاتقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وانتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا ايضاً. انتهى كلامه رفع مقامه (٤).

وانت خبير بأنّ مجرّد المعارضة لايكفي لترجيح اخبار التوقّف فانّه لايخفى انّه. ان بنى الامر على الجمع فالقوّة في طرف اخبار التوسعة لامكان تأتي وجوه متعدّدة من الجمع في اخبار التوقّف كما عرفت وعدم امكان حمل اخبار التوسعة على شيء يلائم التوقّف.

__________________

(١) قوله : والجواب إلى قوله : يلقاه ليس في الوافي فراجع.

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٠٧.

(٣) الوسائل ٢٧ / ١٠٨.

(٤) الوافي ١ / ٦٦.

٨٥

وان بني الامر على الطّرح فطرح اخبار التوقّف أولى وانسب لانّ اخبار التوسعة اكثر عدداً واصحّ سنداً وأوضح متناً واشهر عند الطائفة عملاً وبالملّة السّمحة السّهلة اشدّ مناسبة وبالقرآن العزيز اكثر موافقة لانّ التخيير في معنى الاباحة لانّه لا يلزم العقاب على ترك كلّ واحد منهما إذا اتي بالاخر والآيات الّتي تدلّ على أصل البراءة والاباحة تدلّ على ذلك ايضاً.

ثمّ انّه يرد على الاخباريين القائلين بالتوقّف انّ مذهبكم إذا كان التوقّف فيما تعارض فيه النّصان فهذه المسألة ايضاً ممّا تعارض فيه النّصان فكان الواجب فيه ايضاً التوقّف بين التوسعة والتوقّف فلم حكمتم بطرف واحد فقط اعني التوقّف.

ويمكن قلب هذا الايراد على الاصوليين القائلين بالتوسعة ايضاً.

ولهم ان يقولوا في الجواب : هذا بعد العجز عن المرجّح ، والمرجّح فيما نحن فيه موجود ولايمكن للاخباريين ان يقولوا ذلك لعدم وجود مرجّح لهم كما عرفت.

إذا علمت ما ذكرنا فاعلم انّ الترجيح وان كان لاخبار التوسعة والتخيير مطلقاً كما عرفت ولكن يرد في بعض صور ما تعارض فيه النّصان اشكالات ولايمكن القول بالتوسعة فيها فلنشر إلى بعض الصّور المتصوّرة فيه ليظهر جليّة الحال.

٨٦

فنقول : تعارض النّصيّن امّا ان يكون في العبادات أو غيرها.

والاوّل على قسمين.

احدهما ان يرد النّصان كلاهما في وجوب عبادة أو استحبابها الّا انّ العبادة الّتي ثبّتها أحد النّصين مخالفة للّتي ثبّتها الاخر مادّة أو صوره مثلاً ورد نصّ بانّ صلاة معيّنة ركعتان والاخر ورد انّها اربع ركعات كالقصر والاتمام فيما بلغ اربع فراسخ ولم يبلغ الثمانية. أو بعض واجبات هذه الصّلاة الّتي يثبّتها أحد النّصين اقل أو أكثر من الّذي يثبّتها الاخر كالامر في اختلاف النصوص الواردة في التسبيح في الرّكعتين الاخيرتين. أو ورد نصّ بأنّ هذه الصّلاة قنوتها قبل الركوع والاخر ورد على خلافه. ففي هذا القسم لاشكّ في امكان التوسعة والتخيير بعد العجز عن الترجيح ولايرد اشكال مطلقاً واختيار العلماء التّوسعة والتخيير في امثال هذه المواضع كثيرة جدّاً في الكتب الفقهيّة.

ولايرد عليه انّ التخيير في المعنى اباحة مطلقة والعبادة يجب ان يكون مشتملة على الرّجحان لانّا نقول : الرّجحان موجود إذا اختاره كلّ واحد منهما وهو ظاهر.

وثانيها ان يرد النّصان كلاهما في عبادة واحدة من جميع الوجوه من غير ان يكون ما يثبته أحد النصّين مغايراً لما يثبته الاخر مادّة أو صورة ولكن أحدهما يدلّ على وجوبه مثلاً والاخر على استحبابه أو يدلّ احدهما على وجوبه والاخر على حرمته او كراهته او احدهما على

٨٧

استحبابه والاخر على الحرمة أو الكراهة ففي هذه الشقوق سيّما غير الاوّل يرد انّه كيف يكون التخيير بين الحرام والواجب أوالاستحباب أو بين الواجب والكراهة وكذا في كلّ ما ذكر كيف يكون فعل واحد مفسدة ومصلحة وكيف يتصوّر فعل يكون المكلّف بفعله وتركه كليهما مثاباً.

وقال بعض العلماء باختيار التّرك يصير حراماً وباختيار الفعل يصير واجباً لامر الشّارع وان كان في الواقع واجباً أو حراماً ففي الحقيقة هذا عفو ورخصة من قبل الشّريعة.

وذكر بعض الاصولييّن انّه إذا كان الفعل دائراً بين الواجب والحرام يجب تغليب جانب الحرمة.

وبالجملة في امثال هذه الشّقوق ينبغي الإحتياط مهما امكن والتوقّف ان لم يمكن.

والثاني ايضاً على قسمين :

أحدهما ان يكون في حقوق النّاس من المداينات والمواريث أو غيرها مثل ان يدلّ نصّ على انّ رجلاً مستحقّ لانّ يأخذ من الاخر شيئاً والاخر يدلّ على عدم استحقاقه ، أو دلّ أحدهما على انّ هذا المال من هذا الرّجل والاخر على انّه لذلك ، وكذا الميراث بأن يكون أحد النّصين دالًّا على انّ هذا الرجل يرث من آخر والاخر على خلافه ، أو على انّ هذا الميراث لرجل والاخر على انّه لاخر ، أو دلّ أحدهما على الاشتراك والاخر على الانفراد ، وامثال هذه المواضع ، فإنّ التخيير والتّوسعة بعد

٨٨

العجز عن الترجيح امر مشكل في امثال هذه المقامات ولامعنى للتخيير والتّوسعة فيها فإنّ التخيير والتوسعة ان كان بالنسبة إلى القاضى فلا يثمر هذا فائدة لعدم دفع النزاع حينئذٍ وان كان بالنسبة إلى أحد المتخاصمين فهو ترجيح بلا مرجّح ومع ذلك لا يتحقّق هنا ترجيح وان كان بالنّسبة إليهما معاً فلا يمكن دفع النّزاع مطلقاً لأنّ كلّا منهما يريد ان يأخذه هو وبالجملة ان وجد امثال هذه المسائل فإن امكن الإحتياط فيها يجب ان يحتاط بالمصالحة والهبة وغير ذلك والّا يجب التوقّف فإنّ المقام مقام اشكال.

الثاني مثل ان يدلّ نصّ على حليّة امرءة لرجل والاخر على حرمتها عليه ، أو على حليّتها لرجل آخر ، فإنّ التخيير فيه ايضاً امر مشكل لما عرفت. وان امكن ان يقال : انّ اختار الحرمة يترتّب عليه الاثار المترتّبة عليها وان اختار الحليّة فيترتّب عليها ايضاً الاثار المترتّبة عليها مثل الحاق الوالد وتحقيق الارث بينهما وغير ذلك الّا انّه ينبغي في هذه المواضع ايضاً الإحتياط لما عرفت.

فثبت بما تلوناه عليك انّ الامر في بعض موارد ما تعارض فيه النّصان خصوصاً المداينات والمواريث هو الإحتياط والتوقّف.

فحينئذٍ تعلم انّ حمل اخبار التوسعة على العبادات واخبار التوقّف على المداينات والمواريث كما ارتكبه بعض وذكرنا انّه ارتضاه بعض من المتأخرين ، حسن جدّاً سيّما صدر بعض اخبار التّوقّف يدلّ عليه كقول السائل : سألت ابا عبدالله (عليه‌السلام) عن رجلين يكون بينهما منازعة في

٨٩

ميراث أو دين ـ الحديث ـ (١).

والباعث حقيقة على حمل اخبار التوقّف على الميراث والدّين هو ما ذكرنا وللجمع بين الاخبار ، فسقط حينئذٍ ما قيل في المقام من انّ خصوص السّؤال لا يخصّص عموم الجواب ، وبأنّ الترجيحات الّتي اشتمل عليها اخبار التوقّف لم يخصّها أحد بالمداينات والمنازعات ، فإنّ هذه الترجيحات ليست مخالفة لادلّة اخر حتّى يجب تخصصيها أولا يعمل بها.

[الرجوع إلى البحث في أصل الاباحة]

إذا عرفت هذا فنرجع إلى المطلوب اعني الكلام في أصل الاباحة فنقول : ممّا ذكرنا علمت انّ الاخبار الّتي استدلّوا بها على التوقّف فيما لا نصّ فيه يمكن حملها على ما تعارض فيه النّصان ويكون من المواريث أو المداينات وتخصيص الشبهة به وحينئذٍ يكون موافقاً لمذهب القائلين بالإباحة فيما لا نصّ فيه فتأمّل.

فإن قلت : فعلى هذا التوجيه لا يكون ما لانصّ فيه من افراد الشبهة ويجب التوقّف كقول اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) في خطبته كما رواه الفقيه على ماسبق : انّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدّوها وفرض فرائض فلا تنقصوها

__________________

(١) الوسائل ٢٧ / ١٠٧

٩٠

وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها ثمّ قوله (عليه‌السلام) : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ـ الحديث ـ (١).

والظاهر ان السّكوت انّما هو باعتبار عدم النّص بالمرّة.

وقول الصادق (عليه‌السلام) في حديث [حمزة بن] الطيّار : «لايسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا يعلمون الّا الكفّ والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى (عليهم‌السلام) حتّى يحملوكم فيه على القصد» (٢).

قلت :

الخبر الاوّل الجزء الّذي منه ظاهر فيما لانصّ فيه اعني قوله (عليه‌السلام) : «وسكت عن اشياء» مشتمل على قوله : «فلا تتكلّفوها» الدالّ على الاباحة كما لا يخفى والجزء الثاني منه اعني قوله : «وحلال بيّن ـ إلى أخره ـ» ليس فيه ما يدلّ على ما لانصّ فيه فيمكن ان يخصّص بما تعارض فيه النّصان بل الواجب ان يحمل كذلك حتى يتلائم كلا جزئي الخبر.

وامّا الخبر الثاني فليس فيه ما يدلّ على انّ المراد منه ما لا نصّ فيه.

على انّك قد عرفت اجوبة كثيرة لترجيح اخبار الإباحة والبراءة.

ثمّ انّ الاخباريين القائلين بالتوقّف ارتكبوا لترجيح مذهبهم اموراً غير مرضيّة عند أولي الطبائع المستقيمة.

__________________

(١) الفقيه ٤ / ٧٥ ، الوسائل ٢٧ / ١٧٥.

(٢) الوسائل ٢٧ / ١٥٥. الكافي ١ / ٥٠. المحاسن ٢١٦.

٩١

فأجاب بعضهم عن الآيات بمنع حجيّة القرآن مطلقاً.

وبعضهم بأنّ المسلّم حجيّته من القرآن ما كان محكم الدّلالة والآيات المذكورة مجملة غير ناصّة على المطلوب.

والجواب عن الاوّل معلوم عند كلّ من له دربة فإنّ منع حجيّة القرآن مطلقاً مخالف لما عليه المسلمون فانّهم لا يزالون في الاقطار والامصار مدى الاعصار يستدلّون بالآيات القرآنيّة وكذا كان اصحاب الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والائمّة (عليهم‌السلام).

والقول بأنّ جميع من كان يستدلّ بالقرآن سمع أو بلغ تفسيره إليه من المعصوم (عليه‌السلام) لايخفى ما فيه. وايضاً هو مخالف للاخبار الكثيرة كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «انّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لئن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» (١) وقد ورد ان القرآن هو الثقل الاكبر (٢) وورد اخبار كثيرة بالامر بالتمسّك بالكتاب والعترة (٣) وبالجملة هذا امر ظاهر. وامتدّ دائرة النزاع بين الاصولييّن والاخبارييّن. وتفصيل هذا ليس هنا موضع ذكره.

__________________

(١) راجع غاية المرام للبحراني ص ٢١١ الباب ٢٨ في نصّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على وجوب التمسّك بالثقلين

(٢) غاية المرام ص ٢١٤ الحديث ١٩

(٣) راجع غاية المرام ص ٢١١ ـ ٢٣٥

٩٢

وامّا الجواب عن الثاني فانّك قد عرفت في مقام الاستدلال بالايات صراحتها في المطلوب.

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ)(٤) عن اميرالمؤمنين (عليه‌السلام) حيث قال : «خلق لكم ما في الارض لتعتبروا به ...» (٥).

فعلى تقدير ثبوته لا ينافي ما ذكرنا فإنّا بيّنا ان مفاد الآية عموم الانتفاع وهذا ايضاً فرد منه ولا يدلّ الخبر على الحصر.

مع انّ تخصيص القرآن بالخبر الضّعيف الغير المنجبر بالعمل ، الظاهر ممّا لم يقل به أحد.

واجابوا عن الاخبار بوجوه (١) :

منها : انّ الاخبار المذكورة اخبار احاد لا يفيد شيئاً الّا الظنّ والمسألة من الأصول.

ومنها : حملها على الخطابات الشّرعيّة بمعنى انّ الخطابات الشّرعيّة العامّة أو المطلقة باقية على عمومها أو إطلاقها حتّى يرد نهي في بعض افرادها.

ومنها : انّ هذه الاخبار موافقة للعامّة لدلالتها على التثنية في الاحكام

__________________

(٤) البقرة : ٢٩

(٥) الصافي في ذيل الآية ص ٢٥ الطبع الحجري

(١) راجع الوسائل ٢٧ / ١٧٤

٩٣

اعني الحلّ والحرمة وعدم وجود المتشابه فيها وهو مذهب العامّة لعدم قولهم بالتوقّف والإحتياط فيجب الاخذ بالاخبار الموافقة (١) لهم.

ومنها : انّ الاخبار المذكورة تدلّ على الاباحة والبراءة في صورة عدم العلم وعدم ورود النّهي ، واخبار التوقّف مشتملة على النّهي ومفيدة للعلم بالحكم اعني الإحتياط أو التوقّف ، فيجب حينئذٍ ان يخصّص الاخبار الدّالة على الاباحة والبراءة على قبل ورود الشرع أو بمن لم يصل إليه النّهي الوارد في اخبار التوقّف من الجهال فمن بلغ إليه اخبار التوقّف لا يمكنه الاخذ بالاباحة.

ومنها : أنّ الاخذ باخبار التوقّف موافق للإحتياط ومعاضد بالاخبار الواردة فيه وهي كثيرة فيجب الاخذ بها.

والجواب عن الاوّل انّك قد عرفت انّ الاستدلال لم يكن منحصراً بالاخبار بل بها وبالآيات والعقل والاجماع فيحصل من جميعها العلم القطعي ، مع انّ الاخبار الواردة في هذا الباب مستفيضة بل قريبة بالتواتر المعنوي هذا.

مع انّ عدم جواز اثبات الأصل باخبار الاحاد ممنوع ، كيف والسنّة من اعظم الأصول مع انّها تثبت باخبار الاحاد والقول بعدم حجيّتها غير معمول به عند الاماميّة سيّما في امثال زماننا هذا.

__________________

(١) كذا في الاصل. والصحيح ظاهراً : المخالفة.

٩٤

مع انّ هذا الايراد ان كان وارداً فوروده على الاخبارييّن اشدّ لأنّ استدلالهم منحصر بالاخبار ، والقول بانّها بلغت حدّ التواتر ممنوع كما عرفت.

والجواب عن الثاني ظاهر.

امّا اوّلاً فلانّ الاخبار الواردة في المقام كانت عامّة أو مطلقة فيكون شاملة للجميع فالتخصيص بغير دليل خلاف الأصل وخلاف ما تقتضيه هذه الاخبار بناء على ما حملوها عليه. فهذا الايراد الذي أوردوه حجّة عليهم.

وامّا ثانياً فلانّ حمل الاخبار المذكورة على الصّورة المفروضة غير ممكن اللهمّ الّا في نادر على سبيل التكلّف ، فإنّ اكثر الاخبار مضمونها انّ قبل البيان لا يكون مؤاخذة ، والموضع الّذي ورد فيه العام ، لايصدق عليه انّه لم يرد فيه بيان كيف والعامّ يدلّ على جميع ما تحته دلالة واضحة.

وكذا قوله (عليه‌السلام) : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نصّ» (١) لايمكن حمله على الصّورة المذكورة لانّ الافراد المندرجة تحت النّص العام لا يصدق عليها انّها لم يرد فيها نصّ وكذا لا يناسب هذا التوجيه مع الاخبار الّتي مضمونها «انّ النّاس في

__________________

(١) غوالي اللئالي ٢ / ٤٤ فيه : «نصّ» و ٣ / ١٤٦ وفيه «منع» و ٣ / ٤٦٢ وفيه «نهى» وقد مرّ انّ في بعض المصادر «امر او نهى» او «امر ونهى» فراجع

٩٥

سعة حتى يعلموا» لأنّه قد يكون العام الّذي ورد نهياً محرمّاً للافراد الّتي تحت هذا العام وحينئذٍ يكون معنى السّعة بقاء التّحريم عليهم وهذا اطلاق لم يقل به أحد من ارباب العقول.

والجواب عن الثالث بعد تسليم أنّ مذهب العامّة التثنية في الاحكام : ان اكثر الاخبار الواردة في الترجيح وقع فيها العرض بالكتاب مقدّماً على الاخذ بمخالفة العامّة ولاشكّ انّ الموافقة للقرآن لاخبار الاباحة.

هذا مع انّ اخبار التوقّف لا يمكن ان يقاوم مع ادلّة الاباحة حتى يحتاج إلى الترجيح لانّك قد عرفت انّ الاخبار الدّالة على التوقّف انحصرت في الاخبار الدّالة على التثليث وهي قليلة فليست بحيث يثبت التعارض بينها وبين الآيات والاخبار الكثيرة والعقل والاجماع.

وامّا الجواب عن الرّابع فبأنّ الحمل على قبل ورود الشريعة لا يمكن في كثير منها كما عرفت.

والحمل على انّ المراد بالجاهل الجاهل باخبار التوقّف خلاف الظاهر (١) لانّ مضمون اكثر اخبار الاباحة ان المؤاخذة لا يكون قبل العلم ومن يطلق العلم على التوقّف؟

هذا مع انّ العمدة في الجواب انّ اخبار التوقّف ليست بحيث تقاوم ادلّة الاباحة حتى يحتاج في الجمع إلى هذه التوجيهات البعيدة.

وامّا الجواب عن الخامس فستعرف في الاحتياط ان شاء الله العزيز

__________________

(١) في بعض النسخ : خلاف الواقع

٩٦

[ادلّة القائلين بالاحتياط]

وامّا ادلّة الإحتياط فروايات.

وقبل الخوض في الاستدلال لابدّ من تحرير محلّ النّزاع فنقول :

ذهب الاخباريون النافون للبراءة الاصليّة إلى وجوب الإحتياط فيما لا نصّ فيه وبعض المواضع التي تعارض فيه النّصان. والمجتهدون ذهبوا إلى استحبابه في الموضعين. والظاهر بل الجزم انّ استحباب الإحتياط عندهم انّما هو فيما لم يثبت اشتغال الذمّة يقيناً والّا فيجب الإحتياط عندهم والظاهر عدم الخلاف بينهم في ذلك.

ثمّ الظاهر انّ القائلين بالتوقّف هم القائلون بالإحتياط في الموضعين اعني فيما لا نصّ فيه وفيما تعارض فيه النّصان فانّهم يتوقفون في الفتوى ويحتاطون في العمل فإنّ معنى التوقّف هنا على ما يفهم من كلام البعض : الكفّ عن الحكم مطلقاً ، لا الكفّ عن العمل مطلقاً وبعضهم ذهب إلى انّ معنى التوقّف هو معنى الإحتياط وسيجيء إن شاء الله تعالى توضيح ذلك وما فهمته من معنى التوقّف والإحتياط من الاخبار.

٩٧

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ الاخبار الواردة في الإحتياط كثيرة ولكن وردت في موارد مختلفة فلنذكر جملة منها ونشير إلى مواردها ثمّ نأتي ببيان الحقّ فنقول :

منها : ما روى ابن جمهور اللّحساوي في كتاب عوالي الّلالي قال روى العلامّة مرفوعاً إلى زرارة بن اعين قال : سألت ابا عبدالله (عليه‌السلام) فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبايّهما آخذ فقال : خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشّاذّ النّادر ـ إلى ان قال ـ إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الإحتياط ـ الحديث ـ (١).

وهذا يدلّ على وجوب الإحتياط في مطلق ما تعارض فيه النّصان بعد فقد الامور المذكورة.

ومنها : صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال : سألت اباالحسن (عليه‌السلام) عن رجلين اصابا صيداً وهما محرمان الجزاء عليهما (٢) أم على كلّ واحد منهما [جزاء]؟ قال : لا بل عليهما جميعاً ويجزى عن كلّ واحد منهما الصّيد قلت : ان بعض اصحابنا سألني عن ذلك فلم ادر ما عليه فقال (عليه‌السلام) : إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالإحتياط ... (٣)

__________________

(١) غوالى اللئالي ٤ / ١٣٣ ح ٢٢٩

(٢) بينهما خ

(٣) التهذيب ٥ / ٤٦٦

٩٨

وهذه الرّواية تدلّ على الإحتياط في بعض افراد الحكم الشرّعي إذا كان جاهلاً به ولم يمكنه السّؤال.

ويمكن ان يقال : المراد بقوله : «مثل هذا» مطلق ما كنتم جاهلين به فالمراد بالممثالة المماثلة في الجهل لا ان يكون المراد من المثل الحكم المذكور بأن لا يعلم هل الجزاء واجب على كل واحد منهما عليحدة أو الواجب عليهما معاً جزاء واحد.

وأورد (١) عليها بانّها ليست من قبيل ما نحن فيه لانّ باصابة الصّيد علم اشتغال ذمّة كلّ من الرّجلين فيجب العلم ببراءة الذّمة ولايحصل الّا بجزاء تامّ من كلّ واحد منهما فلا يجوز التّمسّك باصالة براءة الذّمّة.

والحاصل انّه إذا قطع باشتغال الذمّة بشيء ويكون لذلك الشّيء فردان باحدهما تحصل البراءة قطعاً وبالاخر يشكّ في حصول براءة الذمّة فانّه حينئذٍ لا اعلم خلافاً في وجوب الإتيان بما يحصل به يقيناً براءة الذمّة لقولهم : لا يرفع اليقين الّا بيقين مثله (٢) وغير ذلك ونحن نجوز التمسّك بالاصل ما لم يقطع باشتغال الذمّة.

اقول : لقائل ان يقول : يجب العلم ببراءة الذّمة في القدر المتيقّن من التّكليف لا في القدر المشكوك ايضاً فالقدر الّذي يحصل العلم القطعي

__________________

(١) المورد صاحب الوافية فيها ص ١٩١.

(٢) وردت بهذا المضمون ـ لا بهذا اللفظ ـ احاديث متعددة منها ما في التهذيب ١ / ٨.

٩٩

باشتغال الذّمّة به يجب تحصيل البراءة اليقينيّة فيه. وهنا نقول : القدر المتيقّن من التّكليف ليس الّا جزاء تامّ من الرّجلين ، والزيادة مشكوكة فلا يجب تحصيل البراءة اليقينيّة فيها.

وهذا الايراد ان كان وارداً يمكن اجراؤه في اكثر الاخبار الواردة في المقام كما لايخفى على ذوي الافهام. ولكن الشأن في وروده.

ومنها : صحيحة ابن الحجّاج ايضاً عن أبي ابراهيم (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرّجل يتزوّج المراءة في عدّتها بجهالة وهي ممّن لا تحلّ له ابداً فقال : لا ، امّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعدما ينقضي عدّتها وقد يعذر النّاس في الجهالة بما هو اعظم من ذلك. فقلت بأيّ الجهالتين اعذر؟ بجهالته ان يعلم انّ ذلك محرّم عليه أم بجهالته انّها في عدّة؟ فقال : احدى الجهالتين اهون من الاخرى ، الجهالة بانّ الله حرّم عليه ذلك ، وذلك انّه لا يقدر على الإحتياط معها. فقلت : هو في الاخرى معذور؟ فقال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في ان يتزوّجها (١).

وهذا الخبر يدلّ على معذوريّة الجاهل ببعض جزئيّات الحكم الشّرعي ، والجاهل ببعض جزئيّات موضوع الحكم الشرعي ، واعذريّة الاوّل لعدم قدرته على الإحتياط بخلاف الثاني لانّه إذا كان عالماً بانّ التزويج في العدّة حرام الّا انّه لا يعلم انّها في العدّة أم لا يمكن له التفحّص

__________________

(١) الوافية ص ١٩٣ الكافي ٥ / ٤٢٧ ح ٣. الاستبصار ٣ / ١٨٦ ح ٦٨٦. التهذيب ٧ / ٣٠٦ ح ١٢٧٤ لكن فيه عن ابي عبدالله (عليه‌السلام)

١٠٠