وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولم تضرب عليهم الذلة بسؤالهم هذه الحبوب لأنّه أمر مباح ؛ ولأنّ في شهوة الإنسان ـ التي هي من خلق الله ـ تلوّن الأطعمة عليه ، وقلة الصبر على طعام واحد ، ولذلك اتصلت بمسألتهم الإجابة بقوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ولكن الذلّة والمسكنة بما ذكره الله بعد ، وهو : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا). (٦٢)

أي : من آمن بمحمد ومن هو من أهل الكتاب. كلّهم سواء إذا آمنوا في مستقبل عمرهم ، وعملوا الصالحات ، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) لا تختلف حال الآخر باختلاف الأحوال المتقدمة ، وعلى هذا قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) ، (١) أي : في مستقبل عمركم.

وسمّوا اليهود لأنّهم هادوا ، أي : تابوا. وقيل : للنسبة إلى يهوذا بن يعقوب.

والنصارى : لنزول عيسى قرية ناصرة ، فكان يقال له : عيسى الناصري ، ثم نسب قومه إليه.

والصابئون : قوم يقرؤون الزبور ، ويصلّون للقبلة لكنهم يعظّمون الكواكب لا على وجه العبادة. وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله فيهم ، حتى جوّز التزوج بنسائهم.

وقيل : بل هم قوم انحرفوا ومالوا عن الأديان ، لأنّه مهموز من : صبأت النجوم ، وصبأ ناب الصبيّ. صبأ الرجل : إذا خرج من أرضه ، فكأنهم خرجوا عن الأديان.

وغير مهموز وبه قرأ نافع (٢) ، من : صبا يصبو : إذا مال إلى الشيء.

__________________

(١) سورة النساء : آية ١٣٦.

(٢) قرأ : «الصابين» غير مهموز نافع وأبو جعفر. الإتحاف ص ١٣٨.

١٤١

قال وضّاح اليمن (١) :

٧٢ ـ صبا قلبي ومال إليك ميلا

وأرّقني خيالك يا أثيلا

٧٣ ـ يمانية تلمّ بنا فتبدي

دقيق محاسن وتكنّ غيلا

فعلى هذا سمّوا صابئين لأنّهم مالوا عن الأديان.

ويجوز أن يكون الصابي غير مهموز بمعنى المهموز ، إلا أنّه قلبت الهمزة ، وقلب الهمزة يجوز عند سيبويه ، وسيبويه (٢) لا يجيزه في غير الشعر.

قال أبو زيد (٣) : قلت لسيبويه : سمعت قريت وأخطيت ، قال : كيف تقول في المضارع؟

قلت : أقرأ ، فقال : حسبك (٤).

أي : كيف يصح همز بعض الأمثلة وقلب بعض؟

ـ وإنما ارتفع (وَلا خَوْفٌ) لأنّ الأحسن في لا نكرة أنّه إذا عطف على اسمها اسم أن يرتفعا على تقدير جواب السؤال ، قال :

__________________

(١) اسمه عبد الرحمن بن إسماعيل كان شاعرا حسن الصورة ، وكان من حسنه يتقنع في المواسم مخافة العين. وراجع أخباره في وفيات الوفيات. والبيتان أنشدهما في مدح الوليد بن عبد الملك ، وهما في وفيات الوفيات ٢ / ٢٧٤ ؛ شرح ديوان الحماسة ٢ / ٩٦. وفي المخطوطة : «لما نشدتكم بنا فندي» وهو تصحيف ، وأثيل : مرخم أثيلة وهي امرأة. تكنّ غيلا : تستر ما جلّ منها كالمعصم.

(٢) عمرو بن عثمان يكنى أبا بشر ، أخذ عن حمّاد بن سلمة والخليل بن أحمد وأبي زيد. وأخذ عنه الأخفش والنضر بن شميل. وله الكتاب في النحو. وتناظر مع الكسائي في المسألة الزنبورية الشهيرة وعلى أثرها توفي سنة ١٨٠ ه‍.

(٣) سعيد بن أوس الأنصاري ، أحد أئمة العربية وشيخ سيبويه ، وكان يقول : إذا قال سيبويه أخبرني الثقة فإيّاي يعني. له كتاب «النوادر» وقد طبع ، وكتاب «الهمزة» ذكر أنه عمله في ثلاثين سنة ، توفي سنة ٢١٥ ه‍ ، وهو مطبوع.

(٤) انظر الخصائص ٣ / ١٥٤.

١٤٢

٧٤ ـ وما هجرتك حتى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل (١)

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ). (٦٣)

قيل : إنّه واو الحال ، كأنّه : وإذ أخذنا ميثاقكم في حال رفع الطور.

الأحسن : أن تكون واو العطف ، فإنها لا توجب الترتيب لأنّ الماضي لا يكون حالا إلا ب قد.

(خاسِئِينَ). (٦٥)

مبعدين ، أي : عن الرحمة. خسأت الكلب خسأ فخسأ خسؤا.

(فَجَعَلْناها) ، أي : المسخة التي مسخوها. ويجوز أن يعود الضمير إلى العقوبة ، فإنّ النكال هي للعقوبة التي ينكل بها عند الإقدار ، من النّكل وهي : القيد (٢).

(لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها). (٦٦)

من القرى ، وقيل : من الأمم الآتية والماضية.

(أَتَتَّخِذُنا هُزُواً). (٦٧)

الهزؤ : حدث فلا يصلح مفعولا ثانيا إلا أن يكون التقدير : أصحاب هزء ، أو يكون الهزؤ المهزوء ، مثل : خلق الله ، وهذا نسج بغداد ، ومثل الصيد في قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ)(٣).

__________________

(١) البيت للراعي ، وعجزه جرى مثلا ، وهو في معاني القرآن للأخفش ١ / ٢٤ ؛ وشرح ابن يعيش ٢ / ١١١ ؛ ومجالس ثعلب ص ٢٨ ؛ وتفسير القرطبي ٣ / ٢٦٧ ؛ وديوانه ص ١٩٨.

(٢) قال ابن منظور : والنّكل بالكسر : القيد الشديد من أيّ شيء ، والجمع أنكال ، وفي التنزيل العزيز : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) راجع لسان العرب مادة : نكل ١١ / ٦٧٧.

(٣) سورة المائدة : آية ٩٦.

١٤٣

وتخفيف الزاي من هزء لتوالي ضمتين (١) ، وقلب الهمزة واوا لأنّها أخف من همزة بعد ضمتين.

(إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) (٦٨)

ـ والفارض : المسنّة.

(إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها). (٦٩)

(لا شِيَةَ فِيها). (٧١)

لا علامة من لون آخر ، يقال : وشى يشي وشيا وشية.

(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

لغلاء ثمنها. وقيل : لخوف الفضيحة.

(فَادَّارَأْتُمْ). (٧٢)

تدافعتم ، أي : دفع كلّ قبيل عن نفسه.

وكان أصله تدارأتم ، فأدغمت التاء في الدال ، وجلبت لسكونها ألف الوصل. وأصل هذه الكلمة من الدرء وهو الاعوجاج. قال الهذلي :

٧٥ ـ تهال العقاب أن تمرّ بريده

وترمي دروء دونه بالأجادل (٢)

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها).

فيه حذف ، وهو : ليحيى ، فضرب فحيي.

والحكمة فيه : أن يكون الأمر في وقت إحيائه إليهم ، ثمّ بضربهم إياه بموات ، فيكون ظهور القتيل بالقتيل أقوم في الحجة ، وأبعد من الظنة.

__________________

(١) أسكن الزاي من هزوا حيث أتى : حمزة ، وكذا خلف. راجع إتحاف فضلاء البشر ص ١٣٨.

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي وهو في ديوان الهذليين ١ / ١٤٠ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٤٩١ ؛ وشرح الحماسة للتبريزي ١ / ٢٢٥ والرّيد : ما نتأ من الجبل فخرج منه حرف. والدروء : جمع درء وهو الحيد يدفع ما يلاقيه ، وقيل : هو الأنف المعوج. والمعنى : أن ذلك الجبل تهاب العقاب من المرور بحرفه لإشرافه وعلّوه واعوجاج أطرافه.

١٤٤

وسبب القصة أنّ شيخا موسرا قتله ورثته بنو أخيه ، وألقوه في محلة أخرى ، وطلبوا الدية فسألوا موسى فقال : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فظنوه هزؤا بهم لمّا لم يكن في ظاهره جوابهم ، فاستعاذ بالله من الهزء ، وعدّه من الجهل.

والتقديم والتأخير في أشباه هذه الآيات على مذهب العرب. قال الأنصاري :

٧٦ ـ قالت ـ ولم تقصد لقيل الخنا ـ

مهلا فقد أبلغت أسماعي

٧٧ ـ أنكرته حين توسّمته

والحرب غول ذات أوجاع (١)

وذلك أنّ أبا قيس هذا غاب في حرب أوس والخزرج عن أهله شهرا حتى شحب وتغيّر ، فجاء ليلة إلى امرأته كبشة بنت ضمرة فدفعته ، وأنكرته فعرّفها نفسه ، فذلك قوله : «ولم تقصد لقيل الخنا» «أنكرته حين توسمته».

وجوابه وعذره عن التغير : «مهلا فقد أبلغت أسماعي» «والحرب غول ذات أوجاع».

وكذلك في قصيدة تأبط شرا (٢) :

٧٨ ـ يا عيد ما لك من شوق وإيراق

 ...........

الأبيات تقديم وتأخير.

__________________

(١) البيتان لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري من شعراء الجاهلية ، وقيل أسلم ، وهما في خزانة الأدب ٣ / ٤١٠ ؛ والمفضليات ص ٢٨٤ ؛ والأغاني ١٥ / ١٥٣.

(٢) في المخطوطة «باعد» وهو تصحيف. والشطر مطلع قصيدة لتأبط شرا وعجزه : «ومرّ طيف على الأهوال طرّاق». وقوله : يا عيد يريد يا أيها المعتادي. والإيراق : التأريق. والبيت في المجمل مادة : هيد ، ففيه «يا هيد» بدل «يا عيد» راجع شرح المفضليات للتبريزي ١ / ٩٥ ؛ والمفضليات ص ٢٧.

١٤٥

(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ). (٧٤)

قال الفراء : معناه بل أشد. كقول ذي الرمة :

٧٩ ـ بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أو أنت في العين أملح (١)

وقال قطرب : هي بمعنى الواو كقول توبة بن الحميّر (٢) :

٨٠ ـ وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها (٣)

والمبرّد يردّ ذلك عليهما ، ويحملها على الشك كما هو وضعها ، ويقول : إنّ هذا الكلام من الله خطاب لخلقه ، فكأنه قال : أو أشد قسوة عندكم.

كقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، (٤) وقوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ). (٥)

وأما البيتان ف «أو» فيهما على أصلها من الشك ، أمّا بيت ذي الرمة فإنّ الشك في مثله أدمث وأغزل كقوله :

٨١ ـ أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا أأنت أم أمّ سالم (٦)

وأمّا بيت توبة فتقديره : لنفسي تقاها إن اتقت ، وإن فجرت فعليها فجورها ، بيّن ذلك أنّ أحوال القلوب تختلف ، وقسوتها تزداد وتنتقص ، فلم يخبر عنها بحال واحدة.

__________________

(١) البيت ورد في معاني القرآن للفراء ١ / ٧٢٠ ؛ والبحر المحيط ٣٢٤ ؛ وتفسير القرطبي ١ / ٤٦٣ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٦٥ ؛ والخصائص ٢ / ٤٥٨.

(٢) توبة بن الحميّر يكنى أبا حرب ، كان فارسا شاعرا وهو صاحب ليلى الأخيلية ، وله فيها أشعار كثيرة. والبيت جاء في تفسير القرطبي ١ / ٢١٥ ؛ ومغني اللبيب رقم ٩٤ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٦٨ ؛ والأمالي الشجرية ٢ / ٣١٧ ؛ وأمالي القالي ١ / ٨٨.

(٣) توبة بن الحميّر يكنى أبا حرب ، كان فارسا شاعرا وهو صاحب ليلى الأخيلية ، وله فيها أشعار كثيرة. والبيت جاء في تفسير القرطبي ١ / ٢١٥ ؛ ومغني اللبيب رقم ٩٤ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٦٨ ؛ والأمالي الشجرية ٢ / ٣١٧ ؛ وأمالي القالي ١ / ٨٨.

(٤) سورة النجم : آية ٩.

(٥) سورة الصافات : آية ١٤٧.

(٦) البيت لذي الرمة في ديوانه ص ٦٢٢ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٦٧ ؛ ومعاني القرآن للأخفش ١ / ٣٠ ؛ والخصائص ٢ / ٤٥٨ ؛ والأمالي الشجرية ١ / ٣٢١ ؛ والمقتضب ١ / ١٦٣.

١٤٦

(يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

قرأ قتادة : يهبط على أصل الباب أنّ فعل المتعدي يجيء على يفعل مكسور العين ك ضرب يضرب ، وجلس يجلس ، وفعل غير المتعدي على يفعل مضموم العين ، كقعد يقعد وخرج يخرج.

وقيل : إنّ يهبط هذا متعدّ. ومعناه : لما يهبط غيره. أي : إذا رآه خشع لطاعة الله ، فحذف المفعول تخفيفا لدلالة الحال عليه. وقد جاء هبط متعديا كما جاء لازما قال :

٨٢ ـ ما راعني إلا جناح هابطا

على البيوت قوطه العلابطا (١)

فأعلمه في القوط.

وأما من قال : إنّ يهبط لازم ، فتأويل هبوط الحجارة من خشية الله ـ مع أنّه جماد لا يعرف الخشية ـ ما قاله المبرد : إنّ الذي فيها من الهبوط والهوي لا سيما عند الرجفة العظيمة والزلزلة الهائلة ، انقياد لأمر الله الذي لو كان مثله من حي قادر لدلّ على أنّه خاش لله. كما قال جرير :

٨٣ ـ لما أتى خبر الزبير تهدّمت

سور المدينة والجبال الخشّع (٢)

وقال آخر :

__________________

(١) الرجز أنشده شمّر. وهو في اللسان مادة : هبط وقوط ، ونوادر أبي زيد ص ١٧٣ ، والجمهرة ٣ / ١١٥ ؛ والأفعال للسرقسطي ١ / ١٢٩ ؛ والخصائص ٢ / ٢١١ ؛ والمساعد ٢ / ٢٠ ولم ينسبه أحد. وجناح : اسم رجل ، والقوط : المائة من الغنم إلى ما زادت ، والعلابط : القطيع من الغنم وأقله خمسون.

(٢) البيت في خزانة الأدب ٤ / ٢١٨ ؛ ولسان العرب مادة : سور ، والخصائص ٢ / ٤١٨ ؛ وتفسير الماوردي ١ / ٢٨ ؛ وتفسير الطبري ١ / ١٤٥ ؛ وتفسير القرطبي ١ / ٤٦٥ ؛ والبحر المحيط ١ / ٢٦٦ ؛ وشرح المعلقات للنحاس ٢ / ٣٥.

١٤٧

٨٤ ـ لها حافر مثل قعب الوليد

تتخذ الفأر فيه مغارا (١)

أي : لو اتّخذت فيه مغارا لغوره وتقعبه لوسعها لأنّها تتّخذ دارا.

ومثله مسألة «الكتاب» : أخذتنا بالجود وفوقه (٢). أي : لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتنا به. فكلام العرب لمن عرفه ـ ومن الذي يعرفه ـ ألطف من السحر ، وأنقى من غرّة النجم.

ألا ترى إلى عنترة كيف أسفر عن وجه هذا المعنى فقال :

٨٥ ـ لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلّمي (٣)

وقالت أعرابية :

٨٦ ـ وأبرزتني للناس حتى تركتني

لهم غرضا أرمى وأنت سليم

٨٧ ـ ولو أنّ قولا يكلم الجلد قد بدا

بجلدي من قول الوشاة كلوم (٤)

وقال آخر :

٨٨ ـ لو كان هذا الشمس تصبغ لمة

صبغت شواتي طول ما أنا حاسر

٨٩ ـ أو شاب عين شاب أسود ناظري

من طول ما أنا في العجائب ناظر (٥)

__________________

(١) البيت لعوف بن عطية ، وهو في المفضليّات ص ٤١٤ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ١٧٦ ؛ والاقتضاب ص ٤١٤ ؛ والكامل ٢ / ٩٠ والقعب : قدح من خشب مقعّر ، وحافر مقعب : مشبّه به ، والوليد : الصبي ، يريد أن جوف حافرها واسع.

(٢) الجود : المطر الذي لا مطر فوقه ألبتة. قال الحسن : فأما ما حكى سيبويه من قولهم : أخذتنا بالجود وفوقه ، فإنما هي مبالغة وتشنيع ، وإلا فليس فوق الجود شيء. اللسان : جود.

(٣) البيت من معلّقته ، راجع شرح المعلقات لابن النحاس ٢ / ٤٤ ؛ والخصائص ١ / ٢٤.

(٤) البيتان لآمنة امرأة ابن الدمينة ، ولهما ثالث وهو أولهم :

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمتّ بي من كان فيك يلوم

ولهم قصة في الأغاني ١ / ١٨٢. وهما في البيان والتبيين ٤ / ٦٨ ؛ وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٧٧ وسيكرران مع ثالث لهما.

(٥) لم أجدهما.

١٤٨

(وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ). (٨١)

أهلكته وأوبقته كقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) ، (١) (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ). (٢)

وقيل : أحاطت بحسنته خطيئته فأحبطتها ، إذ كان المحيط أكثر من المحاط به.

(إِلَّا أَمانِيَّ). (٧٨)

الأكاذيب ، وقيل : إلا التلاوة الظاهرة ، وقيل : إلا ما يقدرونه على رأيهم وأهوائهم ، ومنه : المنا ، وهو القدر.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). (٨٣)

أي : قولا ذا حسن ، وقيل حسنا أي : حسنا فأقيم المصدر مقام الاسم كقولك : رجل عدل ورضى ، ويجوز أن يكون الحسن والحسن كالعرب والعرب ، والعجم والعجم.

(أَقْرَرْتُمْ). (٨٤)

رضيتم ، قال الفرزدق :

٩٠ ـ ألست كليبيا إذا سيم سوءة

أقرّ كإقرار الحليلة للبعل

٩١ ـ وكلّ كليبيّ صفيحة وجهه

أذلّ لأقدام الرجال من النعل (٣)

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ). (٨٥)

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٦٦.

(٢) سورة الكهف : آية ٤٢.

(٣) البيتان للبعيث أو للفرزدق. قال أبو عبيدة : سألت بعض بني كليب فقلت : ما أشدّ ما هجيتم به؟ قال : قول البعيث ، وأنشد الأبيات. راجع الشعر والشعراء ص ٣٢٩ ؛ والعقد الفريد ٦ / ١٣٠ ؛ وديوان المعاني ص ١٧٥.

١٤٩

أي : يا هؤلاء ، وقيل : تقديره ثم أنتم تقتلون ، وهؤلاء تأكيد لأنتم.

(وَقَفَّيْنا). (٨٧)

أتبعنا ، قفوته : سرت في قفاه.

وروح القدس جبريل عن الحسن ، والإنجيل عن ابن زيد. (١)

وعن ابن عباس : إنّه الاسم الذي كان يحيي الموتى ، والأول أقرب ، لأنّ الملائكة هم الأرواح الطاهرة ، ولأنّ جبريل عليه‌السلام هو النازل بالوحي ، الذي يحيي به العقول حياة الأبدان بالأرواح الهوائية.

وكذلك الإضافة إلى القدس توجب هذا على اختلافهم أنّه الطهر ، أو الله أو البركة.

وتخصيص جبريل بعيسى لأنّه أيّد به وهو في المهد ، بل نفخه.

(غُلْفٌ). (٨٨)

جمع أغلف ، وهو الذي لا يفهم كأنّ قلبه في غلاف.

يقال : سيف أغلف ، وقوس غلفاء ، ورجل أغلف : لم يختن.

وقيل : غلف : أوعية للعلم ، أي : قلوبنا قد امتلأت من العلم فلا موضع فيها لما تقول.

فالأول الصحيح ؛ لأنّ كثرة العلم لا تمنع من المزيد بل تعين عليه.

(فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ).

أي : قليل منهم يؤمنون ، كقوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ، (٢) وقيل : معناه بقليل يؤمنون ، فترجع القلة إلى ما يؤمنون به ، وفي الأول إلى مؤمنيهم.

__________________

(١) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، العدوي مولاهم روى عن أبيه وعن ابن المنكدر ، وضعّفوه ، له «التفسير» و «الناسخ والمنسوخ» ، أخرج له الترمذي وابن ماجه وتوفي سنة ١٨٢ ه‍.

(٢) سورة النساء : آية ١٥٥.

١٥٠

(مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). (٨٩)

من صفة الرسول المخبر به في التوراة ، وأنهم به ينصرون فكانوا يستفتحون بمبعثه ، ويستنصرون حتى قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وتصفونه (١).

وجواب : (لَمَّا جاءَهُمْ) محذوف عند الأخفش لدلالة الحال عليه.

وعن المبرّد جوابه وجواب (فَلَمَّا جاءَهُمْ) المكرر تأكيدا هو قوله : (كَفَرُوا بِهِ).

وقال الفراء : فاء (فَلَمَّا) جواب «ولما» ، و (كَفَرُوا) جواب فلمّا ، كقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ)(٢).

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ). (٩٠)

أي : بئس شيء اشتروا به ، أي : باعوا به أنفسهم ، لأنّ الغرض واحد ، وهو إبدال ملك بملك. وموضع (أَنْ يَكْفُرُوا) خفض على موضع الهاء في (بِهِ) على البدل عند البصريين ، والتكرير عند الكوفيين. ويجوز رفعه على حد قولك : نعم رجلا زيد ، كأنه قيل : من الممدوح؟ فقلت : هو زيد.

(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً). (٩١)

__________________

(١) أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ١ / ٢٧٦ عن ابن عباس أنّ يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلمّا بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة : يا معشر يهود اتّقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبرونا بأنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم ـ أحد بني النضير ـ : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ). راجع الدر المنثور ١ / ٢١٧ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٤١١.

(٢) سورة البقرة : آية ٣٨.

١٥١

انتصب «مصدقا» بمعنى الحال ، والعامل فيه معنى الفعل ، كقولك : هو زيد حقا ، وهو زيد معروفا ؛ فأمّا هو زيد قائما فلا يصح حالا ، لأنّ الحال لا يعمل فيه إلا فعل أو معنى فعل ، وصحّ هو زيد معروفا ؛ لأنّ تقديره اعرف ذلك عرفانا.

وإنما جاز :

(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ).

والمراد لم قتلتم ، لأنّه كالصفة اللازمة لهم ، كقولك للكذّاب : لم تكذب؟ وأنت تريد : لم كذبت؟ ولأنّ قرينة الحال تصرف اللفظ إلى الماضي وإن كانت الصيغة للاستقبال ، كقولك : من دخل داري ، إذا علقت به الجزاء انصرف إلى المستقبل.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً). (٩٥)

اعترض ابن الراوندي بأنهم ربما تمنّوا بقلوبهم ، فمن أين علم أنهم لن يتمنوا بالقلوب؟ فيبطل التحدي بالتمني. والجواب : أنّ التمني لا يعرف إلا بالقول ، وله صيغة في اللغة وهي ليت ، ولا يخاطب بالتمني والمراد ما لا يمكن الوقوف.

(بِمُزَحْزِحِهِ). (٩٦)

بمباعده ، قال المتلمس (١) :

__________________

(١) في المخطوطة : «الملتمس». وهو تصحيف. «والأصل» وهو تصحيف. ويروى «أخوالي» بدل «إخواني». والمتلمس الضبعي اسمه جرير بن عبد المسيح وهو شاعر جاهلي ، كان ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة ، وقوله زلفة : أي منزلة حسنة. والبيتان في ديوانه ص ١٥٥ ـ ١٦٠ إذ البيتان بينهما أبيات. وفي الصداقة والصديق ص ٣٨٨ ؛ والحيوان ٣ / ١٣٦ ؛ والأغاني ٢١ / ١٣٦.

١٥٢

٩٢ ـ على كلّهم آسى وللأصل زلفة

فزحزح عن الأدنين أن يتصدّعوا

٩٣ ـ وقد كان إخواني كريما جوارهم

ولكنّ أصل العود من حيث ينزع

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ). (٩٧)

ولو نزّله غير جبريل لنزله أيضا على هذا الحد.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا). (١٠٠)

العهد الذي نبذ أنهم أعانوا قريشا يوم الأحزاب (١).

(وَاتَّبَعُوا). يعني : اليهود.

(ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ). يعني : شياطين الإنس من السحر.

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ). (١٠٢)

ما سحر ، لأنّ السحر عند الله كفر ، وذلك أنّ اليهود تنكر نبوة سليمان عليه‌السلام ، وتزعم أنّه ظهر بعد موته من تحت كرسيه كتب السحر ، وهو إمّا فعلها سليمان لئلا يعمل بها الناس ، أو السحرة بعده افتعلوا لتفخيم السحر تمويها أنّه كان يستسخر الجن والإنس به ، ولذلك قال : (تَتْلُوا عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) تنبيها على كذبهم ، لأنّ في الصدق يقال : تلا عنه ، وفي الكذب : تلا عليه.

كما قال الفرزدق في رجل كان يخطئه في بعض شعره ويلحنه :

__________________

(١) وقيل : العهد هو ما ذكره الله تعالى في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، وقال : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فلمّا بعث الله محمدا قال : وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) عاهدهم على ذلك ، فقال حين بعث محمدا : صدقوه وتلقون عندي الذي أحببتم. راجع الدر المنثور ٢ / ٤٠٢.

١٥٣

٩٤ ـ لقد كان في معدان والفيل شاغل

لعنبسة الزاري عليّ القصائدا (١)

والسحر : تخييل قلب الشيء عن حقيقته بسبب خفيّ ، وهو من نتائج الكلمات المؤلفة من الشرك ، والأفعال الصادرة عن الإفك مع تعظيم شياطين الجن ، وهذا لا يليق شيء منه بملك سليمان.

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ).

أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين ، والذي أنزل على لسان الملكين من السحر ليعلما ما السحر؟ وكيف الاختبال به؟ إذا كانت السحرة كثروا في ذلك الزمان ، فأنزلا ليعلّما الناس فساد السحر ليجتنبوه ، كما روي أنّ رجلا قال لعمر : أمّا أنا فلا أعرف الشر ، فقال : أوشك أن تقع فيه.

ومنه قيل :

٩٥ ـ عرفت الشرّ لا للش

رّ لكن لتوقيه

٩٦ ـ من لا يعرف الشرّ من ال

نّاس يقع فيه (٢)

(إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ).

__________________

(١) البيت للفرزدق يهجو عنبسة بن معدان المعروف بالفيل ، أحد واضعي علم العربية ؛ إذ كان يعيب شعر الفرزدق ويروي شعر جرير. والبيت في الديوان ص ١٧٩ ؛ وتاريخ العلماء النحويين ص ١٦١ ؛ وبغية الوعاة ٢ / ٢٣٣ ؛ وإنباه الرواة ٢ / ٣٨١ ؛ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ص ١٣٣. وفي المخطوطة : [ناجز بدل شاغل ، والراوي بدل الزاري] وهو تصحيف.

(٢) البيتان لأبي نواس ، وقيل لأبي الفراس الحمداني ، وهو الأصح. وهما في يتيمة الدهر ١ / ٦٠ ؛ وهما في شرح شواهد الكشاف ١٣٥ ؛ والتبصير في الدين للاسفرايني ص ١٥. والأول في تفسير الرازي ٣ / ٢١٨. والثاني منهما في الكشاف ١ / ٣٠١.

١٥٤

مبتدأ وخبره.

فتنت الذهب (١).

أي : يظهر بما يتعلمون منّا حالكم في اجتناب السحر الذي نعلم فساده والعمل به ، كما يظهر حال المكلّف المبتلى بكلّ ما نهي عنه.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).

أي : مكان ما علمناهم من تقبيح السحر وفساده ، والاحتراس من مضارّه ما يفرقون به كقول الشاعر (٢) :

٩٧ ـ جمعت من الخيرات وطبا وعلبة

وصرّا لأخلاف المزمّمة البزل

٩٨ ـ ومن كل أخلاق الكرام نميمة

وسعيا على الجار المجاور بالنّجل

وقال آخر :

٩٩ ـ كأن قد حضرت الناس يوم تقسّمت

مكارمهم فاخترت منهنّ أربعا

١٠٠ ـ إعارة سمع كلّ مغتاب صاحب

رتابي لعيب الناس إلا تتبعا

١٠١ ـ وأعظم من هذين أنك تدّعي

البراءة من عيب البرية أجمعا

١٠٢ ـ وأنك لو قارفت فعل إساءة

وجوزيت بالحسنى جحدتهما معا

وتفريق الساحر بين المرء وزوجه بالتبغيض.

وقيل : إذا عمل السحر كفر فحرمت عليه زوجته.

__________________

(١) قال الأزهري : جماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار ، وأصلها مأخوذ من قولك : فتنت الفضة والذهب : إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد. راجع اللسان : فتن ١٣ / ٣١٧.

(٢) البيتان في أمالي المرتضى ١ / ٤٢١ من غير نسبة ؛ وتفسير الطبري ١ / ٤٦٣. الوطب : زق اللبن ، والعلبة : ما يحلب فيه ، والصرّ : شدّ الضرع.

١٥٥

وابن بحر يذهب إلى الجحد في : «وما أنزل» (١) ويصرف : «ويتعلّمون منهما» إلى السحر والكفر ، إذ تقدّم الدليل عليهما وهو : «ولكنّ الشياطين كفروا».

ـ وإنما دعاه إلى ترك الظاهر ومخالفة من يقدمه تحاشيا من إضافة السحر إلى الملائكة ، وأنّه إضافة القبيح وإنزاله إلى الله.

ولم يحضره أنّ تعليم القبيح والاجتناب عنه واجب ، وأنّ علمه لا يناسب العمل.

__________________

(١) الذي نقله الرازي وأبو حيان عن أبي مسلم أنه قال : إنّ «ما» موصول بمعنى الذي ، وموضعه جرّ عطفا على : «ملك سليمان» ، وتقديره : ما تتلو الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين. وقال الفخر الرازي : وأنكر أبو مسلم في الملكين أن يكون السحر نازلا عليهما ، واحتجّ بوجوه :

الأول : أنّ السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزّله هو الله تعالى ، وذلك غير جائز ؛ لأنّ السحر كفر وعبث ، ولا يليق بالله إنزال ذلك.

الثاني : أنّ قوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يدلّ على أنّ تعليم السحر كفر ، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلّمون السحر لزمهم الكفر ، وهو باطل.

الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى.

الرابع : أنّ السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعّد بعمله بالعقاب. ثم قال : ثم إنّه رحمه‌الله ـ أي أبا مسلم ـ سلك في تفسير الآية نهجا آخر يخالف قول أكثر المفسرين ، فقال : كما أنّ الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان ، مع أنّ سليمان كان مبرّأ عنه فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر ، مع أنّ المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر ، وذلك لأنّ المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير ، وإنما كانا يعلمان الناس ذلك في قولهما : «إنما نحن فتنة فلا تكفر» توكيدا لبعثهم على القبول والتمسك ، وكانت طائفة تتمسك ، وأخرى تخالف وتعدل عن ذلك ، ويتعلمون منهما ، أي : من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه.

١٥٦

(بِإِذْنِ اللهِ).

بعلم الله.

وقيل : بتخلية الله.

وقيل : بفعل الله وإرادته ، لأنّ الضرر الحاصل بالسحر ـ وإن كان لا يرضاه الله ـ فهو من فعله عند السبب الواقع من الساحر ، كما لو سقاه سما فهلك به.

وإنما قال : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) مع قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) لأنّه في فريقين : فريق عاند ، وفريق جهل.

وقيل : إنما نفى العلم عنهم مع علمهم ؛ لأنهم لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا ، كما وصف كعب بن زهير (١) ذئبا وضبعا تبعاه ليصيبا من زاده :

١٠٣ ـ لنا راعيا سوء مضيعان منهما

أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل

١٠٤ ـ إذا حضراني قلت لو تعلمانه

ألم تعلما أني من الزاد مرمل

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا). (١٠٣)

مخذوف الجواب ، لأن الشرط الفعل ب لو يقتضي الجواب بالفعل. كأنه قيل : ولو أنهم آمنوا لأثيبوا ، ولام «لمثوبة» لام الابتداء ، كقولك : علمت لأنت خير منه.

(راعِنا) ، أي : ارعنا سمعك كما نرعيك ، فنهوا عن لفظ المفاعلة التي التي تنبىء عن المماثلة.

__________________

(١) البيتان للكميت لا لكعب بن زهير ، وهما في الهاشميات ص ٤٧. والأول منهما في المثلث للبطليوسي ٢ / ٢٥٧ ، واللسان مادة عرف ، والاقتضاب ص ٣٦٩.

١٥٧

(انْظُرْنا) أفهمنا ، وقيل : انتظرنا كقول المثقب :

١٠٥ ـ فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

فإنّ غدا لناظره قريب (١)

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ). (١٠٦)

النسخ : رفع حكم شرعي إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل.

وقيل : إنه بيان مدة المصلحة ، والمصالح تختلف بالأوقات والأعيان والأحوال فكذلك الأحكام.

ألا ترى أنّ الله يصرّف بين السراء والضراء المصالح للعباد.

وقول ابن بحر في امتناع نسخ شيء من القرآن ظاهر الخلاف ، وتأويله بيّن التعسف (٢).

وهذه الآية بعد نزول السور الكثيرة على وجه الشرط والجزاء الخالص للاستقبال ، وعلى أنها نزلت منبّهة على جميع حكم النسخ ، وأقسامه من إثبات حكمه أبدا ، وإلى غاية ، ومن إزالة حكمه ببدل ، ومن إزالته لا إلى بدل ، وإلى المثل وإلى الخير ، ومن إزالة نفس الحفظ والكتابة.

وعلى أنّ الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن ، وعلى أنّه إذا لم يمتنع بنسخ ما تقدّم من الكتب بالقرآن لا يمتنع نسخ بعضه ببعض ، وعلى أنّ نسخ القبلة الأولى ، وثبات الواحد لعشرة ، والتخيير في الصوم ، وتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول ، ومهادنة المشركين ، وإتيان الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، وعدة المتوفى عنها زوجها إلى الحول ، كلّها في القرآن.

__________________

(١) البيت لهدبة بن خشرم من قصيدة له قالها في السجن ، وليس للمثقب كما قال المؤلف. وهو شاعر إسلامي أموي والبيت في أمالي القالي ١ / ٧٠ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٣٣١ ؛ والحماسة البصرية ١ / ٤٥.

(٢) راجع ما كتبناه في المقدمة بعنوان : النيسابوري وابن بحر ١ / ٥٥ ـ ٥٧.

١٥٨

وقراءة «ما ننسخ» (١) لا وجه لها ، لأنّه إن قيل : نسخ وأنسخ واحد فلم نسمع بذلك.

وإن قيل : إنّه همزة النقل ، أي : ما ننزل من آية أو ننسها نأت بخير منها ، فليس كل ما أنزل من القرآن أتي بخير منه. وإن قيل : نحمل على نسخها كقوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ)(٢) ، أي : حملها على المجيء ، فليس غير الله ينسخ ليكون هو حامل الناسخ على النسخ ، وكذلك نجدها منسوخة كقوله : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) ، (٣) أي : وجدوكم ناسين تاركين ؛ لأنّه يقتضي أن يكون النسخ من الغير أو متقدّما على وجوده كذلك.

__________________

(١) قرأ [ما ننسخ] بالضم في النون وكسر السين ابن عامر الشامي وهو أحد القراء السبعة وقراءته هذه متواترة وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي. قال أبو حيان : وجعل الزمخشري الهمزة ـ أي : في أنسخ ـ للتعدية ، قال : وإنساخها : الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه‌السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها. وقال ابن عطية : التقدير : ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ فسمي تلك الإباحة إنساخا. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضا وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة ، ويكون المعنى : ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أيّ ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله. ا ه بتصرف. راجع البحر المحيط ١ / ٣٤٢. ـ فهذه الرواية متواترة وهي توافق وجوها من العربية فلا معنى لإنكارها ؛ إذ شرط القراءة في الأصل لقبولها كما قال ابن الجزري :

فكلّ ما وافق وجه نحو

ولم يكن خلاف رسم يحوي

وصحّ إسنادا هو القرآن

فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختل ركن أثبت

شذوذه لو أنّه في السبعة

فهذه القراءة حوت الأركان الثلاثة. وأيضا فإنا نوجّه النحو حسب القراءة لأنها سنّة متّبعة ، لا القراءة حسب النحو. فالقراءة المتواترة هي الأساس ، وما عداها فرع.

(٢) سورة مريم : آية ٢٣.

(٣) سورة المؤمنون : آية ١١٠.

١٥٩

وإن قيل : نجعل لها نسخا كقوله : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) ، (١) أي : جعل له قبرا ، فهو بعيد من الاستعمال أيضا.

(أَوْ نُنْسِها).

أو نتركها فلا نبدلها كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(٢) ، أي : تركوا طاعته فترك رحمتهم ، وكقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)(٣) ، أي : تركت ، إذ لا يمكن الذكر مع النسيان.

قال :

١٠٦ ـ وما نسي الرامون لي في أديمكم

مصحّا ولكنّي أرى مترقّعا (٤)

وقيل : ننسها من قلوب الحافظين ، وذلك إمّا بترك تلاوته فنسي على الأيام ، أو في الحال معجزة للقرآن.

وننسأها (٥) نؤخرها فلا ننسخها يقال : نسأته.

قال ابن هرمة (٦) :

__________________

(١) سورة عبس : آية ٢١.

(٢) سورة التوبة : آية ٦٧.

(٣) سورة الكهف : آية ٢٤.

(٤) البيت في أساس البلاغة ص ١٧٣ مادة رقع ، واللسان مادة رقع ٨ / ١٣٢ من غير نسبة والحيوان ٣ / ١٣٨ ؛ ومعجم مقاييس اللغة مادة : رقع. وفي المخطوطة [متوقعا] بدل [مترقعا] وهو تصحيف. قال في اللسان : وأرى فيه مترقعا ، أي : موضعا للشتم والهجاء.

(٥) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، من النسأ وهو التأخير ، أي : نؤخر نسخها. أي : نزولها ، أو نمحها لفظا وحكما. راجع الإتحاف ص ١٤٥.

(٦) البيتان ليسا في ديوانه.

١٦٠