وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

خاتمة

في الناسخ والمنسوخ

أقول : قد تكلم الناس كثيرا في الآيات المنسوخة في القرآن ، وبعضهم أدخل آيات كثيرة محكمة وجعلها منسوخة ، وبعضهم خلط بين المنسوخ والمخصّص.

والذي عليه أغلب العلماء أنّ الآيات المنسوخة في القرآن : عشرون آية ، على خلاف في بعضها ، وقد جمعها السيوطي في نظم له فقال :

وقد أكثر النّاس في المنسوخ من عدد

وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر

وهاك تحرير آي لا مزيد لها

عشرين حرّرها الحذّاق والكبر

آي التّوجه حيث المرء كان وأن

يوصي لأهليه عند الموت محتضر

وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث

وفدية لمطيق الصوم مشتهر

وحقّ تقواه فيما صحّ في أثر

وفي الحرام قتال للألى كفروا

والاعتداد بحول مع وصيّتها

وأن يدان حديث النفس والفكر

والحلف والحبس للزاني وترك أولى

كفروا شهادهم والصبر والنّفر

ومنع عقد لزان أو لزانية

وما على المصطفى في العقد محتظر

ودفع مهر لمن جاءت وآية نج

واه كذاك قيام الليل مستطر

وزيد آية الاستئذان من ملكت

وآية القسمة الفضلى لمن حضروا (١)

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ٢ / ٣٠.

٦١

ـ ومن الآراء التي انفرد بها ابن بحر أيضا :

في قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ). [البقرة : ٣٥].

فيرى أنها ليست الجنّة المعروفة ، بل هي أرض غيرها.

وحجته في ذلك أنّ جنّة الخلد لا انتقال عنها ، وأنّ إبليس لم يكن ليدخلها حتى يزلّهما عنها.

ويردّ عليه المؤلف قائلا :

والصحيح أنها كانت جنة الخلد لتواتر النقل ، ولأجل لام التعريف.

ـ ومن الأقوال التي انفرد بها إنكاره إضافة تعليم السحر للملائكة وإنزاله إلى الله لأنّ ذلك قبيح والله ينزّه عنه.

راجع تفسير قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ). [البقرة : ١٠٢].

فقد أشبعنا عليها القول ، وبيّنا مذهب أبي مسلم في ذلك.

ابن الراوندي (١) والقرآن :

نبدأ أولا بذكر لمحة عنه وعن أخباره ومؤلفاته ، فنقول :

هو أبو الحسين أحمد بن إسحق الراوندي ، نسبة إلى راوند قرية من قرى قاشان بنواحي أصبهان.

اشتغل بعلم الكلام حتى نبغ فيه ، وحتى لم يكن في زمنه أحذق منه بالكلام ، ولا أعرف بدقيقه وجليله.

__________________

(١) راجع ترجمته في : وفيات الأعيان ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ؛ الفهرست ملحق ص ٤ ؛ المنتظم ٦ / ٩٩.

٦٢

وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم.

كان في أول أمره من الفضلاء في عصره ، حسن السيرة ، جميل المذهب ، كثير الحياء ، ثم انسلخ من ذلك كله بأسباب عرضت له ، ولأنّ علمه كان أكثر من عقله.

وحكى عن نفسه قال : مررت بشيخ جالس وبيده مصحف وهو يقرأ : ولله ميزاب السموات والأرض.

فقلت : وما يعني ميزاب السموات والأرض؟

قال : هذا المطر الذي ترى.

فقلت : ما يكون التصحيف إلا إذا كان مثلك يقرأ يا هذا ، إنما هو (مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فقال : اللهم غفرا ، أنا من أربعين سنة أقرأها ، وهي في مصحفي.

وهذه القصة تنبىء عن حاله وتدينه ، وهذا كان قبل انقلابه وزندقته.

والسبب في زندقته وما صار إليه أنّ الحمية والأنفة أخذته بسبب جفاء أصحابه وتنحيتهم إياه من مجالستهم (١).

وصار يجالس أبا عيسى بن لاوي اليهودي الأهوازي ، ويؤلف الكتب له.

ولعلّ هذا اليهودي الخبيث استغلّ وضعه وجفاء أصحابه إليه فأغراه بالمال على تأليف الكتب التي تحمل الكفر والطعن في الدين والقرآن.

فهذا ديدن اليهود وعادتهم.

__________________

(١) راجع الفهرست ملحق ص ٤.

٦٣

وقد بلغت مصنفاته نحوا من مائة وأربعة عشر كتابا (١).

منها عدة كتب في الطعن في القرآن ، ومن ذلك كتاب «التاج».

وقال المعرّي عن التاج : وأمّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلا ، وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة : أفّ وتفّ ، وجورب وخفّ.

قيل : وما هو جورب وخف؟

قال : واديان في جهنم.

ـ وقد نقضه عليه أبو الحسين الخياط وأبو علي الجبائي والقاضي عبد الجبار الهمذاني.

وله كتاب «قضيب الذهب».

يثبت فيه أنّ علم الله تعالى بالأشياء محدث ، وأنه كان غير عالم حتى خلق لنفسه علما. تعالى الله عن ذلك وجلت عليته.

وقد نقضه عليه أبو الحسين الخياط أيضا.

ويقول المعرّي : وأمّا القضيب فمن عمله أخسر صفقة من قضيب ، وخير له من إنشائه لو ركب قضيبا عند عشائه.

وله كتاب «خلق القرآن» وغير ذلك.

ونذكر الآن بعض الاعتراضات التي ذكرها ابن الرواندي والإجابة عليها.

قال الفخر الرازي (٢) : وقد ذكر ابن الراوندي آيات زعم أنها متناقضة ،

__________________

(١) راجع وفيات الأعيان ١ / ٩٤.

(٢) راجع نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ص ٣٨٣.

٦٤

والشيخ (١) أجاب عنها ، فلنذكر بعض ذلك ليستدلّ على جهل المعترض وركاكة عقله.

ـ زعم أنّ قوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(٢) ، مناقض لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)(٣) وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٤).

فأجاب الشيخ :

بأنّ المراد بالعلم في الآية الأولى «القرآن» والأدلة ، دون العلم نفسه ؛ لأنه تعالى أطلق العلم ولم يقيّده ، وقد تسمى الحجة علما ، والكتاب علما.

يقال : علم أبي حنيفة ، وعلم الشافعي.

وإذا احتمل ذلك زال التناقض (٥).

ـ ومنها قوله :

إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ)(٦) ، ينقض قوله تعالى : (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ)(٧).

فإحدى الآيتين تقتضي أن لا وليّ للكفار ، والثانية تقتضي أنّ لهم وليّا.

__________________

(١) الشيخ هو القاضي عبد الجبار الهمذاني.

(٢) راجع سورة الجاثية : آية ١٧.

(٣) سورة الأنعام : آية ٢٥.

(٤) سورة النحل : آية ١٠٨.

(٥) راجع نهاية الإيجاز ص ٣٨٤.

(٦) سورة الشورى : آية ٤٤.

(٧) سورة النحل : آية ٦٣.

٦٥

فأجاب الشيخ :

بأنّ قوله تعالى : (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) المراد به في الآخرة عند إذلال الله لهم بالعقوبة ، وأراد بقوله : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) في الدنيا.

وتقييده بذكر اليوم يدل على ذلك.

وأيضا إن كان المراد في وقت واحد لم يتناقض ؛ لأنّ المراد : فما لهم من وليّ ينفع ويضر ، وكون الشيطان لهم وليا لا يقتضي أن ينفع ويضر.

ـ ومنها ما ادّعاه من أنّ قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(١) يناقض قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ)(٢) وقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)(٣).

فزعم أنّ من يستحوذ عليه وعلى قلبه ، ويصده عن دينه ، كيف يكون ضعيفا؟

أجاب الشيخ :

إنّ المراد بأنّ كيد الشيطان ضعيف أنّه لا يقدر على أن يضر ، وإنما يوسوس ويدعو فقط ، فإن أتبع لحقت المضرة ، وإلا فحاله على ما كان ، فهو بمنزلة فقير يوسوس لغني في دفع ماله إليه ، وهو يقدر على الامتناع ؛ فإن دفعه إليه فليس ذلك لقوة كيد الفقير ، لكن لضعف رأي المالك.

ـ ومنها ما ادّعاه المتحيّر من تناقض قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(٤) وقوله تعالى : (قُلْ : أَإِنَّكُمْ

__________________

(١) سورة النساء : آية ٧٦.

(٢) سورة المجادلة : آية ١٩.

(٣) سورة النمل : آية ٢٤.

(٤) سورة ق : آية ٣٨.

٦٦

لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(١).

وزعم أنّ ذلك إذا عدّ زاد على الستة ، لأنه ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وقضاهن سبع سموات في يومين ، وذلك يبلغ ثمانية أيام؟

أجاب الشيخ :

أنّه تعالى أراد بقوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) مع اليومين المتقدّمين ، ولم يرد بذكر الأربعة غير ما تقدّم ذكره.

وهذا كما يقول الفصيح : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وجزت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يوما ، ولا يريد سوى العشرة ، بل يريد مع العشرة ، ثم قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ).

وأراد سوى الأربعة.

وهذا إذا حصل لم يكن مخالفا لقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

قال : ومنها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)(٢).

__________________

(١) سورة فصلت : آية ٩ ـ ١٢.

(٢) سورة البقرة : آية ٢٩.

٦٧

وقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) فزعم أنّ الآية الأولى تقتضي أن يكون خلق الأرض قبل خلق السموات ، وفي الثانية يوجب أن يكون خلق السموات قبل خلق الأرض؟

أجاب الشيخ :

إنه تعالى أخبر أنّ الأرض بعد ذلك دحاها ، وقد كان خلقها من قبل ، وإنما أراد بقوله (دَحاها) أنه بسطها ، فقد كان تعالى خلقها لا مبسوطة قبل خلق السماء ثم بسطها بعد خلق السماء.

وقد ذكر مؤلفنا هذا الاعتراض وأجاب عنه بنفس الجواب ، بالإضافة إلى ذكر اعتراضات أخرى ، سوف يجدها القارىء في خلال قراءته للتفسير منها عند قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(٢).

يقول المؤلف : وبلغ من جهل ابن الراوندي بأشعار العرب ومحاسن التشبيه أن قال : ما في بيض النعام من محاسن الحان حتى يصير موضع تشبيهها به!؟ والعرب تناقلت ذلك ، والقرآن على لسانهم.

قال الراجز في الجاهلية :

كأنّ لون البيض في الأدحيّ

لونك إلا صفرة الجاديّ

وقال عروة :

كأنهنّ وقد حسرن لواغبا

بيض بأكناف الحطيم مركّم

وقال الفرزدق :

فجئن إليّ لم يطمثن قبلي

وهنّ أصحّ من بيض النّعام

__________________

(١) سورة النازعات : آية ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) سورة الصافات : آية ٤٩.

٦٨

فجاء المؤلف بثلاثة أبيات تشهد للمعنى ، وأكّد فيه عدم اطلاع ابن الرواندي الواسع على لغة العرب وأشعارها.

وقال القاضي أبو علي التنوخي : كان ابن الراوندي ملازم أهل الإلحاد ، فإذا عوتب في ذلك قال : إنما أردت أن أعرف مذاهبهم.

ويقال : إنّ أباه كان يهوديا فأسلم هو.

وقال بعض اليهود ـ يقول للمسلمين ـ : لا يفسدنّ عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة (١).

لكنّ حججه انقلبت عليه ، وطعنه جاء في صدره ، وأفحمه العلماء بأجوبتهم وردودهم.

وكذلك يذكر المؤلف ردودا على الطاعنين في القرآن على اختلافهم ، ويحكي عن بعض العلماء ردودا في ذلك ، فمنه ما قاله :

قال أبو عبيدة : لقيني ملحد مرّة فقال : يا أبا عبيدة ، (الم ذلِكَ الْكِتابُ)(٢) وهو هذا الكتاب ، فأيّ شيء ذلك من هذا؟

فقلت : إن قبلت الحجّة العربية؟

قال : هات.

قلت : قول خفاف بن ندبة :

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها

فعمدا على عين تيمّمت مالكا

أقول له ـ والرّمح يأطر متنه ـ :

تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا (٣)

__________________

(١) راجع ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي ١٩ / ٨١.

(٢) سورة البقرة : آية ١ ـ ٢.

(٣) راجع تفسير الآية : ٢ / ٢٢٧.

٦٩

وكذلك عند قوله تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)(١).

يقول المؤلف :

قال بعض الطاعنين : إنّ صاحب الأجنحة الثلاثة لا يطير ، لزوال الاعتدال ، ويكون كالجادف الذي أحد جناحيه مقصوص.

وأجاب الجاحظ عنه :

إنّه قريب معقول في الطيران ، إذا وضع على غير هذا الوضع يصير ثلاثة أجنحة وفق تلك الطبيعة ، ولو كان الوطواط في تركيبه كسائر الطير لما طار بلا ريش (٢).

ويزيد المؤلف على جواب الجاحظ فيقول :

وكلّ إنسان فإنما ركبته في رجله ، وذوات الأربع ركبها في أيديها ، والإنسان وكل سبع فكفّه في يده ، والطائر كفّه في رجله. ويجوز أن يكون موضع الجناح الثالث بين الجناحين فيكون عونا لهما.

وكذلك قوله تعالى : (قُلْ : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)(٣). قال : من عبد : إذا أنف.

فسّره بعض علماء البصرة ، فقال له ملحد : وما يشبه الآنف من العابد؟ فقال : إنما أنزل القرآن على العرب ، وهذا كلامها ، قال خفاف بن ندبة :

وأعبد أن أسبّهم بقومي

وأترك دارما وبني رياح

أولئك ـ إن سببت ـ كفاء قومي

وأجدر أن أعاقب بالنجاح

إلى غير ذلك من الأمثلة.

__________________

(١) سورة فاطر : آية ١.

(٢) راجع تتمته في الحيوان للجاحظ ٣ / ٢٣٢.

(٣) سورة الزخرف : آية ٨١.

٧٠

والطعن في القرآن أمر قديم ، وفي كل عصر يخرج بعض الزنادقة ليطعن في القرآن ، فيهييء الله تعالى رجالا للردّ عن كتابه ، وتلقيم النابحين حجارة في أفواههم ، لتبقى معجزة القرآن الكريم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ومنذ سنوات قريبة قام بعض اليهود في إحدى الدول الأوروبية بطباعة مصحف طبعة مزيّنة مزخرفة جميلة ، ووزّعوه في بعض الدول الإفريقية ، وحذفوا منه كلمة «غير» من قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ولكن أبى الله إلا أن يتمّ نوره ، ويكشف زيغ الزائغين ، فاكتشف ذلك ثم جمعت النسخ كلها وأتلفت ، ولله الحمد والمنّة.

فنسأل الله أن يحفظنا بالقرآن ، ويجعلنا ممن يدافع عن دينه وكتابه وينصح له ، والحمد لله رب العالمين.

* * *

٧١

النيسابوري وعلم الكلام

ـ يعتبر علم الكلام من العلوم المحدثة في الملة ، وقد ظهر فيه اختلاف كثير في الآراء ، وظهرت طوائف ومذاهب شتى في ذلك.

ومن هذه الطوائف طائفة المعتزلة ، وأول من قام بهذا المذهب واصل بن عطاء الغزّال ، وكان يحضر حلقة الحسن البصري ، فلمّا قال : الفاسق لا مؤمن ولا كافر ، طرده الحسن عن مجلسه ، فانضم إليه عمرو بن عبيد ، واعتزلا حلقة الحسن ، فسمّوا المعتزلة (١).

وكانت وفاة واصل سنة ١٣١ ه‍.

ثمّ بعده تشعّبت المعتزلة فرقا وآراء ، وانتشرت آراؤهم ومذاهبهم ، وتأثر بهم كثير من الناس والعلماء والخلفاء ، حتى إنّ بعض الخلفاء حمل الناس كرها على القول ببعض آراءهم ، وتصدّى لهم علماء كثير بالردّ عليهم وعلى آرائهم.

والناس فيهم مختلفون ؛ فبالغ مشايخ ما وراء النهر مبالغة في تضليل المعتزلة ، حتى قالوا إنهم أقبح من المجوس ، حيث لم يثبتوا إلا شريكا واحدا ، والمعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى (٢).

__________________

(١) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي ٥ / ٤٦٥.

(٢) وذلك بسبب قولهم : إنّ العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية ، والله تعالى يقول : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)؟!

٧٢

ولكنّ المحققين من العلماء وأهل الإنصاف أجمعوا على أنّ المعتزلة من طوائف الإسلام ، وحملوا ما ذكر على الزجر للأنام (١).

ـ وقد قال شيخ الإسلام أبو القاسم الأنصاري ـ وقد سئل عن تكفير المعتزلة؟ قال : لا ؛ لأنهم نزهوه ، فسئل عن أهل السنّة؟ فقال : لا ، لأنهم عظّموه (٢).

قال الرازي : والمعنى أنّ كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه ، إلا أنّ أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة ، فقالوا : ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه ، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا : لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح (٣).

ـ ونجد الجاحظ ـ وهو منهم ـ يقول :

لو لا مكان المتكلّمين لهلكت العوام من جميع الأمم ، ولو لا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النّحل (٤).

والحقّ أنّ المعتزلة دافعوا عن الإسلام ، وهم الذين وقفوا في وجه الفلاسفة الطاعنين في القرآن ، وردّوا عليهم ، وزيّفوا آراءهم ، لكنهم تأثّروا بهم بعض التأثر.

ـ والفلاسفة كفّروا بثلاثة أمور أساسية ، وهي : إنكار حشر الأجساد ، وحدوث العالم ، وعلم الله بالجزئيات ، وفي ذلك يقول القائل :

__________________

(١) راجع شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) راجع تفسير الرازي ٢ / ٥٨.

(٣) أي : نسبة الإضلال لله والختم والطبع وما شابهها.

(٤) راجع كتاب الحيوان للجاحظ ٤ / ٢٠٦.

٧٣

بثلاثة كفر الفلاسفة العدا

إذ أنكروها وهي حقا مثبتة

علم بجزئي ، حدوث عوالم

حشر لأجساد وكانت ميّتة (١)

 ـ وقد ظهر من المعتزلة علماء كثيرون ، ونوابغ محققون ، منهم : الأخفش وأبو عليّ الفارسي وابن جنيّ ، والرّماني ، ونفطويه ، والمأمون العباسي ، وابن أبي دؤاد ، والجاحظ وغيرهم.

ولهم مؤلفات كثيرة في الردّ عن القرآن وغيرها ، من ذلك :

١ ـ نظم القرآن ، للجاحظ.

٢ ـ كتاب قطرب فيما سأل عنه الملحدون في القرآن.

٣ ـ كتاب المسائل في القرآن ، للجاحظ.

٤ ـ كتاب بشر بن المعتمر في متشابه القرآن.

٥ ـ إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه ، لمحمد بن يزيد الواسطي.

٦ ـ نظم القرآن ، لابن الأخشيد.

٧ ـ تفسير القرآن ، للجبائي.

٨ ـ متشابه القرآن ، للقاضي عبد الجبار.

٩ ـ الكشاف ، للزمخشري (٢).

وغيرها من الكتب.

ـ وقد تأثر بهم بعض العلماء ، وكان مؤلفنا ممّن تأثر بهم وبآرائهم ، فمن ذلك :

ـ نفيه نسبة الإضلال عن الله تعالى : فالمعتزلة ينفون عن الله تعالى إرادة الكفر والفواحش من العبد ، ويقولون : إنّ الله تعالى لم يرد أن يكون

__________________

(١) راجع شرح جوهرة التوحيد ص ٦٨.

(٢) راجع الفهرست لابن النديم ، فقد ذكر كثيرا من ذلك موزّعا في كتابه.

٧٤

الزنا واللواط والقتل ، ومعصية العصاة وكفر الكافرين ، وجميع الفواحش قبيحة مذمومة.

وهذا يوجب أن تكون جميعها مرضيّة حسنة ، أو يكون عن جميعها غافلا ساهيا ، وهذا خلاف قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١).

وما ورد من الآيات على خلاف مذهبهم يؤولونها.

فنجد المؤلف عند قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً). [البقرة : ٢٦].

يقول : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) ، حيث يحكم عنده بالضلال.

ـ وقيل : حيث أضلّهم عن جنّته وثوابه.

ـ وقيل : إضافة الإضلال إلى الله وإلى المثل المضروب ـ وإن كان حكمه ـ لوقوع الضلال عنده ، كقوله تعالى في الأصنام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) لمّا ضلّوا بسببها.

وقال الأخفش : وهذا كما يقال : أهلكته فلانة : إذا هلك في عشقها.

وكذلك إذا ضلّوا في دين الله.

وغير ذلك من التأويلات التي يتهرّب بها عن نسبة الإضلال إلى الله تعالى ، مع أنّه ورد في القرآن كثير من الآيات في ذلك ، كقوله تعالى :

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ). [النساء : ٨٨].

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ). [الروم : ٢٩].

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ). [الجاثية : ٢٣].

__________________

(١) راجع التبصير في الدين لأبي المظفّر الإسفراييني ص ٦٤.

٧٥

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ). [الأعراف : ١٥٥].

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). [الرعد : ٢٧].

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). [المدثر : ٣١].

وغيرها من الآيات.

ـ ومن ذلك قوله في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ). [البقرة : ٢٧].

قيل : هو حجة الله القائمة في عقل كلّ واحد على توحيده ، وعلى وجوب بعثة الرسل ، فهم يقولون بوجوب بعثة الرسل على الله تعالى عن ذلك ، وانظر تعليقنا على الآية.

ـ ومن ذلك قوله في قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ). [القصص : ٤١].

قال : هو من الجعل بمعنى الوصف ، كقولك : جعلته رجل سوء.

فيحمل لفظ «جعلناهم» على معنى بعيد ؛ لامتناع المعنى الظاهر بزعمهم على الله وغير ذلك من المسائل.

ومذهب المعتزلة قد اندرس وانقرض ، ولم يبق منه إلا بعض التعلقات القليلة في أذهان بعض طلبة العلم ، وإنما نبّهنا على ذلك ؛ لئلا يغتّر القارىء بآرائهم ، وليعلم المذهب الأقوم ، والطريق الأعدل.

ـ ومن آراء المؤلف في علم الكلام :

إنكاره اسم «القديم» من أسمائه الحسنى.

فقال عند قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). [يس : ٣٦].

٧٦

القديم : الذي أتى عليه حول فدقّ واستقوس.

ولا يعجبنا اختيار المتكلمين لفظة «القديم» من بين أسمائه الحسنى ، وقد شبّه الله بالعرجون بعض خلقه في أضعف حالاته ، وجعل القديم من أدقّ صفاته.

ـ وممّن ذكر اسم القديم من بين أسمائه الحسنى : البيهقي في «الأسماء والصفات» والحليمي في «المنهاج في شعب الإيمان» والجرجاني في «التعريفات» وجمع غيرهم.

قال البيهقي : باب ذكر الأسماء التي تتبع إثبات الباري جلّ ثناؤه ، والاعتراف بوجوده جلّ وعلا.

منها : القديم.

وذلك ممّا يؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر حديث عمران بن حصين قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه قالوا : جئناك نسألك عن هذا الأمر؟ قال : «كان الله ولم يكن شيء غيره». [رواه البخاري].

وقال الحليمي : القديم ، وذلك مما يؤثر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأت به الكتاب نصّا ، وإن كان قد جاء فيما يقتضيه ، فقيل لله عزوجل قديم بمعنى أنه سابق للموجودات (١).

ـ وعلى كلّ حال فالمسألة خلافية. وجاء في الحديث : «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم». أخرجه الحاكم في المستدرك (٢) ، وجاء ذكر القديم في الأسماء التسعة والتسعين في رواية ابن ماجه (٣).

__________________

(١) راجع المنهاج للحليمي ١ / ٨٨ ؛ والأسماء والصفات للبيهقي ص ٢٣.

(٢) وانظر منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص ٩.

(٣) أخرجه في كتاب الدعاء ، باب أسماء الله. وفي سنده ضعف. ابن ماجه ٢ / ١٢٧٠.

٧٧

ـ ومن ذلك قوله : وكذلك قولهم : الذات خطأ ؛ لأنّ صفات الله تعالى لا تلحقها تاء التأنيث للمبالغة ، لا يقال : علّامة ، وهو أعلم العالم (١).

ثم تجد المؤلف نفسه قال عند قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٢).

قال : في ذات الله ، فأثبت ما نفاه.

* * *

__________________

(١) راجع تفسير سورة يس : آية ٣٣.

(٢) راجع تفسير سورة الزمر : آية ٥٦.

٧٨

سمات الكتاب

ـ نجد الكتاب على صغر حجمه قد حوى علوما شتّى ، بالإضافة إلى علم التفسير حيث تعرّض لأغلب الآيات ، وأوضح مشكلها وغريبها ، وبيّن ارتباط بعض الآيات ببعضها ، وذلك كما جاء في سورة الإنسان ، بالإضافة إلى بيان الحكمة في تكرير الآيات ، ذكر ذلك في سورة القصص ، بالإضافة إلى بعض الإشارات المستفادة من الآيات ، وذلك عند قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ).

ـ والسمة الأساسية الغالبة عليه التحقيق العلمي ، فلا يأخذ كل قول يقال ، بل نراه يردّ بعض الأقوال ويضعّفها كما بيّنا ذلك.

ـ وأيضا اهتمامه بالدفاع عن القرآن ، ورده على الطاعنين في آياته ، ذلك نجده في سورة فاطر والزخرف والرحمن والصّافات.

ـ كما نلاحظ فيه بعض الاستطرادات والتوسعات الأدبية لإجمام الطبع ، وذلك عند قوله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) ، وقوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ).

ـ كما يتعرض فيه لعلم الاشتقاق ومأخذ الكلمة ، وذلك عند قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) ، وقوله : (مُعاجِزِينَ) ، وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ).

٧٩

ـ وأيضا يمزج فيه مسائل من علم الكلام ، ويضع قاعدة مهمة في شأن الصفات وذلك في أول سورة البقرة.

ـ ويتكلم في علم الفراسة لتعلقه به ، وذلك عند قوله : (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).

ـ ويبحث في علم النجوم والفلك أيضا ، وذلك عند قوله : (رَبُّ الشِّعْرى).

ـ وفي علم الهيئة يعلل بعض التعليلات ، عند قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ).

ـ بالإضافة إلى بعض المسائل التي تتعلق في علم الجغرافية ، وذلك عند تفسير سورة الطلاق ، وسورة الكهف.

ـ وأيضا النقل عن الحكماء ، وذلك في تعليل الموت والفناء ، وذكر ذلك في سورة الزخرف وسورة الإنسان.

بالإضافة إلى بعض المسائل المتعلقة بعلم البلاغة وفقه اللغة.

كل ذلك مما يدل على تبحر المؤلف واطّلاعه على جميع العلوم الشرعية ، مع العلوم السائدة في عصره ، ليعطينا بعد ذلك إنتاجا علميا هاما ، وتراثا حضاريا جليلا ، لتستفيد منه الأجيال بعده ، ويدخل تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه».

نسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه ، وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ملاحظات على الكتاب :

ـ كل عمل مهما أتقن لا يصل إلى الكمال ، وكلّ كتاب مهما أحسن لا يصل إلى الذروة ، إلا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لذا نجد على الكتاب بعض الملاحظات :

٨٠