محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]
المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
١ ـ ينقل عن بعض العلماء ولا ينسب القول لقائله في بعض الأحيان ، وليس دائما ، ونلاحظ ذلك عند قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وقوله : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) وعند تفسير سورة الجن.
٢ ـ وهم في نسبة بعض الأبيات ، وهذا لا يكاد يسلم منه أحد.
٣ ـ ينقل أحيانا أو نادرا عن التوراة ، وهذا أمر مختلف فيه ، ولعلّ المؤلف ممن يجيزه ، وذلك عند قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ).
٤ ـ مجيء بعض الآيات في غير محلها ، وذلك في قوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً).
٥ ـ تقديم وتأخير في الآيات ، وذلك في سورة فصلت وغير ذلك من الأمور.
وكلّ هذا لا يقدح في الكتاب ولا في مؤلفه ، ورحم الله القائل :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها |
|
كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه |
هذا آخر ما كتبناه ، والحمد لله رب العالمين.
* * *
نسخ الكتاب
لم نعثر أولا إلا على نسخة مصورة بالميكرو فيلم في مكتبة الجامعة الإسلامية رقم ١٦١٩ في ٣٧٢ ورقة من الحجم الوسط ، وكل ورقة تحتوي على صفحتين ، وفي كل صفحة ١٧ سطرا.
والخطّ لا بأس به ، واضح عموما إلا الصفحة الأولى ، والنسخة الأصلية للكتاب موجودة في مكتبة شستربيتي بإيرلندا ، نسخت في القرن الثامن الهجري لكن بعدما وصلتنا نسخة المطبوعة على الماكيت علمت أنّ للكتاب نسخة أخرى موجودة في دار الكتب المصرية برقم ١٠٤٣ ، مصوّرة في جامعة أم القرى ، فحصلنا منها على نسخة من الميكرو فيلم ، وقابلنا عليه نسختنا ، وهي مكتوبة في القرن الثامن الهجري.
ـ والظاهر أنّ النسختين منقولتين من أصل واحد.
وهذه صورة لبعض صفحات الكتاب :
بسم الله الرّحمن الرّحيم
رب يسّر وتمّم
ـ قال الفقيه القاضي الإمام العالم بيان الحقّ ختم المفسرين محمود بن أبي الحسن بن حسين النيسابوري تغمّده الله برحمته :
أمّا بعد حمد الله كفاء حقه ، والصلاة على محمد خير خلقه ، وعلى آله الطيّبين وعترته الطاهرين ، فإنّ أفضل العلوم علم كتاب الله النّازل من عنده ، والسبب الواصل بين الله وعبده ، وقد وجدت تفاسيره إمّا مقصورة على قول واحد من الأولين ؛ أو مختصة بالتكثير والتكرير ، كما هو في مجموعات المتأخرين.
والطريقة الأولى من فرط إيجازها كانت لا تشفي القلب ، والثانية تعيي عن الحفظ لإطالة القول فيها ؛ لذلك رغبت إلى الله جلّ وعزّ في فضله التوفيق ؛ لإيضاح مشكلات التنزيل ، وإحسان التوقيف على غوامض التأويل ، بلفظ جزل ، ومخرج سهل ، وإيجاز في عاقبة الغريب ، وأفطن إطناب في المشكل العويص ، وربما جمحت في الوسن بإيراد بعض الشعر الحسن ، لتمخيض (١) العقل ، وإجمام الطبع ، وليتساهم فيه النظر الأدباء والكتاب ، كما يستقري معانيه العلماء أولو الألباب.
__________________
(١) أي : تحريكه. وفي الحديث أنه مرّ عليه بجنازة تمخض مخضا ، أي : تحرّك تحريكا سريعا. راجع لسان العرب مادة مخض ٧ / ٣١.
وجميع ما في هذا الكتاب من تفسير أسفر عن وجهه ، أو تأويل أحسر عن ذراعه ، فهو يجري من سائر ما جمع فيهما مجرى الغرّة من الدّهم (١) ، والقرحة من الكمت (٢) وبالله التوفيق.
* * *
__________________
(١) الغرّة : البياض ، والدهم : السود من الإبل والخيل.
(٢) قال الأزهري : القرحة : الغرّة في وسط الجبهة. ا ه. والكمتة : لون بين السواد والحمرة ، يكون في الخيل والإبل وغيرهما. راجع اللسان : كمت.
سورة الفاتحة (١)
__________________
(١) عن مجاهد قال : نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة.
وعن قتادة قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة.
وجمع بينهما أنّ الفاتحة نزلت مرتين ، مرّة بمكة ومرة بالمدينة.
ـ وأخرج البخاري والدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «(الحمد لله ربّ العالمين) أمّ القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع الثاني».
ـ وقال أبو الحسن الحرالي :
وكانت سورة الفاتحة أمّا للقرآن ؛ لأنّ القرآن جميعه مفصّل من مجملها ، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكلّ معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصّل من جوامعها ، والآيات الثلاث الأخر من قوله : (اهْدِنَا) شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله ، والتحيز إلى رحمة الله ، والانقطاع دون ذلك. اه.
وقد جاء في فضائلها أخبار كثيرة :
فمن ذلك ما أخرجه أحمد والبخاري والدارمي عن أبي سعيد بن المعلّى قال : كنت أصلي فدعاني النبيّ صلىاللهعليهوسلم فلم أجبه ، فقال : ألم يقل الله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) ثم قال : لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلمّا أردنا أن نخرج قلت : يا رسول الله إنك قلت : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. انظر مسند أحمد ٣ / ٤٥٠ ؛ وفتح الباري ٨ / ١٥٥. ـ وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن جابر أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : ألا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : فاتحة الكتاب. وأحسبه قال : فيها شفاء من كل داء. المسند ٤ / ١٧٧. ـ
سورة الفاتحة
(بِسْمِ اللهِ).
افتتاح القراءة باسم الله واجب ؛ لقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(١) ، فإنّ إعمال الباء يقتضي الحثّ على افتتاح القراءة بالتسمية (٢).
__________________
ـ وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، والمفصّل نافلة». المستدرك ١ / ٥٦١.
ـ وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال : أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور الفرقان ، ثم أودع علوم القرآن المفصّل ، ثم أودع المفصّل فاتحة الكتاب.
فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.
وللفاتحة أحد عشر اسما ، وأنشد ابن رسلان في ذلك :
لفاتحة أسماء عشر وواحد |
|
فأمّ الكتاب والقرآن ووافيه |
صلاة مع الحمد الأساس ورقية |
|
شفاء كذا السبع المثاني وكافيه |
وقد ألّف أبو زيد البلخي كتابا في تفسير الفاتحة.
وقال الفخر الرازي في مقدمة تفسيره : اعلم أنّه مرّ على لساني في بعض الأوقات أنّ هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة ، فاستعبد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل والغي والعناد ، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعليقات الفارغة من المعاني ، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني ، وقدّمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أنّ ما ذكرناه أمر ممكن الحصول ، قريب الوصول.
(١) سورة العلق : آية ١.
(٢) قال الجصاص : وقد ورد الأمر بذلك في مواضع من القرآن مصرّحا ، وهو قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأمر في افتتاح القراءة بالتسمية ، كما أمر أمام القراءة بتقديم الاستعاذة ، وهو إذا كان خبرا فإنّه يتضمن معنى الأمر ؛ لأنه لما كان معلوما أنّه خبر من الله بأنّه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه ، لأنّه إنما أخبرنا به لنفعل مثله. راجع أحكام القرآن ١ / ٧.
والاستنجاح بها على سائر الأمور سنّة ؛ لقوله عليه الصلاة والسّلام : «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (١).
و (اللهِ) : اسمه ـ جلّ وعزّ ـ وحده ، وليس بمشتق عن شيء (٢).
ومعناه : الذي يحقّ له العبادة ، وليس معناه المعبود ، ولا المستحق للعبادة ؛ لأنّ من يعبده أو تستحق عليه عبادته إنما خلق بعد أن لم يكن ، وهو ـ عزّ اسمه ـ إله فيما لم يزل.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
اسمان من الرّحمة.
والرّحمة : هي : النعمة على المحتاج. وتمام النعمة : أن يكون المنعم بها مستغنيا عن فعلها ، والمنعم عليه محتاجا إليها. وذلك المنعم هو الله ، فحقّ له العبادة ، ووجب له الحمد.
والنعمة قد تبلغ مبلغا لا يقدر أحد من الخلق على شيء منه ، مثل : نعمة الحياة والعقل والحواس ، وقد يكون بما يتيسّر للعباد المعاونة على أسباب منها ، مثل تعليم العلم وتهذيب الخلق ، والمواساة بالجاه والمال.
فلذا اختصّ أحد الاسمين الجاري بناؤه على المبالغة بالله ، وهو الرحمن.
__________________
(١) الحديث : «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع». أخرجه الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة ، وذكره السيوطي في الجامع الكبير ، ويروى : «كلّ كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم». وهذه الرواية أخرجها ابن ماجة في النكاح ١ / ٦١٠ وأبو داود برقم ٢١١٨. وللحافظ السخاوي جزء مستقل في الحديث. راجع شرح السنّة للبغوي ٩ / ٥١ ؛ والمقاصد الحسنة ص ٣٢٣ ؛ والفتح الكبير للسيوطي ٢ / ٢٢.
(٢) وهذا قول سيبويه والمحققين.
ولا يشترك الثاني بين جميع المنعمين.
(رَبِّ الْعالَمِينَ).
الرب : المالك المدبّر.
والرّبانيون : العلماء الذين يربّون بالعلم.
ويجوز أن يكون معنى الرّب : الحافظ.
يقال للخرقة التي تحفظ فيها القداح : ربابة وربّة (١). قال الهذلي :
١ ـ وما الرّاح راح الشام جاءت سبيّة |
|
لها غاية تهدي للكرام عقابها |
٢ ـ توصّل بالرّكبان حينا وتؤلف ال |
|
جوار وتغشيها الأمان ربابها (٢) |
ولا يجوز أن يكون معنى الربّ السيد حقيقة ، لأنّ السيد لا يستعمل بالإضافة إلا إلى الحي المختار ، والربّ يستعمل عاما في الجميع.
والعالم : اسم للعدد الكثير ممّن يعقل ، وعن ابن عباس (٣) رضي الله عنهما : أنّه اسم كلّ ذي روح.
__________________
(١) قال ابن فارس : والربابة : خرقة أو غيرها تجعل فيها القداح. راجع المجمل ٢ / ٣٧١.
(٢) البيتان لأبي ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد. عاش في الجاهلية دهرا ، وأدرك الإسلام فأسلم ، ووصل المدينة فأدرك الصلاة على النبيّ ، وشهد دفنه ، ثمّ بايع أبا بكر وانصرف. توفي في زمن عثمان بن عفان. وهو أشعر هذيل. والبيتان في أشعار الهذليين ١ / ٣٣. والثاني في المجمل ٢ / ٣٧١ ؛ والمثلث للبطليوسي ٢ / ٦٠ ؛ ومعجم مقاييس اللغة ٢ / ٣٨٣ ؛ واللسان مادة ربب ١ / ٣٩١. قوله : سبيّة ، أي : مشتراة. ولها غاية ، أي : راية علامة ينصبها الخمّار. والعقاب : رايتها تدل عليها الكرام.
(٣) عبد الله بن عباس ابن عم النبي ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، ودعا له النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : اللهم علّمه الحكمة وتأويل القرآن ، قال عنه ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، مات بالطائف سنة ٦٨ ه وصلى عليه محمد بن الحنفية.
وعن الحسن (١) رحمهالله : إنّ العالم ما يحويه الفلك.
والأول أولى ؛ لأنه جمع جمع العقلاء ، ولأنّه لا يقال : رأيت عالما من الإبل ، ولأنّ الأصل في اللغة الظهور ، من ذلك : العلم. فالعلم : رأس الجبل ، والعلم : اللواء ، والأعلم : المشقوق الشفة العليا ، لأن ذلك ظاهر بيّن ، والظهور إنما يكون للجمع الكثير وعلى الخصوص فيمن يعقل ؛ فإنهم في الخليقة كالرؤوس والأعلام ، وإنّهم مستدلون كما إنهم أدلّة.
إلا أن يقال : إنّ جميع المخلوقات يدخل في العالم على التبع لما يعقل ، فيكون حسنا لأنّه أعم معنى.
والمالك (٢) : القادر على التصرف ملكا. والملك : القادر عليه أمرا وتدبيرا.
فالأول أخص ظهورا إلا أنّه أشد نفوذا.
واختيار قراءة الملك أو المالك أحدهما على الآخر لا يستقيم مع العلم بأنهما منزّلان (٣) ، وأنّ في كل منهما فائدة على حدة.
و (الدِّينِ) : فسّر بالجزاء والقضاء والحساب والطاعة ، والأصل : الجزاء ؛ لأنّ الحساب للجزاء وكذلك القضاء للمجازاة ، والطاعة والقضاء يقتضي المجازاة عليها ، فتكون تسمية السبب باسم المسبب.
__________________
(١) الحسن بن أبي الحسن البصري يكنى أبا سعيد من سادات التابعين وكبرائهم ، كان إمام أهل البصرة ، وحبر الأمة في زمانه وكان عابدا ناسكا عالما فصيحا لا يخاف في الحق لومة لائم ، توفي سنة ١١٠ ه.
(٢) من قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
(٣) قرأ (مالِكِ) بالألف عاصم والكسائي ويعقوب وخلف. اسم فاعل من ملك. والباقون : (ملك) على وزن (سمع) صفة مشبهة. راجع إتحاف فضلاء البشر ص ١٢٢.
وتخصيص الملك بيوم الدين للرفع منه والإشادة به كقوله : (رَبِّ الْعَرْشِ)(١).
ولأنه تعالى يملّك في الدنيا بعض العباد ممالك كالعواري المستردة ، وأمّا في الآخرة فالأمر فيها لله وحده.
والصحيح في (إِيَّاكَ) مذهب الأخفش (٢) أنّه اسم موضوع مضمر معرّف غير مضاف (٣) ، والكاف فيه حرف خطاب ولا موضع له من الإعراب ، بمنزلة الكاف في ذلك.
ولهذا لم يكن مشتقا ، لأنّ الأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها إلا ما حكي عن الزّجاج (٤) أنه كان يشتقه من الآية ، أي : العلامة. وأن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(٥) حقيقتك نعبد.
فقيل له : كيف يكون الاسم المضمر مشتقا؟
فقال : هو مظهر خصّ به المضمر (٦).
__________________
(١) الآية : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من سورة الأنبياء : آية ٤٢.
(٢) سعيد بن مسعدة ، أخذ عن سيبويه وهو أسنّ منه وكان أحذق أصحابه ، وصحب الخليل أولا ، أخذ عنه أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني. له كتاب «معاني القرآن» وقد طبع مؤخرا ، توفي سنة ٢١٥ ه.
(٣) لأن الكاف من (إياك) حرف خطاب لا موضع لها ، ولا تكون اسما لأنها لو كانت اسما لكانت إيا مضافة إليها ، والمضمرات لا تضاف ، وعند الخليل هي اسم مضمر أضيفت «إيا» إليه ، لأن «إيا» تشبه المظهر لتقدمها على الفعل والفاعل ، ولطولها بكثرة الحروف. اه. راجع التبيان للعكبري ١ / ٧.
(٤) أبو إسحق إبراهيم بن السري ، نسبة لعمله بالزجاج ، قرأ على المبرّد ، وقرأ عليه الزجاجي. وكان من أئمة العربية والنحو له كتاب «معاني القرآن وإعرابه» ، وقد طبع. وكتاب «فعلت وأفعلت». توفي سنة ٣١٦ ه.
(٥) سورة الفاتحة : آية ٤.
(٦) وردّ هذا القول ابن جني في سر صناعة الإعراب ١ / ٣١٦ ، وانظر معاني القرآن للزجاج ١ / ٤٨.
وإنما كرّر (إِيَّاكَ) لأنه بمعنى الكاف في نعبدك ونستعينك ، ولأنّه تعليم أن يجدّد لكلّ دعوة عزيمة وتوجها ، ولا نجمعهما في ربقه ولا نعرضهما في صفقة.
وإنما لم يقل : نعبدك ونستعينك ـ وهو أوجز ـ لأنّ «نستعين» على نظم آي السورة ، ولهذا قدّمت العبادة على الاستعانة ، كما قدّم الرحمن وهو أبلغ شيء في تقديم ضمير المعبود على ذكر العابد من مراعاة التعظيم وإحسان الترتيب.
وإنما كان (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بلفظ الخطاب ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول السورة بالغيبة ؛ لأنّك تحمد نظيرك ولا تعبده ، فاستعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة ، والعبادة ـ التي هي العز الأقصى ـ جرت بالخطاب تقربا منه تعالى بالانتهاء إلى محدودة منها ، وعلى هذا جاء آخر السورة (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(١) بإسناد النعمة إليه لفظا ، وصرف لفظ الغضب إلى المغضوب عليهم تحسّنا وتلطّفا.
وإنّما سئلت الهداية ـ وهي حاصلة ـ للتثبيت عليها في المستقبل للعمر.
وقيل : إنّه سؤال الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة ، فكأنّه استنجاز لما وعدنا في قوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(٢) ، أي : سبل دار السّلام.
وقيل : إنّه لمّا كانت بإزاء كلّ دلالة شبهة حسن من المهتدي سؤال الهداية التي تزاح بها عن القلب الشبهات.
__________________
(١) سورة الفاتحة : آية ٧.
(٢) سورة المائدة : آية ١٦.
ـ وعن عليّ (١) رضي الله عنه أنّ الصراط المستقيم هنا كتاب الله ، فيكون سؤال الهداية لحفظه وتبيّن معانيه.
وعن النبي عليهالسلام : «أن الصراط المستقيم سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» (٢).
فيحسن طلب الهداية إلى جميع مناهج السنّة ممن قد هدي للإيمان.
«وسأل عديّ بن حاتم النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن المغضوب عليهم؟ فقال : هم اليهود ، وعن الضالين؟ فقال : هم النصارى» (٣) ، والقرآن يدل عليه ، وهو قوله في اليهود : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)(٤). وفي النصارى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). (٥)
ـ فإن قيل : إنّ «غيرا» أبدا نكرة ، فكيف وصف بها المعرفة؟
__________________
(١) علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلىاللهعليهوسلم وأحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة ، وزوج ابنة النبي صلىاللهعليهوسلم وأحد علماء الصحابة وفقهائهم توفي سنة ٤٠ ه. وعمره يقارب الستين. وللنسائي كتاب في فضائله مطبوع ١ / ٢٢ وسنده حسن.
(٢) لم أجده بلفظه ، ولكن ورد بمعناه ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم ١ / ٢٢ وابن جرير ١ / ٧٤ عن أبي العالية في قوله تعالى : الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال : هو رسول الله ، وصاحباه من بعده ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس فيها قال : «هو رسول الله وصاحباه». راجع المستدرك ٢ / ٥٩ ، وبمعناه قوله عليه الصلاة والسّلام : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وصححه.
(٣) الحديث أخرجه أحمد ٤ / ٣٧٨ وعبد بن حميد والترمذي وحسنه برقم ٢٩٥٧ وابن حبان في صحيحه برقم ١٧١٥ عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله : «إن المغضوب عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى». راجع الدر المنثور ١ / ٤٢. وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى. انظر تفسير ابن أبي حاتم ١ / ٢٣.
(٤) سورة البقرة : آية ٦١.
(٥) سورة المائدة : آية ٧٧.
ـ قلنا : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) على مذهب الأخفش بدل من الذين وليس بوصف.
وفي كلام أبي علي (١) : إن (غَيْرِ) ههنا مع ما أضيف إليه معرفة ، وحكم كلّ مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكّرت في الأصل «غير» و «مثل» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، لأنك إذا قلت : رأيت غيرك ، فكلّ شيء تراه سواه هو غيره ، وكذلك إذا قال : رأيت مثلك فما هو مثله في خلقه وخلقه وجاهه وعلمه لا يحصى ، فإنما صارتا نكرتين من أجل المعنى.
فأمّا إذا كان المعرفة له ضد واحد ، وأردت إثباته ونفي ضده ـ وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت «غير» إلى ضده ـ فهو معرفة ، كقولك : عليك بالحركة غير السكون.
فغير السكون معرفة وهو الحركة ، فكأنك كرّرت الحركة تأكيدا ، فكذلك هذه ، لأنّ كل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه ، وعلى العكس فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم ، فهو مساو له في معرفته ، ف «غير» على هذا التقدير معرفة (٢).
وههنا إشكال آخر معنوي في كيفية غضب الله ، فينبغي أن تعلم أنّ الغضب من الله يخالف غضبنا ، فإنّه منّا شهوة الانتقام عند غليان دم القلب ، وهو من الله إرادة المضار بمن عصاه.
__________________
(١) أبو علي الفارسي : الحسن بن أحمد ، أحد عباقرة النحو ، صحب عضد الدولة ابن بويه وعلت منزلته عنده ، أخذ عنه ابن جني وله كتاب «الإيضاح» و «التكملة» وقد طبعا. توفي سنة ٣٧٧ ه.
(٢) وهذا النقل عن الحجة في القراءات للفارسي ١ / ١٤٣.
وهاهنا أصل تعرف به عامة الصفات المشكلة المعاني ، وهو أن لا يذهب فيها إلى التوهم اللفظي بحسب المبدأ ، ولكنه بحسب التمام ، وأوصاف الله تعالى تحمل على الأغراض الانتهائية لا على الأغراض الابتدائية. مثاله : الرأفة والرحمة ؛ فإنهما انعصار القلب لمكروه في الغير ، ثم طريانه علينا ببعث على إغاثة المبتلى بذلك المكروه ، فوصفنا إيانا بالرحمة والرأفة للمبدأ الذي هو انعصار القلب.
وأمّا في وصفه تعالى فللتمام الذي هو إغاثة المبتلى.
وكذلك المحبة منّا ميل الطباع ، وتمامها : إرادة الخير والصلاح ، ووصف الله بها على معنى تمامها.
والغضب يعرض لنا فيتنغّص الطبع على جهة الحمية ، ويتغير الوجه ، وتحمرّ العين ، وربما يرتعد البدن ، ثم يدعو إلى جنس من العقوبة. يضادّ الرضى فيوصف الله تعالى به على هذا المعنى الأخير الذي هو الغاية والمآل ، وعلى هذا يجري القول في الصفات والله أعلم.
آمين معناه : اللهم افعل ، اسم سمّي به الفعل مثل : صه ومه ورويدا ، وإليك ، ودونك.
وأصله : أمين ، فأشبعت الهمزة كأنّه فعيل من الأمن وليس به.
* * *
سورة البقرة (١)
المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في :
(الم) ونظائرها أنّ كل حرف منها عبارة عن اسم من أسماء الله ، مفتتح بتلك الحروف.
__________________
(١) عن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وعن عكرمة قال : أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة. ـ وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي برقم ٢٨٨٦ عن نواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران». قال : وضرب لهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهنّ بعد. قال : كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما ظلتان سوداوان بينهما شرف ، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ يحاجّان عن صاحبهما». صحيح مسلم رقم ٨٠٤ ، والمسند ٤ / ١٨٣. ـ وأخرج أحمد ٢ / ٢٨٤ ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». مسلم رقم ٧٨٠. ولفظ الترمذي : «وإنّ البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان». سنن الترمذي رقم ٢٨٨٠. ـ وأخرج الخطيب في رواة مالك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة ، فلمّا ختمها نحر جزورا. وذكر مالك في الموطأ أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. ـ وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي في الشعب عن سهل بن سعد قال : ـ
ـ وعن الشّعبي (١) : أنها أنفسها أسماء الله.
ـ وعن عكرمة (٢) : أنها أقسام.
ـ وقيل : هجاء (الم) ، أي : أنزّل ذلك الكتاب.
ـ وقيل : إنها حروف الجمّل الحسابية ، إشارة إلى مقادير أشياء وآجال قوم.
__________________
ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ لكلّ شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». وقال أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن : اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّ علماءنا قالوا : إنّ هذه السورة من أعظم سور القرآن ، سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر. ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلمها ، وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام. اه. انظر أحكام القرآن ١ / ٨. أي : في تفسيره القرآن. ـ وقال المهائمي في تفسيره ١ / ٣١ : وسميت بها ـ أي : بسورة البقرة ـ لدلالة قصتها على :
١ ـ وجود الصانع ، إذ حياة القتيل ليست من ذاته ، وإلا لحيي كلّ قتيل ، ولا بضرب بعض البقرة عليه ، وإلا لحصلت متى ضرب.
٢ ـ وعلى قدرته ، لأنّه أحيا بمحض قدرته لا بهذا السبب بل عنده.
٣ ـ وعلى حكمته ، لأنّه أشار بذلك إلى إحياء القلب بذبح النفس الأمارة المظلمة.
٤ ـ وعلى النبوة ، لكونها معجزة. وفيها إشارة إلى وجوب طاعة الأنبياء من غير تفتيش لثقل المؤنة ، ولا تقع الفضيحة التي وقعت للقائلين : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).
٥ ـ وعلى الاستقامة ؛ لأنّ طلب الدنيا ذلة ، وطلب ما سوى الله شية.
(١) اسمه عامر بن شراحيل ، تابعي جليل القدر ، وافر العلم ، من رجال الحديث الثقات ، اتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم ، توفي بالكوفة سنة ١٠٥ ه.
(٢) عكرمة مولى ابن عباس ، من كبار التابعين ، ومن أعلم الناس بالتفسير والمغازي ، كان كثير الطواف والجولان في البلاد ، وكان ابن عباس يقول له : انطلق فأفت الناس ، توفي سنة ١٠٧ ه. هو وكثيّر عزة في يوم واحد.