وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ ينقل عن بعض العلماء ولا ينسب القول لقائله في بعض الأحيان ، وليس دائما ، ونلاحظ ذلك عند قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وقوله : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) وعند تفسير سورة الجن.

٢ ـ وهم في نسبة بعض الأبيات ، وهذا لا يكاد يسلم منه أحد.

٣ ـ ينقل أحيانا أو نادرا عن التوراة ، وهذا أمر مختلف فيه ، ولعلّ المؤلف ممن يجيزه ، وذلك عند قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ).

٤ ـ مجيء بعض الآيات في غير محلها ، وذلك في قوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً).

٥ ـ تقديم وتأخير في الآيات ، وذلك في سورة فصلت وغير ذلك من الأمور.

وكلّ هذا لا يقدح في الكتاب ولا في مؤلفه ، ورحم الله القائل :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها

كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه

هذا آخر ما كتبناه ، والحمد لله رب العالمين.

* * *

٨١

نسخ الكتاب

لم نعثر أولا إلا على نسخة مصورة بالميكرو فيلم في مكتبة الجامعة الإسلامية رقم ١٦١٩ في ٣٧٢ ورقة من الحجم الوسط ، وكل ورقة تحتوي على صفحتين ، وفي كل صفحة ١٧ سطرا.

والخطّ لا بأس به ، واضح عموما إلا الصفحة الأولى ، والنسخة الأصلية للكتاب موجودة في مكتبة شستربيتي بإيرلندا ، نسخت في القرن الثامن الهجري لكن بعدما وصلتنا نسخة المطبوعة على الماكيت علمت أنّ للكتاب نسخة أخرى موجودة في دار الكتب المصرية برقم ١٠٤٣ ، مصوّرة في جامعة أم القرى ، فحصلنا منها على نسخة من الميكرو فيلم ، وقابلنا عليه نسختنا ، وهي مكتوبة في القرن الثامن الهجري.

ـ والظاهر أنّ النسختين منقولتين من أصل واحد.

وهذه صورة لبعض صفحات الكتاب :

٨٢

٨٣

٨٤

٨٥
٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

رب يسّر وتمّم

ـ قال الفقيه القاضي الإمام العالم بيان الحقّ ختم المفسرين محمود بن أبي الحسن بن حسين النيسابوري تغمّده الله برحمته :

أمّا بعد حمد الله كفاء حقه ، والصلاة على محمد خير خلقه ، وعلى آله الطيّبين وعترته الطاهرين ، فإنّ أفضل العلوم علم كتاب الله النّازل من عنده ، والسبب الواصل بين الله وعبده ، وقد وجدت تفاسيره إمّا مقصورة على قول واحد من الأولين ؛ أو مختصة بالتكثير والتكرير ، كما هو في مجموعات المتأخرين.

والطريقة الأولى من فرط إيجازها كانت لا تشفي القلب ، والثانية تعيي عن الحفظ لإطالة القول فيها ؛ لذلك رغبت إلى الله جلّ وعزّ في فضله التوفيق ؛ لإيضاح مشكلات التنزيل ، وإحسان التوقيف على غوامض التأويل ، بلفظ جزل ، ومخرج سهل ، وإيجاز في عاقبة الغريب ، وأفطن إطناب في المشكل العويص ، وربما جمحت في الوسن بإيراد بعض الشعر الحسن ، لتمخيض (١) العقل ، وإجمام الطبع ، وليتساهم فيه النظر الأدباء والكتاب ، كما يستقري معانيه العلماء أولو الألباب.

__________________

(١) أي : تحريكه. وفي الحديث أنه مرّ عليه بجنازة تمخض مخضا ، أي : تحرّك تحريكا سريعا. راجع لسان العرب مادة مخض ٧ / ٣١.

٨٧

وجميع ما في هذا الكتاب من تفسير أسفر عن وجهه ، أو تأويل أحسر عن ذراعه ، فهو يجري من سائر ما جمع فيهما مجرى الغرّة من الدّهم (١) ، والقرحة من الكمت (٢) وبالله التوفيق.

* * *

__________________

(١) الغرّة : البياض ، والدهم : السود من الإبل والخيل.

(٢) قال الأزهري : القرحة : الغرّة في وسط الجبهة. ا ه. والكمتة : لون بين السواد والحمرة ، يكون في الخيل والإبل وغيرهما. راجع اللسان : كمت.

٨٨

سورة الفاتحة (١)

__________________

(١) عن مجاهد قال : نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة.

وعن قتادة قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة.

وجمع بينهما أنّ الفاتحة نزلت مرتين ، مرّة بمكة ومرة بالمدينة.

ـ وأخرج البخاري والدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(الحمد لله ربّ العالمين) أمّ القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع الثاني».

ـ وقال أبو الحسن الحرالي :

وكانت سورة الفاتحة أمّا للقرآن ؛ لأنّ القرآن جميعه مفصّل من مجملها ، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكلّ معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصّل من جوامعها ، والآيات الثلاث الأخر من قوله : (اهْدِنَا) شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله ، والتحيز إلى رحمة الله ، والانقطاع دون ذلك. اه.

وقد جاء في فضائلها أخبار كثيرة :

فمن ذلك ما أخرجه أحمد والبخاري والدارمي عن أبي سعيد بن المعلّى قال : كنت أصلي فدعاني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه ، فقال : ألم يقل الله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) ثم قال : لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلمّا أردنا أن نخرج قلت : يا رسول الله إنك قلت : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. انظر مسند أحمد ٣ / ٤٥٠ ؛ وفتح الباري ٨ / ١٥٥. ـ وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن جابر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : ألا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : فاتحة الكتاب. وأحسبه قال : فيها شفاء من كل داء. المسند ٤ / ١٧٧. ـ

٨٩

سورة الفاتحة

(بِسْمِ اللهِ).

افتتاح القراءة باسم الله واجب ؛ لقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(١) ، فإنّ إعمال الباء يقتضي الحثّ على افتتاح القراءة بالتسمية (٢).

__________________

ـ وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، والمفصّل نافلة». المستدرك ١ / ٥٦١.

ـ وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال : أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور الفرقان ، ثم أودع علوم القرآن المفصّل ، ثم أودع المفصّل فاتحة الكتاب.

فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.

وللفاتحة أحد عشر اسما ، وأنشد ابن رسلان في ذلك :

لفاتحة أسماء عشر وواحد

فأمّ الكتاب والقرآن ووافيه

صلاة مع الحمد الأساس ورقية

شفاء كذا السبع المثاني وكافيه

وقد ألّف أبو زيد البلخي كتابا في تفسير الفاتحة.

وقال الفخر الرازي في مقدمة تفسيره : اعلم أنّه مرّ على لساني في بعض الأوقات أنّ هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة ، فاستعبد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل والغي والعناد ، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعليقات الفارغة من المعاني ، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني ، وقدّمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أنّ ما ذكرناه أمر ممكن الحصول ، قريب الوصول.

(١) سورة العلق : آية ١.

(٢) قال الجصاص : وقد ورد الأمر بذلك في مواضع من القرآن مصرّحا ، وهو قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأمر في افتتاح القراءة بالتسمية ، كما أمر أمام القراءة بتقديم الاستعاذة ، وهو إذا كان خبرا فإنّه يتضمن معنى الأمر ؛ لأنه لما كان معلوما أنّه خبر من الله بأنّه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه ، لأنّه إنما أخبرنا به لنفعل مثله. راجع أحكام القرآن ١ / ٧.

٩٠

والاستنجاح بها على سائر الأمور سنّة ؛ لقوله عليه الصلاة والسّلام : «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (١).

و (اللهِ) : اسمه ـ جلّ وعزّ ـ وحده ، وليس بمشتق عن شيء (٢).

ومعناه : الذي يحقّ له العبادة ، وليس معناه المعبود ، ولا المستحق للعبادة ؛ لأنّ من يعبده أو تستحق عليه عبادته إنما خلق بعد أن لم يكن ، وهو ـ عزّ اسمه ـ إله فيما لم يزل.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

اسمان من الرّحمة.

والرّحمة : هي : النعمة على المحتاج. وتمام النعمة : أن يكون المنعم بها مستغنيا عن فعلها ، والمنعم عليه محتاجا إليها. وذلك المنعم هو الله ، فحقّ له العبادة ، ووجب له الحمد.

والنعمة قد تبلغ مبلغا لا يقدر أحد من الخلق على شيء منه ، مثل : نعمة الحياة والعقل والحواس ، وقد يكون بما يتيسّر للعباد المعاونة على أسباب منها ، مثل تعليم العلم وتهذيب الخلق ، والمواساة بالجاه والمال.

فلذا اختصّ أحد الاسمين الجاري بناؤه على المبالغة بالله ، وهو الرحمن.

__________________

(١) الحديث : «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع». أخرجه الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة ، وذكره السيوطي في الجامع الكبير ، ويروى : «كلّ كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم». وهذه الرواية أخرجها ابن ماجة في النكاح ١ / ٦١٠ وأبو داود برقم ٢١١٨. وللحافظ السخاوي جزء مستقل في الحديث. راجع شرح السنّة للبغوي ٩ / ٥١ ؛ والمقاصد الحسنة ص ٣٢٣ ؛ والفتح الكبير للسيوطي ٢ / ٢٢.

(٢) وهذا قول سيبويه والمحققين.

٩١

ولا يشترك الثاني بين جميع المنعمين.

(رَبِّ الْعالَمِينَ).

الرب : المالك المدبّر.

والرّبانيون : العلماء الذين يربّون بالعلم.

ويجوز أن يكون معنى الرّب : الحافظ.

يقال للخرقة التي تحفظ فيها القداح : ربابة وربّة (١). قال الهذلي :

١ ـ وما الرّاح راح الشام جاءت سبيّة

لها غاية تهدي للكرام عقابها

٢ ـ توصّل بالرّكبان حينا وتؤلف ال

جوار وتغشيها الأمان ربابها (٢)

ولا يجوز أن يكون معنى الربّ السيد حقيقة ، لأنّ السيد لا يستعمل بالإضافة إلا إلى الحي المختار ، والربّ يستعمل عاما في الجميع.

والعالم : اسم للعدد الكثير ممّن يعقل ، وعن ابن عباس (٣) رضي الله عنهما : أنّه اسم كلّ ذي روح.

__________________

(١) قال ابن فارس : والربابة : خرقة أو غيرها تجعل فيها القداح. راجع المجمل ٢ / ٣٧١.

(٢) البيتان لأبي ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد. عاش في الجاهلية دهرا ، وأدرك الإسلام فأسلم ، ووصل المدينة فأدرك الصلاة على النبيّ ، وشهد دفنه ، ثمّ بايع أبا بكر وانصرف. توفي في زمن عثمان بن عفان. وهو أشعر هذيل. والبيتان في أشعار الهذليين ١ / ٣٣. والثاني في المجمل ٢ / ٣٧١ ؛ والمثلث للبطليوسي ٢ / ٦٠ ؛ ومعجم مقاييس اللغة ٢ / ٣٨٣ ؛ واللسان مادة ربب ١ / ٣٩١. قوله : سبيّة ، أي : مشتراة. ولها غاية ، أي : راية علامة ينصبها الخمّار. والعقاب : رايتها تدل عليها الكرام.

(٣) عبد الله بن عباس ابن عم النبي ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، ودعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اللهم علّمه الحكمة وتأويل القرآن ، قال عنه ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، مات بالطائف سنة ٦٨ ه‍ وصلى عليه محمد بن الحنفية.

٩٢

وعن الحسن (١) رحمه‌الله : إنّ العالم ما يحويه الفلك.

والأول أولى ؛ لأنه جمع جمع العقلاء ، ولأنّه لا يقال : رأيت عالما من الإبل ، ولأنّ الأصل في اللغة الظهور ، من ذلك : العلم. فالعلم : رأس الجبل ، والعلم : اللواء ، والأعلم : المشقوق الشفة العليا ، لأن ذلك ظاهر بيّن ، والظهور إنما يكون للجمع الكثير وعلى الخصوص فيمن يعقل ؛ فإنهم في الخليقة كالرؤوس والأعلام ، وإنّهم مستدلون كما إنهم أدلّة.

إلا أن يقال : إنّ جميع المخلوقات يدخل في العالم على التبع لما يعقل ، فيكون حسنا لأنّه أعم معنى.

والمالك (٢) : القادر على التصرف ملكا. والملك : القادر عليه أمرا وتدبيرا.

فالأول أخص ظهورا إلا أنّه أشد نفوذا.

واختيار قراءة الملك أو المالك أحدهما على الآخر لا يستقيم مع العلم بأنهما منزّلان (٣) ، وأنّ في كل منهما فائدة على حدة.

و (الدِّينِ) : فسّر بالجزاء والقضاء والحساب والطاعة ، والأصل : الجزاء ؛ لأنّ الحساب للجزاء وكذلك القضاء للمجازاة ، والطاعة والقضاء يقتضي المجازاة عليها ، فتكون تسمية السبب باسم المسبب.

__________________

(١) الحسن بن أبي الحسن البصري يكنى أبا سعيد من سادات التابعين وكبرائهم ، كان إمام أهل البصرة ، وحبر الأمة في زمانه وكان عابدا ناسكا عالما فصيحا لا يخاف في الحق لومة لائم ، توفي سنة ١١٠ ه‍.

(٢) من قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

(٣) قرأ (مالِكِ) بالألف عاصم والكسائي ويعقوب وخلف. اسم فاعل من ملك. والباقون : (ملك) على وزن (سمع) صفة مشبهة. راجع إتحاف فضلاء البشر ص ١٢٢.

٩٣

وتخصيص الملك بيوم الدين للرفع منه والإشادة به كقوله : (رَبِّ الْعَرْشِ)(١).

ولأنه تعالى يملّك في الدنيا بعض العباد ممالك كالعواري المستردة ، وأمّا في الآخرة فالأمر فيها لله وحده.

والصحيح في (إِيَّاكَ) مذهب الأخفش (٢) أنّه اسم موضوع مضمر معرّف غير مضاف (٣) ، والكاف فيه حرف خطاب ولا موضع له من الإعراب ، بمنزلة الكاف في ذلك.

ولهذا لم يكن مشتقا ، لأنّ الأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها إلا ما حكي عن الزّجاج (٤) أنه كان يشتقه من الآية ، أي : العلامة. وأن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)(٥) حقيقتك نعبد.

فقيل له : كيف يكون الاسم المضمر مشتقا؟

فقال : هو مظهر خصّ به المضمر (٦).

__________________

(١) الآية : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من سورة الأنبياء : آية ٤٢.

(٢) سعيد بن مسعدة ، أخذ عن سيبويه وهو أسنّ منه وكان أحذق أصحابه ، وصحب الخليل أولا ، أخذ عنه أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني. له كتاب «معاني القرآن» وقد طبع مؤخرا ، توفي سنة ٢١٥ ه‍.

(٣) لأن الكاف من (إياك) حرف خطاب لا موضع لها ، ولا تكون اسما لأنها لو كانت اسما لكانت إيا مضافة إليها ، والمضمرات لا تضاف ، وعند الخليل هي اسم مضمر أضيفت «إيا» إليه ، لأن «إيا» تشبه المظهر لتقدمها على الفعل والفاعل ، ولطولها بكثرة الحروف. اه. راجع التبيان للعكبري ١ / ٧.

(٤) أبو إسحق إبراهيم بن السري ، نسبة لعمله بالزجاج ، قرأ على المبرّد ، وقرأ عليه الزجاجي. وكان من أئمة العربية والنحو له كتاب «معاني القرآن وإعرابه» ، وقد طبع. وكتاب «فعلت وأفعلت». توفي سنة ٣١٦ ه‍.

(٥) سورة الفاتحة : آية ٤.

(٦) وردّ هذا القول ابن جني في سر صناعة الإعراب ١ / ٣١٦ ، وانظر معاني القرآن للزجاج ١ / ٤٨.

٩٤

وإنما كرّر (إِيَّاكَ) لأنه بمعنى الكاف في نعبدك ونستعينك ، ولأنّه تعليم أن يجدّد لكلّ دعوة عزيمة وتوجها ، ولا نجمعهما في ربقه ولا نعرضهما في صفقة.

وإنما لم يقل : نعبدك ونستعينك ـ وهو أوجز ـ لأنّ «نستعين» على نظم آي السورة ، ولهذا قدّمت العبادة على الاستعانة ، كما قدّم الرحمن وهو أبلغ شيء في تقديم ضمير المعبود على ذكر العابد من مراعاة التعظيم وإحسان الترتيب.

وإنما كان (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بلفظ الخطاب ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول السورة بالغيبة ؛ لأنّك تحمد نظيرك ولا تعبده ، فاستعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة ، والعبادة ـ التي هي العز الأقصى ـ جرت بالخطاب تقربا منه تعالى بالانتهاء إلى محدودة منها ، وعلى هذا جاء آخر السورة (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(١) بإسناد النعمة إليه لفظا ، وصرف لفظ الغضب إلى المغضوب عليهم تحسّنا وتلطّفا.

وإنّما سئلت الهداية ـ وهي حاصلة ـ للتثبيت عليها في المستقبل للعمر.

وقيل : إنّه سؤال الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة ، فكأنّه استنجاز لما وعدنا في قوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(٢) ، أي : سبل دار السّلام.

وقيل : إنّه لمّا كانت بإزاء كلّ دلالة شبهة حسن من المهتدي سؤال الهداية التي تزاح بها عن القلب الشبهات.

__________________

(١) سورة الفاتحة : آية ٧.

(٢) سورة المائدة : آية ١٦.

٩٥

ـ وعن عليّ (١) رضي الله عنه أنّ الصراط المستقيم هنا كتاب الله ، فيكون سؤال الهداية لحفظه وتبيّن معانيه.

وعن النبي عليه‌السلام : «أن الصراط المستقيم سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» (٢).

فيحسن طلب الهداية إلى جميع مناهج السنّة ممن قد هدي للإيمان.

«وسأل عديّ بن حاتم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المغضوب عليهم؟ فقال : هم اليهود ، وعن الضالين؟ فقال : هم النصارى» (٣) ، والقرآن يدل عليه ، وهو قوله في اليهود : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)(٤). وفي النصارى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). (٥)

ـ فإن قيل : إنّ «غيرا» أبدا نكرة ، فكيف وصف بها المعرفة؟

__________________

(١) علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة ، وزوج ابنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحد علماء الصحابة وفقهائهم توفي سنة ٤٠ ه‍. وعمره يقارب الستين. وللنسائي كتاب في فضائله مطبوع ١ / ٢٢ وسنده حسن.

(٢) لم أجده بلفظه ، ولكن ورد بمعناه ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم ١ / ٢٢ وابن جرير ١ / ٧٤ عن أبي العالية في قوله تعالى : الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال : هو رسول الله ، وصاحباه من بعده ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس فيها قال : «هو رسول الله وصاحباه». راجع المستدرك ٢ / ٥٩ ، وبمعناه قوله عليه الصلاة والسّلام : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وصححه.

(٣) الحديث أخرجه أحمد ٤ / ٣٧٨ وعبد بن حميد والترمذي وحسنه برقم ٢٩٥٧ وابن حبان في صحيحه برقم ١٧١٥ عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله : «إن المغضوب عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى». راجع الدر المنثور ١ / ٤٢. وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى. انظر تفسير ابن أبي حاتم ١ / ٢٣.

(٤) سورة البقرة : آية ٦١.

(٥) سورة المائدة : آية ٧٧.

٩٦

ـ قلنا : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) على مذهب الأخفش بدل من الذين وليس بوصف.

وفي كلام أبي علي (١) : إن (غَيْرِ) ههنا مع ما أضيف إليه معرفة ، وحكم كلّ مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة ، وإنما تنكّرت في الأصل «غير» و «مثل» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما ، لأنك إذا قلت : رأيت غيرك ، فكلّ شيء تراه سواه هو غيره ، وكذلك إذا قال : رأيت مثلك فما هو مثله في خلقه وخلقه وجاهه وعلمه لا يحصى ، فإنما صارتا نكرتين من أجل المعنى.

فأمّا إذا كان المعرفة له ضد واحد ، وأردت إثباته ونفي ضده ـ وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت «غير» إلى ضده ـ فهو معرفة ، كقولك : عليك بالحركة غير السكون.

فغير السكون معرفة وهو الحركة ، فكأنك كرّرت الحركة تأكيدا ، فكذلك هذه ، لأنّ كل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه ، وعلى العكس فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم ، فهو مساو له في معرفته ، ف «غير» على هذا التقدير معرفة (٢).

وههنا إشكال آخر معنوي في كيفية غضب الله ، فينبغي أن تعلم أنّ الغضب من الله يخالف غضبنا ، فإنّه منّا شهوة الانتقام عند غليان دم القلب ، وهو من الله إرادة المضار بمن عصاه.

__________________

(١) أبو علي الفارسي : الحسن بن أحمد ، أحد عباقرة النحو ، صحب عضد الدولة ابن بويه وعلت منزلته عنده ، أخذ عنه ابن جني وله كتاب «الإيضاح» و «التكملة» وقد طبعا. توفي سنة ٣٧٧ ه‍.

(٢) وهذا النقل عن الحجة في القراءات للفارسي ١ / ١٤٣.

٩٧

وهاهنا أصل تعرف به عامة الصفات المشكلة المعاني ، وهو أن لا يذهب فيها إلى التوهم اللفظي بحسب المبدأ ، ولكنه بحسب التمام ، وأوصاف الله تعالى تحمل على الأغراض الانتهائية لا على الأغراض الابتدائية. مثاله : الرأفة والرحمة ؛ فإنهما انعصار القلب لمكروه في الغير ، ثم طريانه علينا ببعث على إغاثة المبتلى بذلك المكروه ، فوصفنا إيانا بالرحمة والرأفة للمبدأ الذي هو انعصار القلب.

وأمّا في وصفه تعالى فللتمام الذي هو إغاثة المبتلى.

وكذلك المحبة منّا ميل الطباع ، وتمامها : إرادة الخير والصلاح ، ووصف الله بها على معنى تمامها.

والغضب يعرض لنا فيتنغّص الطبع على جهة الحمية ، ويتغير الوجه ، وتحمرّ العين ، وربما يرتعد البدن ، ثم يدعو إلى جنس من العقوبة. يضادّ الرضى فيوصف الله تعالى به على هذا المعنى الأخير الذي هو الغاية والمآل ، وعلى هذا يجري القول في الصفات والله أعلم.

آمين معناه : اللهم افعل ، اسم سمّي به الفعل مثل : صه ومه ورويدا ، وإليك ، ودونك.

وأصله : أمين ، فأشبعت الهمزة كأنّه فعيل من الأمن وليس به.

* * *

٩٨

سورة البقرة (١)

المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في :

(الم) ونظائرها أنّ كل حرف منها عبارة عن اسم من أسماء الله ، مفتتح بتلك الحروف.

__________________

(١) عن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وعن عكرمة قال : أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة. ـ وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي برقم ٢٨٨٦ عن نواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران». قال : وضرب لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهنّ بعد. قال : كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما ظلتان سوداوان بينهما شرف ، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ يحاجّان عن صاحبهما». صحيح مسلم رقم ٨٠٤ ، والمسند ٤ / ١٨٣. ـ وأخرج أحمد ٢ / ٢٨٤ ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». مسلم رقم ٧٨٠. ولفظ الترمذي : «وإنّ البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان». سنن الترمذي رقم ٢٨٨٠. ـ وأخرج الخطيب في رواة مالك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة ، فلمّا ختمها نحر جزورا. وذكر مالك في الموطأ أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. ـ وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي في الشعب عن سهل بن سعد قال : ـ

٩٩

ـ وعن الشّعبي (١) : أنها أنفسها أسماء الله.

ـ وعن عكرمة (٢) : أنها أقسام.

ـ وقيل : هجاء (الم) ، أي : أنزّل ذلك الكتاب.

ـ وقيل : إنها حروف الجمّل الحسابية ، إشارة إلى مقادير أشياء وآجال قوم.

__________________

ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكلّ شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». وقال أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن : اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّ علماءنا قالوا : إنّ هذه السورة من أعظم سور القرآن ، سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر. ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلمها ، وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام. اه. انظر أحكام القرآن ١ / ٨. أي : في تفسيره القرآن. ـ وقال المهائمي في تفسيره ١ / ٣١ : وسميت بها ـ أي : بسورة البقرة ـ لدلالة قصتها على :

١ ـ وجود الصانع ، إذ حياة القتيل ليست من ذاته ، وإلا لحيي كلّ قتيل ، ولا بضرب بعض البقرة عليه ، وإلا لحصلت متى ضرب.

٢ ـ وعلى قدرته ، لأنّه أحيا بمحض قدرته لا بهذا السبب بل عنده.

٣ ـ وعلى حكمته ، لأنّه أشار بذلك إلى إحياء القلب بذبح النفس الأمارة المظلمة.

٤ ـ وعلى النبوة ، لكونها معجزة. وفيها إشارة إلى وجوب طاعة الأنبياء من غير تفتيش لثقل المؤنة ، ولا تقع الفضيحة التي وقعت للقائلين : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).

٥ ـ وعلى الاستقامة ؛ لأنّ طلب الدنيا ذلة ، وطلب ما سوى الله شية.

(١) اسمه عامر بن شراحيل ، تابعي جليل القدر ، وافر العلم ، من رجال الحديث الثقات ، اتصل بعبد الملك بن مروان فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم ، توفي بالكوفة سنة ١٠٥ ه‍.

(٢) عكرمة مولى ابن عباس ، من كبار التابعين ، ومن أعلم الناس بالتفسير والمغازي ، كان كثير الطواف والجولان في البلاد ، وكان ابن عباس يقول له : انطلق فأفت الناس ، توفي سنة ١٠٧ ه‍. هو وكثيّر عزة في يوم واحد.

١٠٠