وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

الجاهلية وغيرها. بالإضافة إلى المنظومات الكبيرة في اللغة مثل نظم ابن مالك في المثلث في اللغة ، وهو يعادل ثلاثة آلاف بيت تقريبا ، مع المنظومات في الفقه والتوحيد والمنطق وغيرها ، وهذا يذكّرنا بعلماء السلف ، وكثرة محفوظاتهم وروايتهم ، وهو حجة الله على خلقه في عصره ، إذ يؤيد الله دينه بالعلماء الكبار في كل عصر ليحفظ بهم الدين ، ويقيم الحجة على المنكرين والمقصّرين.

* * *

٤١

(٤)

بحث في نسبة الأبيات الشعريّة

ـ إن نسبة الأبيات الشعرية لصاحبها أمر مهم في اللغة ، إذ البيت المجهول القائل تضعف مرتبته عن البيت المعروف القائل ، ومع ذلك لا تخلو كتب اللغة والتفاسير عن بعض الأبيات المجهول قائلها ، وقد وقع كثير من الناس في التخليط في نسبة الأبيات ، فنسبوا أشياء إلى غير أصحابها ، ونجد الصّغاني في هذا الشأن يقول (١) :

وهذا أبو منصور الأزهري ، شيخ عهده وزمانه ، وإمام عصره وأوانه ، والمشار إليه في كثرة النّقل ، والمضروف إليه أكباد الإبل ، أنشد في (ك ل ل) (٢) للعجّاج :

حتى يحلّون الرّبى كلالا (٣)

وهو لرؤبة لا للعجّاج ، والرواية : «قوما يحلون».

وأنشد في (ر ك ض) (٤) لرؤبة :

والنسر قد يركض وهو هاف

__________________

(١) راجع مقدمة العباب الزاخر واللباب الفاخر ص ٣٤.

(٢) راجع تهذيب اللغة ٩ / ٤٥١.

(٣) ديوان رؤبة ص ١٢٢.

(٤) تهذيب اللغة ١٠ / ٣٩.

٤٢

وهو للعجاج لا لرؤبة (١).

وأنشد في (ك د س) (٢) لعبيد :

وخيل تكدّس بالدّار عين

كمشي الوعول على الظاهرة

وهو لمهلهل لا لعبيد (٣).

وأمّا أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري ، الذي تخرّ له جباه أهل الفضل ، وحكم له بحيازة السبق والنّصل ، فإنّه قال في تركيب (س ع ب) (٤) : قال ابن مقبل :

يعلون بالمردقوش الورد ضاحية

على سعابيب ماء الضّالة اللّجز

ثمّ قال : أراد اللّزج فقلبه.

وذكر في فصل اللام من باب الزاي : اللّجز قلب اللّزج ، وأنشد البيت (٥).

فلو كان هذا المقبل اطّلع على ديوان شعر ابن مقبل لعلم أنه ليست له قصيدة زائية وأنّها نونية ، وأول القصيدة :

قد فرّق الدهر بين الحيّ بالظّعن

وبين أهواء شرب يوم ذي يقن (٦)

وقبل البيت الذي ذكره :

يثنين أعناق أدم يختلين بها

حبّ الأراك وحبّ الضّال من دنن

يعلون ...

__________________

(١) راجع ديوان العجاج ص ١١٠ ، ومقدمة العباب ص ٣٤.

(٢) راجع التهذيب ١٠ / ٤٦.

(٣) راجع مقدمة العباب ص ٣٤ ؛ واللسان مادة ظهر.

(٤) راجع الصحاح ١ / ١٤٧.

(٥) راجع الصحاح ٢ / ٨٩١.

(٦) راجع ديون ابن مقبل ص ٣٠١.

٤٣

فقد أخطأ في اللغة حيث قال : اللجز ، وفي الإنشاد حيث جعل القافية النونية زائية (١).

وقال في تركيب (ش س ب) (٢) : قال الوقّاف العقيلي :

فقلت له حان الرّواح ورعته

بأسمر ملويّ من القدّ شاسب

وهو لمزاحم العقيلي لا للوقاف (٣).

وأمّا شيخ هذه الصناعة ، وفارس ميدان البراعة ، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي ، فإنّه مع كثرة تصانيفه ، وجودة تأليفه ، لم يسلم جواده في جوادّ هذا المضمار ، من الكبوة والعثار ، وقد ذكر في المجمل في تركيب (ت م م) (٤) : والمتمّم : المكسّر ، وهو في قول الشاعر :

أو كانهياض المتعب المتتمّم

فمن كانت بضاعته في حفظ أشعار العرب مزجاة ، وشدا طرفا من علم العروض حكم أنه من البحر الكامل ، على وزان قول أبي كبير الهذلي :

أزهير هل عن شيبة من معكم

أم لا خلود لباذل متكرّم (٥)

والرواية : «كانهياض» بغير كلمة «أو».

والبيت من الطويل ، وهو لذي الرّمة ، وصدره (٦) :

إذا نال منها نظرة هيض قلبه

بها ...

__________________

(١) راجع مقدمة العباب ص ٣٦.

(٢) راجع الصحاح ١ / ١٥٥.

(٣) راجع مقدمة العباب ص ٣٦ ، والتاج شسب.

(٤) المجمل ١ / ٩٨.

(٥) راجع ديوان الهذليين ٢ / ١١١.

(٦) راجع ديوان ذي الرمة ٢ / ١١٧٣ ، ومقدمة العباب ص ٣٨.

٤٤

وقد ذكر في كتابه الموسوم ب «الصاحبي في فقه اللغة» في حروف المعاني في ذكره كلمة «رويد» (١) ، وقال : هو تصغير رود ، وهو المهل ، قال :

كأنها مثل من يمشي على رود

وهذا الإنشاد مقلوب محرّف ، والرواية :

كأنه ثمل يمشي على الرّود (٢)

وصدره :

يمشي ولا تكلم البطحاء خطوته

والبيت للجموح الظّفري ، قاله يوم نبط وهو يوم ذات البشام.

ـ وأمّا شيخ شيوخ هؤلاء ، السيف الإصليت ، يعقوب بن السكّيت ، فمشار إليه في هذا الفن ، وكتابه «الإصلاح» محتاج إلى الإصلاح.

وقد قال في باب فعل وفعل (٣) : قال أبو ذؤيب :

ومدّعس فيه الأنيض اختفيته

بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

صدر البيت من قصيدة رائية ، وعجزه :

بجرداء ينتاب الثّميل حمارها (٤)

وليس فيه شاهد على الوكف.

وعجزه من قصيدة بائية ، وصدره :

تدلّى عليها بين سبّ وخيطة (٥)

__________________

(١) راجع الصاحبي ص ٢٢٦ ، بتحقيق أحمد صقر.

(٢) راجع اللسان ٤ / ١٧١ ؛ ومقدمة العباب ص ٣٩ ؛ والتاج ٢ / ٣٤٩.

(٣) راجع إصلاح المنطق ص ٦٣.

(٤) راجع ديوان الهذليين ١ / ٣١ ؛ ومقدمة العباب ص ٤٠.

(٥) راجع ديوان الهذليين ١ / ٧٩.

٤٥

ونحن ـ بفضل الله ـ ذكرنا الكثير من ذلك ، فقد وجدنا كثيرا من التصحيفات في الأبيات ، أو نسبة إلى غير صاحبها ، أو بعض أبيات لم يعرف المحققون قائلها ، فاستدركنا عليهم في كتابنا الأول الذي حققناه وهو «المدخل لعلم تفسير كتاب الله» وكذا في هذا الكتاب ، من يطالعهما يجد ما ذكرناه.

ونحن لم نقصد بذلك الإزراء والانتقاص ، وإنما قصدنا تبيين العلم والصواب ، ونحن أيضا في كتابنا هذا بقيت علينا عدّة أبيات لم نعثر على قائلها ، ولم نعرف أربابها ، فمن عرفها فليخبرنا بذلك ، وله منا جزيل الشكر ، وأبى الله أن يصحّ إلا كتابه ، وكما قال تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

ـ كما أنا استدركنا على المؤلف عددا من الأبيات ، وهم المؤلف في نسبتها فنسبها إلى غير أصحابها ، فمن ذلك قوله (١) : قال عمر بن الخطاب :

حمدت الله حين هدى فؤادي

إلى الإسلام والدين الحنيف

والبيت لحمزة بن عبد المطلب قاله لما أسلم وبعده :

لدين جاء من ربّ عزيز

خبير بالعباد بهم لطيف

إذا تليت رسائله علينا

تحدّر دمع ذي اللبّ الحصيف (٢)

أمّا عمر بن الخطاب فإنه قال حين أسلم :

الحمد لله ذي المنّ الذي وجبت

له علينا أياد ما لها غير

وقد بدأنا فكذّبنا فقال لنا :

صدق الحديث نبيّ عنده الخبر

وقد ظلمت ابنة (٣) الخطاب ثمّ هدى

ربي عشية قالوا : قد صبا عمر (٤)

__________________

(١) راجع تفسير قوله تعالى : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) : ١ / ١٧٣.

(٢) راجع الأبيات مع القصة في سيرة ابن هشام والروض الأنف شرحها ٢ / ٤٩.

(٣) هكذا في السيرة ، ولعلّ الصحيح «بني» من أجل الوزن.

(٤) راجع الروض الأنف ٢ / ١٠٠.

٤٦

راجع خبر إسلام عمر في سيرة ابن إسحق وسيرة ابن هشام.

وقد وهم كثير في نسبة البيت لعمر ، ومنهم الصاغاني في العباب ، مع زعمه أنّه تحرّى الصواب ومخطئه مخطىء.

ومن ذلك عند قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١).

أنشد المؤلف بيتين ، وهما :

بكت دارهم من نأيهم فتسرّعت

دموعي فأيّ الباكيين ألوم

أمستعبر يبكي من الهون والبلى

أم آخر يبكي شجوه ويهيم

ونسبهما المؤلف لمزاحم العقيلي ، وهما لقيس بن ذريح صاحب لبنى ، الشاعر المشهور ، وليسا لمزاحم العقيلي كما بيّناه في موضعه.

وكذلك في سورة الزخرف عند قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)(٢) ، أنشد المؤلف :

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلّي النفس عنه بالتأسي

ونسبهما المؤلف لليلى الأخيلية.

وهذا وهم منه ، وإنما هما للخنساء ترثي أخاها صخرا ، ومطلع القصيدة :

يؤرقني التّذكّر حين أمسي

فأصبح قد بليت بفرط نكس

على صخر ، وأيّ فتى كصخر

ليوم كريهة وطعان حلس (٣)

__________________

(١) راجع الآية ١٥ من سورة البقرة : ١ / ١١٣.

(٢) راجع سورة الزخرف : آية ٣٩ في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(٣) راجع ديوان الخنساء ص ٨٤.

٤٧

وغير ذلك من الأبيات تظهر في أمكانها ، مما يؤكد المعنى الذي قاله الشاعر :

ما حوى العلم جميعا أحد

لا ولو مارسه ألف سنه

إنما العلم كبحر زاخر

فاتخذ من كلّ شيء أحسنه

فنسأل الله العصمة في القول والعمل ، والابتعاد عن الخطيئة والزلل ، والتيسير بالظفر ونيل الأمل.

* * *

٤٨

(٥)

موقفه من الكتب التي ينقل عنها

مؤلفنا في كتابه هذا شأنه شأن العلماء المحققين ، فهو ينقل عمّن تقدمه ، فتارة يسلّم لمن نقل عنه ويسكت ، وتارة أخرى نجده يعترض عليه ويبطل قوله ، ويردّه عليه.

ونذكر بعض الأمثلة على ذلك :

ففي قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ)(١).

يقول المؤلف : وقال أبو عبيدة : إنّ النصر المطر ، من قولهم : أرض منصورة (٢). ونحن هنا نذكر عبارة أبي عبيدة حرفيا. قال :

مجازه : أن لن يرزقه الله ، وأن لن يعطيه الله.

قال : وقف علينا سائل من بني بكر على حلقة في المسجد الجامع فقال : من ينصرني نصره الله؟ أي : من يعطيني أعطاه الله.

ويقال : نصر المطر أرض كذا. أي : جادها وأحياها (٣).

يقول المؤلف :

وسياق الآية ، وقوله : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يمنع من هذا القول.

__________________

(١) سورة الحج : آية ١٥.

(٢) راجع تفسير الآية : ٢ / ٨٣.

(٣) راجع مجاز القرآن ٢ / ٤٦.

٤٩

وكذلك في قوله تعالى : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)(١).

قال أبو عبيدة : أي : صلحا (٢).

قال المؤلف : وما هو من الصلح ، كما قال أبو عبيدة ، ولكنه مصدر سلم يسلم سلامة وسلما ، فوصف به. أي : ذا سلم (٣).

ـ وكذلك عند قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)(٤).

يقول المؤلف : هي الدّبور ، لأنها لا تلقّح بل تقشع السحاب.

وهذا أصحّ مما روى ابن أبي ذئب أنها الجنوب ، ومما روى ابن جرير عن مجاهد أنها الصبا ؛ لأنّ كل واحد من الصبا والجنوب تلقّح وتدرّ ولا تعقم ، ولذلك يحبّ ويؤثر كما قال حميد بن ثور :

فلا يبعد الله الشباب وقولنا :

إذا ما صبونا صبوة سنتوب

ليالي أبصار الغواني وسمعها

إليّ وإذ ريحي لهنّ جنوب

وقال الأعشى :

وما عنده مجد تليد ولا له

من الريح فضل لا الجنوب ولا الصّبا (٥)

أي : لم ينل نائلا فيكون كالجنوب في مجيئه بالمطر ، ولم ينفّس عن أحد كربة فيكون كالصّبا في التنفيس.

ـ ويؤيد ما ذكره المؤلف ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (الرِّيحَ الْعَقِيمَ)(٦).

__________________

(١) سورة الزمر : آية ٢٩.

(٢) راجع مجاز القرآن ٢ / ١٨٩.

(٣) راجع تفسير الآية : ٢ / ٢٥٨.

(٤) سورة الذاريات : آية ٤١. انظر وضح البرهان ٢ / ٣٣١.

(٥) راجع ديوان الأعشى ص ٩.

(٦) سورة الذاريات : آية ٤١.

٥٠

قال : الشديدة التي لا تلقح شيئا (١).

وما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أيضا قال في الآية : الريح العقيم التي لا تلقح الشجر ، ولا تثير السحاب (٢).

وفي الحديث : [نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور](٣).

ـ وكذلك في قوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(٤).

يقول المؤلف :

قيل : معنى (بَلَغَتِ) : كادت تبلغ ، إذ القلب لو زال عن موضعه لمات صاحبه.

ـ وأفسد ابن الأنباري هذا التأويل ، وقال : «كاد» لا يضمر البتة ، ولو جاز إضماره لجاز : قام زيد ، بمعنى : كاد يقوم ، فيصير تأويل قام زيد : لم يقم زيد.

ويجيب المؤلف قائلا :

والتأويل صحيح غير فاسد ؛ لأنّ إضمار كاد أكثر من أن يحصى ، ولكنه بحسب الموضع المحتمل ، ودلالة الكلام.

ألا ترى أنك تقول : أوردت عليه من الإرهاب ما مات عنده. أي : كاد يموت ، ومنه قول جرير :

إنّ العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثمّ لا يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به

وهنّ أضعف خلق الله أركانا

أي : كدن يقتلننا ويصرعن.

__________________

(١) راجع الدر المنثور ٣ / ٦٢٢.

(٢) راجع الدر المنثور ٣ / ٦٢٣.

(٣) راجع النهاية لابن الأثير ٢ / ٩٨. الحديث أخرجه الشيخان وأحمد ، وانظر الفتح الكبير للسيوطي ٣ / ٢٦٢.

(٤) سورة الأحزاب : آية ١٠. انظر وضح البرهان ٢ / ١٨٠.

٥١

قلت : وقد ذكر القرطبي ذلك ، فقال في الآية :

وقيل : هو على معنى المبالغة على مذهب العرب في إضمار «كاد» قال :

إذا ما غضبنا غضبة مضريّة

هتكنا حجاب الشمس أو قطرّت دما

أي : كادت تقطر (١).

بين النيسابوري وابن بحر :

ـ نبدأ أولا بذكر لمحة عن ابن بحر وحياته ، إذ قلّ من ترجم له ، فنقول : هو محمد بن بحر الأصفهاني ، يكنى أبا مسلم.

ـ وذكر ابن حجر في لسان الميزان ٥ / ٨٩ أنه : أبو سلمة ، فلعلّه تصحيف ، إذ الكتاب فيه كثير من التصحيفات في الأسماء ، وحتى الآن لم يطبع طبعة محققة تناسب قيمته العلمية ، وتبع الداوودي ابن حجر في طبقات المفسرين ٢ / ١٠٩ ، فقال : أبو سلمة. وهو ينقل عنه حرفيا ترجمته المختصرة جدا.

ـ وذكره الرازي في تفسيره ، وأنه يلقب أبا مسلم ٣ / ٢٢٩.

وكذا التاج السبكي في الإبهاج ٢ / ٢٣٠ ، وياقوت في معجم الأدباء ١٨ / ٣٥ وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي ٤ / ١٧.

ـ ولد في سنة ٢٥٤ ه‍.

ووصفه ياقوت فقال :

محمد بن بحر الأصفهاني ، الكاتب يكنى أبا مسلم ، كان كاتبا مترسّلا بليغا متكلما جدلا.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ١٤ / ١٤٥.

٥٢

وقال بروكلمان :

كان يتمتع بمكانة عالية عند الوزير علي بن عيسى ، وزير المقتدر العباسي.

أقول : وكان علي بن عيسى قد تولى الوزارة سنة ٣١٥ ه‍ ، ولازم النظر فيها ، فمشت الأمور واستقامت الأحوال.

ـ ثم صار ابن بحر عامل أصبهان ، وعامل فارس للمقتدر ، يكتب له ويتولى أمره.

وقال ياقوت :

وكان ابن أبي البغل وليّ في سنة ٣٠٠ ه‍ ديوان الخراج والضياع بأصبهان ، وهو ببغداد فورد كتابه على أبي مسلم ابن بحر بأن يخلفه على ديوان الضياع بها ، ثم ورد ابن أبي البغل إلى أصبهان فأقرّه على خلافته.

ثمّ مات أبو عليّ محمد بن رستم سنة ٣٢١ ه‍ ، فرتّب مكانه أبو مسلم ابن بحر ، وذلك في شوال ، ثم ورد عليّ بن بويه في خمسمائة فارس فهزم المظفر بن ياقوت في خمسة آلاف فارس. ودخل ابن بويه أصبهان في منتصف ذي القعدة فعزل أبو مسلم.

فنلاحظ أنّ أبا مسلم كان يتمتع بمنزلة اجتماعية عالية ، إضافة إلى علمه الغزير ، فهو عالم محنّك ، ممارس للحياة ومناصبها ، وداخل في شؤونها ومهامّها.

مؤلفاته :

ذكر ياقوت أنّ له من المؤلفات.

١ ـ جامع التأويل لمحكم التنزيل ، على مذهب المعتزلة ، أربعة عشر مجلدا.

٥٣

قال أبو الحسين بن بابويه في تاريخ الري كما نقله عنه ابن حجر : أبو مسلم الأصفهاني ، كان على مذهب المعتزلة ، ووجها عندهم ، وصنّف لهم التفسير على مذهبهم.

وقال أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في مقدمة تفسيره المعروف ب [التبيان الجامع لعلوم القرآن] : وأصلح من سلك في ذلك مسلكا جميلا مقتصدا محمد بن بحر الأصفهاني أبو مسلم ، وعليّ بن عيسى الرّماني ، فإنّ كتابيهما أصلح ما صنّف في هذا المعنى غير أنهما أطالا الخطب.

٢ ـ كتاب جامع رسائله.

٣ ـ كتاب الناسخ والمنسوخ.

٤ ـ كتاب في النحو.

شعره :

وصل من شعره الشيء القليل ، فمن ذلك ما قاله في أبي المعمّر :

هل أنت مبلغ هذا القائد البطل

عني مقالة طبّ غير ذي خطل

إن كنت أخطأت قرطاسا عمدت له

فأنت في رمي قلبي من بني ثعل

وله أيضا :

أرى نارا تشبّ بكلّ واد

لها في كلّ منزلة شعاع

وقد رقدت بنو العباس عنها

وأضحت وهي آمنة رتاع

كما رقدت أميّة ثمّ هبّت

لتدفع حين ليس بها دفاع

وفاته :

توفي أبو مسلم سنة ٣٢٢ ه‍. ولما مات قال فيه عليّ بن حمزة بن عمارة الأصفهاني يرثيه :

٥٤

وقالوا : ألا ترثي ابن بحر محمدا؟

فقلت لهم : ردّوا فؤادي واسمعوا

فلن يستطيع القول من طار قلبه

جريحا قريحا بالمصائب يقرع

ومن بان عنه إلفه وخليله

فليس له إلا إلى البعث مرجع

ومن كان أوفى الأوفياء لمخلص

ومن حيز في سرباله الفضل أجمع

سحابا كماء المزن شيب به الجنى

جنى الشهد في صفو المدام يشعشع

وغرب ذكاء واقد مثل جمرة

وطبع به العضب المهند يطبع

ومن كان من بيت الكتابة في الذرى

وذا منطق في الحفل لا يتتعتع

والمصنف ينقل عن ابن بحر مرارا ، وتارة يصرّح بالنقل عنه ـ وهو الأكثر في معرض الردّ عليه ـ ، وأخرى ينقل عنه من غير ذكر له.

وقد انفرد أبو مسلم بآراء مستقلة في التفسير ، وأشهرها إنكاره النسخ في القرآن.

والذي حمله على هذا الهروب من البداء ، واعتقاده أنّ النسخ يؤدي إليه.

وقال ابن الجوزي :

أنكرت اليهود جواز النسخ ، وقالوا : هو البداء.

والفرق بينهما أنّ النسخ رفع عبادة قد علم الأمر بها من القرآن ، للتكليف بها غاية ينتهي إليها ، ثم يرتفع الإيجاب.

والبداء هو الانتقال عن المأمور به بأمر حادث لا بعلم سابق (١) ، وقد قام عدد من العلماء بالرد على ابن بحر قوله ذلك. فمنهم مؤلفنا ، ومنهم الإمام الرازي ، ومنهم التاج السبكي وغيرهم ، وقد قام الرازي بذكر أقواله والرد عليها فقال :

__________________

(١) راجع : المصفّى بأكفّ أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي ص ١١ ـ ١٢.

٥٥

«المسألة السادسة» اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن ، وقال أبو مسلم ابن بحر : إنه لم يقع.

واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه :

ـ أحدها : هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وأجاب أبو مسلم عنه بوجوه :

* الوجه الأول : أنّ المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب ، ممّا وضعه الله عنّا وتعبّدنا بغيره ، فإنّ اليهود والنصارى كانوا يقولون : «لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم» فأبطل الله ذلك بهذه الآية.

* الوجه الثاني : المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب ، وهو كما يقال : نسخت الكتاب.

* الوجه الثالث : أنّا بيّنا أنّ هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ ، بل على أنّه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه.

ـ الحجة الثانية : للقائلين بوقوع النسخ في القرآن : أنّ الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا ، وذلك في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ثمّ نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

قال أبو مسلم :

الاعتداد بالحول ما زال بالكلية ، لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا.

٥٦

والجواب :

أنّ مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقلّ أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلا بالكلية.

ـ الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ثم نسخ ذلك.

قال أبو مسلم :

إنما زال ذلك لزوال سببه ، لأنّ سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلمّا حصل هذا الغرض سقط التعبد.

والجواب :

لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا ، وهو باطل لأنه روي أنّه لم يتصدق غير عليّ رضي الله عنه ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ).

ـ الحجة الرابعة :

أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).

ـ الحجة الخامسة :

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ : ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) ، ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

٥٧

قال أبو مسلم :

حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم بها إذا كان هناك عذر.

الجواب :

أنّ على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات ، فالخصوصية التي امتاز بها بيت المقدس على سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخا.

ـ الحجة السادسة :

قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ـ قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إمّا التلاوة وإمّا الحكم ، فكيف كان فهو رفع ونسخ.

واحتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه بأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.

والجواب :

أنّ المراد أنّ هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله (١).

والمؤلف يعرض آراء ابن بحر في الآية المنسوخة ويرد عليه.

فعند قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].

يقول :

وقول ابن بحر في امتناع نسخ شيء من القرآن ظاهر الخلاف ، وتأويله بيّن التعسف.

__________________

(١) راجع تفسير الرازي ٣ / ٢٢٧ ـ ٢٣٠.

٥٨

ـ وابن بحر يحمل الآية على الشرائع المنسوخة كما مرّ قريبا ، فيردّ المصنف عليه قائلا :

* وعلى أنّ الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن ، وعلى أنّه إذا لم يمتنع نسخ ما تقدّم من الكتب بالقرآن لا يمتنع نسخ بعضه ببعض.

* وعلى أنّ نسخ القبلة الأولى ، وثبات الواحد لعشرة ، والتخيير في الصوم ، وتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول ، ومهادنة المشركين ، وإتيان الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، وعدّة المتوفى عنها زوجها إلى الحول ، كلّها في القرآن.

فنجد أنّ المؤلف احتجّ باللغة والقياس والنص.

أمّا باللغة فإنّ المعنى المتبادر إلى الذهن هو أمارة الحقيقة ، وحمل النص على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، ولا يصح صرفه إلى المجاز إلا إذا تعذّر المعنى الحقيقي كما هو مقرّر في كتب الأصول واللغة.

فلذا قال المؤلف : إن الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن.

وأمّا بالقياس حيث قاس نسخ الجديد ـ وهو بعض الآيات ـ على نسخ القديم ـ وهو الشرائع السابقة ـ فإذا جاز هذا جاز الآخر.

وأما النص ، فقد عرض للآيات المنسوخة في القرآن ، وإن كان الخصم لا يسلّم بها.

ـ وعند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). [البقرة : ٢٤٠].

يحمل ابن بحر على تأويل يبطل به النسخ.

٥٩

وقد أشبعنا القول عند هذه الآية فراجعه فيها.

ـ وأيضا عند قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). [النساء : ١٥].

فابن بحر يحملها على خلوة المرأة في فاحشة السحاق ، ويرى السبيل هو التزويج والاستعفاف بالحلال ، وهو يخالف الأحاديث والآثار الواردة في الآية بأنّ السبيل هو جلد مائة ورجم بالحجارة للثيّب ، والجلد مائة ونفي عام للبكر والأخبار في ذلك صحيحة.

وهذا جريا على مذهب المعتزلة من تقديم العقل على الخبر ، حتى إنهم ليحكمون على كثير من الأخبار ببطلانها لمخالفة العقل وإن كانت صحيحة ، كإنكارهم حديث الذبابة وغير ذلك.

* * *

٦٠