وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]

وضح البرهان في مشكلات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي [ بيان الحق النيسابوري ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨
الجزء ١ الجزء ٢

أسكنه العدم وذهب بحركته. وفي الحقيقة هما متقاربان ، وتكررهما لتوكيد الوصية بانعدام العامل (١).

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها).

أي : السعاة على الصدقات.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ).

مثل أبي سفيان وابنه معاوية ، والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والحكيم بن حزام وأشباههم (٢).

(وَفِي الرِّقابِ).

يعني المكاتبين ، يعانون على بدل الكتابة. وقيل : هم عبيد يشترون بهذا السهم فيعتقون.

(وَالْغارِمِينَ).

الذين لا يفي مالهم بدينهم (٣).

(هُوَ أُذُنٌ). (٦١)

أي : صاحب أذن يصغي إلى كل أحد. وقيل : أذن ، أي : لا يقبل إلا الوحي.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ). (٦١)

أي : يستمع الخير ويعمل به.

__________________

(١) في المصرية : العاقل.

(٢) أخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن الشعبي قال : ليست اليوم مؤلفة قلوبهم ، إنما كان رجال يتألفهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا أن كان أبو بكر رضي الله عنه قطع الرشا في الإسلام.

(٣) وقال مجاهد : هم من احترق بيته ، وذهب السيل بماله ، وادّان على عياله.

٤٠١

(وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

يصدقهم كقوله تعالى : (رَدِفَ لَكُمْ)(١).

وقيل : إنه لام الفرق بين إيمان التصديق وإيمان العيان (٢).

(وَرَحْمَةٌ).

عطف على (أُذُنٌ) ، أي : قل هو مستمع خير وهو رحمة ما كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٣).

وقيل : إنّ معناه : ذو رحمة.

(يُحادِدِ اللهَ). (٦٣)

يكون في حدّ غير حدّه.

(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا). (٦٩)

إشارة إلى ما خاضوا فيه. وقيل : أراد كالذين خاضوا ، فحذف النون تخفيفا لطول الاسم بالصلة. كما قال الأشهب بن رميلة :

٤٧٤ ـ وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

٤٧٥ ـ هم ساعد الدهر الذي يتّقى به

وما خير كفّ لم يؤيّد بساعد (٤)

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ). (٧٢)

__________________

(١) سورة النمل : آية ٧٢.

(٢) في المصرية : الإيمان.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ١٠٧.

(٤) البيتان للأشهب بن رميلة وهو شاعر إسلامي مخضرم ، ولم يجتمع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبيتان في خزانة الأدب ٦ / ٢٩ ؛ ومعجم الشعراء ص ٣٣ ؛ والمنصف ١ / ٦٧. والأول منهما في معاني القرآن للأخفش ١ / ٨٥ ؛ ومجاز القرآن ٢ / ١٩٠ ؛ ومغني اللبيب ١٩٤.

٤٠٢

سرور المؤمن بما يتحققه من رضوان الله أكبر من جميع النعم (١).

ـ وروى معاذ عن النبيّ عليه الصلاة والسّلام :

[أنّ جنة عدن من السماء العليا لا يدخلها إلا نبيّ أو صدّيق ، أو شهيد ، أو إمام عادل ، أو محكم من نفسه](٢).

وجنة المأوى في السماء الدنيا يأوي إليها أرواح المؤمنين (٣).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا). (٧٤)

في الجلاس بن سويد بن الصامت قال : إن كان قول محمد حقا لنحن شر من الحمير. فرفع ذلك للنبي عليه الصلاة والسّلام ، فحلف أنّه لم يقل (٤).

__________________

(١) أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنّة. فيقولون : لبيك يا ربّنا وسعديك ، والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربّنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا». انظر المسند ٣ / ٨٨ ، وفتح الباري ، كتاب التوحيد ١٣ / ٤٨٧ ، ومسلم رقم ٢٨٢٩.

(٢) أخرج ابن المبارك في الرقائق بسنده عن مجاهد قال : في الجنة دار لا يسكنها إلا خمسة : نبيّ أو صدّيق ، أو شهيد ، أو إمام عدل أو مخيّر بين القتل والكفر فيختار القتل. الرقائق ص ٥٥١. ولم أجده مرفوعا.

(٣) ذكر هذا القول القرطبي فقال : وإنما قيل لها جنة المأوى ؛ لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين ، وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ، ويتنسمون بطيب ريحها. ا ه. ولم ينسبه لقائل معين. راجع تفسير القرطبي ١٧ / ٩٦.

(٤) أخرج ابن إسحق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال : لمّا نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلّاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شرّ من الحمير ، فسمعه عمير بن سعد ، فقال : والله يا جلّاس إنك لأحبّ الناس ـ

٤٠٣

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ). (٧٤)

وذلك أنّ مولى للجلاس قتل ، فأمر له النبيّ عليه الصلاة والسّلام بديته فاستغنى بها (١).

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ). (٧٧)

أي : بخلهم بحقوق الله إلى يوم يلقون بخلهم.

وقيل : أعقبهم الله ذلك بالخذلان وحرمان التوبة.

وقيل : معناه : جازاهم ببخلهم وكفرهم ، كما قال النابغة :

٤٧٦ ـ فمن أطاع فأعقبه بطاعته

كما أطاعك ودلّله على الرّشد (٢)

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ). (٧٩)

__________________

ـ إليّ ، وأحسنهم عندي أثرا ، وأعزّهم عليّ أن يدخل عليه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنّك ، ولئن سكتّ عنها لتهلكنّي ، ولأحدهما أشدّ عليّ من الأخرى ، فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ما قال ، فأتى الجلاس فجعل يحلف بالله ما قال ، ولقد كذب عليّ عمير ، فأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ..). الآية.

(١) أخرج ابن ماجه ٢ / ٨٧٩ والبيهقي وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قتل رجل على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل ديته اثني عشر ألفا ، وذلك قوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، قال : بأخذهم الدية. ـ وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال : كان جلاس يحمل حمالة ، أو كان عليه دين فأدّى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك قوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

(٢) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر ، وفي الديوان :

فمن أطاعك فانفعه بطاعته

كما أطاعك وادلله على الرّشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

راجع ديوانه ص ٣٣ ؛ وتهذيب الألفاظ لابن السكيت ص ٧٨.

٤٠٤

تزايد المسلمون بالنفقات في غزوة تبوك على أقدارهم ، فجاء علية بن زيد المحاربي بصاع من تمر ، وقال : إني أجّرت نفسي بصاعين : ذهبت بأحدهما لعيالي ، وجئت بالآخر صدقة ، فسخر منه المنافقون (١).

(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً). (٨٠)

جاء على المبالغة دون التقدير ؛ لأن السبعة أكمل الأعداد ؛ لأنها جمعت معاني العدد كله لأنّ العدد كلّه أزواج وأفراد ، والأزواج منها أول وثان ، والثلاثة أول الأفراد والخمسة فرد تال ، فإذا جمع فرد أول إلى زوج ثان زوج يردّ إلى فرد ثان كانت سبعة.

يبين ذلك أنّ الستة لأول عدد تام ، لأنه إذا جمعت أجزاؤه كانت مساوية لها ، لأن لها نصفا وهو ثلاثة ، وثلثين وهو اثنان ، وسدسا وهو واحد ، فإذا جمعت هذه الأجزاء كانت ستة سواء ، ثم أخذ الواحد الذي هو أصل العدد مع الستة التي هي عدد تام كانت منهما السبعة فكانت كاملة لأنّه ليس بعد النّماء إلا الكمال.

ولعلّ واضع اللغة سمّى الأسد بالسبع لكمال قوته ، كما سمّاه أسدا لإساده في السير ، فإذا ثبت هذا «فسبعين مرة» في الآية يكون غاية الغاية وكمال النهاية ؛ لأن الآحاد غايتها العشرات ، فكان المعنى : إن الله لا يغفر لهم ـ وإن استغفرت ـ أبدا.

__________________

(١) هذا الحديث جاء برواية متعددة ، وأخرجه كثير من أئمة الحديث منهم الشيخان والبزار وغيرهم. انظر فتح الباري ٨ / ٣٣٠ ، ومسلم ١٠١٨ ، وسنن النسائي ٥ / ٥٩. ـ وفي رواية البخاري أنّ الذي جاء بالصاع هو أبو عقيل ، واسمه الحبحاب. وقيل : صاحب الصاع سهل بن رافع. وعن عبد بن حميد هو رفاعة بن سهل. وقيل : هو علية بن زيد المحاربي ، وبه جزم الواقدي ، راجع فتح الباري ٨ / ٣٣١ ، وفي المخطوطة [الحارثي] بدل [المحاربي] وهو تصحيف.

٤٠٥

وهذا هو الجواب عن قوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(١) و (ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)(٢).

فإنّ واو الثمانية واو الاستئناف ؛ لأنّ الشيء إذا انتهى إلى كماله وجب استئناف حاله.

(خِلافَ رَسُولِ اللهِ). (٨١)

أي : على مخالفته ، وقيل : بعده وخلفه كما قال الهذلي :

٤٧٧ ـ قال : تبك في رسم الدّيار فإنّها

ديار بني عوف وهل عنهم صبر

٤٧٨ ـ فما كنت أخشى أن أعيش خلافهم

بستة أبيات كما نبت العتر (٣)

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ). (٨٤)

في عبد الله بن أبيّ بن سلول (٤).

(الْخَوالِفِ). (٨٧)

النساء والصبيان لتخلفهم عن الجهاد.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ). (٩٠)

__________________

(١) سورة الزمر : آية ٧٣.

(٢) سورة الكهف : آية ٢٢.

(٣) البيتان للبريق الهذلي ، والثاني منهم في لسان العرب مادة : عتر ٤ / ٥٣٨. وفي الديوان [ديار بني زيد]. والعتر : شجر له ورق صفار ، يقول : هذه الأبيات متفرقة مع قلّتها كتفرق العتر في منبته ، وهما في ديوان الهذليين. راجع ديوان الهذليين ٣ / ٥٨.

(٤) أخرج ابخاري ومسلم عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبيّ بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه ، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله ، فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال : إنّ ربي خيّرني وقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وسأزيد على السبعين ، فقال : إنه منافق. فصلى عليه ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) فترك الصلاة عليهم. انظر فتح الباري ٣ / ١١٠ ، ومسلم رقم ٢٤٠٠.

٤٠٦

أي : المقصرون الذين يظهرون عذرهم ، ولا عذر لهم.

يقال : أعذر في الأمر : بالغ ، وعذّر : قصّر.

٤٧٩ ـ وإن شلّ ريعان الجميع مخافة

نقول جهارا : ويلكم لا تنفّروا

٤٨٠ ـ على رسلكم إنا سنعدي وراءكم

ونعذر إن يكن سوانا يعذّر (١)

 ـ الجزء الحادي عشر ـ

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً). (٩٧)

أي : أهل البدو. لما فيهم من جفاء الطبع وقسوة القلب (٢).

(الدَّوائِرَ). (٩٨)

دول الأيام ونوب الأقسام.

(قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ). (٩٩)

أي : يتخذ نفقته ودعاء الرسول قربة إلى الله.

(وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ). (١٠٠)

من تبعهم من الصحابة ، وقيل : من التابعين.

(مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ). (١٠١)

__________________

(١) البيتان لزهير بن أبي سلمى ، وهما في ديوانه ص ٣٢ ، والثاني في اللسان ٤ / ٥٤٩ ، وفيه عجزه : [فتمنعكم أرماحنا أو سنعذر]. وفي المخطوط [شك] بدل [شلّ] و [رعيان] بدل [ريعان] ، وهما تصحيف ، وهما في ديوان المعاني ٢ / ٨٨٥.

(٢) أخرج أحمد ٢ / ٢٧١ والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن ، وما ازداد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا».

٤٠٧

مرنوا عليه ، وتجردوا عن غيره.

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ).

في الدنيا بالجوع والخوف ، وفي القبر بالعذاب.

وقيل : أحد العذابين أخذ مالهم في جهات الحرب ، والثاني : أمرهم بالجهاد (١).

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا). (١٠٢)

في نفر تخلّفوا عن تبوك.

(عَسَى اللهُ).

خرج مخرج الإطماع والإشفاق ؛ ليأملوا ولا يتكلوا.

(إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). (١٠٣)

تثبيت يسكنون إليها ، ويعلمون أنّ توبتهم قبلت (٢).

(مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ). (١٠٦)

مؤخرون محبوسون لما ينزل من أمر الله ، وهم الثلاثة الذين خلّفوا : هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً).(٣) (١٠٧)

__________________

(١) وقيل : يبتلون في الدنيا ، وعذاب القبر. وقال مجاهد : عذاب في القبر وعذاب في النار. وعنه أيضا : بالجوع والقتل.

(٢) أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أتي بصدقة قال : اللهم صل على آل فلان ، فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى. انظر فتح الباري ٣ / ٣٦١ ، ومسلم ١٧٠٨ ، وأبا داود ١٥٩٠.

(٣) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد قباء ، خرج رجال من الأنصار منهم يخدج جد عبد الله بن حنيف ، ووديعة بن حزام ، ومجمع بن حارثة ، فبنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله ليخدج : ويلك يا يخدج ما أردت إلى ما أرى؟ قال يا رسول الله ، والله ما أردت إلا الحسنى ـ وهو كاذب ـ فصدقه رسول الله ، وأراد أن يعذره ، (فأنزل الله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) الآية.

٤٠٨

ابتداء وخبره.

كانوا نفرا من منافقي الأنصار بنوا المسجد ليتفردوا بنجواهم الملعونة.

ـ وقيل : إنّ أبا عامر الراهب راسلهم من الشام أن يأتيهم ، فبنوا مسجدهم إرصادا له.

(وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ). (١٠٧)

بأن يصلي فيه قوم ، وقوم في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاصم بن عدي (١) فهدمه وأحرقه.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). (١٠٨)

يعني : مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) عاصم بن عدي ، كان سيد بني عجلان من أهل بدر حكما ، حيث خلفه رسول الله على أهل قباء والعالية لشيء بلغه عنهم ، وضرب له بسهمه وأجره ، مات سنة ٤٥ ه‍. وقد جاوز المائة. راجع الإصابة ٢ / ٢٤٦.

ـ أخرج ابن إسحق وابن مردويه عن أبي رهم الغفاري قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بذي أوان ، بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان بني مسجد الضرار فأتوه وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال : إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، ولمّا نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجلان ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك ، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان ، وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ، وفيهم نزل من القرآن ما نزل.

٤٠٩

وقيل : قباء ، فإنه أول مسجد بني في الإسلام.

(شَفا جُرُفٍ). (١٠٩)

شفير الوادي الذي جرف الماء فبقي واهيا لا يثبت عليه البناء ، و : (هارٍ).

مقلوب هائر ، أي : ساقط.

وذهب ابن جني (١) أنّ تيهورة ـ وهي قطعة من الرمل ـ مقلوبة هيرورة.

من : هار الجرف وانهار.

وعن الشيباني (٢) : ناقة هاير وهائر : إذا سارت أسرعت كالجرف الهائر ، وأنشد الحامض (٣) :

٤٨١ ـ وتحتي من بنات العيد هار

أضرّ بطرقه سير هجاج

٤٨٢ ـ حروج المنكبين من المطايا

إذا ما قيل للشجعان عاج (٤)

__________________

(١) هو أبو الفتح عثمان بن جني ، صاحب أبي عليّ الفارسي ، قرأ عليه الكتاب وغيره ، له مصنفات قيمة منها «سر صناعة الإعراب» مطبوع و «الخصائص» مطبوع و «المحتسب» مطبوع وغيرها. توفي سنة ٣٩٢ ه‍.

(٢) هو إسحق بن مرار أبو عمر الشيباني ، كان يؤدب في أحياء بني شيبان فنسب إليهم بالولاء كان راوية واسع العلم باللغة ثقة في الحديث كثير السماع. وكان أحمد بن حنبل يلزم مجلسه ، مات سنة ٢٠٦ ه‍. وقد جاوز المائة. له كتاب «النوادر» مطبوع. راجع الفهرست ص ١٠١.

(٣) هو أبو موسى سليمان بن محمد الحامض ، من أصحاب ثعلب ويختصّ به ، وقد أخذ عن البصريين له كتاب «خلق الإنسان» و «كتاب النبات». راجع الفهرست ١١٧.

(٤) البيتان لمزاحم العقيلي. والأول منهما في اللسان لكن فيه :

وتحتي من بنات العيد نضو

أضرّ بنيّه سير هجاج

وسير هجاج ، أي : شديد. راجع اللسان مادة : هجّ ؛ وتهذيب اللغة ٥ / ٢٤٥.

٤١٠

ـ وفي معنى الآية قول الشماخ :

٤٨٣ ـ ولمّا رأيت الأمر عرش هوّية

تسلّيت حاجات النفوس بشمّرا (١)

ومثله :

٤٨٤ ـ ساقي عريجاء على أهوال

إذا تتنزّى فوق عرش بال (٢)

(رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ). (١١٠)

خيانة بما أضمروه من تفريق كلمة رسول الله.

وقيل : شكا بسبب ما راسلهم فيه أبو عامر. وفيه قول النابغة :

٤٨٥ ـ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

٤٨٦ ـ لئن كنت قد بلّغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب (٣)

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى). (١١١)

هذا مجاز ؛ لأنه يشتري ما لا يملكه ، ولكنّ المعنى تحقيق العوض في النفوس (٤).

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٣٢ ؛ وأمالي القالي ١ / ٢٦٤ ؛ واللسان مادة : عرش ؛ ومقاييس اللغة ٢ / ٢٦٦. وقوله : [لما رأيت الأمر عرش هوية] مثل. أي : لما رأيت الأمر شديدا ركبت شمرا ، وشمّر : اسم ناقته. وفي المخطوطة : [تشمّرا] ، وهو تصحيف.

(٢) لم أجده.

(٣) البيتان في ديوان النابغة ص ٧٦ ؛ ولباب الآداب ٣٧٩ ؛ وديوان المعاني ١ / ٢١٧ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٤٦٧. والأول في طبقات فحول الشعراء ١ / ٦٠.

(٤) أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المسجد (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) فكبّر الناس في المسجد ، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله : أنزلت هذه الآية؟ قال : نعم ، فقال الأنصاري : بيع ربيح ، لا نقيل ولا نستقيل.

٤١١

(وَعْداً عَلَيْهِ).

نصب وعدا لأن قوله : (اشْتَرى) يدل على أنه وعد وعدا ، بل الوعد هو حقيقة المراد.

(حَقًّا).

أي : واجبا ؛ لأنه صار كالجزاء ، وإلا فقد يكون في الوعد ما ليس بواجب.

وهو ـ إن كان أوجبه تعالى على نفسه ـ تفضّل منه علينا.

(السَّائِحُونَ). (١١٢)

الصائمون ، وقال عليه‌السلام : «سياحة أمتي الصوم» (١).

وقيل : المهاجرون ، وعن عكرمة : أنهم الذين يسافرون في طلب العلم.

(إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ). (١١٤)

كان أبوه وعده أن يؤمن ، وكان استغفاره على هذا الوجه أن يرزقه الإيمان ويغفر له الشرك.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ).

بموته على شركه (٢).

(تَبَرَّأَ مِنْهُ).

أي : من أفعاله. وقيل : من استغفاره له على هذا الوجه.

__________________

(١) أخرج ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السائحين فقال : هم الصائمون. انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٧.

(٢) قال ابن عباس : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه.

٤١٢

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ). (١١٧)

أما على النبيّ فلإذنه للمنافقين في التخلّف عنه.

وقيل : هو مفتاح كلام. لمّا كان النبيّ سبب توبتهم ذكر معهم كقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ).

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ).

أي : وقت العسرة ، إذ كانوا من غزوة تبوك في جهد جهيد من العطش وعوز الظهر.

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ). (١١٨)

أي : الذين خلّفوا من النبوة والجفوة حتى أمر نساءهم باعتزالهم ، ونهى الناس عن مكالمتهم.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).

ليدوموا على التوبة ، وقيل : ليتوب الناس.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(١). (١٢٢)

لمّا نزلت : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) ، (٢) قال المنافقون : هكذا الذين لم ينفروا معه.

__________________

(١) قال ابن زيد في قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) ، قال : هذا حين كان الإسلام قليلا ، فلما كثر الإسلام وفشا قال الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). وقال ابن عباس : نسخ هؤلاء الآيات (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) و (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً).

(٢) سورة التوبة : آية ٣٩.

٤١٣

وكان ناس من الصحابة خرجوا إلى قومهم يفقّهونهم ويعلّمونهم الشرائع فنزلت هذه. (١)

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ). (١٢٨)

شديد عليه ما شقّ عليكم ، وقيل : ما هلكتم عليه ، وقيل : ما أثمتم به (٢).

تمت سورة التوبة ،

ويليها سورة يونس

* * *

__________________

(١) أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان المؤمنون يحرضهم على الجهاد ، إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية خرجوا فيها وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة في رقة من الناس ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، أمروا إذا بعث النبي سرية أن تخرج طائفة وتقيم طائفة ، فيحفظ المقيمون على الذين خرجوا ما أنزل الله من القرآن وما يسن من السنن ، فإذا رجع إخوانهم أخبروهم بذلك وعلموهم ، وإذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتخلف عنه أحد إلا بإذن أو عذر.

(٢) أخرج ابن سعد عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله : إن الله يحب الرحيم ، يضع رحمته على كل رحيم ، قالوا : يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا ، قال : ليس كذلك ، ولكن كونوا كما قال الله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

٤١٤

(سورة يونس) (١)

عليه‌السلام

(قَدَمَ صِدْقٍ). (٢)

ثواب واف قدّموا من الأعمال. وقيل : سابقة مما أخلصوا من الطاعة.

وقيل : سابقة بما كتبت لهم من السعادة.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). (٣)

لتشاهد الملائكة الخلق شيئا بعد شيء فيعتبرونه ويدركونه.

وقيل : لأنّ تصريف الخلق حالا بعد حال أحكم وأبعد من شبه الاتفاق.

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا). (٤)

نصب على معنى المصدر. أي : وعد وعدا ، وحقّقه حقا.

أو نصبه على ما في «مرجعكم» من معنى الفعل كقول الهذلي :

٤٨٧ ـ ما إن يمسّ الأرض إلا منكب

منه وحرف الساق طيّ المحمل (٢)

__________________

(١) عن ابن عباس قال : نزلت سورة يونس بمكة.

(٢) البيت لأبي كبير الهذلي وهو شاعر جاهلي ، والبيت في ديوان الهذليين ٢ / ٩٣ ؛ وكتاب سيبويه ١ / ١٨٠ ؛ وشرح الأبيات لابن السيرافي ١ / ٣٢٤ ؛ والمقتضب ٣ / ٢٠٤.

٤١٥

فنصب طيّ المحمل على فعل ليس من لفظه ؛ لأنّ معناه : طوى طي المحمل.

وكذا قول كعب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤٨٨ ـ وقال كلّ خليل كنت آمله :

لا ألهينّك إنّي عنك مشغول

٤٨٩ ـ تسعى الوشاة جنابيها وقيلهم

إنّك يا ابن أبي سلمى لمقتول (١)

أي : يقولون قيلا ثم أضاف القيل إليهم.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ). (٤)

أي : بنصيبهم وقسطهم من الثواب ، ولم يرد القسط الذي هو العدل ، لأنّ العدل محمول عليه الكافر والمؤمن.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ). (٥)

خصّ به القمر ؛ لأنّ حساب العامة هلالي ، وعلمهم بالسنين من الأهلّة ، ولأنّ المنازل تنسب إلى القمر.

والضياء أغلب من النور فجعله للشمس ، لا يقال : أضاء الليل كما يقال : أنار.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ). (١٠)

إذا اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم ، فيأتيهم (٢). وإذا قضوا منه شهوتهم قالوا :

__________________

(١) البيتان لكعب بن زهير. وفي المخطوطة سقطت كلمة «وقال». راجع شرح قصيدة بانت سعاد ص ٢٥٧ ـ ٢٦١. والثاني في مجاز القرآن ١ / ٢٧٣.

(٢) أخرج ابن مردويه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قالوا : سبحانك اللهم ، أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم.

٤١٦

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

فذهب عنهم.

(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ).

ملكهم فيها سلام من الزوال.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ). (١١)

أي : لو استجيب إذا دعوا على أنفسهم أو أولادهم وأحبتهم.

(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ).

أي : لأهلكوا.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ). (١٦)

أي : ولا أعلمكم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ). (١٩)

في أن لا يعاجل عقوبة العصاة. وقيل : إنها الأجل المقضي في المدد والأعمار.

(إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا). (٢١)

أي : كفر وتكذيب. وقيل : أي كلّما أنعمنا عليهم بغوا الذنب وأهله العوائد.

(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ). (٢٢)

تحوّل عن ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب لظهور المعنى.

وهو كثير في كلامهم قال عبيد الله بن قيس :

٤٩٠ ـ فتاتان أمّا منهما فشبيهة

هلالا وأخرى منهما تشبه الشمسا

٤١٧

٤٩١ ـ فتاتان بالنّجم السعيد ولدتما

ولم تلقيا يوما هوانا ولا نحسا (١)

وقال الهذلي :

٤٩٢ ـ ألا ارتثّت مودتك ارتثاثا

وأصبح حبل وصلكم رثاثا

٤٩٣ ـ وكنت إذا ذكرت الدهر سلمى

خلافا لعهدك وانتكاثا (٢)

وذكر ابن المعتز (٣) في محاسن الكلام الالتفات ، وقال : هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعلى العكس وأنشد لجرير :

٤٩٤ ـ طرب الحمام بذي الأراك فشاقني

لا زلت في غلل وأيك ناضر (٤)

وإنما يحسن الالتفات في الكلام لأنه خروج عن معنى أسفر إلى غيره ، وتصرف من المقول على وجوهه كما قال جرير أيضا :

٤٩٥ ـ متى كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث أيتها الخيام

٤٩٦ ـ أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة سقي البشام (٥)

__________________

(١) البيتان في ديوانه ص ٣٤ ؛ والثاني شطره الأول فيه : «فتاتان في سعد السعود ولدتما] ؛ وتذكرة النحاة ص ٤٥٠ ؛ والأول منهما في الأغاني ٨ / ٦. والفتاتان هما سلامة وريّا أختان قينتان بالمدينة ، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهن غناء. ويروى البيت الأول [تشبه البدرا] وهو وحده بهذه الرواية في شفاء العليل ٢ / ٦٢٤ ؛ والعيني ٣ / ٥٤٢. ويروى الثاني : [ولم تلقيا يوما هوانا ولا نزرا] فعلى هذه القافية هما غير موجودين في الديوان.

(٢) لم أجدهما في ديوان الهذليين.

(٣) اسمه عبد الله بن محمد بويع بالخلافة ثم قام عليه أصحاب المقتدر. كان أديبا شاعرا مطبوعا أخذ عن المبرد وثعلب. له كتاب البديع ، وأشعار الملوك ، ومات سنة ٢٩٦ ه‍.

(٤) البيت في ديوان جرير ص ٢٣٦ ؛ والغلل : الماء الذي يجري بين الشجر ، والبديع لابن منقذ ص ٢٨٧.

(٥) البيتان في ديوانه ٤١٧ وهما في المخطوطة غير واضحين تماما ؛ والأغاني ٢ / ٦٤ ؛ والعقد الفريد ٧ / ٧٤. والثاني في «الجمان في تشبيهات القرآن» ص ٢١٨ ولم يعرفه المحقق.

٤١٨

فانصرف عن الخبر إلى معنى آخر وهو الدعاء ، فجاء به أرقّ من الماء وألطف من الهواء.

وأمّا ضمير جمع الفلك في الآية وتوحيده في قوله : (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١) فالفلك ممّا يجوز جمعه على الفلك أيضا ، فيكون في الجمع بمنزلة الحمر والصفر ، وفي الواحد بمنزلة القفل والحرج (٢) ، وعلّة جمع الفلك على الفلك واللفظ واحد أنّ فعلا يعاقب فعلا على المعنى الواحد نحو : الشغل والشغل ، والبخل والبخل ، وفعل مما يكسّر على فعل كأسد وأسد ووثن ووثن. فكذلك يجمع فعل على فعل.

وهذا باب غريب فيه من جميع ، نحو : الهجان على الهجان (٣) ، والغذامر (٤) على الغذامر ، وعللها حسنة. ولكن الكتاب يرتفع عنها.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ). (٢٤)

فإنّ ماء السماء بينا يجري على وجه الأرض إذ يغور ، ولأنّه ينزل قطرة قطرة ثم يذهب جملة ولأنّ صوب المهاد (٥) يجمّ في الوهاد (٦) دون النجاد (٧) ، مثل الدنيا هي تجتمع عند الأوغاد دون الأمجاد ، ولأن ماء السماء إذا اتصل سال ، فكذلك النعيم إذا انتظم زال ، ولأن الماء يصفو أوله ويكدر غبّره (٨) وآخره. والحياة الدنيا كذلك.

__________________

(١) سورة يس : آية ٤١.

(٢) الحرج : الناقة الطويلة.

(٣) يقال : جمل وناقة هجان ، وإبل هجان : بيض كرام. راجع أساس البلاغة.

(٤) الغذامر : الكثير من الماء. وفي المخطوطة الغذافر وهو تصحيف.

(٥) المهاد : جمع مهد ، وهو النشز من الأرض. أي : المرتفع.

(٦) يقال : عمّ النجاد والوهاد ، وكل نجد ووهد. والوهد : المطمئن من الأرض ، والمكان المنخفض.

(٧) في المخطوطة : البحار. وهو تصحيف. والنجد : ما غلظ من الأرض وأشرف وارتفع.

(٨) غبّر اللبن : بقاياه.

٤١٩

٤٩٧ ـ وجع المفاصل وهو أي

سر ما لقيت من الأذى

٤٩٨ ـ جعل الذي استحسنته

والناس من حظي كذا

٤٩٩ ـ والعمر مثل الكأس ير

سب في أواخرها القذى (١)

(وَلا يَرْهَقُ). (٢٦)

ولا تغشى ولا تلبس (٢).

(قَتَرٌ).

غبرة وسواد. فيحتمل أن يكون من دخان النار. ومنه : قتار النجم.

(قِطَعاً). (٢٧)

لغة في قطع ، أي : قطعة مثل كسرة وكسر.

(مُظْلِماً).

فالمظلم حال من الليل ، أي : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال إظلامه.

(تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ). (٣٠)

أي : فيكشف له ما أسلفت فتختبر جزاءها (٣). كقوله : (يَوْمَ تُبْلَى

__________________

(١) الأبيات في المخطوطة متداخلة ، وهي لإبراهيم بن هلال الصابي أبو إسحق الحراني ، أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل ، كان على مذهب الصابئة ، عرض عليه بختيار بن معزّ الدولة الوزارة إن أسلم فامتنع ، مات ٣٨٤ ه‍. وهي في معجم الأدباء ٢ / ٩٣ ؛ والثالث في الغيث المسجم ٢ / ٣٨٦ وكلها في مطمح الأنفس ص ٣٥٢.

(٢) أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة». قال : بعد نظرهم إلى الله عزوجل.

(٣) أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونهم حتى يوردوهم النار ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ).

٤٢٠