فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١٢) (١١٠٨) أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتروك. وظاهرها : أنّه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلّا بعد ما يبيّن لهم. وعن الكافي وتفسير العياشي وكتاب التوحيد : (١٣) «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه». وفيه ما تقدّم في الآية السابقة ، مع أنّ دلالتها أضعف من حيث إنّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب ، اللهمّ إلّا بالفحوى.

______________________________________________________

نفي فعليّة التعذيب ـ كما هو مقتضى الآية ـ لا ينفيها.

١١٠٨. هذه الآية في سورة التوبة. وتقريب الاستدلال : أنّ المراد بقوله : (لِيُضِلَ) إمّا هو الحكم بالضلالة ، أو التعذيب في الدنيا والآخرة ، والوجهان يظهران من بعض المفسّرين ، أو الخذلان في مقابل الهداية والتوفيق ، كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله. وهذه الامور كلّها مرتّبة على معصيته سبحانه ، فإذا نفتها الآية قبل بيان ما يجب اجتنابه من الأفعال والتروك ثبت عدم تحقّق المعصية والمخالفة قبل وصول البيان من الشارع ، وإن كان الفعل المأتيّ به محتملا للحرمة في الواقع والمتروك للوجوب كذلك.

والمصنّف رحمه‌الله قد حمل الآية على الوجه الثالث ، وأجاب عنها تارة بما تقدّم في سابقتها من كونها إخبارا عن عادته تعالى في الأمم الماضية. واخرى بمنع استلزام توقّف الخذلان على البيان لتوقّف تنجّز التكليف عليه كما هو المدّعى ، وذلك لأنّ معنى الآية : ما كان الله ليخذل قوما بسلب أسباب التوفيق والتوكيل إلى النفس فيما يتعلّق بالمعاش والمعاد إلّا بعد بيان الواجبات والمحرّمات. وعليه ، تكون مرتبة الخذلان بعد بيان الأحكام ، إلّا أنّ الآية لا تدلّ على عدم التكليف قبل البيان ، لوضوح عدم استلزام توقّف الخذلان عليه ـ كما هو ظاهر الآية ـ لتوقّف التكليف عليه. اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالفحوى ، بأن يقال : إنّ الخذلان إذا توقّف علي البيان فتوقّف التعذيب الذي هو أشدّ منه عليه بطريق أولى.

٤١

ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١٤) (١١٠٩) وفي دلالتها تأمّل ظاهر.

______________________________________________________

وأنت خبير بأنّ خذلانه سبحانه للعبد إنّما هو بعد بيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ومخالفة العبد له ، وبعد إيعاده عليه مرّة بعد اخرى بإنزال البلايا والشدائد ، بل بعد بيان المكمّلات من الأعمال الموجبة للمراتب العليّة والدرجات الرفيعة من المستحبّات وغيرها ، فإذا استمرّ العبد على ما أصرّ عليه استحقّ الخذلان الذي هو أشدّ من الدخول في النيران ، إذ من البعيد خذلانه سبحانه للعبد بعد بيان الواجبات والمحرّمات بمجرّد مخالفته له تعالى فيهما من دون إصرار أو استمرار على ما أصرّ عليه ، كيف لا وبيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات واجب عليه سبحانه من باب اللطف.

وبالجملة ، إنّ استحقاق الخذلان فضلا عن فعليّته ليس مرتّبا على مجرّد المخالفة. فمن هنا يظهر أنّ جعل الإضلال في الآية الشريفة مغيّا ببيان (ما يَتَّقُونَ) ممّا يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ، قرينة لعدم إرادة الخذلان من الإضلال ، لأنّ الخذلان وإن توقّف على بيان ما يتّقون ، إلّا أنّه متوقّف على أشياء أخر أيضا ، فجعل الإضلال مغيّا بما يجب بيانه على الله تعالى دليل على عدم إرادته من الإضلال ، بل المناسب له كون المراد به التعذيب. والمعنى حينئذ : ما كان الله ليعذّب قوما بعد أن هدهم إلى الإسلام حتّى يبيّن لهم ما يرضيه ويسخطه. ودلالتها على المدّعى حينئذ واضحة كما تقدّم. ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر ضعف التمسّك بالفحوى أيضا ، لما عرفت من كون الخذلان أشدّ من التعذيب في الدنيا والآخرة.

١١٠٩. الآية في سورة الأنفال. والمعني : ليهلك من ضلّ بعد قيام الحجّة عليه ، فتكون حياة الكافر وبقائه هلاكا له. ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجّة عليه ، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. وقوله : (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي : بعد بيان

٤٢

ويردّ على الكلّ : أنّ غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ، فلا ينافي ورود الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم ، ومعلوم أنّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلّا عن دليل علمي ، وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

وإعلام. وقضيّة تخصيص الضلال والاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب والحرمة قبله.

ولعلّ وجه تأمّل المصنّف رحمه‌الله في دلالتها هو كون المراد بالبيّنة هي المعجزات الباهرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمقصود من الآية بيان علّة ما وقع منه تعالى من نصرة المسلمين ، لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصّة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها ، كما يشهد به ما قبلها ، قال سبحانه : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ ...).

قد أخبر الله عزوجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّكم مع قلّة عددكم قد كنتم بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة ، والمشركون بالشفير الأقصى منها ، في حال كون الركب ـ يعني : أبا سفيان وأصحابه ـ في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، يعني : مع قلّة عددكم وبعدكم عن الماء ، والمشركون مع تقارب الفئتين منهم ومع كثرتهم ونزولهم على الماء ، قد نصر المسلمين عليهم.

ثمّ أخبر عن قلّة عدد المسلمين بأنّهم كانوا بحيث لو تواعدوا على الاجتماع في الموضع الذي اجتمعوا فيه ، ثمّ بلغهم كثرة المشركين مع قلّة عددهم ، لتأخّروا ونقضوا الميعاد.

ثمّ أخبر بأنّه تعالى قادر على الجمع بينهم وبين المشركين ليقضي ما لا بدّ من

٤٣

ومنها : قوله تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١١١٠) ملقّنا إيّاه طريق الرد على اليهود حيث حرّموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١٥) ، فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى الله إليه ، وعدم وجدانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فيما اوحي إليه وإن كان دليلا قطعيّا على عدم الوجود ، إلّا أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة. لكنّ الإنصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون

______________________________________________________

كونه ، من إعزاز الدين وأهله ، وإذلال الشرّ وأهله ، ليموت من مات عن بيّنة ، يعني : بعد إلزام الحجّة عليه بما رآه في هذه الغزوة ممّا يدلّ على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو نصرة المسلمين مع قلّة عددهم وكثرة المشركين ونزولهم على الماء دونهم ، ويعيش من عاش منهم بعد قيام الحجّة عليه.

وبالجملة ، إنّ المراد بقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ ...) بيان للغرض من نصرة المسلمين في هذه الغزوة من إلزام الحجّة على من مات أو بقي من المشركين ، ولا دلالة فيها على عدم التكليف بلا بيان ، لكونه بيانا لإلزام الحجّة على الكفّار في واقعة خاصّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المستفاد من الآية لزوم إذاعة الحجّة في كلّ ما أراده الله تعالى من العباد ، سواء كان هو الإسلام أو الأحكام الفرعيّة ، فتأمّل.

١١١٠. الآية في سورة الأنعام. وتقريب الدلالة : أنّ الله تعالى قد خاطب نبيّه ملقّنا إيّاه كيفيّة الردّ على اليهود حيث حرّموا ما أحلّ الله لهم افتراء عليه تعالى ، بأن يقول : إنّي لا أجد في جملة ما أوحى الله تعالى إليّ محرّما سوى هذه المحرّمات ، فلقّنه طريق الردّ على اليهود بعدم وجدانه ما حرّموه في جملة ما أوحى إليه. فدلّت على كون عدم الوجدان دليلا على عدم الوجود ، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن وجه لتلقينه تعالى له ذلك في مقام الردّ على اليهود. وحينئذ يتمّ القول بالبراءة في الشبهات التحريميّة ـ بل مطلقا ـ بعد عدم وجدان الدليل في الواقعة على التكليف.

٤٤

في العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب (١١١١) ، وأمّا الدلالة فلا ؛ ولذا قال في الوافية : وفي الآية إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع. مع أنّه لو سلّم دلالتها فغاية مدلولها (١١١٢) كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا ، وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العملي على هذا المطلب.

ومنها : قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (١٦) (١١١٣). يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

______________________________________________________

١١١١. يمكن منع الإشارة والإشعار أيضا ، لاحتمال كون النكتة في التعبير بعدم الوجدان هي الإشارة إلى قلّة المحرّمات ، لأنّه مع اختلاط القليل بالكثير واشتباهه فيه ينسب الوجدان وعدمه إلى القليل ، فيقال : إذا تتبّعت الأشياء الفلانيّة فوجدت الشيء الفلاني من بينها أو لم تجد من بينها. ففي التعبير به إشارة إلى قلّة المحرّمات وكثرة المباحات ، بحيث توجد هي من بينها.

١١١٢. بل يمكن أن يقال : إنّ غاية مدلولها كون عدم وجدان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا على عدم الوجود في الواقع ، إذ لا ريب في كون عدم وجدانه حرمة شيء كاشفا عن إباحته في الواقع. والمقصود في المقام إثبات الإباحة الظاهريّة بعدم وجدان الدليل على الحرمة ، كيف والمأخوذ في موضوع الاصول هو الجهل بالحكم الواقعي ، فكيف تجعل الآية دليلا على إثبات الإباحة الظاهريّة؟ والفرق بينه وبين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله واضح ، فلا تغفل.

١١١٣. الآية في سورة الأنعام. وتقريب الدلالة : أنّ الله تعالى قد ذمّ على الالتزام بترك ما لم يوجد فيما فصّل من المحرّمات ، فتدلّ على إباحة كذلك ما لم يوجد تحريمه في الكتاب والسنّة.

٤٥

ولعلّ هذه الآية أظهر من سابقتها ؛ لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز (١١١٤) الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى الله سبحانه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه تدلّ على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصّل وإن لم يحكم بحرمته ، فيبطل وجوب الاحتياط أيضا (١١١٥) إلّا أنّ دلالتها موهونة من جهة اخرى وهي أنّ ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع (١١١٦) المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها ، ولا ريب أنّ اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه.

والإنصاف ما ذكرنا من أنّ الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط ؛ لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد ، وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه ، فاللازم على منكره ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه ، وأمّا الآيات المذكورة فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهض لذلك ؛ ضرورة أنّه إذا فرض أنّه ورد بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

______________________________________________________

١١١٤. عدم الحكم بالحرمة لا ينافي وجوب الاحتياط ، لأنّه عبارة عن الالتزام بالترك في الشبهة التحريميّة لا الحكم بالحرمة.

١١١٥. أي : كما تدلّ على عدم جواز الحكم بالحرمة.

١١١٦. ظاهره أنّ ما نحن فيه يفارق مورد الآية من وجهين :

أحدهما : أنّ موردها عدم كون المتروك في جميع المحرّمات الواقعيّة ، والمقصود فيما نحن فيه عدم كونه فيما بأيدينا من الأدلّة بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا.

وثانيهما : أنّ عدم وجدان المتروك في المحرّمات الواقعيّة دليل على إباحته في

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقع ، والمقصود فيما نحن فيه إثبات الإباحة الظاهرية لمجهول الحكم بحسب الواقع.

وربّما يتمسّك في المقام أيضا بقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً.) وقوله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.) وقوله جلّ ذكره : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.)

وتقريب الدلالة في الأوليين منها : أنّه تعالى رتّب الشكر والكفران فيها على الهداية ، فلا شكر ولا كفران إلّا بعد الهداية.

وفيه : أنّ المعنى في الاولى : أنّا فعلنا ذلك يعني : الهداية ـ سواء كانوا بعد ذلك شاكرين أم كافرين. وفي الثانية : أنّا هدينا ثمود ، وهم اختاروا العمى ـ يعني : الغواية والضلال ـ على الهدى. ولا دلالة فيها على وجوب الهداية قبل الضلال ، لكونهما إخبارا عن وقوع ذلك فيما سلف لا بيانا لوجوب الهداية قبل الضلال.

وأمّا الثالثة ، فوجه الدلالة فيها : أنّ اللام يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ، فهي تدلّ على إباحة جميع ما يمكن الانتفاع به بنحو من أنحاء الانتفاع.

وفيه : أنّها أخصّ من المدّعى ، لأنّ ما في الأرض على أقسام : منها ما لا منفعة فيه ظاهرا ، ومنها ما له جهة منفعة واحدة ، ومنها ما له منافع متعدّدة ، مثل الأكل واللبس ونحوهما. وهذا أيضا على قسمين : قسم منافعه مختلفة في الظهور والخفاء ، فبعضها ظاهر من بينها ، كاللبس في الملبوس والشرب في المشروب والأكل في المأكول ، وقسم منافعه متساوية في الظهور والخفاء. ولا ريب أنّ المطلقات إذا كانت لها أفراد ظاهرة وخفيّة إنّما تنصرف إلى الظاهرة منها. وحينئذ نقول : إنّ المقصود بقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) هو خلق الأشياء لغاية الانتفاع بها ، وهو مطلق لا ينصرف إلّا إلى الأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلّا بجهة واحدة ،

٤٧

وأمّا السنّة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة : منها : المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسند صحيح (١١١٧) في الخصال كما عن التوحيد : «رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ...» (١٧). فإنّ حرمة شرب التتن (١١١٨)

______________________________________________________

وإلى ما له منافع من جهات متساوية ، وإلى أظهر جهات ما له جهات مختلفة ، فيكون أخصّ من المدّعى.

وربّما يقال : إنّ الآية مفسّرة في الخبر بالانتفاع بجهة الاستدلال بما في الأرض على وجود الصانع. واعترض عليه : أنّ الخبر إنّما تضمّن إحدى جهات الانتفاع ، ولا دلالة فيه على الحصر فيها. وربّما يقال أيضا : إنّها واردة في مقام بيان عدم كون خلق ما في الأرض عبثا ، لا لبيان إباحة جميع ما في الأرض ، فتأمّل.

١١١٧. لفظ الحديث على ما نقله في تفسير نور الثقلين عن التوحيد مسندا إلى حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام هكذا : قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». والخبر قد صحّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، وأسندوه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ربّما يتوهّم من كونه نبويّا ضعيفا ضعيف جدّا.

١١١٨. قد أورد على التمسّك بالخبر بوجوه :

أحدها : بما تقدّم في الحاشية السابقة مع تضعيفه من كونه نبويّا ضعيفا.

وثانيها : أنّه خبر الواحد ، فلا يجوز التمسّك به في إثبات المسائل الاصوليّة عند المشهور.

وفيه أوّلا : أنّ هذه المسألة ـ كمسألة الاستصحاب ، كما سيأتي في مسألة الاستصحاب ـ من المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة.

وثانيا : أنّ الاستدلال ليس بهذا الخبر ، بل به بضميمة سائر الأخبار التي

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تمسّك بها المصنّف رحمه‌الله في المقام. ولا تبعد دعوى تواترها معنى. وثالثا : منع عدم جواز الاستدلال بأخبار الآحاد في المسائل الاصوليّة ، لعموم أدلّتها كما لا يخفى.

وثالثها : ما أورده المصنّف رحمه‌الله من كون المراد بالموصولة بقرينة أخواتها هو الموضوع ، فلا يشمل الحكم المجهول. ويؤيّده أنّه لو كان المراد بها أعمّ من الموضوع والحكم لزم استعمالها في معنيين مختلفين ، لأنّ نسبة الرفع إليها عند إرادة الموضوع باعتبار معنى ، وعند إرادة الحكم باعتبار معنى آخر ، إذ المراد على الأوّل رفع مؤاخذة الفعل المشتبه الحكم ، وعلى الثاني رفع نفس الحكم المشتبه. اللهمّ أن يقال : إنّ المراد بها الموضوع خاصّة ، إلّا أنّ المراد به أعمّ من الموضوع المشتبه في نفسه ، كالمائع المردّد بين كونه خمرا وخلّا ، ومن الموضوع المشتبه الحكم كشرب التتن ، إلّا أنّه بعيد ومنافر لسائر الفقرات.

والحاصل : أنّه إمّا أن يراد بالموصولة الموضوع خاصّة ، أو الحكم خاصّة ، أو الأعمّ منهما. والأوّل هو المطلوب ، ولا ينفع المستدلّ. والثاني بعيد عن السياق. والثالث مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين متغايرين بإرادة واحدة.

ويرد عليه أوّلا : أنّ دعوى ظهور الموصولة في إرادة الموضوع خاصّة بقرينة السياق ، نظرا إلى اختصاص الخطأ والنسيان والإكراه وعدم الطاقة والاضطرار بالموضوع ممنوعة ، لصحّة إرادة الأعمّ منه ومن الحكم في هذه الفقرات أيضا. أمّا الخطأ فإنّه كما يتحقّق في الأفعال كذلك في الأحكام ، كما إذا اعتقد الفقيه عبارة الصدوق عبارة للصادق عليه‌السلام فأفتى بمضمونها ثمّ تبيّن خطائه ، فيكون الخطأ في الفتوى حينئذ ناشئا من الخطأ في الموضوع الخارج. وأمّا النسيان كما إذا كان عالما بحرمة الخمر مثلا فنسيها فشربها. وأمّا الإكراه فكإكراه فقيه على الإفتاء بخلاف الحقّ الذي اعتقده. ومنه يظهر الحال في الاضطرار أيضا ـ وأمّا عدم الطاقة فكتكليف المكلّف بما لا يطيق (*) لامتثاله.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «كإرادة الامتثال التفصيلي في التكاليف المجهولة. منه».

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : منع لزوم استعمال الموصولة في معنيين على تقدير إرادة المعنى الأعمّ منها ، إذ المراد برفع الامور التسعة. كما سيجيء في الحواشي الآتية ـ ليس رفع مؤاخذتها حتّى يلزم المحذور ، بل المراد هو عدم توجيه الخطاب على وجه يشمل صورة الخطأ والنسيان مثلا أيضا. وحينئذ يقال : إنّ المراد برفع ما لا يعلمون أيضا هو عدم توجيه التكليف بحيث يشمل المجهولات حتّى يجب فيه الاحتياط. وحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ المراد بما لا يعلمون أعمّ من الموضوع والحكم المشتبهين ، والمراد برفعهما رفع حكمهما الظاهري ، بمعنى : أنّه إذا اشتبه الخمر بالخلّ أو اشتبه حكم شرب التتن ، فالخبر يدلّ على عدم توجّه الخطاب الواقعي بحيث يشمل صورة الجهل حتّى يجب الاحتياط في الصورتين. وسيأتي توضيح لذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إنّ اللازم على المجتهد هو استفراغ تمام وسعه في استنباط الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يقع منه تقصير في مقدّمات استنباطه إلّا على وجه يكون معذورا فيه ، كما إذا أخذ حكما من خبر صحيح على اعتقاده وكان من الأخبار المدسوسة في الواقع. وقد حكى بعض مشايخنا عن بعض مشايخه عن الشيخ أسد الله التستري أنّه قد ذكر أنّ الإمام عليه‌السلام لو كان حاضرا لاحتججت معه إلى سنّة ، ولا يلزمني بتقصير في مقدّمات اجتهادي وفي كيفيّة استنباطي فاللازم على المجتهد أوّلا هو بذل الوسع في تحصيل الأحكام الواقعيّة والوصول إليها ، وإن لم يصل إليها فهو إمّا من جهة تقصيره في الفحص عن الأدلّة أو معارضاتها ، أو من جهة قصوره عن الفحص أزيد ممّا بذل جهده فيه ، فهو على الأوّل معاقب ، وعلى الثاني معذور لا محالة ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ، وهو منفي عقلا وشرعا.

وإذا تحقّق ذلك نقول : إنّك قد عرفت أنّ المراد في الخبر برفع الامور التسعة هو عدم توجيه الخطاب على وجه يشمل صورة الخطأ والنسيان والجهل مثلا. ولا ريب أنّ عدم توجيهه كذلك إمّا مع تقصير من المكلّف في حصول الامور المذكورة ، بأن لم يتحفّظ محفوظه بتكرير التذكّر مثلا حتّى لا ينسى ، أو لم يتفحّص

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الأدلّة حتّى يصير عالما بالحكم ، أو لم يحتط في أفعاله كي لا يقع في الخطأ فيها ، أو مع عدم تقصير منه في ذلك. وتعميم الخبر للصورة الاولى بعيد في الغاية وفضيح إلى النهاية. وكذلك للصورة الثانية ، لأنّ قبح المؤاخذة في صورة عدم التقصير عقلي ، ويبعد بل لا يصحّ حمل الخبر الوارد في مقام المنّة على صورة يستقلّ بحكمها العقل.

وعلى كلّ تقدير فحمل الخبر على بيان رفع مؤاخذة الأحكام غير صحيح ، فلا بدّ من حمله على بيان رفع المؤاخذة على الموضوعات المشتبهة. فإذا أكل مال الغير مثلا خطأ أو نسيانا أو إكراها أو اضطرارا أو جهالة أو لأجل عدم الطاقة للاستنكاف عنه لبعض الأسباب الخارجة ، فالخبر يدلّ على رفع المؤاخذة عنه على ذلك ، ولا محذور فيه ، لعدم وجوب التحفّظ والاحتياط وتحصيل العلم في الموضوعات الخارجة المشتبهة ، حتّى يقال إنّه مع التقصير فالتكليف باق ، ومع عدمه فارتفاعه عقلي لا يناسب مقام المنّة.

قلت : إنّ اعتبار بذل الجهد في مقدّمات الاجتهاد بحيث لا يقع منه تقصير فيها أصلا عقلا يسدّ باب الاجتهاد ، لأنّ من زاول علم النحو مثلا بالتعليم والتعلّم ، واستمرّ عليه في أغلب أيّامه ، وغار في مسائله وأتقنها وأحكمها بما وصل إليه جهده ووسعه ، وبعد ذلك إذا أراد العود إلى ذلك ثانيا بتكرير النظر والبحث مع المتبحّرين في هذا العلم ، ينكشف عنه حجب العلم ، ويزداد علمه في كلّ آن ونظر ، إذ فوق كلّ ذي علم عليم.

والحاصل : أنّ العلوم ليست ممّا يقف على حدّ يمكن تحصيله ، فلو قلنا بوجوب تحصيل علم النحو والمنطق والاصول وغيرها من مقدّمات الفقه بحيث لا يعدّ مقصّرا فيها عقلا ، فلا بدّ أن نطوي ورقة الاجتهاد ، لكون تحصيلها على هذا النحو خارجا من الوسع والطاقة ، فلا بدّ له من حدّ مضبوط لئلّا يلزم تعطيل الحدود والأحكام. فالأولى حينئذ أن يقال : إنّ الواجب هو تحصيل المقدّمات

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

على حسب الوسع والطاقة ، بل دون الوسع ، لاستلزامه العسر أيضا كما لا يخفى.

فالواجب هو تحصيل المقدّمات على وجه لا يعدّ مقصّرا في العرف والعادة. فإذا صحّح كتاب الحديث من نسخة مصحّحة مرّتين أو مرّات ثلاثة كفى في الرجوع إليه وأخذ الأحاديث منه لاستنباط الأحكام منها ، وإن كان مقصّرا عقلا لو تبيّن الخطأ بعد ذلك ، وكذا في غيره من المقدّمات.

وحينئذ إذا كان المراد بالموصولة في قوله : «وما لا يعلمون» أعمّ من الحكم والموضوع ، فمن الجائز أن يكون الخبر واردا في مقام بيان رفع المؤاخذة على الأحكام المجهولة إذا لم يتفحّص عنها فوق متعارف الناس ، وهو لا ينافي المنّة. وكذا الكلام في باقي الفقرات ، بأن يقال بكونه واردا في مقام بيان رفع المؤاخذة على الأحكام المنسيّة إذا كان النسيان ناشئا من عدم التحفّظ فوق المتعارف ، وكذلك الأحكام التي وقع فيها الخطأ إذا كان ناشئا من عدم الاحتياط فوق المتعارف. فإذا زعم فقيه عبارة الفقيه متن حديث ، وفتّش عن ذلك بحسب المتعارف وأفتى بمضمونها ، ثمّ ظهر خطائه فيها ، فالخبر ينفى المؤاخذة على ذلك. وهكذا الكلام في باقي الفقرات ، فلا وجه لتخصيصها بالموضوعات.

وثالثا : مع تسليم اختصاص الموصولة بالموضوعات المشتبهة ، فلا ريب في شمولها للأفراد الخفيّة فيما لو علّق حكم على عامّ له أفراد ظاهرة وخفيّة ، كما إذا علمت حرمة الخمر وشكّ في شمول لفظ الخمر للفقّاع أيضا فإذا ثبت حكم الفقّاع بحكم الخبر وقلنا بإباحته ثبت جواز الحكم بالإباحة في سائر موارد أصالة البراءة أيضا بعدم القول بالفصل ، لمخالفة الأخباريّين في أصالة البراءة حتّى في الشبهات المفهوميّة ، وسمّوها بالأفراد الخفيّة ، لإيجابهم الاحتياط فيما تعلّق الحكم على عامّ مجمل بالنسبة إلى بعض أفراده ، مع كون الشبهة فيه في الحكم لا في موضوعه.

قال المحدّث البحراني في مقدّمات حدائقه : «التحقيق في المقام على ما أدّى

٥٢

مثلا ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ـ كرفع الخطأ والنسيان ـ رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو نظير قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

______________________________________________________

إليه النظر القاصر من أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام هو أن يقال : لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا ، واستفاضة الأمر به كما سيمرّ بك شطر من أخباره ، وهو عبارة عمّا يخرج به المكلّف عن عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبّا. والأوّل كما إذا تردّد المكلّف في الحكم ، إمّا لتعارض أدلّته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلّية بناء على نفي البراءة الأصليّة ، أو لكون ذلك مشكوكا في اندراجه تحت الكلّيات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

ثمّ ساق الكلام في ذكر الأمثلة إلى أن انتهى إلى قوله : «ومن الاحتياط الواجب في جزئيّات الحكم الشرعيّ الإتيان بالفعل إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ، ولكن حصل الشكّ في اندراج بعض الأفراد تحته. وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج الواردة في جزاء الصيد الدالّة على ذلك. ومن هذا القسم ـ ولكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعيّ التحريم ، وحصل الشكّ في اندراج بعض الجزئيّات تحته ، فإنّ الاحتياط هنا بالترك ، كحكم السجود على الخزف والحكم بطهارته بالطبخ ، فإنّ أصل الحكم في كلّ من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشكّ في استحالته بالطبخ وعدمها قد أوجب الشكّ في اندراجه تحت أصل الحكم ، فالاحتياط عند من يحصل له الشكّ المذكور واجب بترك السجود وترك استعماله فيما يشترط فيه الطهارة. ومنه الشكّ في اندراج بعض الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه ، فإنّ الاحتياط واجب بتركه. وأمّا من يعمل بالبراءة الأصليّة ، فيرجّح بها هنا جانب العدم ، فلا يتّجه ذلك عنده» انتهى.

٥٣

ويمكن أن يورد عليه بأنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» بقرينة أخواتها هو الموضوع ، أعني فعل المكلّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب الخمر أو شرب الخلّ وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ، فلا يشمل الحكم الغير المعلوم ، مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ؛ لأنّ المقدّر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة (١١١٩) على نفس الحرمة المجهولة. نعم ، هي من آثارها ، فلو جعل المقدّر في كلّ من هذه التسعة ما هو المناسب (١١٢٠) من أثره ، أمكن أن يقال : إنّ أثر حرمة شرب التتن مثلا المؤاخذة على فعله ، فهي مرفوعة. لكنّ الظاهر (١١٢١) ـ بناء على تقدير المؤاخذة

______________________________________________________

وقد يناقش في دلالة النبويّ أيضا ، بأنّ الحمل على ظاهره غير ممكن ، فلا بدّ من حمله على خلاف ظاهره. وهو كما يمكن بحمله على إرادة نفى الآثار ، كذلك يمكن بتصرّف في نسبة الرفع إلى الأمّة ، بأن تكون نسبة الرفع إليها باعتبار ارتفاع الامور التسعة عن بعضها ، كما يقال : فلان يركب الخيل إذا ركب بعضها ، وبنو فلان قتلوا فلانا وقد قتله بعضهم ، فالخبر حينئذ يدلّ على وجود معصوم عن هذه الامور في جملة الأمّة ، ولا مرجّح لأحد المجازين ، فيعود الخبر مجملا.

أقول : هذه المناقشة قد ذكرها الشهيد رحمه‌الله. ويرد عليها أوّلا : منع ارتفاع كلّ واحد من الامور التسعة عن بعض الأمّة ، إذ لا ريب في عدم ارتفاع الإكراه عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وتشريع باب التقيّة أوضح شاهد له. وثانيا : أنّه على ما ذكر يكون تقييد قوله : «والوسوسة في الخلق» بقوله : «ما لم ينطق بشفة» لغوا ، لكون الإمام عليه‌السلام معصوما عن الوسوسة مطلقا.

١١١٩. لأنّ المؤاخذة على ارتكاب الحرام لا على الحرمة ، وإن كانت المؤاخذة من آثارها ، وهي سبب لها.

١١٢٠. كالمضرّة في الطيرة ، والكفر في الوسوسة ، والمؤاخذة في البواقي.

١١٢١. حاصله : أنّه إن قدّرت المؤاخذة باعتبار كونها مترتّبة على

٥٤

ـ نسبة المؤاخذة إلى نفس المذكورات.

والحاصل (١١٢٢) أنّ المقدّر في الرواية ـ باعتبار دلالة الاقتضاء ـ يحتمل أن يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي. وأن يكون في كلّ منها ما هو الأثر الظاهر فيه. و (*) أن يقدّر المؤاخذة في الكلّ ، وهذا أقرب عرفا من الأوّل وأظهر من الثاني أيضا ؛ لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد ، فإذا اريد من «الخطأ» و «النسيان» و «ما اكرهوا عليه» و «ما اضطرّوا» المؤاخذة على أنفسها ، كان الظاهر في «ما لا يعلمون» ذلك أيضا.

______________________________________________________

المذكورات فهو صحيح ولا يلزم منه خلاف الظاهر ، إلّا أنّه قد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله تعيّن أخذ الموصولة حينئذ عبارة عن الموضوع ، فلا يصحّ الاستدلال. وإن قدّرت المؤاخذة باعتبار كونها من آثار المذكورات وإن لم تنسب إلى أنفسها ، صحّ أخذ الموصولة حينئذ أعمّ من الحكم والموضوع ، وصحّ الاستدلال أيضا ، إلّا أنّه خلاف الظاهر.

١١٢٢. حاصله : أنّ الخبر يحتمل وجوها ، أحدها : كون المرفوع جميع الآثار. وثانيها : كون المرفوع في كلّ واحد من المذكورات هو الأثر المناسب لكلّ منها. وثالثها : كون المرفوع في الجميع هي المؤاخذة خاصّة.

والأوّل وإن كان أقرب اعتبارا ، إذ لا ريب في كون الشيء المسلوب الآثار أقرب إلى عدم هذا الشيء ممّا سلب عنه بعض آثاره دون بعض ، إلّا أنّه لا اعتبار بالأقربيّة الاعتباريّة في مباحث الألفاظ ، لأنّ مدارها على الظهور العرفي ، سواء كانت هنا أقربيّة اعتباريّة أم لا. نعم ، قد تكون هذه الأقربيّة منشأ للأقربيّة العرفيّة أيضا ، ولكنّ المفروض في المقام كون تقدير خصوص المؤاخذة أقرب عرفا.

والثاني وإن كان ظاهرا إن لوحظت نسبة الرفع إلى كلّ واحدة من الفقرات

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الظاهر.

٥٥

نعم ، يظهر من بعض (١١٢٣) الأخبار الصحيحة

______________________________________________________

بانفرادها ، إلّا أنّ السياق يقتضي أظهريّة الثالث ، فتعيّن للإرادة. وقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله عدم صحّة الاستدلال بالخبر على هذا التقدير وقد ظهر أنّ المستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ في الخبر وجوها ثلاثة.

وهنا وجه رابع ، وهو ابقائه على ظاهره من نفي حقيقة الامور التسعة ، كما أسلفناه عن الشهيد رحمه‌الله في ذيل ما علّقناه على ما أورده المصنّف رحمه‌الله على الاستدلال بالخبر ، وأسلفنا تزييفه هناك أيضا ، فراجع.

وخامس ، وهو الحكم بالإجمال ، لعدم تعيّن المراد بعد تعذّر إرادة الحقيقة ، لدورانه حينئذ بين نفي جميع الآثار وخصوص المؤاخذة ، فيعود الخبر مجملا. وفيه : ما عرفته من ظهوره في نفس خصوص المؤاخذة. ولعلّه لأجل غاية بعد هذين الوجهين لم يتعرّض لهما المصنّف رحمه‌الله في المقام.

١١٢٣. فيكون هذا الخبر قرينة على إرادة عموم الآثار من خبر الرفع ، بناء على كون ما تضمّنه هذا الخبر من النبويّ جزءا من خبر الرفع قد نقله الإمام في مقام الاستشهاد ، أو يقال : مع فرض تغايرهما تكون أخبار أئمّتنا عليهم‌السلام كاشفا بعضها عن بعض. وعلى كلّ تقدير ، يمكن الجواب عن ذلك بوجهين ، لعلّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار إليهما أو إلى أحدهما بالأمر بالتأمّل :

أحدهما : دعوى كونه محمولا على النسبة (*) ، لوجود أماراتها فيه ، لأنّ الحلف على ما تضمّنه باطل مع الاختيار أيضا ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ، وذلك لأنّه كان على الإمام عليه‌السلام أن يجيب ببطلان أصل الحلف لا إسناد البطلان إلى الإكراه ، فالعدول عنه إلى التمسّك بالنبويّ شاهد بعدم إرادته عليه‌السلام لبيان الواقع ، كما قيل في آية النبأ : إنّ تعليق الحكم فيها على الوصف المفارق ـ أعني : الفسق ـ دون الوصف اللازم ،

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّها تصحيف : التقيّة.

٥٦

عدم اختصاص الموضوع (*) عن الامّة بخصوص المؤاخذة ، فعن المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن عليه‌السلام : «في الرجل يستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطئوا ...» (١٨).

فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا ، إلّا أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة ، لكنّ النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه‌السلام مختصّ بثلاثة من التسعة ، فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل.

______________________________________________________

أعني : الخبريّة ، بأن يقال : إن جاءكم خبر فتبيّنوا ، دليل على مدخليّة الوصف المفارق في تحقّق الحكم وعدمه. مع أنّه لو كان المقصود بالاستشهاد بيان الواقع لزم منه الإغراء بالجهل ، حيث إنّ ظاهر الجواب صحّة الطلاق مع الاختيار.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الجواب ناش من عدم التأمّل في فقه الحديث ، لأنّ المسئول عنه في كلام السائل هو الإكراه على الحلف مطلقا ، إلّا أنّ المكره ـ بالفتح ـ قد حلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملكه ، ولعلّ السائل قد زعم صحّة الحلف ولزومه مع الاختيار مطلقا ، سواء كان حلفا بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملكه ، بأن قال : والله أنت طالق إن فعلت كذا ، أم حلفا مشروعا ، بأن قال : والله لأطلّق زوجتي إن كان كذا ، إلّا أنّه سأل عن خصوص صورة الإكراه على الكلّي مع حلف المكره ـ بالفتح ـ بخصوص فرد منه ، وأنّ الإكراه على الكلّي هل هو إكراه على أفراده ومانع من صحّة الحلف أو لا؟ فأجاب الإمام عليه‌السلام بعدم الصحّة ومانعيّة الإكراه ، فلا وجه حينئذ لحمله على التقيّة. ولا يلزم منه تأخير البيان أيضا كما هو واضح. وعدم ردعه عليه‌السلام عمّا زعمه من صحّة الحلف بخصوص الطلاق لعلّه لأجل عدم كونه محلّ سؤال وحاجة للسائل.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : المرفوع.

٥٧

وممّا يؤيّد إرادة العموم : ظهور كون رفع كلّ واحد من التسعة من خواصّ أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١١٢٤) ؛ إذ لو اختصّ الرفع بالمؤاخذة أشكل الأمر في كثير من تلك الامور من حيث إنّ العقل مستقلّ بقبح المؤاخذة عليها ، فلا اختصاص له بامّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يظهر من الرواية. والقول بأنّ الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كلّ واحد من الخواصّ ، شطط من الكلام (١١٢٥).

لكنّ الذي يهوّن الأمر (١١٢٦)

______________________________________________________

وثانيهما : مع تسليم عدم وروده في مقام التقيّة والخوف ـ كما هو الظاهر ـ أنّ غاية ما يستفاد من الخبر هو ارتفاع قسم خاصّ من آثار الامور التسعة لا مطلقا ، وذلك لأنّ المفروض كون خبر الرفع ظاهرا في رفع المؤاخذة خاصّة ، وغاية ما يستفاد من خبر المحاسن هو ارتفاع الآثار التي ثبتت شرعا بالتزام المكلّف بحلف أو نذر أو نحوهما ، لا الآثار التي أثبتها الشارع ابتداء ، كالضمان المرتّب على الإتلاف أو اليد ونحوه ، فهو إنّما يصير قرينة على ارتكاب خلاف الظاهر في خبر الرفع بمقدار مدلوله ، وهو ما ذكرناه ، لا مطلق الآثار. ومع التسليم فغاية ما يسلّم كون خبر المحاسن قرينة على ارتفاع الأحكام الوضعيّة خاصّة لا الأعمّ منها ومن التكليفيّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الظاهر أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام النبويّ من قبيل الاستدلال بالكلّي على بعض جزئيّاته ، فالمراد هو نفي جميع الآثار من دون اختصاص ببعضها.

١١٢٤. لعلّ الظهور المذكور ناش من ورود الخبر في مقام المنّة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا من إضافة الأمّة إلى ضمير المتكلّم ، لأنّ غايتها إفادة اختصاص الأمّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا اختصاص الرفع بهم أيضا ، إلّا من باب مفهوم اللقب ، ولا اعتداد به.

١١٢٥. لأنّ ظاهر الخبر نسبة الرفع إلى كلّ واحد واحد من الأشياء التسعة ، لا إلى المجموع من حيث هو.

١١٢٦. بل يمكن أنّ يقال : «إنّ النبويّ إشارة إلى الآيات المذكورة ، كما

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يرشد إليه المرويّ عن اصول الكافي عن عمرو بن مروان قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي أربعة خصال : خطاؤها ، ونسيانها ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون. ذلك قول الله عزوجل : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ....) وقوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.)

وعنه في حديث طويل حكاه عن احتجاج الطبرسي رحمه‌الله : «فقال لمّا سمع ذلك : أمّا إذا فعلت ذلك بي وبأمّتي فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). قال عزوجل : لست أؤاخذ أمّتك بالنسيان والخطأ ، لكرامتك عليّ. وكانت الامم السالفة إذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك. وكانت الامم السالفة إذا أخطئوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، لكرامتك عليّ. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أعطيتني ذلك فزدني. فقال الله تعالى له : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، يعني بالإصر الشدائد التي على من كان قبلنا. فأجابه الله إلى ذلك ، فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار التي كانت على الامم السالفة. ثمّ ذكر الله الآصار التي على الامم السالفة واحدا بعد واحد». وفي موضع آخر من هذا الحديث بعد ذكر الآصار : «فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أعطيتني ذلك كلّه فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). قال تبارك اسمه : فعلت ذلك بأمّتك ، قد رفعت عنهم أعظم بلاء الامم» الحديث.

وظاهر هذين الخبرين ـ بل صريحهما ـ أنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ...) في الآية الشريفة هو سؤال الله سبحانه عن رفع امور كانت في الامم الماضية عن امّته بالخصوص. وحينئذ نقول فيما نحن فيه أيضا : إنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله برفع الأشياء التسعة هي الإشارة إلى الآية الشريفة التي سئل فيها عن رفع بعض ما كان في الامم السالفة ، فيكون ارتفاع هذه الامور من خواصّ هذه الامّة ، لكن ذلك لا يستلزم كون رفع الأشياء التسعة باعتبار جميع آثارها ، لجواز كونه

٥٩

في الرواية : جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا ؛ فإنّ موارد الإشكال (١١٢٧)

______________________________________________________

باعتبار رفع مؤاخذتها.

والإشكال فيه بمنافاته لقضيّة الاختصاص ـ كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ـ مندفع بما أشار إليه أوّلا من ورود هذا الإشكال على ظاهر الآيات أيضا ، فهو لا يصدم في إبقاء حديث الرفع على ظاهره ، من كون المراد به رفع خصوص المؤاخذة ، كما هو ظاهر المصنّف في تقرير الرفع. وإن شئت قلت : إنّ هذا الإشكال راجع إلى الإشكال في ظاهر الآيات ، لا في خصوص حديث الرفع ، كما هو مقتضى ما قرّرناه أوّلا. وثانيا من الجواب حلّا ، بأنّ الأشياء التسعة تارة تستند إلى تقصير من المكلّف ، لأنّ الخطأ والنسيان مثلا قد ينشآن من عدم مبالاته في التحفّظ ، لأنّه إذا وطّن نفسه على أن لا ينسى ما ذكره ، بأن تذكّر محفوظه مرّة أو مرارا ، أو على أن لا يصدر عنه خطأ ، بأن احتاط في أفعاله واموره ، فربّما لا ينسى محفوظه ولا يصدر عنه خطأ ، وقد ورد أنّ النسيان في الغالب من الشيطان. واخرى لا يستند إلى تقصيره في المقدّمات ، بل يصدر عنه الخطأ والنسيان من دون اختياره وإرادته.

وحينئذ نقول : يجوز أن تكون الامم السالفة معاقبين على الخطأ والنسيان على الوجه الأوّل ، لعدم قبح ذلك عقلا ، وقد رفع ذلك عن هذه الأمّة. ومن هنا يسقط ما توهّمه البيضاوي ـ على ما حكي عنه ـ من جواز التكليف بما لا يطاق ، استنادا إلى الآية الشريفة ، إذ لو لم يجز ذلك لم يسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع مؤاخذته عن هذه الأمّة ، وإلّا لغا السؤال. وهو كما ترى في غاية من الضعف ، إذ لا إشكال في قبح التكليف بما لا يطاق ، لأنّ الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وجواز المؤاخذة على ما خرج من الطاقة قد ظهر وجهه ممّا قدّمناه. مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «وأمّا في الآية فلا يبعد ...».

١١٢٧. إنّما خصّ موارد الإشكال بهذه الأربعة لعدم استقلال العقل بقبح المؤاخذة على البواقي. أمّا الطيرة والحسد والتفكّر في الوسوسة في الخلق فظاهر.

٦٠