فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

خصوصا مع اعتضاده بما دلّ على أنّ الشكّ في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ، مثل قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» ، ومع اعتضاده في بعض المقامات (١٣٩٢) بظاهر حال المسلم في عدم ترك الصلاة.

وأمّا ثالثا (١٣٩٣) : فلأنّه لو تمّ ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ، وإن التزموا بأنّه إذا وجب على الميّت ـ لجهله بما فاته ـ مقدار معيّن يعلم أو يظنّ معه البراءة ، وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ؛ لوجوبه ظاهرا على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.

وكيف كان : فالتوجيه المذكور ضعيف. وأضعف منه التمسّك (١٣٩٤) فيما نحن فيه بالنصّ الوارد في : «أنّ من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته ، قضى حتّى

______________________________________________________

وأمّا وجه النظر فيما ذكره صاحب المدارك فهو ما قرّر في محلّه من أنّ العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة إنّما يفيد وجوب الاحتياط إذا ترتّب على طرفي الشبهة أثر شرعيّ ، والفرض في المقام عدم ترتّب أثر على الوضوء المجدّد ، فإجراء قاعدة الشكّ بعد الفراغ بالنسبة إلى الوضوء الأصلي لا يعارض إجرائها في المجدّد.

١٣٩٢. كما إذا كان الشكّ في الترك العمدي ، لا بمثل النسيان والنوم ونحوهما.

١٣٩٣. هذا النقض وارد على التوجيهين. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فإنّه يمكن أن يقال أيضا : إنّ أمر الشارع للوليّ بقضاء ما فات عن أبيه من الصلوات يكشف عن مطلوبيّة صدورها في الخارج مطلقا ، سواء كان من الميّت أم الوليّ ، وإن كانت مطلوبيّة صدورها عن الوليّ مرتّبة على فواتها عن الميّت ، وأنّ إتيان الميّت بها في حال حياتها مطلوب آخر.

١٣٩٤. النصّ هي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع؟ قال : فليصلّ حتّى لا يدري كم صلّى من كثرتها ، فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك» الخبر. وقد استدلّ بها الشيخ في محكيّ التهذيب على استحباب

٣٢١

لا يدري كم صلّى من كثرته» بناء على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة ، مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل.

______________________________________________________

قضاء ما يغلب على الظنّ فواته من النوافل.

ووجه الأضعفيّة ـ مع ابتنائه على ما ذكره المصنّف قدس‌سره ـ هو عدم دلالتها على وجوب تحصيل الظنّ أو العلم بالفراغ. اللهمّ إلّا أن يكون قوله : قضى حتّى لا يدري كم صلّى ، كناية عن حصول الظنّ لأجل كثرة ما صلّى. لكنّه كما ترى لا شاهد له. مع أنّ وجه الاستدلال في التعدّي عن موردها إلى ما نحن فيه إمّا هو تنقيح المناط أو الأولويّة. والأوّل ممنوع. والثانية بطريق أولى ، لأنّ النوافل أدنى مرتبة من الفرائض ، فلا يلزم من الاكتفاء فيها بالظنّ الاكتفاء به في الفرائض ، لثبوت التسامح فيها دونها. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التعدّي إنّما هو في مراعاة الاحتياط في الفرائض لا في كفاية الظنّ بالفراغ. مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الثابت في النوافل هو استحباب القضاء إلى أن يغلب على ظنّه الوفاء. والأولويّة إن تمّت إنّما تثبت الاستحباب في الفرائض دون الوجوب. ومن هنا يظهر الوجه في أمره بالتأمّل في الأولويّة التي ذكرها في المتن.

٣٢٢

المصادر

(١) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٨.

(٢) الدرر النجفيّة ص ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) الحدائق الناضرة ، ج ١ : ص ٦٨ ـ ٧٠.

(٤) الفوائد المدنيّة : ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٥) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٦) الأنفال (٨) : ٢٠.

(٧) المؤمنون (٢٣) : ٦٠.

(٨) البقرة (٢) : ٤٣.

(٩) المحاسن ج ١ : ص ٩٣ ، الحديث ٢.

(١٠) عدّة الداعى : ص ١٢.

(١١) النساء (٤) : ١٣.

(١٢) الأنعام (٦) : ١٦٠.

(١٣) إيضاح الفوائد ج ١ : ص ١٥٤.

(١٤) معارج الاصول : ص ٢٠٨.

(١٥) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٦٩ ـ ٧٠.

(١٦) الاحتجاج ج ٢ : ص ٣٠٤.

(١٧) تذكرة الفقهاء ج ٢ : ص ٣٦١.

(١٨) تهذيب الأحكام ج ٢ : ص ١٩٨.

٣٢٣
٣٢٤

المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة وفيه مسائل : المسألة الاولى في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة (١٣٩٥) من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما كما إذا اختلفت الامّة على القولين بحيث علم عدم الثالث.

______________________________________________________

١٣٩٥. ينبغي قبل الأخذ في المطلوب من بيان امور :

الأوّل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الواجب قد يكون تعيينيّا. وقد يكون تخييريّا عقليّا أو شرعيّا. وأمّا الحرام فالنهي إن تعلّق بفرد خاصّ فلا ريب في إفادته حرمته تعيينا. وإن تعلّق بالطبيعة يفيد حرمتها تعيينا بالأصالة. وكذا حرمة أفرادها كذلك من باب المقدّمة ، لأنّ امتثاله لا يمكن إلّا بالاجتناب عن جميع أفرادها بالالتزام ، يفيد العموم فيها لا محالة. نعم ، هو من قبيل المطلق بالنسبة إلى زمان الامتثال ، بل إطلاقه بالنسبة إليه أحوالي لا مادّي ، فإذا ترك أفراد الطبيعة في الزمان الثاني حصل امتثال النهي ، ما لم تفهم من الخطاب المتضمّن للنهي أو من الخارج إرادة العموم بحسب الزمان أيضا. وإن تعلّق بأحد الأمرين ، بأن قال : لا تفعل هذا أو هذا ، فهو يفيد التخيير في ترك أحدهما ، نظير الشبهة المحصورة في الموضوعات على القول بحرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة كذلك.

وإذا تحقّق ذلك نقول : إنّ الوجوب والحرمة اللذين فرض الدوران بينهما إمّا أن يكونا تعيينيّين ، أو تخييريّين ، أو مختلفين. فالأوّل : مثل ما لو دار الأمر بين

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب شرب التتن وحرمته. والثاني : مثل ما لو علم وجوب شيء في الجملة وحرمة آخر كذلك ، وشكّ في وجوب ثالث وحرمته على وجه لو ثبت وجوبه كان تخييريّا بينه وبين ما علم وجوبه في الجملة ، وكذا لو ثبت تحريمه ثبت كذلك. والثالث : ما لو دار الأمر بين وجوب كلّي وحرمة فرد معيّن منه ، أو دار بين حرمة أحد شيئين تخييرا ووجوب أحدهما المعيّن.

أمّا الأوّل فلا إشكال أيضا في خروجه منه ، لما تقدّم في المسألة الاولى من مسائل المطلب الثاني من عدم كون الشكّ في الوجوب التخييري مجرى لأصالة البراءة. ويظهر بالمقايسة كون التحريم التخييري أيضا كذلك.

وأمّا الثالث ، فإن دار الأمر فيه بين التحريم التخييري والوجوب التعييني ، فلا إشكال في دخوله في محلّ النزاع إن تعذّر أحد فردي الحرام المخيّر الذي لا يحتمل الوجوب ، لصيرورة التحريم المحتمل في الفرد الآخر تعيينيّا بتعذّر معادله ، فيدخل في القسم الأوّل ، لدوران الأمر حينئذ بين الوجوب والتحريم التعيينيّين. وإن لم يتعذّر ينفى وجوبه التعييني المحتمل بالأصل ، بخلاف تحريمه المحتمل كما عرفت.

وإن دار الأمر فيه بين الوجوب التخييري والتحريم التعييني ، فإن كان التخيير شرعيّا ينفى التحريم التعييني المحتمل بالأصل دونه. وإن كان عقليّا فهو موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد مرّ حكمه في محلّه. ونقول هنا أيضا : إنّه لا إشكال على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في كون الإتيان بالصلاة في الدار المغصوبة مبرئا للذمّة وإن استلزم حراما. وأمّا على القول بعدم جوازه فالقائلون به بين مرجّح للنهي ، ومرجّح للأمر ، ومتوقّف فيه. وعلى الأوّلين فالأمر واضح ، إذ مرجّح النهي يحكم بالحرمة والبطلان ، ومرجّح الأمر يحكم بالصحّة وعدم الحرمة. وأمّا على القول بالتوقّف فمقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة ، ومقتضى أصالة بقاء الاشتغال هو بطلان الصلاة ووجوب إعادتها ثانيا ، فيتعارض الأصلان ، لكون عدم الحرمة مستلزما للصحّة في الواقع ، والحرمة للبطلان

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك. وحينئذ تخرّج في المسألة وجوه :

أحدها : ترجيح أصالة الاشتغال ، إذ نسبتها إلى أصالة البراءة نسبة الدليل إلى الأصل ، إذ البراءة إنّما تجري مع عدم المقتضى للتكليف ، وقاعدة الاشتغال مقتضية له.

وثانيها : العمل بمقتضى الأصلين وإن لزمت منه مخالفة العلم الإجمالي ، لأنّها غير قادحة ما لم تستلزم مخالفة عمليّة. والمقام ليس كذلك ، فيحكم بعدم الحرمة وبطلان الصلاة.

وثالثها : ترجيح أصالة البراءة. وهو الأقرب ، لأنّ إباحة المكان ليست من الشرائط الواقعيّة التي تبطل الصلاة بالإخلال بها مطلقا كالطهارة ونحوها ، لأنّ شرطيّتها إنّما استفيدت من النهي عن الغصب ، فإذا انتفت حرمته بالأصل يحكم بالصحّة ، لتحقّق الشرط وانتفاء المانع ، فتكون شرطيّتها عمليّة لا واقعيّة.

الثاني : أنّه يعتبر في محلّ النزاع أن لا يكون الشكّ في الوجوب مسبّبا عن الشكّ في التحريم أو بالعكس ، مثل ما لو نذر الإتيان بفعل لاعتقاد رجحانه ، ثمّ شكّ في حرمته بسبب من الأسباب ، إذ بعد نفي الحرمة بالأصل يتعيّن الأخذ بالوجوب المحتمل.

الثالث : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره من كون المراد بالوجوب والحرمة هنا ما كان توصّليّا لا تعبّديا يعتبر فيه قصد القربة ، إذ لو كانا تعبّديّين أو أحدهما المعيّن كذلك ، بأن دار الأمر بين وجوب فعل تعبّدا وتركه توصّلا أو بالعكس ، لم تأت فيه الوجوه المذكورة في المتن التي منها الحكم بالإباحة ، لا أصالة البراءة عنهما. أمّا الأوّل فإنّ مقتضاها جواز كلّ من الفعل والترك من دون اعتبار قصد القربة فيهما ، وهو مخالف بحسب العمل لما علم إجمالا من وجوب أحد الأمرين تعبّدا. وأمّا الثاني فكذلك أيضا ، لأنّ مقتضاها فيما علم إجمالا وجوب الفعل تعبّدا أو تركه توصّلا جواز الإتيان به من دون قصد القربة ، وهو مخالف لما علم إجمالا من أحد

٣٢٧

ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ـ بمعنى نفي الآثار المتعلّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص (١٣٩٦) ـ إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي ، بل

______________________________________________________

الأمرين ، وبالعكس في صورة العكس. وقد أوضحنا ما يتعلّق بذلك فيما علّقنا على حجيّة القطع.

الرابع : أنّ المراد بالحرمة المحتملة في المقام هي الحرمة الذاتيّة دون التشريعيّة ، لعدم منافاة الثانية للإتيان بالفعل بداعي احتمال المطلوبيّة ، كما هو واضح.

١٣٩٦. احترز بقيد الخصوصيّة عمّا لو ترتّب أثر شرعيّ على القدر المشترك بين الوجوب والحرمة ، كما إذا نذر أن يعطي الفقراء درهما إن أتى بفعل متعلّق بحكم إلزامي من وجوب أو حرمة ، وكان غرضه من إدخال الحرمة في متعلّق نذره أن يكون ذلك زاجرا له عن ارتكاب المحرّمات ليصحّ النذر. فإذا أتى بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة وجب الإعطاء ، للعلم بصدور أحد الأمرين عنه. ولا يصحّ إجراء أصالة عدم الوجوب خاصّة أو الحرمة كذلك أو هما معا ، لأنّ الأوّلين معارضان بالمثل ، والثاني مخالف للعلم الإجمالي بحسب العمل ، بخلاف ما لو ترتّب الأثر الشرعيّ على خصوص أحد الأمرين دون الآخر ، كما إذا نذر أن يعطي الفقراء درهما إن أتى هو أو غيره بواجب ، أو نذر أن يعطيهم درهما إن أتى بفعل حرام ليكون هذا زاجرا له عن ارتكاب المحرّمات ، فأتى بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة ، إذ لا إشكال حينئذ في جريان أصالة عدم الوجوب على الأوّل ، وأصالة عدم الحرمة على الثاني من دون معارضة شيء أصلا.

نعم ، إن ترتّب أثر على خصوص كلّ منهما ، كما لو نذر أن يعطي درهما لمن أتى بواجب ويعزّر من أتى بفعل حرام ، فأتى شخص بفعل مردّد بين الوجوب والحرمة ، فحينئذ لا يجوز إجراء أصالة عدم الوجوب خاصّة ولا الحرمة كذلك ولا هما معا ، إذ الأوّلان ترجيح بلا مرجّح ، والثالث مستلزم للعلم التفصيلي بمخالفة العمل لما علم إجمالا من وجوب الإعطاء أو التعزير ، ولذا اشترط جريان الأصلين

٣٢٨

ولو استلزم ذلك على وجه تقدّم في أوّل الكتاب (١٣٩٧) في فروع اعتبار العلم الإجمالي.

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة (١٣٩٨) من حيث جريان أصالة البراءة و

______________________________________________________

بما إذا لم تلزم مخالفة علم تفصيلي ، يعني : مخالفة علم تفصيلي بمخالفة العمل للحكم الواقعي المعلوم إجمالا. ولعلّ الوجه في عدم استثناء العلم الإجمالي بمخالفة العمل له هو عدم تحقّقه فيما نحن فيه ، لأنّ فرض مخالفة العمل لكلّ من الوجوب والحرمة مستلزم للعلم التفصيلي بمخالفة العمل للحكم المعلوم إجمالا.

١٣٩٧. قال هناك : «إذا تولّد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعيّ وجب اتّباعه وحرمت مخالفته ، لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ» إلى أن قال : «وبالجملة ، لا فرق بين هذا العلم التفصيلي ـ أعني : الناشئ من العلم الإجمالي ـ وبين غيره من المعلوم التفصيليّة ، إلّا أنّه قد ورد في الشرع موارد توهم خلاف ذلك». ثمّ ذكر شطرا من تلك الموارد قال : «فلا بدّ في هذه الموارد من التزام أحد امور على سبيل منع الخلوّ». ثمّ ذكر توجيهات ثلاثة لمخالفة العلم التفصيلي في الموارد المذكورة قال : «وعليك بالتأمّل في دفع الإشكال عن كلّ مورد بأحد الامور المذكورة ، فإنّ اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي لا يقبل التخصيص بإجماع ونحوه» انتهى. وقوله هنا : «على وجه تقدّم ... إشارة إلى التوجيهات المذكورة هناك.

١٣٩٨. لا يخفى أنّ المثال للمقام مع استجماعه للقيود الأربعة المتقدّمة عند بيان محلّ النزاع وإن كان كثيرا في الشرع ، إلّا أنّ الحكم قد ثبت فيها بالأدلّة ، مثل إجابة الزوجة لما دعاها إليه الزوج من الدخول في ما بعد النقاء وقبل الغسل ، أو في ما اختلف فيه من أيّام الاستظهار ، لأنّه قد قيل بوجوب الاستظهار بالتحيّض بعد أيّام العادة إذا كانت دون العشرة بيومين ، وقيل بثلاثة ، وقيل بالتخيير بينهما ، إلى غير ذلك من الأقوال. فيحتمل الوجوب في ما اختلف فيه ، إلحاقا له بأيّام

٣٢٩

عدمه ، فإنّ في المسألة وجوها ثلاثة (١٣٩٩):

______________________________________________________

الاستحاضة. وتحتمل الحرمة إلحاقا له بأيّام الحيض ، إلّا أنّ الحكم فيه قد ثبت بالاستصحاب ، بل الأخبار كما سيجيء. ومثل ردّ السلام في الصلاة إذا كان المسلّم غير بالغ أو غالطا فيه ، إذ يحتمل تحريمه لأجل حرمة إبطال الصلاة ، ويحتمل وجوبه لأجل وجوب ردّ السلام ، إلّا أنّ أصالة الصحّة وعدم عروض المانع تدفع احتمال الحرمة.

وبالجملة ، إنّ وجود مثال مخالف للاصول حتّى يثمر في المقام نادر. ويمكن أن يمثّل له بما اختلفوا فيه من اشتراط الدخول في ثبوت العدّة على الحائل بالطلاق ، كما هو ظاهر المشهور ، أو تكفي فيه المساحقة من مقطوع الذكر سليم الانثيين ، كما حكي عن الشيخ في مبسوطه. قال : «وجبت عليها العدّة إن ساحقها ، فإن كانت حاملا فبوضع الحمل ، وإلّا فبالأشهر دون الأقراء». فإذا طلّقها بعد المساحقة بالطلاق الرجعي ، وراجعها قبل انقضاء عدّتها ، فالتمتّع بها بالدخول أو غيره ـ بعد المطالبة منه ـ يتردّد بين الوجوب والحرمة عند من اشتبه عليه حكم المسألة.

١٣٩٩. بل ستّة ، أحدها : بالإباحة الظاهريّة. الثاني : التوقّف عن الحكم الواقعي ، وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر. الثالث : ترجيح جانب الحرمة. الرابع : التخيير الابتدائي في الأخذ بأحد الاحتمالين. الخامس : التخيير الاستمراري فيه مطلقا. السادس : التخيير الاستمراري بشرط البناء عليه من أوّل الأمر ، كما أشار إلى الجميع في طيّ كلامه. نعم ، قد جعل هنا الأخذ بأحدهما في الجملة ثالث الثلاثة ، مشيرا به إلى الأربعة الأخيرة ، فلا يرد أنّ المذكور هنا وجوه أربعة لا ثلاثة ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ القول منحصر في ترجيح جانب الحرمة والتخيير ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي. ويمكن أن يقال بكونها

٣٣٠

الحكم بالإباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ، فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل ؛ وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح. والتوقّف بمعنى عدم الحكم بشىء لا ظاهرا ولا واقعا ، ووجوب الأخذ بأحدهما بعينه أو لا بعينه. ومحلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ؛ إذ لو كانا تعبّديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة عمليّة.

وكيف كان فقد يقال في محلّ الكلام بالإباحة ظاهرا ؛ لعموم أدلّة الإباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : «كلّ شىء لك حلال» ، وقولهم : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، فإنّ كلا من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته حتّى قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء (١٤٠٠) مطلق حتّى يرد فيه

______________________________________________________

خمسة ، بناء على شمول ما ذكره الشيخ في الإجماع المركّب لما نحن فيه. أحدها : ترجيح جانب الحرمة. وثانيها : التخيير كما عرفت. وثالثها : الرجوع إلى الأصل ، كما حكاه الشيخ هناك ، ومقتضاه الحكم بالإباحة فيما نحن فيه. ورابعها : التوقّف بحسب الواقع ، وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر. واختاره المصنّف رحمه‌الله هنا. وخامسها : التفصيل بين تعدّد الواقعة واتّحادها ، بالقول بالتخيير الابتدائي في الأوّل ، والرجوع إلى البراءة في الثاني. واختاره المصنّف رحمه‌الله أيضا في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي ، وهو ينافي ما اختاره هنا. وعليه تكون الوجوه سبعة.

ثمّ إنّ هذه المسألة ليست مشمولة لنزاع الأخباريّين مع المجتهدين في وجوب الاحتياط وعدمه في الشبهات الحكميّة ، لوضوح أنّهم إنّما يقولون به مع إمكانه لا بدونه ، وقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته. فما صدر عن المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره من جعل هذه المسألة محلّ نقض لقول الأخباريّين ليس في محلّه.

١٤٠٠. وجه خصوصيّة هذه الرواية هو إمكان أن يمنع الاستدلال بها على

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام ، نظرا إلى كون الغاية فيها هو العلم بورود أحد الأمرين من الأمر والنهي ، وهو حاصل في المقام بالفرض. وضعفه ظاهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

لا يقال : إنّه لو كان المراد بالأمر والنهي فيها ما علم تفصيلا لم يجب الاحتياط فيما تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين ، كالظهر والجمعة والقصر والإتمام والإنائين المشتبهين ، لعدم العلم بالأمر والنهي فيهما تفصيلا.

لأنّا نقول : إنّ الأمر في الأوّلين معلوم تفصيلا وإن وقع الاشتباه في متعلّقه. وأمّا الثالث فلا دخل له فيما نحن فيه ، للعلم فيه بالنهي ومتعلّقه تفصيلا ، وإنّما وقع الاشتباه فيه في مصداق متعلّقه ، بخلاف ما نحن فيه ، لفرض الجهل بخصوص الأمر والنهي فيه.

لا يقال : سلّمنا ولكنّها ليست صريحة فيما ذكر ، فلا بدّ من تأويلها بما يشمل العلم الإجمالي أيضا ، لكونه كالتفصيلي في الاعتبار ، كما قرّر في مبحث حجّية القطع.

لأنّا نقول : إنّ هذا إنّما هو فيما استلزم طرحه المخالفة العمليّة ، وليس المقام كذلك ، لأنّ غايته لزوم المخالفة الالتزاميّة كما يظهر من تقريره لدليل العقل.

لا يقال : سلّمنا ولكنّ الفتوى بالإباحة ولو في الظاهر مخالف بحسب العمل لما علم إجمالا من الوجوب أو الحرمة.

لأنّا نقول : سيظهر ضعف هذا الجواب أيضا ممّا ذكره في تقرير دليل العقل.

مضافا إلى وقوع نظير ذلك في الشرع كثيرا ، مثل الحكم بطهارة البدن وعدم ارتفاع الحدث فيما توضّأ بمائع مردّد بين الماء والخمر ، مع ملازمة الطهارة لارتفاع الحدث ، وعدم ارتفاعه للتنجّس بحسب الواقع ، والحكم بأحكام الزوجيّة من أحد الجانبين دون الآخر فيما أقر أحد الزوجين بالزوجيّة وأنكرها الآخر ، إلى غير ذلك ممّا تقدّم في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي ، وسيجيء أيضا في الشبهة المحصورة.

٣٣٢

نهي أو أمر» على رواية الشيخ (١٤٠١) ؛ إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي.

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ؛ فإنّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامّة عقلا لقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة. وليس العلم بجنس التكليف (١٤٠٢) المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ، حتّى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالا.

وأمّا دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ، ففيها : أنّ المراد بوجوب الالتزام : إن اريد وجوب موافقة حكم الله فهو حاصل (١٤٠٣) فيما نحن فيه ؛ فإنّ في الفعل موافقة للوجوب وفي الترك موافقة للحرمة ؛ إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال. وإن اريد

______________________________________________________

١٤٠١. الرواية الاخرى المجرّدة عن لفظ «أو أمر» للصدوق قدس‌سره.

١٤٠٢. لأنّ اللازم من طرح العلم الإجمالي في الأوّل هي المخالفة الالتزاميّة كما فيما نحن فيه ، لأنّ المكلّف بحسب العمل لا يخلو من فعل موافق لاحتمال الوجوب ، وعن ترك موافق لاحتمال الحرمة ، واللازم من طرحه في الثاني هي المخالفة بحسب العمل ، لأنّ من ترك الظهر والجمعة أو القصر والإتمام أو شرب الإنائين المشتبهين كان عمله مخالفا للتكليف المعلوم إجمالا أو تفصيلا لا محالة ، والمسلّم من قبح المخالفة هو الثاني دون الأوّل ، إذ لا دليل عليه سوى بعض الوجوه التي ضعّفها المصنّف رحمه‌الله.

١٤٠٣. إن أراد حصول الموافقة لحكم الله سبحانه في كلّ من حال الفعل والترك فهو واضح الفساد ، للعلم بمخالفة إحدى الحالين للواقع. وإن أراد حصول الموافقة في إحداهما فهو غير كاف في تحصيل موافقة حكم الله ، إذ لو ثبت ذلك ثبت وجوبه في جميع الحالات لا في الجملة. ولكنّ الظاهر ـ بل المتعيّن ـ أنّ مراده بوجوب الموافقة وجوب عدم العلم بمخالفة العمل للواقع ، بأن يريد بالموافقة الموافقة

٣٣٣

وجوب الانقياد والتديّن بحكم الله فهو تابع للعلم بالحكم (١٤٠٤) ، فإن علم تفصيلا وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا وجب التديّن بثبوته في الواقع ، ولا ينافي ذلك التديّن حينئذ بإباحته ظاهرا ؛ إذ الحكم الظاهري لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعي من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به.

ومنه يظهر اندفاع ما يقال : من أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلّا أنّ طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي ، وهو محرّم. وعليه يبنى عدم

______________________________________________________

الاحتماليّة لا القطعيّة ، كما يرشد إليه تعليله بقوله : «فإنّ في الفعل موافقة للوجوب» لعدم العلم بالوجوب بالفرض حتّى تكون موافقة الفعل موافقة قطعيّة. والوجه فيه أنّ ما يقبح عقلا هو العلم بالمخالفة لا احتمالها ، وإلّا ثبت وجوب الاحتياط في جميع موارد الشبهات البدويّة ، والفرض في المقام بطلانه.

١٤٠٤. حاصله : أنّه لم يدلّ دليل على وجوب الانقياد على الأحكام الواقعيّة ، بمعنى كون ذلك أيضا حكما من الأحكام الواقعيّة سابقا على العلم به ، ولا استفيد ذلك من الدليل المثبت للحكم ، وإنّما هو تابع للعلم بالحكم لأجل وجوب التديّن بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن علم تفصيلا يجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالا فكذلك أيضا ، كما سيجيء توضيحه. والتديّن الإجمالي بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع لا ينافي جواز التديّن بالإباحة الظاهريّة ، ومن حيث كون الفعل غير معلوم الحكم تفصيلا ، لأنّه إنّما ينافي العلم بالواقع تفصيلا ، لأنّ المأخوذ حينئذ في موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الواقع ، وهو لا يجتمع مع العلم به تفصيلا وكذا إجمالا ، مع استلزام طرحه للمخالفة العمليّة ، لما عرفت في الحاشية السابقة من قبحه ، وشيء منهما غير لازم فيما نحن فيه.

وأنت خبير بأنّه ينافي ما تقدّم منه في المقصد الأوّل عند بيان حكم مخالفة العلم الإجمالي ، من تقويته لعدم جواز الرجوع إلى الإباحة فيما احتمل الوجوب والحرمة كما في ما نحن فيه ، نظرا إلى استلزام الفعل في زمان والترك في آخر

٣٣٤

جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الامّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه‌السلام في أحدهما. توضيح الاندفاع (١٤٠٥) : أنّ المحرّم وهو الطرح في مقام العمل غير متحقّق ، والواجب في مقام التديّن الالتزام بحكم الله على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقّق في الواقع ، فلم يبق إلّا وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلا.

والحاصل : أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم أنّه حكم الله الواقعي ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها من اللوازم العقليّة للعلم (*) التفصيلي يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى ، فلا يعقل وجوده مع انتفائه ، وليس حكما شرعيّا (١٤٠٦) ثابتا في الواقع حتّى يجب

______________________________________________________

للمخالفة العمليّة ، فراجع.

١٤٠٥. حاصله : أنّ هنا امورا أربعة : أحدها : طرح المعلوم بالإجمال بحسب العمل. الثاني : التديّن بحكم الله الواقعي على نحو ثبوته عندنا. الثالث : وجوب الالتزام بخصوص أحد الاحتمالين. الرابع : جواز التديّن بالإباحة الظاهريّة. والمحرّم من هذه الامور هو الأوّل ، وهو غير حاصل. والواجب بمقتضى وجوب التديّن بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الثاني ، وهو حاصل بالفرض. والمطلوب هو الثالث ، ولا دليل عليه. فتعيّن الرابع.

١٤٠٦. يعني : أنّ وجوب الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة لو لم يكن تابعا للعلم التفصيلي ، بل كان واجبا واقعيّا في عرض سائر الواجبات الواقعيّة التي يجب مراعاتها مع الجهل التفصيلي ، كان اللازم في المقام هو وجوب الأخذ بخصوص أحدهما ، وإلّا لزمت المخالفة العمليّة لما علم من وجوب الالتزام في الواقع بما علم إجمالا من الوجوب أو الحرمة. وقد أشار إلى هذا الوجه في صدر الكتاب أيضا.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : العادى.

٣٣٥

مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي. ومن هنا يبطل (١٤٠٧) قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدالّة أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين.

______________________________________________________

وحاصله : ثبوت الفرق بين كون العلم التفصيلي بالأحكام الواقعيّة أو العلم الإجمالي بها مأخوذا في موضوع وجوب الالتزام التفصيلي أو الإجمالي ، وبين كون وجوب الالتزام بها حكما واقعيّا سابقا على العلم بها كنفس سائر الأحكام الواقعيّة ، إذ اللازم على الأوّل هو عدم وجوب الالتزام ما لم يحصل العلم بها تفصيلا أو إجمالا ، وإلّا لزم تقدّم الحكم على موضوعه. وحينئذ إن حصل العلم بها تفصيلا وجب الالتزام بها كذلك ، وإن حصل العلم بها إجمالا وجب الالتزام بها كذلك ، بمعنى وجوب الالتزام بوجوب الفعل في الواقع إن كان واجبا في الواقع وبحرمته إن كان حراما كذلك ، وهو لا ينافي البناء على الإباحة في مقام الظاهر. واللازم على الثاني هو وجوب الالتزام بوجوب الفعل بالخصوص أو حرمته كذلك في مقام الظاهر. إذ الالتزام بإباحته كذلك مستلزم لمخالفة العمل لما علم وجوبه في الواقع من وجوب الالتزام بالحكم الواقعي للفعل من الوجوب أو الحرمة ، نظير سائر الواجبات التي يجب عدم مخالفة العمل لها.

١٤٠٧. أي : من عدم كون وجوب الالتزام بالأحكام الواقعيّة حكما واقعيّا في عرض غيرها. ووجه البطلان هو كون وجوب الالتزام بالأخبار من حيث هي حكما واقعيّا في المسألة الاصوليّة بمقتضى أدلّة اعتبارها ، فإذا تعذّر امتثال هذا الحكم الواقعي لأجل تعارض الخبرين وجب الأخذ بأحدهما لا محالة ، كي لا تلزم المخالفة بحسب العمل لهذا الحكم. ومن هنا قد استدلّ في محكيّ المفاتيح على التخيير في تعارض الخبرين بأدلّة اعتبارهما ، فالحكم بوجوب الأخذ بأحدهما يكون واردا على وفق القاعدة ، وتبقى أخبار التخيير شاهدا له ، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه ينافي ما تقدّم منه في المقصد الأوّل عند بيان جواز

٣٣٦

ولا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط (١٤٠٨) هو وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما ، هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجّية ، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بدّ من الأخذ بأحدهما ، وهذا تكليف شرعيّ في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالا في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولو لا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا تكليف إلّا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.

ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك». وقوله عليه‌السلام : «من باب التسليم» إشارة إلى أنّه لمّا وجب على المكلّف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ـ كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمّة عليهم‌السلام ، منها قوله : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» ـ ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا ، وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه.

______________________________________________________

مخالفة العلم الإجمالي ، من استدلاله بأخبار التخيير في تعارض الخبرين على وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين فيما نحن فيه ، وعدم جواز الحكم بالإباحة فيه فراجع.

١٤٠٨. لأنّ المناط في حكم الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين إنّما هو عدم إعراضه عن الأحكام الواقعيّة ورجحان الأخذ بها بحسب الإمكان ، وهو موجود فيما نحن فيه أيضا ، بل على وجه الأولويّة ، للعلم إجمالا بصدق أحد الاحتمالين ، بخلاف الخبرين المتعارضين ، لاحتمال كذب كلا المتعارضين. ومن هنا يظهر إمكان تقريب الدلالة بوجهين : أحدهما : تنقيح المناط ، والآخر : الأولويّة القطعيّة. ويرد على الأوّل ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله ـ أنّه يحتمل أن يكون

٣٣٧

ثمّ إنّ هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع (١٤٠٩) إلّا أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض ، فافهم (*). وبما ذكرنا ، يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة.

وما ذكروه في مسألة (١٤١٠) اختلاف الامّة لا يعلم شموله لما نحن فيه ممّا كان الرجوع (١٤١١) إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه‌السلام ، مع أنّ

______________________________________________________

أمر الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين لأجل مصلحة في العمل بخبر العادل سوى مصلحة الوصول إلى الواقع ، ومع احتمالها يكون المناط مستنبطا لا قطعيّا. ومنه يظهر منع الأولويّة فضلا عن أن تكون قطعيّة ، فلا تغفل.

١٤٠٩. لأنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو قلنا باعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، لا من باب كونها مرآة وطريقا إلى الواقع كما هو الأظهر ، وإلّا فمقتضى القاعدة عند التعارض هو التساقط ، فلا بدّ أن يكون ما تضمّنته الأخبار من التخيير في تعارض الخبرين من باب التعبّد ، وهو غير مفيد في المقام. وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى في باب التعادل والترجيح.

ولكنّك خبير بأنّ ما دلّ على كون اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة إن كان ظنّا معتبرا شرعا فلا اعتداد بإبداء احتمال الخلاف في المقام ، وإن لم يكن معتبرا كذلك فلا وجه للمنع المذكور.

١٤١٠. في مقام بيان عدم جواز خرق الإجماع المركّب من عدم جواز مخالفة قول الإمام عليه‌السلام ووجه عدم الشمول هو احتمال اختصاصه بما استلزم الخرق المخالفة العمليّة ، وهي منتفية فيما نحن فيه بالفرض.

١٤١١. بيان لما نحن فيه.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فالأقوى فى المسألة : التوقّف واقعا وظاهرا ؛ وأنّ الأخذ بأحدهما قول بما لا يعلم لم يقم عليه دليل ، والعمل على طبق ما التزمه على أنّه كذلك لا يخلو من التشريع.

٣٣٨

عدم جواز (١٤١٢) الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتّفاقيّا.

على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ـ كما سيجيء ـ هو إرادة التخيير الواقعي (١٤١٣) المخالف لقول الإمام عليه‌السلام في المسألة ، ولذا اعترض عليه المحقّق بأنّه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ؛ لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه‌السلام.

وإن انتصر للشيخ بعض (١٤١٤) بأنّ التخيير بين الحكمين ظاهرا وأخذ أحدهما ،

______________________________________________________

١٤١٢. في مسألة اختلاف الامّة. ووجه عدم الاتّفاق ظاهر من كلام الشيخ.

١٤١٣. يؤيّده عدم الإشارة إلى الحكم الظاهري في كلمات الفقهاء ، فحيث يطلقون الحكم ـ سواء كان هو التخيير أو غيره من الأحكام الخمسة ـ فالظاهر إرادة الواقعي منه ، حتّى إنّ ظاهرهم اعتبار الاصول من باب الظنّ الذي مقتضاه تعيين الحكم الواقعي. وتقسيمه إلى الواقعي والظاهري إنّما حدث في كلام المتأخّرين ، كما هو واضح للمتأمّل المتتبّع.

ولكنّك خبير بأنّ استشهاده فهم المحقّق ربّما ينافيه ظاهر كلامه في مسألة اتّفاق الامّة بعد اختلافهم ، لأنّ الشيخ بعد أن منع ذلك لمنافاته التخيير ـ كما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ـ اعترضه المحقّق بجواز كون التخيير مشروطا بعدم الاتّفاق فيما بعد. وهذا إنّما يناسب فهم المحقّق من التخيير في كلام الشيخ التخيير مع الظاهري ، لوضوح عدم اشتراط الأحكام الواقعيّة باتّفاق الآراء أو اختلافها ، وإلّا كان شبيها بالتصويب. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مراده دعوى الاشتراط بحسب الواقع ، بناء على أنّ بطلان المطلب لا يدلّ على عدم إرادته. ويؤيّده ما قدّمناه من عدم الإشارة في كلماتهم إلى تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري ، سيّما كلماته بذلك.

١٤١٤. هو المحقق القمّي قدس‌سره تبعا لسلطان العلماء في حاشية المعالم ، وقد ادّعى فيها صراحة كلام الشيخ في إرادة التخيير الظاهري ، نظرا إلى قوله : «نحن مخيّرون في العمل» سيّما مع تعقيبه بقوله : «وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا».

٣٣٩

هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام ، لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره يأبى عن ذلك ، قال في العدّة : إذا اختلفت الامّة على قولين فلا يكون إجماعا ، ولأصحابنا في ذلك مذهبان : منهم من يقول : إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم أو يدلّ على أنّ المعصوم عليه‌السلام داخل فيه ، سقطا ووجب التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم ، وهذا القول ليس بقويّ. ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه‌السلام (١٤١٥) ، قال : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه‌السلام تركه والعمل بما في العقل. ومنهم من يقول : نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا ، انتهى.

ثمّ فرّع على القول الأوّل جواز اتّفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ؛ معلّلا بأنّه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر ، وقد قلنا : إنّهم مخيّرون في العمل ، ولو كان إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك ، انتهى.

______________________________________________________

أقول : إنّ كلام الشيخ وإن لم يكن صريحا فيما ذكره ، لكنّ الإنصاف ظهوره فيه ، ولعلّه لا يقصر عمّا استشهده المصنّف رحمه‌الله من التفريع. ولعلّ هذه الخلافات والتنافيات ناشئة من عدم التفرقة بين الحكم الواقعي والظاهري موضوعا وآثارا. وحينئذ يحتمل أن يكون الشيخ قد أراد بالتخيير التخيير الظاهري ، ومع ذلك قد منع الاتّفاق بعد الخلاف ، بزعم منافاة ذلك للحكم بالتخيير. ويؤيّده ما عرفته في الحاشية السابقة من الاختلاف في كلمات المحقّق أيضا. والإنصاف أنّ هذا كلّه خارج من السداد ، وستعرف ما ينبغي بناء كلام الشيخ عليه.

١٤١٥. قال ما لفظه : «لأنّهم إذا اختلفوا على قولين علم أنّ قول الإمام موافق لأحدهما ، لأنّه لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين ، لأنّ ذلك مقتضى كونهم مجمعين على قولين» انتهى. والظاهر أنّ مراده بقوله : «كونهم مجمعين ...» إجماعهم على نفي الثالث ، فهو لا ينافي قوله فيما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله : «فلا يكون إجماعا» لأنّ مراده به نفي الإجماع على خصوص أحد القولين.

٣٤٠