فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

وأمّا العقل ، فتقريره بوجهين : أحدهما : أنّا نعلم إجمالا (١٢٤١) قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣٥) ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتّفاق المجتهدين والأخباريّين ، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ، فلا بدّ من اجتناب كلّ ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ يدلّ على حلّيته ؛ إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.

______________________________________________________

ومع تسليم ظهور النبويّ في وجوب الاحتياط لا بدّ من رفع اليد عنه للأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله ، لكونها أظهر منه في إرادة الاستحباب. ومع التسليم فهو معارض بالأخبار الدالّة على التخيير في تعارض النصّين ، بناء على كون الشبهة أعمّ من أن تكون ناشئة من فقد النصّ وإجماله وتعارضه ، ولذا استشهده الإمام عليه‌السلام في تعارض النصّين. ومع التسليم أيضا يأتي فيه جميع ما أجيب به عن أخبار التوقّف ، كلّ على حسب زعمه. ومع تسليمه أيضا تعارضه مرسلة الفقيه : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» معتضدة بغيرها من أخبار البراءة ، ومع التساقط يرجع إلى أصالة الإباحة في الأشياء. هذا إن قلنا بتواتر الأخبار من الطرفين ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات ، وحينئذ إن لم نقل بالترجيح بموافقة الأصل فلا ريب في كون الشهرة العظيمة المحقّقة مرجّحة لأخبار البراءة ، فيجب الإذعان بمقتضاها ، والله أعلم بحقائق أحكامه.

١٢٤١. هذا الدليل مركّب من مقدّمات ، إحداهما : العلم إجمالا بوجود محرّمات في الواقع. الثانية : وجوب الانتهاء عنها في الجملة. الثالثة : كون الانتهاء عنها على وجه اليقين دون الظنّ والاحتمال. والاولى ثابتة بالضرورة ، والثانية بالآية الشريفة ، والثالثة بإجماع المجتهدين والأخباريّين وحينئذ يشكل الأمر بعدم

١٦١

فإن قلت : بعد مراجعة الأدلّة نعلم تفصيلا بحرمة امور كثيرة ولا نعلم إجمالا بوجود ما عداها ، فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن حتّى يجب الاحتياط. وبعبارة اخرى : العلم الإجمالي قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجمالي.

قلت : إن اريد من الأدلّة (١٢٤٢) ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأوّلي ، فكلّ مراجع في الفقه يعلم أنّ ذلك غير ميسّر ، لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنّية. وإن اريد منها ما يعمّ الدليل الظنّي المعتبر من الشارع فمراجعتها لا توجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا ؛ إذ ليس معنى اعتبار الدليل

______________________________________________________

ثبوت شيء من هذه المقدّمات بالعقل ، فكيف سمّي الدليل المركّب منها عقليّا؟

ويمكن دفعه بأنّ مقصوده من الاتّفاق ليس إثبات المقدّمة الثالثة بالإجماع المصطلح ، بل بحكم العقل المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريّين. نعم ، كان الأولى في المقدّمة الثانية أيضا التمسّك بالعقل ، لأنّ مقتضى الآية لا يزيد على ما يستقلّ به العقل من وجوب إطاعة المولى ، ليكون تمام الكبرى ثابتا بالعقل. وحاصل هذا الدليل : كون المقام من قبيل شبهة الكثير في الكثير التي هي في حكم الشبهة المحصورة.

١٢٤٢. حاصل الجواب : أنّ رجوع العلم الإجمالي الحاصل قبل المراجعة إلى الأدلّة إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي بعد الرجوع إليها إنّما يتمّ بوجهين : أحدهما : أن تكون الأدلّة مفيدة للقطع بالواقع. الثاني : أن يكون التكليف في الواقع متعلّقا بما أدّى إليه الطرق الظاهريّة ، لأنّ مقتضى ذلك عدم التكليف في الواقع في الموارد الخالية من الطرق الظاهريّة.

والأوّل باطل بالوجدان باعتراف من الأخباريّين أيضا ، لأنّهم وإن زعموا قطعيّة الأخبار سندا إلّا أنّهم اعترفوا بظنّيتها دلالة. وما حكي عن الأمين الأسترآبادي من قطعيّتها مطلقا كما ترى.

١٦٢

الظنّي إلّا وجوب الأخذ بمضمونه ، فإن كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات الواقعيّة ، وإن كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات ، وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالا. وليس الظنّ التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها ؛ لأنّ العلم التفصيلي بنفسه مناف لذلك العلم الإجمالي ، والظنّ غير مناف له لا بنفسه ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به ، كان ما عدا ما تضمّنه الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها.

وبالجملة فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة وبقي الشكّ في جملة ثالثة ؛ فإنّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرّمات.

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قامت عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعي.

______________________________________________________

والثاني مستلزم إمّا للتصويب ، نظرا إلى دوران المطلوبيّة الواقعيّة والفعليّة مدار ظنّ المجتهد ، أو ما يشبهه ، بناء على كون التصويب عبارة عن كون الحكم الواقعي من رأس تابعا لظنّ المجتهد ، والفرض في المقام تحقّق وجود واقعيّ للأحكام الواقعيّة في الجملة ، إلّا أنّ توقّف المطلوبيّة على ظنّ المجتهد جعل ذلك شبيها بالتصويب ، لعدم توقّف المطلوبيّة الواقعيّة عليه على القول بالتخطئة وإن توقّف تنجّزها عليه. وبعبارة اخرى : أنّ لازمه القول بأنّ الشارع قد جعل في الواقع حكما ناشئا من ملاحظة مصلحة أو مفسدة ، إلّا أنّ محبوبيّة هذا الحكم ومطلوبيّته له في الواقع والظاهر كانت مشروطة بظنّ المجتهد ، لا أن يكون ظنّه سببا لجعله في

١٦٣

والجواب أوّلا منع تعلّق (١٢٤٣) تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلّا بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدّى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويب أو ما يشبهه ؛ لأنّ ما ذكرناه هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه ، وحينئذ فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

______________________________________________________

الواقع كما ظنّه أهل التصويب.

وبعد بطلان الوجهين يظهر أنّ معنى اعتبار الأدلّة تنزيل مؤدّياتها بمنزلة الواقع بحكم الشارع ، بمعنى المعذوريّة في العمل بها على تقدير تخلّفها عنه ، لا حصر الواقع في مؤدّياتها حتّى يدّعى انحلال العلم الإجمالي بعد مراجعة الأدلّة بحكم الشارع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي.

ولكنّك خبير بأنّه إن تمّ هذا الدليل العقلي لدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة أيضا ، وهو خلاف ما اتّفق عليه المجتهدون والاصوليّون. ودعوى أنّها خارجة من مقتضى الدليل بالإجماع ، لجواز اقتناع الشارع بالموافقة الاحتماليّة عن الواقع ، فلا يرد عدم جواز تخصيص الدليل العقلي ، مدفوعة بمنع الإجماع أوّلا ، ومنع حجّيته عند الأخباريّين ثانيا.

١٢٤٣. حاصله : أنّ مقتضى تعلّق التكليف بالواقع ـ كما هو مقتضى الخطابات ونصب الطرق الظاهريّة إليه ـ هو عدم تعلّق تكليف غير القادر على العلم إلّا بما أدّت إليه الطرق الظاهريّة ، بمعنى عدم تنجّز التكليف بالواقع إلّا على حسب تأدية الطرق الظاهريّة ، لا بالواقع مطلقا ، لمنافاته لنصب الطرق الظاهريّة ، ولا بمؤدّى الطرق كذلك بحيث ينقلب التكليف إليه ، لاستلزامه التصويب أو ما يشبهه كما عرفته في الحاشية السابقة ، ولا ريب أنّه مع اشتراط تنجّز الأحكام الواقعيّة بتأدية الطرق الظاهريّة إليها في حقّ غير القادر على تحصيل العلم بالواقع ،

١٦٤

وثانيا : سلّمنا التكليف الفعلي (١٢٤٤) بالمحرّمات الواقعيّة ، إلّا أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ أنّه إذا ثبت في المشتبهات (*) المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الإجمالي ، اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ؛ لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحلّ في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ، سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي ـ كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فإنّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ـ أم كان لاحقا كما في مثال الغنم المذكور ؛ فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

______________________________________________________

كانت الموارد الخالية منها مجرّدة عن العلم الإجمالي.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب مبنيّ إمّا على القول بعدم تأثير العلم الإجمالي في إثبات التكليف أصلا ، وإمّا على القول بعدم تأثيره في إثبات وجوب الموافقة القطعيّة وإن قلنا بجواز المخالفة الاحتماليّة ، وكلّ منهما خلاف مذهب المصنّف قدس سرّه ، ولذا يقول بوجوب الاحتياط فيما دار الواجب بين أمرين بعد العلم بأصل الوجوب في الجملة ، كالظهر والجمعة والقصر والإتمام في بعض الموارد.

مع أنّ مقتضى ما ذكر هو القطع بعدم التكليف في الموارد الخالية من الطرق الظاهريّة لا الشكّ فيه ، كما هو مقتضى كونها من موارد قاعدة البراءة والاشتغال.

١٢٤٤. توضيحه : أنّ اعتبار أخبار الآحاد يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون مقتضى أدلّة اعتبارها إثبات اعتبار مؤدّياتها ، بمعنى الحكم بكون ما دلّ خبر الواحد على حرمته مثلا حراما في الواقع بتنزيل الشارع ، مع

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «المشتبهات» ، الشبهات.

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قطع النظر عن كون ما جعله الشارع حراما في الواقع هو مؤدّى هذا الطريق أيضا أو غيره.

وثانيهما : أن يكون مقتضاها إثبات اعتبارها في مقام تشخيص المجهولات الواقعيّة ، بأن يقول : إنّ ما أدّى إليه خبر الواحد هو ما حكمت به في الواقع ويجب البناء عليه.

وأثر الوجهين يظهر في أنّ مقتضى الأوّل عدم انحلال العلم الإجمالي بعد مراجعة الأدلة إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، لما قرّره المصنّف رحمه‌الله في تقرير الدليل العقلي من عدم منافاة العلم الإجمالي للظنّ التفصيلي ولا لدليل اعتباره على هذا الوجه ، لأنّ وجوب البناء على كون مؤدّيات الطرق الظاهريّة هو الواقع بتنزيل الشارع ، بأن يجب البناء إذا دلّ خبر الواحد على حرمة شيء على كونه حراما في الواقع بحكم الشارع ، لا يقتضي انحصار الواقع في مؤدّياتها ، بخلافه على الثاني ، لأنّ وجوب البناء على كون مؤدّياتها هو ما جعله الشارع من الأحكام الواقعيّة يقتضي انحصار الواقع في مؤدّياتها ، بمعنى عدم العلم بالوجوب والحرمة بحكم الشارع في غير مؤدّياتها.

ومن هنا يظهر أنّه مع سبق المراجعة إلى الأدلّة على العلم الإجمالي لا يجب الاحتياط في الموارد الخالية منها على الوجهين. أمّا على الأوّل فلاحتمال كون المحرّمات الواقعيّة هو ما قامت عليه الأدلّة ، فتكون أصالة البراءة في الموارد الخالية منها سليمة من المعارض ، نظير ما لو علمت نجاسة أحد الإنائين بالخصوص ثمّ وقعت قطرة دم في أحدهما المجهول ، كما أوضح المصنّف رحمه‌الله ذلك في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة المحصورة ، فراجع وأمّا على الثاني فواضح ممّا ذكرناه ، لفرض عدم بقاء العلم الإجمالي في الموارد الخالية منها على ما عرفت.

وأمّا مع لحوقها به ، بأن كان العلم الإجمالي سابقا عليها ، فعلى الأوّل يجب الاحتياط في الموارد الخالية ، لفرض تنجّز التكليف بالواقع قبل المراجعة ، وغاية ما

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تقتضيه المراجعة إلى الأدلّة والعمل بها هو الظنّ بالخروج من عهدة المحرّمات الواقعيّة لا اليقين بها ، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، فلا يكفي الظنّ بها ، كيف لا ولا ظنّ بالخروج من عهدة جميعها. وقد صرّح المصنّف رحمه‌الله في التنبيه الخامس من تنبيهات الشّبهة المحصورة ـ فيما لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب بعض أطراف الشبهة ـ بعدم وجوب الاجتناب عن الآخر إن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه ، وبوجوبه إن كان بعده ، فراجع. وعلى الثاني لا يجب الاحتياط فيها كما هو واضح ممّا عرفت.

وإذا عرفت ذلك تحقّق لك أنّ ما حكم به المصنّف رحمه‌الله هنا من عدم وجوب الاحتياط في الموارد الخالية من الأدلّة ، سواء كانت المراجعة إليها قبل العلم الإجمالي أم بعده ، إنّما يتمّ على الوجه الثاني ، كما يرشد إليه قوله هنا : «فإنّ العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها ...». وتقرير الدليل العقلي المذكور مبنيّ على الأوّل ، كما يرشد إليه قوله هناك : «إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلّا وجوب الأخذ ...».

والوجه في كون اعتبار أخبار الآحاد من قبيل الثاني أنّه إذا أخبر واحد عن حكم واقعة من الأحكام الشرعيّة ، فمرجعه إلى الإخبار عمّا جعله الله تعالى في هذه الواقعة في نفس الأمر ، فكأنّه قال : ما جعله الله تعالى في هذه الواقعة في الواقع هو هذا. فإذا دلّ دليل على اعتبار خبره كان مقتضاه تنزيل ما أخبر به بمنزلة الواقع ، بمعنى عدم الاعتناء باحتمال الكذب في خبره ، وفرضه كالمقطوع بصدقه. وحينئذ فمقتضى اعتبار أخبار الآحاد هو كون مؤدّياتها بحكم الشارع هي الأحكام الواقعيّة التي جعلها الله تعالى في الواقع ، لا كون ما أخبر بحرمته مثلا حراما في الواقع ، مع قطع النظر عن كون ذلك هو الحرام الواقعي المجهول أو غيره. وقد عرفت أنّ مقتضى الأوّل انحصار الواقع بحكم الشارع في مؤدّيات الطرق ، وصيرورة الموارد الخالية منها مشكوكة بالشكّ البدوي.

١٦٧

الوجه الثاني : أنّ الأصل (١٢٤٥) في الأفعال الغير الضرورية الحظر ، كما نسب إلى طائفة من الإماميّة ، فيعمل به حتّى يثبت من الشرع الإباحة ، ولم يرد الإباحة فيما لا نصّ فيه. وما ورد ـ على تقدير تسليم دلالته ـ معارض بما ورد من الأمر بالتوقّف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل. ولو تنزّلنا عن ذلك فالوقف ، كما عليه الشيخان قدس‌سرهما. واحتجّ عليه في العدّة : بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة (٣٦).

______________________________________________________

ومن هنا قد تبيّن أنّ قياس اعتبار الأدلّة على اعتبار الأمارات كالبيّنة غير صحيح ، لأنّه إذا علمت إجمالا حرمة طائفة من قطيع غنم ، فإن أخبرت البيّنة بأنّ ما علمت إجمالا حرمته هي هذه الطائفة من القطيع ، فقد عرفت انحلال العلم الإجمالي حينئذ ـ بحكم أدلّة اعتبار البيّنة ـ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي. وإن أخبرت بحرمة طائفة منها مع قطع النظر عن كونها هي المعلومة إجمالا أو غيرها ، فالعلم الإجمالي حينئذ وإن كان باقيا على حاله ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ الأدلّة الظنّية ليست كذلك.

وهنا جواب آخر ذكره المصنّف رحمه‌الله عند بيان شرائط العمل بأصالة البراءة ، من منع العلم الإجمالي في غير موارد الأدلّة التي يمكن الوصول إليها. وقد زيّفه هناك بقوله : «ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة». ثمّ أحال تحقيق ما ذكره هناك إلى المراجعة إلى ما ذكره هنا.

١٢٤٥. هذا الدليل ربّما ينافي ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في تقرير الإجماع من اتّفاق كلّ من المجتهدين والأخباريّين على قبح العقاب بلا بيان ، وأنّ قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط إنّما هو لأجل الأخبار الواردة فيه. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذا الدليل مبنيّ على قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، لا على عدم قبح العقاب بلا بيان. لكنّه مع فساده في نفسه ـ لاستغنائه سبحانه عمّا سواه ـ

١٦٨

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية وإن قال بالإباحة (*) كالسيّد المرتضى رحمه‌الله تعويلا على قاعدة «اللطف» ، وأنّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه ، لكن ردّها في العدّة : بأنّه قد يكون المفسدة في الإعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.

والجواب : بعد تسليم استقلال (١٢٤٦) العقل بدفع الضرر أنّه إن اريد ما يتعلّق بأمر الآخرة من العقاب ، فيجب على الحكيم تعالى بيانه ، فهو مع عدم البيان مأمون ، وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتّبة مع الجهل أيضا ، فوجوب دفعها غير لازم عقلا ؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع (١٢٤٧) إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ، وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد. وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتّب عليه العقاب ؛ لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ـ لأنّ المحرّم هو مفهوم الإضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاصّ ـ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتّفاق الأخباريّين أيضا ، وسيجيء تتمّة الكلام في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله.

______________________________________________________

ينافي ما أجاب به عنه المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ظاهره كون مبنى أصالة الحظر على وجوب دفع الضرر المحتمل.

١٢٤٦. فيه إشارة إلى منع استقلال العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وهو ينافي ما قوّاه عند الاستدلال على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر المظنون ، من دعوى استقلاله بدفع المحتمل منه أيضا.

١٢٤٧. هذا ينافي دعوى إطباق العقلاء على وجوب دفع الضرر المظنون فضلا عن المقطوع عند استدلاله على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر المظنون ، إذ لا ريب أنّ الدواعي النفسانيّة لا تمنع من تقبيح العقل. اللهمّ إلّا أن يكون

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالإباحة» ، بأصالة الإباحة.

١٦٩

وينبغى التنبيه على امور : الأول : أنّ المحكيّ عن المحقّق التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، ولا بدّ من حكاية كلامه قدس‌سره في المعتبر والمعارج حتّى يتّضح حال النسبة ، قال في المعتبر : الثالث ـ يعني من أدلّة العقل ـ : الاستصحاب ، وأقسامه ثلاثة : الأوّل : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا ؛ لأنّ الأصل براءة العهدة. ومنه : أن يختلف العلماء في حكم الدية (*) بين الأقلّ والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع. إلى أن قال : الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفائه. وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة. ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر. الثالث : استصحاب حال الشرع. فاختار أنّه ليس بحجّة (٣٧) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

وذكر في المعارج على ما حكي عنه : أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك ،

______________________________________________________

فضلا عن المقطوع عند استدلاله على حجيّة الظنّ المطلق بوجوب دفع الضرر الداعي منفعة مساوية للضرر أو أقوى منه ، فتدبّر. ومن هنا يظهر أنّ تجويز الشارع لذلك في بعض الموارد لا يمنع من حكم العقل به ، لكشف ذلك عن وجود مصلحة مساوية للضرر أو أقوى منه. ولا ريب أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب دفع الضرر إذا لم يكن متداركا بمساويه أو أقوى منه. فالأولى في المقام أن يجاب بأنّ دفع الضرر المحتمل وإن كان واجبا ، إلّا أنّ تجويز الشارع للاقتحام فيه بأدلّة البراءة كشف عن وجود ترياق مصلح له في الواقع ، ومعه لا تتمّ دعوى استقلال العقل به على ما عرفت.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : المردّدة.

١٧٠

فيجب نفيه. وهذا الدليل لا يتمّ إلّا ببيان مقدّمتين : إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه. والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم (٣٨) ، انتهى.

وحكي عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده : أنّ تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتّبع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، فإذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديّا بعدمه ، لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا ـ أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ، كما في المعتبر ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان هممهم وهمّ الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعون منهم في الاصول ؛ لئلّا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ، ولتعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم كما في الروايات المتقدّمة ، ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع.

إلى أن قال : ولا يجوز التمسّك به في غير المسألة المفروضة ، إلّا عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به ، وتوفّرت الدواعي على جهة واحدة على نشره ، وما خص صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به (٣٩) ، انتهى.

١٧١

أقول : المراد بالدليل المصحّح (١٢٤٨) للتكليف ـ حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ـ هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه والاستفادة منه ، فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف (*) أصلا أو كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف أو تيسّر ولم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ ؛ فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح على ما صرّح به المحقّق قدس‌سره في كلامه السابق ، سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعلي حكما آخر ـ يسمّى حكما واقعيّا وحكما شأنيّا ـ على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس ورائه حكم آخر ؛ للاتّفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ.

وحينئذ فكلّ ما تتّبع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعلي. ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ولا بين العامّة والخاصّة ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين

______________________________________________________

١٢٤٨. هذا تمهيد وتوطئة لدفع توهّم التفصيل المعزى إلى المحقّق من عبارة المعارج ، مع الإشارة إلى تزييف ما زعمه الأمين الأسترآبادي تحقيقا لكلام المعارج. وحاصله : أنّ ما يمكن أن يتوهّم منه ذلك منها قوله : «أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ...» ، وهو فاسد ، لأنّ مقصوده من الأدلّة التي ادّعى أنّ الحكم لو كان ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الأدلّة هي الأدلّة التي يمكن الوصول إليها لا مطلقها ، لأنّها هي التي يلزم مع عدم دلالتها على الحكم التكليف بما لا طريق للمكلّف إليه لو كان الحكم ثابتا في الواقع ، كما هو واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله. ومرجعه إلى التمسّك بقبح التكليف بلا بيان بعد الفحص عن الأدلّة وعدم وجدان ما يدلّ عليه. ولا ريب أنّه لا فرق في ذلك بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، كي يتوهّم منه التفصيل المذكور ، ولا بين المخطئة والمصوّبة كما توهّمه الأسترآبادي. وسنشير إلى وجه

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «شاف» ، شأني.

١٧٢

المجتهدين والأخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ـ فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقّق قدس‌سره من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ؛ لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به. نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه ؛ بعموم (*) البلوى به لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه.

لكن هذا الظنّ لا دليل (١٢٤٩) على اعتباره ، ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقّق. فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقّق ـ مع أنّه غير تامّ في نفسه ـ أجنبيّ عنه بالمرّة. نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة : الظنّ بها فيما بعد الشرع كما سيجيء عن بعضهم ، لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقّق.

______________________________________________________

عدم دلالة كلام المعتبر أيضا عليه.

١٢٤٩. أمّا عدم الدليل على اعتباره فواضح ، لعدم الدليل على اعتبار مطلق الظنّ. لا يقال : إنّ العمل بهذا الظنّ إجماعي. لأنّا نمنع الإجماعي ، لأنّ غاية الأمر أنّ العمل على طبق أصالة البراءة إجماعي ، وأمّا كون ذلك لأجل إفادتها الظنّ فلا. مع أنّ مورد قاعدة عدم الدليل أعمّ من مورد أصالة البراءة ، فكيف يجعل الإجماع عليها إجماعا عليها؟

وأمّا عدم دخله في أصل البراءة ، فلأنّ حكم العقل بها قطعي لا ظنّي. هذا إن قيست البراءة إلى الظاهر ، وإن قيست إلى الواقع فهو قد لا يفيد الظنّ بها ، بل قد يحصل الظنّ بخلافها من أمارة غير معتبرة كالقياس ونحوه. فكيف يكون الظنّ الحاصل

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بعموم» ، لعموم.

١٧٣

ومن هنا يعلم (١٢٥٠) : أنّ تغاير القسمين الأوّلين من الاستصحاب باعتبار كيفيّة الاستدلال ؛ حيث إنّ مناط الاستدلال في هذا القسم الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة ، فجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتّكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ، ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظة الحالة السابقة حتّى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم.

______________________________________________________

من عدم وجدان الدليل دليلا عليها مطلقا؟

وأمّا عدم دخله في مسألة التكليف بما لا يطاق ، فلأنّ عدم الاعتداد بالظنّ الحاصل بعدم التكليف الواقعي مع ثبوته فيه لا يستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأنّ ما يستلزمه هو ثبوت التكليف الفعلي في الواقع مع عدم الدليل عليه ، لا ثبوت التكليف الواقعي مطلقا كذلك ، كما هو واضح.

وأمّا عدم دخله في كلام المحقّق فلما حقّقه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «المراد بالدليل المصحّح ...». ومنه يظهر عدم تماميّة ما ذكره المحدّث المذكور في نفسه ، لما حقّقه من عدم الفرق فيما هو مناط التكليف والمصحّح له بين ما يعمّ به البلوى وغيره.

مع أنّ دعوى إفادة عدم الوجدان للقطع العادي بعدم الوجود فيما يعمّ به البلوى واضحة الفساد ، لأنّ غايته الظنّ دون القطع ، سيّما مع ملاحظة انطماس كثير من الأخبار ، لوضوح عدم الفرق في دواعي الاختفاء بين ما يعمّ به البلوى وغيره. مضافا إلى منع حصول العلم ببيان الأئمّة عليهم‌السلام جميع ما يحتاج إليه الأمّة من الأحكام ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن لهم ذلك ، لأنّ الظاهر بقاء بعض ذلك مخزونا عندهم عليهم‌السلام.

١٢٥٠. يعني : ممّا ذكره من كون مبنى اعتبار كون عدم الدليل دليل العدم على الظنّ بالعدم الناشئ من عموم البلوى ، ومبنى البراءة على الظنّ الاستصحابي

١٧٤

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة أنّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم.

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ؛ لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين. والحاصل : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقّق قدس‌سره على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاويه في المعتبر.

______________________________________________________

عند بعضهم.

وحاصل ما ذكره : أنّ ما يستفاد من كلام المعتبر أنّ هنا اصولا ، أحدها : أصالة البراءة ، والآخر : كون عدم الدليل دليل العدم ، والثالث : استصحاب حال الشرع. وظاهره كون مبنى الأوّل على استصحاب البراءة ، ومبنى الثاني على الظنّ المستفاد من عدم الوجدان بعد الفحص عن مظانّه. وعليه ، فالفرق بينهما في مورد اجتماعهما يكون باعتبار كيفيّة الاستدلال ، لما عرفت من اختلاف مبناهما ، وابتناء الأوّل على ملاحظة الحالة السابقة ، بخلاف الثاني ، فيجري فيما لم تعلم فيه الحالة السابقة أيضا. وجعله من أقسام الاستصحاب مبنيّ على إرادة مطلق الحكم على طبق حالة السابقة من المقسم في أغلب موارده. وإنّما قلنا ذلك لما عرفت من جريان قاعدة عدم الدليل فيما لم تعلم الحالة السابقة فيه أيضا. وممّا يشهد بمغايرتهما الاعتباريّة أنّ الشيخ لم يقل بوجوب المضيّ في الصلاة للمتيمّم الواجد للماء في أثنائها من جهة الاستصحاب ، وقال به من جهة كون عدم الدليل دليل العدم.

ومن هنا يتّضح أنّ ما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله من كون استصحاب البراءة قسما من قاعدة كون عدم الدليل دليل العدم ، نظرا إلى عموم مورد الأخيرة ، ضعيف جدّا ، لما عرفت من اختلاف مبناهما وكيفيّة الاستدلال بهما. ومجرّد كون

١٧٥

الثاني : مقتضى الأدلّة المتقدّمة (١٢٥١) كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ، فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا ، إلّا أنّ الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلّة الظنيّة ، منهم صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجيّة خبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائي رحمه‌الله ، ولعلّ هذا هو المشهور بين الاصوليّين ؛ حيث لا يتمسّكون فيه إلّا باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقّق رحمه‌الله في المعارج الإطباق على التمسّك

______________________________________________________

النسبة بينهما بحسب المورد عموما مطلقا لا يوجب كون النسبة بينهما كذلك مفهوما أيضا.

وممّا ذكرناه قد ظهر أيضا أنّه لا مساس لكلام المعتبر أيضا بالتفصيل المعزى إلى المحقّق ، لأنّه إنّما فصّل بين ما يعمّ به البلوى وغيره في مورد قاعدة أنّ عدم الدليل دليل العدم ، لا في مورد استصحاب حال العقل المعبّر عنه بأصالة البراءة ، وقد عرفت تغايرهما واختلافهما بحسب المفهوم.

١٢٥١. توضيح المقام : أنّ مقتضى الأدلّة المتقدّمة هو إثبات الإباحة الظاهريّة لموضوع مشتبه الحكم ، بل نقول : إنّ مقتضاها إثبات الإباحة الظاهريّة ، بمعنى مجرّد نفي العقاب على مخالفة الواقع إن اتّفقت ، لا الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة ، كما يوهمه ظاهر عبارة المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ ما ذكرناه هو المحصّل من الأدلّة ، لا جعل حكم ظاهري للموضوع المشتبه فضلا عن نفي الحكم الواقعي المحتمل ، لأنّ ما ذكرناه هو المحصّل منها. ولا فرق فيه بين هذه المسألة وغيرها من موارد جريان أصالة البراءة.

ولعلّ هذا أيضا مراد العلماء ، وإن نسب خلافه إلى ظاهرهم ، لأنّ ما يوهم خلاف ذلك أمران : أحدهما : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون ظاهرهم اعتبار البراءة من باب الظنّ. والآخر : ما نسبه المحقّق القمّي رحمه‌الله إلى المحقّق من التفصيل بين ما يعمّ

١٧٦

بالبراءة الأصليّة حتّى يثبت الناقل ، وظاهره أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة.

والتحقيق أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والإجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل.

الثالث : لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها. وهل الأوامر الشرعيّة (١٢٥٢) للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن

______________________________________________________

به البلوى وغيره. والأوّل يدفعه أنّ مقتضى اعتبارها من باب الظنّ وإن كان هو نفي الحكم الواقعي ، لكن ينافيه تمسّكهم كثيرا بقاعدة قبح التكليف بلا بيان ، لصراحتها في كون النفي هو الحكم الفعلي دون الواقعي. مع أنّهم كثيرا ما يتمسّكون بها مع حصول الظنّ بخلافها من الأمارات غير المعتبرة ، فلا بدّ أن يكون مرادهم بإفادتها الظنّ إفادتها له غالبا ، بأن تسامحوا في ذكر ذلك وجها لاعتبارها ، أو يكون ذلك منهم لأجل متابعة العامّة القائلين بحجيّة الظنون المطلقة ، لأنّهم حيث اعتبروا أصالة البراءة من باب الظنّ فسامح من الخاصّة من تبعهم في التمسّك لإثبات حجيّتها بذلك ، لا أنّ مستندهم في الحقيقة هو ذلك. وبالجملة إنّ إخراج كلماتهم من ظاهرها بما ذكرناه لما ذكرناه أولى ، بل هو المتعيّن. وأمّا الثاني فقد تقدّم الكلام فيه عند شرح ما يتعلّق بالتنبيه السابق.

١٢٥٢. أمّا العقل فللإرشاد يقينا ، كما سيصرّح به. ومرجع الأمر الإرشادي إلى بيان مصلحة المكلّف ، من دون ملاحظة كون الآمر عاليا تجب إطاعته عقلا أو شرعا أو عادة ، أو كونه مستعليا ، كأمر الطبيب الذي مرجعه إلى بيان مصلحة المكلّف في شرب الدواء. ولذا لا يترتّب على موافقة هذا الأمر ثواب ولا على مخالفته عقاب ، بخلاف سائر الأوامر ، لكون جهة المولويّة وصدورها من

١٧٧

الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل أو الترك ، نظير أوامر الطبيب ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلّا يقع التنازع؟ وجهان من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ؛ فإنّ الظاهر كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط.

______________________________________________________

هذه الجهة ملحوظة فيه.

وبالجملة ، إنّ الأمر الإرشادي هو طلب الفعل لا على الجهة المولويّة ، بل على جهة إراءة مصلحة المكلّف. وهو قد يكون إلزاميّا ، وقد يكون غير إلزامي ، كما يظهر بملاحظة أوامر الأطبّاء. فما قيل من خلوّ هذا الأمر من الطلب من رأس ضعيف جدّا. وتشمله مادّة الأمر وصيغه حقيقة إذا اريد به الإلزام ، بمعنى كونهما حقيقتين عند استعمالهما في الأمر الإرشادي الإلزامي ، لما قرّرناه في محلّه من كونهما حقيقتين في مطلق الإلزام. نعم ، حيث يطلقان ينصرفان إلى الأمر المولوي ، فلا بدّ في حملهما عليه من قرينة معيّنة ، كانصرافهما إلى الوجوب التعييني العيني النفسي عند الإطلاق ، مع كونهما حقيقتين في كلّ من التخييري والكفائي والغيري أيضا. ولذا جعله المصنف رحمه‌الله وجها في مقابل حمل الأمر بالاحتياط على الاستحباب ، مع كون الأمر في الثاني مجازا على الأقوى.

فإن قلت : إنّه لا وجه للتردّد بينهما ، لأنّه مع قيام القرينة على عدم إرادة أحد فردي الحقيقة لا بدّ من حمله على الفرد الآخر ، لوجوب المحافظة على الحقائق مع عدم القرينة الصارفة.

قلت : نعم ، ولكن لا ريب أنّ المدار في حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة أو على المجازيّة مع القرينة على الظهور العرفي ، وشيوع استعمال اللفظ في المعنى المجازي ربّما يعارض ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي ، ومن هنا قد اختلفوا في المجاز المشهور على أقوال. واستعمال الأمر في الاستحباب من المجازات الراجحة ، بل قيل

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بكونه من المجازات المشهورة ، مع أنّ المقصود في المقام حمل أوامر الاحتياط على الإرشاد المطلق الشامل للإلزامي منه وغيره ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند الجواب عن كلّ من أوامر التوقّف والاحتياط ، ولا ريب في كون الأمر مجازا فيه ، فحمله عليه حمل له على معنى مرجوح بمرتبتين. ولذا تردّد المصنّف رحمه‌الله في حمله عليه مع شهادة سياق جلّ الأخبار به.

وعلى كلّ تقدير ، ربّما يقال بكون جميع الأوامر العقليّة للإرشاد ، وإراءة مصلحة المكلّف في الفعل ، لما أدركه من الحسن فيه. بل ربّما يظهر من سلطان العلماء كون جميع الأوامر الشرعيّة للإرشاد إلى المصالح والمفاسد الكامنة التي هي منشأ الأحكام الشرعيّة. قال : أوامر الشارع على المكلّفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكّام الذين غرضهم نفس حصول الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده ، حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض إنّ اللائق بحاله كذا إن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل بخلافه كان أثره بخلافه ، إلى آخر ما ذكره. ولازمه كون ثبوت العقاب على مخالفة أوامر الشارع من جهة الشرع لا من جهة كونه من لوازم المخالفة ، وهو ضعيف.

لا يقال : كيف تدّعي كون الأوامر العقليّة للإرشاد ، إذ لو كانت كذلك لزم عدم ترتّب عقاب على مخالفتها ، لأنّ حكم العقل وإن كشف عن حكم الشرع ، إلّا أنّ المنكشف تابع للكاشف ، فإذا كان الأوّل للإرشاد كان الثاني أيضا كذلك ، فلا يترتّب على موافقتها ولا على مخالفتها ثواب ولا عقاب.

لأنّا نقول : إنّا نمنع التبعيّة من جميع الجهات ، لأنّ الملازمة بينهما إنّما هي من جهة أنّ العقل إذا أدرك حسن فعل وحكم من جهته بلزوم الإتيان به ، فالشرع أيضا لا بدّ أن يحكم بلزوم الإتيان به ، لأنّ الله لا يأمر إلّا بالحسن ، كما في وصيّة عليّ عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام. وأمّا كون حكم الشارع أيضا على وجه الإرشاد فلا دليل عليه.

١٧٩

والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط ـ على تقدير (*) كونه إلزاميّا ـ لمحض الاطمئنان ودفع احتمال العقاب ، وكما أنّه إذا تيقّن بالضرر يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقّن ، فكذلك طلبه الغير الإلزامي إذا احتمل الضرر.

بل وكما أنّ أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (٤٠) لمحض الإرشاد ؛ لئلّا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ولا يترتّب على مخالفته سوى ذلك فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه من الضرر ، ولا يترتّب على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير تحقّقه.

ويشهد لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلّا يقع فيها من حيث لا يعلم. واقترانه (١٢٥٣) مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلّا للإرشاد ، لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ـ وهو الاجتناب عن الحرام ـ أو فوتها ، فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتّب على موافقته سوى ما يترتّب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ، بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام.

______________________________________________________

١٢٥٣. معطوف على قوله : «ظاهر الأخبار». والضمير عائد إلى الاجتناب عن الشبهات. وحاصله : أنّ الاجتناب عن الشبهات في أخبار الاحتياط مقترن بالاجتناب عن المحرّمات المعلومة في كون كلّ منهما ورعا ، كما في رواية فضيل بن عياض المتقدّمة في كلام المصنّف رحمه‌الله. ولا ريب في كون الثاني للإرشاد ، فكذلك الأوّل بقرينة المقارنة.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : بدل «تقدير» ، عدم.

١٨٠