فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

وسيتّضح هذا في بحث الاستصحاب ، وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار ؛ لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

المسألة الرابعة : لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها بالأصالة أو لعارض من نذر أو غيره ـ بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

ويرد على الأوّل (١٤٤٠) أنّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطء ؛ لأصالة عدم الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وجوب الوطء. وعلى الثاني أنّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ؛ جمعا بين (١٤٤١) أصالتي الإباحة وعدم الحلف على شربه.

______________________________________________________

لأحدهما على حسب الدواعي الخارجة ، فإذا اختار أحدهما كان المختار هو الحكم المجعول في حقّه ما لم يعدل عنه ، فلا بدّ له من الإفتاء بما اختاره. والأحوط هو الإفتاء بالتخيير ، ثمّ إرشاد المقلّد إلى الأخذ بما اختاره. وعلى تقدير وجوب الإفتاء بما اختاره إذا أفتى بما اختاره ثمّ عدل عنه ، فوجوب إعلام المقلّد بذلك يبتني على وجوب إعلامه عند تبدّل رأيه.

١٤٤٠. حاصله : أنّ جريان أصالة البراءة مشروط ـ كما تقدّم في غير موضوع ـ بعدم حكومة أصل موضوعي عليها ، وهذا الشرط مفقود في المثال ، وهو واضح. ولكنّه لو أبدلت الأجنبيّة فيه بالمطلّقة ، مع فرض كون الوجوب المحتمل فيه أصليّا ، ووقوع الطلاق في زمان وجوب وطي المطلّقة ، لم يرد عليه ذلك ، لوضوح عدم جريان أصالة عدم الزوجيّة ، ولا عدم وجوب الوطي. وكذا أصالة عدم وقوع الطلاق على هذه المرأة المشتبهة ، لعدم إثباتها لزوجيّتها إلّا على القول بالاصول المثبتة. وكذلك أصالة بقاء الزوجيّة ، لعدم إثباتها كون هذه المرأة هي المرأة غير المطلّقة التي وجب وطيها. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مقتضى هذا الأصل جواز وطيها ، فيكون الجواز مستندا إليه لا إلى أصالة البراءة ، وإن لم يثبت به ما ذكر.

١٤٤١. مخالفة العلم الإجمالي اللازمة من العمل بالأصلين هنا غير ضائرة ،

٣٦١

والأولى : فرض المثال (١٤٤٢) فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة. والحكم فيه كما في المسألة الاولى (١٤٤٣) من عدم وجوب الأخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ؛ إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه‌السلام ، إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعيّ الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام ، وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة ولو إجمالا ، مع أنّ مخالفة المعلوم إجمالا في العمل فوق حدّ الإحصاء (١٤٤٤) في الشبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة أعني دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة وعكسه ودوران الأمر بينهما. وأمّا دوران الأمر بين ما عدا (١٤٤٥)

______________________________________________________

لكونها بحسب الالتزام دون العمل.

١٤٤٢. هذا بناء على كون زيد غير مسبوق بالعلم بالفسق أو العدالة كما هو واضح ، وعلى عدم الواسطة بينهما ، أو معها مع فرض العلم إجمالا باتّصافه بأحدهما ، وإلّا فيمكن نفي كلّ منهما بالأصل ، فيخرج المثال ممّا نحن فيه.

١٤٤٣. في لزوم التوقّف بحسب الواقع وعدم الحكم بشيء في الظاهر.

١٤٤٤. قد تقدّم الكلام في ذلك في المقصد الأوّل عند بيان فروع العلم الإجمالي. وسيجيء أيضا في الشبهة المحصورة.

١٤٤٥. لا يخفى أنّ ما دار الأمر فيه بين ما عدا الوجوب والحرمة على أقسام : منها : ما دار الأمر فيه بين الاستحباب والإباحة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الكراهة والإباحة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الاستحباب والكراهة. ومنها : ما دار الأمر فيه بين الثلاثة. ويلحق بهذه الأقسام الكلام فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والكراهة ، وبين الحرمة والاستحباب. والمراد بالإباحة هنا معناها الخاصّ. وهي فيما دار الأمر فيه بينها وبين الاستحباب في غير العبادات واضح. وأمّا فيها فمع قطع النظر عن لزوم الحرمة من جهة اخرى ، مثل لزوم الحرمة التشريعيّة مع قصد التعبّد فيما لم يعلم ورود الأمر به.

٣٦٢

الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا. وملخّصه أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل أو الترك وبين الإباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث. ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلّا أنّ إجراء أدلّة البراءة في صورة الشكّ في الطلب الغير الإلزامي فعلا أو تركا قد يستشكل فيه ؛ لأنّ ظاهر تلك الأدلّة نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفائهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر.

______________________________________________________

أمّا الأوّل ، فالمحكيّ عن الفاضل عند بيان استحباب التكبير لرفع الرأس من الركوع واستحباب رفع اليدين إلى حذاء الأذنين ـ وكذا عن المحقّق القمّي وصاحب الفصول ـ هو التمسّك بالبراءة الأصليّة فيه ، بل ظاهر المصنّف رحمه‌الله كون الكلام في المسائل المذكورة نظير الكلام في المطالب الثلاثة اتّفاقيا ، فإن ثبت الإجماع وإلّا فهو كما أشار إليه مشكل ، لأنّ دليلها إمّا العقل ، وقد مرّ غير مرّة أنّ أقصاه الدلالة على مجرّد نفي العقاب فيما يحتمله لا نفي الخطاب ، والفرض انتفاء احتماله في المقام. أو النقل من الكتاب والسنّة ، ومساقه عند التأمّل مساق حكم العقل من الدلالة على كون المكلّف مرخى العنان ، غير ملزم بفعل ما يحتمل الوجوب وترك ما يحتمل الحرمة.

نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : أن يقال : إنّ عدم الدليل دليل العدم. وفيه : أنّك قد عرفت في الحواشي السابقة أنّ ذلك إنّما يجدي في صدر الإسلام وقبل انتشار الأحكام ، لأنّه مع الفحص عن دليل الحكم ـ وإن كان هو الاستحباب أو الكراهة ـ بما لا يعدّ معه مسامحا في الدين ومساهلا في الأخذ والطلب ، مع ملاحظة بناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه المعصومين عليهم‌السلام على إبلاغ الأحكام إلى المكلّفين وإعلامهم بها ، مع عدم حدوث موانع الإبلاغ ، وعدم عروض سوانح الانطماس في ذلك الزمان ، يحصل القطع بأنّه لو كان هنا دليل على الحكم لوصل إلينا ، ومرجعه إلى قبح تأخير البيان

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عن وقت الحاجة ، مع عدم المانع منه ، بخلاف زماننا هذا وما ضاهاه ممّا انطمس فيه كثير من الأحكام ، ومنعت الوسائط من إبلاغها ، إذ لا ريب في عدم كون عدم الدليل حينئذ مورثا للظنّ بالعدم ، فضلا عن القطع به.

وثانيهما : استصحاب عدم الاستحباب. لا يقال : إنّه تعارضه أصالة عدم الإباحة ، لكونها أيضا من الخمسة التكليفيّة المسبوقة بالعدم. لأنّا نقول : ليس المقصود منه إثبات الإباحة ، ولا هو ملازم بالذات لإثباتها حتّى يعارض بالمثل ، بل المقصود مجرّد نفي الاستحباب ، مع قطع النظر عن كون الباقي بعده هي الإباحة أو غيرها. نعم ، لو ترتّب عليها أثر خاصّ ينفى أيضا بالأصل ، فتأمّل.

وأمّا الثاني فالكلام فيه كالأوّل. وأمّا الثالث فالكلام فيه يحذو حذو الكلام فيما دار الأمر فيه بين الحرمة والوجوب ، إلّا أنّه لا بدّ هنا من تبديل دفع المضرّة بدفع المنقصة.

وأما الرابع فالكلام فيه يظهر من التأمّل في الأوّلين. وأمّا الخامس والسادس فظاهر بعضهم الحكم بالاستحباب في الأوّل وبالكراهة في الثاني ، تمسّكا بأنّ احتمال الوجوب في الأوّل والحرمة في الثاني وإن كان مندفعا بأصالة البراءة ، إلّا أنّ الأخذ بمحتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة حسن عند العقلاء ، فيثبت به استحباب الأوّل وكراهة الثاني ، وإن كان كلّ منهما خارجا من طرفي الشبهة.

والتحقيق هو نفي احتمال الوجوب والحرمة بالأصل ، والحكم بحسن الإتيان بالفعل في الأوّل بداعي احتمال محبوبيّته ، وتركه في الثاني بداعي احتمال مبغوضيّته ، ويثاب على ذلك ، لكونه شبه انقياد وإطاعة حكميّة. وأمّا الحكم بالاستحباب في الأوّل والكراهة في الثاني فلا دليل عليه. اللهمّ إلّا أن يلتزم بذلك في موارد حسن الاحتياط عقلا ، وقد تقدّم تحقيقه في بعض الحواشي السابقة. والله العالم بحقائق أحكامه.

٣٦٤

المصادر

(١) غرر الحكم : ص ٨١ ، الفصل الأوّل ، الحكمة ١٥٥٩.

(٢) شرح مختصر الاصول : ج ٢ ، ص ٤٨٩.

٣٦٥
٣٦٦

الموضع الثاني : في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب. ومطالبه أيضا ثلاثة (١٤٤٦):

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ومسائله أربع : الاولى : لو علم التحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي وإنّما قدّمنا الشبهة الموضوعيّة هنا ؛ لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة. ثمّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في امور محصورة (١٤٤٧) ، كما لو دار بين أمرين أو امور محصورة ، ويسمّى بالشبهة المحصورة ، وإمّا مشتبه في امور غير محصورة.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه يقع في مقامين : أحدهما : جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور وطرح العلم الإجمالي وعدمه ، وبعبارة اخرى حرمة المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمها. الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمه.

______________________________________________________

١٤٤٦. قد أشار المصنّف رحمه‌الله في طيّ المطالب الآتية إلى خروج بعض الصور من محلّ النزاع ، مثل ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من الشبهة التحريميّة ، والاستقلاليّين من الشبهة الوجوبيّة ، لانحلال العلم الإجمالي فيهما إلى شكّ بدوي وعلم تفصيلي ، فيدخلان في أقسام الشكّ في التكليف ، كما سيجيء في محلّه.

١٤٤٧. اعلم أنّ الاشتباه تارة يحصل بامتزاج الحرام بغيره ، واخرى باختلاطه

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واشتباهه بغيره. أمّا الأوّل فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز ارتكابه كلّا أو بعضا ، كامتزاج الدهن الحلال بالمغصوب منه ونحوه. ولا فرق فيه بين كون الامتزاج موجبا للشركة ، كامتزاج مثليّين كالحبوب ونحوها ، وبين غيره ، إذ الحرمة على الأوّل واضحة ، وكذا على الثاني ، لاستلزام تناول الممتزج بالحرام تناوله لا محالة. ولكن ذلك يختصّ بما إذا لم يعرض للحرام الممتزج عنوان محلّل ، كاستهلاكه في الحلال ، كقطرة من عصير العنب إذا وقعت في الماء بناء على طهارته وحرمته ، لتبدّل عنوان الحرام بالاستهلاك. والظاهر أيضا عدم شمول ما ذكروه من حلّية المختلط بالحرام بالتخميس لصورة الامتزاج ، فلا يمكن الحكم بها في امتزاج المثليّين بعد التخميس.

وأمّا الثاني فكاشتباه الدرهم الحلال بالحرام ، والإناء النجس بالطاهر ، وكذا الثوبين ونحوهما. ومحلّ النزاع في المقام مختصّ بهذه الصورة ، لما عرفت من عدم الإشكال والخلاف في الحرمة في الأوّل. وأيضا الخلاف مختصّ بما لم يقصد بارتكاب أطراف الشبهة التوصّل إلى ارتكاب الحرام الواقعي ، وإلّا فهو حرام بلا خلاف ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر المسألة. وكذا بما إذا لم تقم على أحدها أمارة شرعيّة من يد أو بيّنة أو نحوهما ، لخروج ما قامت عليه الأمارة من أطراف الشبهة ، وصيرورة الشبهة في الباقي بدويّة على إشكال فيه في الجملة ، تقدّمت الإشارة إليه في حواشي المقام الأوّل ، ولعلّه سيجيء التنبيه عليه أيضا في الحواشي الآتية ، فانتظره.

وأيضا محلّ النزاع في المقام مختصّ بما كان مقتضى الأصل في المشتبهين هي الإباحة ، دون ما كان مقتضاه هي الحرمة كالمذكّى المشتبه بالميتة ، لأنّ مقتضى أصالة عدم التذكية في كلّ واحد منهما هي حرمة بيع كلّ واحد منهما منفردا ومجتمعا. ووجه خروجه من محلّ النزاع هو عدم استلزام المخالفة القطعيّة فيه للمخالفة العمليّة. وسيأتي التصريح بذلك من المصنّف رحمه‌الله فيما سننقله عنه فيما

٣٦٨

أمّا المقام الأوّل : فالحقّ فيه عدم الجواز (١٤٤٨) وحرمة المخالفة القطعيّة ، وحكي عن ظاهر بعض (١) جوازها. لنا على ذلك (١٤٤٩) وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها. أمّا ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ؛ فإنّ قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين

______________________________________________________

علّقناه على التنبيه الأوّل من تنبيهات هذا المقام. ولكنّه سيصرّح في التنبيه الثامن بعموم كلمات بعضهم ، وكذا بتصريح بعضهم باختصاص النزاع بالمحرّمات الماليّة ونحوها كالنجس ، دون النفوس والأعراض ، مع تنظّره فيه.

١٤٤٨. اعلم أنّ الأقوال في المقامين أربعة : أحدها : ما اختاره المصنّف رحمه‌الله ، وهو المشهور بين الأصحاب. وثانيها : جواز ارتكاب الكلّ ، نقله المحقّق القمّي رحمه‌الله عن العلّامة المجلسي في أربعينه. وثالثها : التخيير وإبقاء ما يتحقّق به ارتكاب الحرام. ومال إليه المقدّس الأردبيلي ، واختاره جماعة ممّن تأخّر عنه ، كصاحب المدارك والذخيرة والرياض والقوانين والمناهج ، ونسب أيضا إلى الوحيد البهبهاني قدس‌سرهم ورابعها : القرعة ، واختاره ابن طاوس قدس‌سره.

١٤٤٩. يدلّ عليه أيضا وجوه :

أحدها : الإجماع محكيّا ومحصّلا ظاهرا ، لعدم المخالف فيه سوى ما عزاه المجلسي إلى بعضهم ، وهو مجهول القائل. وأمّا المجلسي فعبارته المحكيّة غير صريحة في ذلك ، لأنّه قال : «وقيل : يحلّ له الجميع ، لما ورد في الأخبار الصحيحة إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فأنت على حلّ حتّى تعرف الحرام بعينه ، وهذا أقوى عقلا ونقلا» انتهى موضع الحاجة ، لأنّه يحتمل أن يريد به تقوية هذا القول بحسب الدليل دون الفتوى ، والفرق بينهما واضح.

وثانيها : كون تجويز ارتكاب الجميع نقضا لغرض الشّارع ، لكونه وسيلة إلى إمكان ارتكاب المحرّمات الواقعيّة بخلطتها بالمحلّلات بحيث يقع الاشتباه بينهما ، وهو موجب لاختلال نظم الأموال والفروج وغيرهما.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ خلط المكلّف باختياره حرام ، فهو مانع من اختلال النظم.

قلت : إنّ كان سبب الحرمة حرمة ارتكاب الحرام الواقعي ، بأن كان الخلط حراما من باب المقدّمة للحرام ، ففيه : أنّه لا فرق فيه بين الخلط والاختلاط ، لكون ارتكاب أطراف الشبهة مطلقا مقدّمة لارتكاب الحرام الواقعي. وإن كان غير ذلك فلا دليل عليه. هكذا قرّره بعض مشايخنا.

وفيه نظر ، لأنّ إيجاد مقدّمة الحرام بقصد التوصّل إليه بها حرام ، بخلاف ما لم يكن بقصده ، كما قرّرناه في مبحث المقدّمة ، فلا يقاس الخلط على الاختلاط. نعم ، إن كان المقصود بارتكاب أطراف الشبهة في صورة الاختلاط هو التوصّل إلى ارتكاب الحرام الواقعي لم يجز ذلك أيضا ، ولذا أخرجنا هذه الصورة من محلّ النزاع في الحواشي السابقة.

فإن قلت : كيف تنكر جواز ارتكاب الجميع ، وقد وقع ذلك في الشرع في الجملة ، وهو أقوى دليل على الجواز ، وأفتى به بعضهم ، ففي الحدائق عن المختلف عن ابن الجنيد أنّه قال : «من اشتبه عليه الربا لم يكن له أن يقدم عليه إلّا بعد اليقين بأنّ ما يدخل فيه حلال ، فإن قلّد غيره أو استدلّ فأخطأ ثمّ تبيّن له أنّ ذلك ربّما لا يحلّ ، فإن كان معروفا ردّه على صاحبه وتاب إلى الله تعالى. وإن اختلط بماله حتّى لا يعرفه ، أو ورث ما لا يعلم أنّ صاحبه كان يربي ولا يعلم الربا بعينه فيعزله ، جاز له أكله والتصرّف فيه» انتهى.

وقد حكى المصنّف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته عن بعض الأصحاب القول بحلّية المال الموروث الذي علم فيه الربا. وإذا ثبت الجواز في الجملة ثبت مطلقا ، لعدم كون حكم العقل قابلا للتخصيص. وقد روى المشايخ الثلاثة عطّر الله مراقدهم في الصحيح أو الحسن ، وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلّ ربا أكله الناس ثمّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة». وقال : «لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا ، وقد عرف منه شيئا معزولا أنّه ربا ، فليأخذ رأس ماله وليردّ الربا».

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وزاد في الكافي والفقيه : «وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا فيه من الربا فجهل ذلك ثمّ عرفه ، فإن أراد أن ينزعه فما مضى فله ، ويدعه فيما يستأنف».

وفي الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالا ، وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد اعترف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك ، وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد سألت الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحلّ أكله من أجل ما فيه. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعلم أنّ فيه مالا معروفا فأربى ، وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا مريئا ، فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضع ما مضى من الربا ، وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتّى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرم عليه ، ووجبت عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه كما يجب على من يأكل الربا».

وفي الكافي عن أبي ربيع الشامي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أربى بجهالة ، ثمّ أراد أن يتركه ، فقال : أمّا ما مضى فله ، وليتركه فيما يستقبل. ثمّ قال : إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه كان يربي ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وفقهاء أهل الحجاز فذكروا أنّه لا يحلّ أكله. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعرف منه شيئا معزولا ، وتعرف أهله وتعرف أنّه ربا ، فخذ رأس مالك ودع ما سواه. وإن كان المال مختلطا فكل هنيئا مريئا ، فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبك ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضع ما مضى من الربا ، فمن جهله وسعه أكله ، فإذا عرف حرم عليه أكله وبعد المعرفة وجب عليه ما وجب على آكل الربا». ورواه في مستطرفات السرائر عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب.

وفي الكافي عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

عمل بني أميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل منه قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول : إنّ الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، ولكنّ الحسنة تحطّ الخطيئة. ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس».

قلت : أمّا أخبار الربا فإنّ ظاهرها كون الحلّية فيها مستندة إلى الجهل بحكم الربا ، وقد نفى عنه الخلاف في الحدائق كما سيجيء ، لا إلى اشتباه الحلال بالحرام ، وإن حكي ذلك عن بعض أفاضل المتأخّرين ، ولا أقلّ من تساوي الاحتمالين ، فلا يصحّ الاستدلال بها على المقام. وعن الحلّي في السرائر : وجوب الخمس في المال الذي يعلم أنّ فيه الربا. وعليه أيضا لا تدلّ هذه الأخبار على المدّعى ، لأنّه ـ مضافا إلى احتمال كون التخميس من الأسباب المملّكة ـ لا يحصل العلم حينئذ بالمخالفة. اللهمّ إلّا أن تعلم الزيادة عليه ، ولعلّه يقول بوجوب التصدّق بالزائد حينئذ. مع أنّه يحتمل أن يكون الحكم بالحلّية مع الجهل بالمالك ، وحينئذ يكون الحرام مجهول المالك ، فلا غرو حينئذ أن تكون الحليّة من جهة إذن الإمام عليه‌السلام في التصرّف فيه ، بناء على كون مجهول المالك للإمام عليه‌السلام ، ولذا قيل : إنّ الأحوط فيه التصدّق مع إذن المجتهد. ومنه يظهر الكلام في المال الموروث أيضا.

وفي الجواهر : «يمكن حمل بعض النصوص على العلم بأنّ الميّت كان يربي وإن لم يعلم في خصوص المال منه شيئا ، وعلى أنّه مجهول المالك وقد أباحه الإمام عليه‌السلام عليه ، وعلى أنّه من الشبهة الغير المحصورة ، أو غير ذلك. بل في المحكيّ عن كشف الرموز أنّه يمكن أن يقال : إنّ من ادّعى اليوم في الإسلام جهالة تحريم الربا لا يسمع منه ، فيحمل النصّ والفتوى على أوّل الإسلام. وقد حكاه هو أيضا عن صاحب الشرائع» انتهى.

وبالجملة ، يكفي في توهين الاستدلال بها عدم تمسّك أحد ممّن وقفت على كلماته بها في المقام ، بل لا عامل بها في غير ما نحن فيه أيضا سوى ابن الجنيد على

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تفصيل عرفته ، والشيخ والصدوق في النهاية والفقيه مطلقا على ما حكي عنهما ، استنادا إلى أخبار أخر ، وتبعهما بعض أواخر المتأخّرين. وتفصيل الكلام في ذلك مقرّر في الفقه.

وأمّا موثّقة سماعة فقال المصنّف قدس‌سره في بعض تحقيقاته : «فيحتمل أن يكون نفي البأس عن التصدّق من المال المختلط ـ بل سائر التصرّفات في الجملة ولو بعد التخميس ـ في مقابل الحرام المحض الذي هو مورد السؤال ، حيث لا يجوز منه التصدق في بعض الصور فضلا عن تصرّف آخر. وكيف كان ، فالرواية ليست نصّا في حلّية جميع المال المختلط» انتهى. وسيجيء تتمّة الكلام في ذلك عند شرح ما يتعلّق بالمقام الثاني.

وثالثها : بناء العقلاء ، لأنّ من تتّبع طريقتهم عرف جريان عادتهم على ذمّ من ارتكب كلا المشتبهين.

فإن قلت : إنّ هذا أخصّ من المدّعى ، لأنّ من ارتكب أحدهما إمّا أن يكون حين ارتكابه بانيا على ارتكاب الآخر أيضا ثمّ يرتكبه ، وإمّا أن يكون شاكّا فيه ثمّ يرتكبه ، أو يكون بانيا على عدمه ثمّ يرتكبه ، والمدّعى في المقام أعمّ من الثلاثة ، وبناء العقلاء لم يثبت فيما عدا الأوّل.

قلت : نمنع أعميّة المدّعى بناء على عدم وجوب الموافقة القطعيّة كما هو الفرض ، لعدم الدليل عليه في القسمين الأخيرين ، إذ الدليل عليه إنّما هو قبح المخالفة العمليّة ، والمسلّم منها على هذا القول هي المخالفة إمّا بارتكابهما دفعة ، ولكنّه خارج ممّا نحن فيه كما أسلفناه ، وإمّا بارتكابهما تدريجا مع البناء عند ارتكاب الأوّل على ارتكاب الثاني أيضا ، وغاية ما يلزم من الأخيرين هو حصول العلم بالمخالفة عند ارتكاب الثاني ، إمّا به أو بالأوّل مع عدم البناء على المخالفة من أوّل الأمر ، ولا دليل على قبح هذا النحو من المخالفة. ولذا قال المحقّق القمّي فيما أجاب به عمّا أورده على نفسه بعد اختيار القول بالتخيير وعدم وجوب الموافقة

٣٧٣

أو أزيد ، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا. مع أنّه لو اختصّ الدليل (١٤٥٠) بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن كونه حراما واقعيّا وكان حلالا واقعيّا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك حتّى من يقول بكون الألفاظ أسامي للامور المعلومة ؛ فإنّ الظاهر إرادتهم الأعمّ من المعلوم إجمالا.

______________________________________________________

القطعيّة : «إنّ المدار إذا كان في عدم وجوبها عدم العلم بارتكاب الحرام الواقعي ، فلم لا تقول بجواز ارتكاب الجميع تدريجا؟ لعدم العلم في كلّ مرتبة من الاستعمالات ، والذي يوجب العلم بارتكاب الحرام إذا ارتكب الجميع دفعة. قلت : ولا نقول به ، إذ لا دليل عقلا وشرعا يدلّ على الحرمة والعقاب ، ولا إجماع على بطلانه ، والقائل به موجود كما سنشير إليه. وثانيا نقول : كما أنّ ارتكاب الحرام الواقعي المتيقّن حرام ، فتحصيل العلم بارتكاب الحرام أيضا حرام ، فتحريمه حينئذ من هذه الجهة ، فارتكاب الفرد الآخر الذي يعلم به بارتكاب الحرام الواقعي مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكابه ، ومقدّمة الحرام حرام ، ويمكن منع المقدّمتين» انتهى.

وكتب في الحاشية على قوله : «ويمكن منع المقدّمتين» يعني : حرمة تحصيل اليقين بارتكاب الحرام إذا لم يعلم ارتكاب الحرام بنفس ذلك الفعل بخصوصه ، وحرمة مقدّمة الحرام» انتهى. وهو صريح في منع حرمة تحصيل العلم بارتكاب الحرام ، وهو وإن كان شاملا للقسم الأوّل أيضا ، إلّا أنّه فيه مخالف للعقل وبناء العقلاء كما عرفت.

١٤٥٠. هذا دفع لما يدّعى من منع وجود المقتضي في المقام ، إمّا لكون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة ، أو لكونها منصرفة إليها مطلقا أو في حيّز الطلب ، فلا يجب الاجتناب إلّا عمّا علم تحريمه أو نجاسته تفصيلا. وبعض هذه الوجوه يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله.

وفيه : منع الصغرى ، لما تقرّر في محلّه من كون وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة.

٣٧٤

وأمّا عدم المانع : فلأنّ العقل لا يمنع (١٤٥١) التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو امور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف. وأمّا الشرع فلم يرد (١٤٥٢) فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شىء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» و «كلّ شىء فيه حلال وحرام

______________________________________________________

وكذا منع الانصراف مطلقا ، غاية الأمر أن يكون العلم شرطا لتنجّز التكليف ، وهو حاصل في المقام ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل عدم الفرق في ذلك بين العلم التفصيلي والإجمالي. ولعلّ الغفلة عن ذلك أوجب دعوى الانصراف ، كيف ولو تمّ ما ذكر لم يحسن الاحتياط ، بل لم يبق له محلّ أصلا ، وهو كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه كلمتهم ، سوى ما حكاه المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل عن السيّد أبي المكارم ابن زهرة. ومع التسليم فلم يظهر ذلك من القائل بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو منصرفة إليها في خصوص ما نحن فيه ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله.

١٤٥١. لأنّ المانع عند العقل إمّا قبح التكليف ، أو العقاب بلا بيان ، أو قبح التكليف بخطاب مجمل ، أو بأمر مبهم ، وما عدا الأخير منتف في المقام ، لفرض تبيّن الخطاب ، وحصول الاشتباه في مصداق موضوعه المبيّن. وأمّا الأخير فهو غير مانع بعد إمكان الاحتياط ، وكون العلم الإجمالي كالتفصيلي ، وعدم كون وظيفة الشارع بيان المصاديق الخارجة.

١٤٥٢. حيث كان تأثير المقتضي موقوفا على إحراز عدم المانع ، أشار هنا بعد منع المنع عقلا إلى عدم المانع شرعا أيضا ، لأنّ ما يصلح للمنع شرعا إمّا عموم أدلّة البراءة ، أو خصوص ما هو الظاهر منها في الشبهات الموضوعيّة.

أمّا الأوّل فمثل قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون». وقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم». وحديث الرفع وغيره.

وفيه : أنّ هذه الأخبار ظاهرة الاختصاص بالشبهات الحكميّة ، ولعلّه لذا لم

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله في المقام. مع أنّ مقتضى مفهومها المعتبر بحسب مساعدة المقام هو عدم التوسعة والوضع مع العلم ولو إجمالا ، وهو حاصل بالفرض في المقام.

وأمّا الثاني فمثل رواية مسعدة بن صدقة : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه ، ذلك ثوب يكون عليك» الحديث. ورواية عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». لإطلاقها بالنّسبة إلى كلّ مشتبه ، سواء كان مشوبا بالعلم الإجمالي أم لا.

وظاهر المصنّف قدس سرّه تسليم شمولهما للشبهات المشوبة بالعلم الإجمالي ، إلّا أنّه ادّعى كون مقتضاهما وجوب الاجتناب عمّا علمت حرمته إجمالا ، كما سنوضحه عند شرح ما يتعلّق بالعبارة.

والحقّ في الجواب منع شمولهما لصورة العلم الإجمالي ، بمعنى منع دلالتهما على إباحة المشتبه بالشبهة المشوبة بالعلم الإجمالي أوّلا ، وكون مقتضاهما ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير تسليم الشمول ثانيا.

توضيح المقام : أنّ الشبهة تارة تكون في الحكم ، واخرى في الموضوع. وعلى التقديرين : إمّا أن تكون الشبهة بدويّة ، وإمّا أن تكون مشوبة بالعلم الإجمالي. فهذه أربعة أقسام. وظاهر جماعة شمول الخبرين لكلّ منها ، وظاهر بعض آخر ـ ولعلّه المشهور ـ اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة البدويّة ، بل ومع شوبها بالعلم الإجمالي إذا لم يكن معتبرا كما في الشبهة غير المحصورة. وقيل باختصاصهما بما عدا الشبهة الحكميّة البدويّة.

ونقول : أمّا رواية مسعدة بن صدقة فعلى رواية : «هو لك حلال» يمكن منع إفادتها سوى قاعدة اليد ، كما أسلفناه في الشبهة التحريميّة البدويّة. وعلى رواية «هو حلال» يمكن منع إفادتها حلّية المشتبه بالشبهة المشوبة بالعلم الإجمالي ، لأنّ

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لفظ «شيء» في قوله : «كلّ شيء هو حلال» وإن كان بإطلاقه شاملا للشيء المشتبه بالشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي ، فيفيد إباحة طرفي العلم الإجمالي ، إلّا أنّ لفظ «تعلم» أيضا في قوله : «حتّى تعلم أنّه حرام» مطلق شامل للعلم الإجمالي والتفصيلي ، وهو في إفادة الإطلاق أظهر من إطلاق لفظ «شيء» وأظهريّته قرينة لإرادة خصوص المشتبه بالشبهة البدويّة من لفظ «شيء» كما سيجيء توضيحه عند شرح قوله : «فلا يدلّ على ما ذكرت». وحينئذ فيصير محصّل معنى الرواية : أنّ كلّ شيء مشتبه بالشبهة البدويّة فهو محكوم بالحلّية في الظاهر ما لم يعلم حرمته تفصيلا أو إجمالا ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة. ومع التسليم ـ نظرا إلى كون كلّ من طرفي العلم الإجمالي مجهول الحرمة بالخصوص ، وإن علمت حرمة أحدهما إجمالا في الواقع ـ نقول : إنّها حينئذ كما تفيد حليّة كلّ من المشتبهين ، نظرا إلى عدم العلم بحرمة كلّ منهما بالخصوص ، كذلك تقتضي حرمة الفرد المشتبه الذي علمت حرمته إجمالا ، فتفيد حرمة كلّ منهما من باب المقدّمة ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله فيما أجاب به عمّا أورده على نفسه.

وأمّا رواية عبد الله بن سنان فهي غير ظاهرة الشمول لجميع الأقسام المتقدّمة ، بل هو غير صحيح ، لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، لأنّه على تقدير شمولها للشبهة الحكميّة البدويّة يكون المراد بالشيء في قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» هو الشيء المشتبه الحكم ، وبالحلال والحرام هو الحلال والحرام المحتملان لا المتحقّقان. والمعنى حينئذ : كلّ شيء تحتمل حلّيته وحرمته فهو لك حلال. وعلى تقدير شمولها للشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي يكون المراد بالشيء هو الكلّي ومن الحلال والحرام هو الحلال والحرام المتحقّقان. والمعنى حينئذ : كلّ كلّي بعض أفراده حلال وبعضها حرام ، فهذا الكلّي لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه. فالمائع الذي بعض أفراده حلال كالخلّ وبعض آخر حرام

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كالخمر ، إذا اشتبه الفرد الحلال منه بالحرام ، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه. ولا ريب أنّ المعنيين متغايران لا جامع بينهما ، فلا يمكن إرادتهما من الرواية ولو بعموم الاشتراك.

نعم ، الجمود على ظاهر اللفظ يقتضي الشمول لما عدا الشبهة الحكميّة البدويّة. أمّا بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة مطلقا فواضح ، إذ يصحّ أن يقال فيما تردّد المائع في الخارج بين الخمر والخلّ ، وكذا فيما علم إجمالا بكون أحد الإنائين خمرا والآخر خلّا : إنّ المائع الكلّي حلال حتّى تعرف حرمته في ضمن فرد معيّن منه. وأمّا بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كالغناء المردّد مفهومه بين الصوت المطرب والصوت مع الترجيع ، فإنّه يصحّ أن يقال : إنّ سماع مطلق الصوت حلال لك حتّى تعرف الفرد الحرام منه بعينه.

ولكنّ الإنصاف أنّ سوقها يأبى عن الشمول للقسم الثاني ، لأنّ منشأ الشبهة التي حمل الراوي على السؤال إمّا أن يكون اشتباه الفرد الحلال بالحرام في الخارج كما في الشبهة الموضوعيّة ، أو اشتباه حكم الكلّي كما عرفته من مثال الغناء ، والمنساق من الرواية هو الأوّل ، ولذا قال : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» يعني : كلّ كلّي فيه ذلك. وفيه إشارة إلى ردّ ما هو المركوز في الأذهان من كون وجود الكلّي كذلك منشأ لوجوب الاحتياط ، فردّه الإمام عليه‌السلام بالحكم بالحلّية ما لم يعلم الفرد الحرام منه بعينه ، كما صرّح به المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره.

وفي الشبهة الحكميّة أيضا وإن أمكن فرض كلّي له فرد حلال وفرد حرام واشتبه أحدهما بالآخر كما عرفته من مثال الغناء ، إلّا أنّ المنساق منها كون منشأ الشبهة في وجوب الاحتياط وجود الكلّي المذكور. ولا ريب أنّ منشأها في الشبهة الحكميّة هو عدم معرفة حكم الكلّي لا وجود الكلّي المذكور ، فلا تشملها. بل يمكن منع شمولها للشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي أيضا ، لأنّ منشأ الشبهة للسائل فيها إمّا أن يكون اشتباه الفرد الحرام بالحلال في الخارج ، وإمّا أن يكون دوران

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر في الفرد الخارجي بين الحلّية والحرمة ، أو الأعمّ منهما.

فعلى الأوّل تكون الرواية نصّا في حلّية كلا المشتبهين بالشبهة المحصورة ، فينحصر المناص حينئذ في الجواب عنها بالمناقشة في سندها ، أو مخالفتها للإجماع ، أو نحو ذلك كما سيجيء. وعلى الثاني لا تشمل الشبهة المحصورة كما عرفت.

وعلى الثالث أنّها وإن اقتضت حينئذ حلّية كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة ، إلّا أنّا نقول ـ مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من وقوع التعارض حينئذ بينهما ، وما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ـ : إنّ هذه الرواية قد وردت بطريقين ، أحدهما : ما عرفت. والآخر هو المذكور في باب الجبن من الكافي كتاب الأطعمة والأشربة عن عبد الله بن سنان ، عن عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال : يا غلام ابتع لنا جبنا ، ودعا بالغداة فتغدّينا معه ، وأتي بالجبن فأكله وأكلنا ، فلمّا فرغنا عن الغداء قلت له : ما تقول في الجبن؟ فقال لي : أو لم ترني أكلته؟ قلت : بلى ، ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك. فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

وهو كما ترى كالصريح في كون منشأ شبهة السائل هو وجود الفرد الحلال والحرام للكلّي ، وتردّد الأمر في فرد منه بين الحرمة والحلية ، لا اشتباه الفرد الحلال بالحرام ، وتردّد الأمر بينهما مع العلم إجمالا بحرمة أحدهما ، سيّما مع ملاحظة قوله عليه‌السلام : «أو لم ترني أكلته» لأنّ ما أكله كان مشترى من السوق لا أحد فردين علمت حرمة أحدهما إجمالا. ومع تسليم علم السائل بحرمة بعض ما في السوق يدخل مورد الرواية في الشبهة غير المحصورة ، ولا اعتداد بالعلم الإجمالي فيها ، لكونها في حكم الشبهة البدويّة ، بل جميع الشبهات الموضوعيّة البدويّة مرجعها بعد التأمّل إليها. ومع تسليم شمولها للشبهة المحصورة ـ بل صراحتها فيها ـ لا بدّ من ردّها أو تأويلها ، لمخالفتها الإجماع حكاية وتحصيلا ظاهرا على ما أسلفناه سابقا.

٣٧٩

فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» وغير ذلك (١٤٥٣) ، بناء على أنّ هذه الأخبار كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الإجمالي وإن كان محرّما في علم الله سبحانه كذلك دلّت على حلّية المشتبه مع العلم الإجمالي.

ويؤيّده إطلاق الأمثلة (١٤٥٤) المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسرقة والمملوك المحتمل للحريّة والمرأة المحتملة للرضيعة ؛ فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي ، بل الغالب ثبوت العلم الإجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة. ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا تصلح للمنع ؛ لأنّها كما تدلّ (١٤٥٥) على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ؛ لأنّه أيضا شيء علم حرمته.

فإن قلت : إنّ غاية الحلّ معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الإجمالي.

قلت : أمّا قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» فلا يدلّ على ما

______________________________________________________

مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من وقوع المعارضة حينئذ بينها وما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي. وستقف على تتمّة الكلام فيما يتعلّق بما قدّمناه في الحواشي الآتية.

١٤٥٣. ممّا تقدّم في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة.

١٤٥٤. قد تقدّم في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة خروج الأمثلة المذكورة من محلّ النزاع. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه لا فرق في اعتبار العلم الإجمالي وعدمه بين أصالة البراءة وغيرها من الاصول الموضوعيّة والأمارات. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المنساق من الأمثلة ـ بملاحظة ذكر منشأ الاحتمال فيها ـ ما كان احتمال الحرمة فيه مجرّدا عن العلم الإجمالي. وأمّا ما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من الغلبة مع كون أطراف العلم الإجمالي غير محصورة ، فهو غير مجد كما لا يخفى.

١٤٥٥. حاصله : وقوع التعارض بين منطوق الخبرين ومفهوم الغاية فيهما ، فلا بدّ من حملهما على إرادة الشبهة البدويّة ، فيفيدان حلّية كلّ مشتبه الحرمة بالشبهة البدويّة حتّى تعلم حرمته إجمالا أو تفصيلا. اللهمّ إلّا أن يقال بأولويّة تقييد

٣٨٠