فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

وكيفيّة علمه بها من حيث توقّفه على مشيّتهم (١٣١٣) أو على التفاتهم إلى نفس الشيء أو عدم توقّفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ؛ فالأولى ووكول علم ذلك إليهم صلوات الله عليهم اجمعين.

ثمّ قال : ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور ؛ لأنّ أنواعه محصورة بخلاف الشبهة في طريق الحكم فاجتنابها غير ممكن ؛ لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البيّن ولزوم تكليف ما لا يطاق. والاجتناب عمّا يزيد (١٣١٤) على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ؛ لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات ، انتهى. أقول : لا ريب أنّ أكثر الشبهات (١٣١٥) الموضوعيّة لا يخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، ك «يد المسلم» و «السوق» و «أصالة الطهارة» و «قول المدّعي بلا معارض» والاصول العدميّة المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريّين على ما صرّح به المحدّث الأسترآبادي ، كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ، وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات لقلّتها.

______________________________________________________

في خصوص علم الإمام عليه‌السلام سبيل السلامة ، لاختلاف الأخبار في ذلك جدّا. ولو لا خوف الإطالة لذكرنا شطرا من الأخبار وكلمات علمائنا الأخيار ، وما يمكن به الجمع بين الأخبار ، والله الهادي إلى صوب الرشاد.

١٣١٣. قد سمعنا من بعض سادة مشايخنا أنّ ظاهر الفقهاء كون علم الإمام عليه‌السلام إراديّا.

١٣١٤. بأن يرتكب من الشبهات ما تندفع به الضرورة ، ويجتنب عمّا زاد عليه.

١٣١٥. حاصله : أنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو وجوب الاحتياط وعدمه في الشبهات الخالية من دليل شرعيّ إذا كانت الشبهة حكميّة ، ومن أمارة شرعيّة إذا كانت موضوعيّة ، والموضوعات الخارجة المثبتة غالبا من وجود أمارة الحلّ ، ولا أقلّ من استصحاب العدم الذي ادّعى الأمين الأسترآبادي الضرورة على اعتباره في الموضوعات.

٢٢١

ثمّ قال : ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا ، ولا يتمّ إلّا باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدورا فهو واجب ، إلى غير ذلك من الوجوه. وإن أمكن المناقشة في بعضها ، فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام ، والله أعلم بحقائق الأحكام (٦) ، انتهى.

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب عن الشبهة في طريق الحكم ، بل لو تمّ لم يتمّ إلّا (١٣١٦) فيه ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلّا بدليل حرمة ذلك الشيء أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل ، فهي كلّها تابعة لتحقّق الموضوع أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقّق النهي ، وحينئذ : فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها؟

______________________________________________________

١٣١٦. فيه إشارة إلى عدم تماميّة الدليل المذكور لا في الشبهات الحكميّة ولا الموضوعيّة ، كما أشار إلى توضيحه عند بيان عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة. وعلى تقدير تسليم تماميّته إنّما يتمّ في الشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة كما زعمه المحدّث الحرّ العاملي ، لحصول العلم التفصيلي فيها بالخطاب المقتضي لوجوب الاجتناب عن جميع مصاديقه ، بخلاف الشبهات الحكميّة ، للشكّ فيه فيها بالفرض ، فنفس الخطاب الواقعي المشكوك فيه فيها على تقدير وجوده في الواقع غير مقتض لوجوب الاجتناب.

وأمّا عموم ما دلّ على وجوب إطاعة الأوامر والنواهي من العقل والنقل ، فهي وإن شملت الخطابات الواقعيّة المشكوك فيها على تقدير وجودها في الواقع ، بل عموم تلك الأدلّة في الشمول للخطابات المشتبهة ، نظير الخطابات المفصّلة المعلومة في الشمول للمصاديق المشتبهة لكون الشبهة في الخطابات الواقعيّة بالنسبة إلى شمول قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) موضوعيّة أيضا ، إلّا أنّ

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرق بين المقامين : أنّ صدق متعلّق التكليف على مصاديقه الخارجة ، فيما علم الخطاب تفصيلا وشكّ في بعض مصاديقه ـ في غير أوامر الإطاعة ـ لا يتوقّف على معرفة المصاديق تفصيلا أو إجمالا ، لأنّه إذا ورد : اجتنب عن الخمر ، وتردّد مائع عندنا بين كونه خمرا أو خلّا ، وكان خمرا في الواقع ، واجتنب عنه المكلّف ، صدق عليه في الواقع أنّه اجتنب عن الخمر ، فمع صدقه عليه يمكن أن يتوهّم شمول عموم وجوب الاجتناب له ، لوجود المقتضي وعدم المانع ، بخلاف الأمر بالإطاعة ، لأنّ موضوع الإطاعة إنّما يصدق مع العلم تفصيلا أو إجمالا بالتكليف الذي تعدّ موافقته إطاعة ، فمع عدم العلم بالتكليف الواقعي مطلقا ـ كما هو الفرض في المقام ـ لا يحصل موضوع الإطاعة بالموافقة الاحتماليّة ، حتّى يقال بوجوب الإطاعة في الواقع على تقدير وجود التكليف في الواقع بعموم ما دلّ على وجوب الإطاعة ، نظير ما قلناه في الشبهات الموضوعيّة. وإلى ما ذكرناه أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «فهي كلّها تابعة لتحقّق الموضوع».

وفيه نظر ، أمّا بالنسبة إلى الأمر العقلي الدالّ على وجوب الإطاعة ، فإنّ الإطاعة وإن لم تجب ما لم يحصل العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، إلّا أنّ عدم وجوب الإطاعة حينئذ غير عدم تحقّق موضوعها ، فالإطاعة للنهي الواقعي ـ على تقدير وجوده في الواقع ـ بالاجتناب عن الفعل ـ لاحتمال حرمته في الواقع ـ حاصلة وإن لم تجب هذه الإطاعة عقلا ، بناء على أخذ العلم في موضوع وجوبها عقلا. وأمّا بالنسبة إلى الأمر الشرعيّ ، فمع تحقّق موضوع الإطاعة كما عرفت تجب شرعا ، لفرض إطلاق الأمر بها. هذا ، مضافا إلى عدم انحصار الأمر في المقام فيما دلّ على وجوب الإطاعة ، لإمكان الاستدلال عليه بما دل على وجوب الاجتناب عن الفواحش والخبائث ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا. ولا يرد عليه ما أورده على أوامر الإطاعة.

٢٢٣

نعم ، يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم بعد ما قام الدليل على حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلّا بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته.

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلّا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة (*) احتمالا مجرّدا عن العلم الإجمالي لا يجب ، لا نفسا ولا مقدّمة ، والله العالم.

الثالث : أنّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ مغنية عن أصالة الإباحة ، إلا أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام كما ذكره المحدّث المتقدّم ذكره ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره ، فلا يجوز الأمر به من الحكيم ؛ لمنافاته للغرض والتبعيض بحسب الموارد ، واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال أيضا مشكل ؛ لأنّ تحديده في غاية العسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها فالاحتياط فيها حرج مخلّ بالنظام ، ويدلّ على هذا العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام كلّيته الاختلال.

ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل (١٣١٧) إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى ، يحتاط فيه ، وإلّا فلا.

ويدلّ على هذا : جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح وأنّه شديد وأنّه يكون منه الولد ، منها : ما تقدّم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجامعوا على النكاح بالشبهة» ، قال عليه‌السلام : «فإذا بلغك أنّ امرأة أرضعتك» ـ إلى أن قال ـ : «إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

______________________________________________________

١٣١٧. مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : يستحبّ فيه الاحتياط.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الحرمة» ، الخمريّة.

٢٢٤

وقد تعارض هذه بما دلّ على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدّعي حرمة المعقودة مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقة ، وغير ذلك. وفيه : أنّ مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط ، فلا ينافي الاستحباب.

ويحتمل التبعيض بين موارد الأمارة على الإباحة وموارد لا يوجد فيها إلّا أصالة الإباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأوّل ؛ لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعيّة على الإباحة ؛ فإنّ الأمارات في الموضوعات بمنزلة الأدلّة في الأحكام مزيلة للشبهة ، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحيّر في حكمه ولا بيان من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه ، دون مطلق ما فيه الاحتمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ؛ فإنّها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها. هذا ، ولكن أدلّة الاحتياط لا تنحصر فيما ذكر فيه لفظ «الشبهة» ، بل العقل مستقلّ بحسن الاحتياط مطلقا. فالأولى الحكم برجحان (١٣١٨) الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام (*). وما ذكر من أنّ تحديد

______________________________________________________

١٣١٨. حاصله : رجحان الاحتياط بحسب الإمكان ، وإن كان فيه حرج ومشقّة ، ما لم يلزم منه الحرام من تفويت حقّ واجب ونحوه.

ولكنّك خبير بأنّه لا بدّ أن يستثنى من ذلك الأشياء التي يعمّ بها البلوى ويكثر دورانها بين العباد ، كالأدهان والأنعام والغلّات ونحوها ، كما حكى التصريح به عن كاشف الغطاء ، لاستمرار السيرة عليه حتّى من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه وأوصيائه عليهم‌السلام ، إذ لم يحك من أحد من الزهّاد والعبّاد والمتورّعين من العلماء الاجتناب عن ذلك ولو استحبابا ، بل المتتبّع في أحوال السلف يقطع بجريان عادتهم بارتكابها. وقد ثبت استعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام للسكّر والمعطّرات ، مع كونهما معمولين في بلاد الكفر. وكانوا أيضا يستعملون أدهان الأسواق ، ويلبسون الأقمشة المشتراة من الأسواق ، المتطرّق عليها الشبهة من وجوه شتّى ، و

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الحرام» ، الحرج.

٢٢٥

الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فهو إنّما يقدح في وجوب (١٣١٩) الاحتياط لا في حسنه.

الرابع : إباحة ما يحتمل الحرمة (١٣٢٠) غير مختصّة بالعاجز عن الاستعلام بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع ؛ لعموم أدلّته من العقل والنقل ، وقوله عليه‌السلام في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو

______________________________________________________

هكذا. فلا بدّ من الحكم بعدم رجحان الاحتياط في أمثال ذلك ، فتدبّر.

١٣١٩. لأنّ ظاهر أدلّة نفي العسر والحرج هو نفي ما فيه الكلفة والحرج من الأحكام ، ولا حرج في المستحبّات ، لجواز فعلها وتركها ، كما هو واضح.

١٣٢٠. حاصله : عدم وجوب الفحص عن الأمارات التي يمكن الوصول إليها في العمل بأصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة. وأمّا الشبهات الحكميّة فسيجيء الكلام فيها في آخر المبحث. وأمّا عموم دليل العقل لما قبل الفحص في المقام ، فلعدم جريان الأدلّة التي أقاموها على وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة في المقام ، سوى دليل عدم حكم العقل بالمعذوريّة قبل الفحص ، وسوى دليل استلزام العمل بالبراءة قبله للمخالفة الكثيرة. وشيء منهما غير جار في المقام ، لأنّ عدم حكم العقل بالمعذوريّة قبل الفحص في الأحكام إنّما هو لمنافاته لوجوب التبليغ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجوب امتثال الأحكام للمكلّفين ، إذ لو جاز العمل بأصالة البراءة قبل الفحص كان ذلك سبيلا إلى عدم وجوب الالتزام بشيء منها أو إلّا القليل منها ، لعدم ثبوت التكليف حينئذ بالفحص ومراجعة الأدلّة بالفرض كي يطّلع عليها فيجب امتثالها. وهذا الوجه غير جار في المقام ، كما هو واضح. وأمّا العلم الإجمالي بالمخالفة الكثيرة ، فهو أيضا إنّما يوجب الفحص لأجل ما عرفته من كون المخالفة الكثيرة منافية للغرض من بعث الأنبياء وتبليغ الأحكام ، وقد عرفت عدم جريانه في المقام ، فتدبّر.

٢٢٦

تقوم به البيّنة» ، فإنّ ظاهره حصول الاستبانة وقيام البيّنة لا التحصيل (١٣٢١) ، وقوله : «هو لك حلال حتّى يجيئك شاهدان». لكن هذا وأشباهه مثل قوله عليه‌السلام في اللحم المشترى من السوق : «كل ولا تسأل» وقوله عليه‌السلام : «ليس عليكم المسألة ؛ إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم» وقوله عليه‌السلام في حكاية المنقطعة التي تبيّن لها زوج : «لم سألت» واردة في موارد وجود الأمارة الشرعيّة على الحلّية ، فلا تشمل ما نحن فيه ، إلّا أنّ المسألة غير خلافيّة ، مع كفاية الإطلاقات.

______________________________________________________

١٣٢١. لا يخفى أنّ المراد لو كان بيان وجوب تحصيل الاستبانة والبيّنة لم يدلّ أيضا على وجوب الفحص ، لأنّ المعنى حينئذ : والأشياء كلّها على هذا ـ يعني : على الإباحة ـ حتّى تتفحّص عنها فتستبين لك خلافها. ولا يقول به القائل بالفحص لو كان به هنا قول ، لأنّه إنّما يقول بوجوب الاحتياط قبل الفحص وبالبراءة بعده ، فالأولى ترك قوله : «لا التحصيل».

٢٢٧

المصادر

(١) الوسائل ج ١٢ : ص ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) الحشر (٥٩) : ٧.

(٤) البقرة (٢) : ١٩٥.

(٥) المائدة (٥) : ٣.

(٦) الفوائد الطوسيّة : ص ٥١٩ ـ ٥٢١.

٢٢٨

المطلب الثاني : في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه أيضا مسائل : الاولى فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّي من جهة عدم النصّ المعتبر كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال وكالاستهلال في رمضان ، وغير ذلك.

والمعروف من الأخباريّين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، قال المحدّث الحرّ العاملي (١٣٢٢) في باب القضاء من الوسائل :

______________________________________________________

١٣٢٢. قريب منه كلام الوحيد البهبهاني في فوائده العتيقة في الفائدة الرابعة والعشرين ، قال : «اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه والشبهة في موضوع الحكم الأصل فيهما البراءة. والمراد من الثاني أنّ حكم الشيء يكون معلوما لكن وقع الشبهة في موضوعه ، مثلا الميتة حرام البتّة والمذكّى حلال كذلك ، لكن وجد لحم لا ندري أنّه فرد الميتة أو المذكّى. والأخباريّون على أربعة مذاهب فيما لا نصّ فيه. الأوّل : التوقّف ، وهو المشهور بينهم. الثاني : الحرمة ظاهرا. والثالث : واقعا. والرابع : وجوب الاحتياط. ويحتمل أن يكون القول بالتحريم مختصّا بما قبل ورود الشرع ، وغير مختصّ بالأخباري. وألحق الأخباريّون بما لا نصّ فيه ما تعارض فيه النصان وأفراد غير ظاهرة الفرديّة. وصرّح منهم بأنّ هذه المذاهب فيما إذا احتمل الحرمة وغيرها من الأحكام ، وأمّا إذا احتمل الوجوب وغيره ـ سوى الحرمة ـ فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة. هذا فيما

٢٢٩

إنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، إلّا إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة معيّنة وحصل الشكّ بين فردين كالقصر والتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد (١٣٢٣) للصيد أو اثنين ونحو ذلك ، فإنّه يجب الجمع بين العبادتين ؛ لتحريم تركهما معا ، للنصّ ، وتحريم الجزم بوجوب أحدهما بعينه عملا بأحاديث الاحتياط (١) ، انتهى موضع الحاجة.

وقال المحدّث البحراني في مقدّمات كتابه بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين : أحدهما أنّها عبارة (١٣٢٤) عن نفي وجوب فعل وجودي ، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم دليل على الوجوب. وهذا القسم لا خلاف في صحّة الاستدلال به ؛ إذ لم يقل أحد : إنّ الأصل الوجوب. وقال في محكيّ كتابه المسمّى بالدرر النجفيّة : إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب ، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله ؛ لاستلزام التكليف بدون الدليل الحرج (١٣٢٥) والتكليف بما لا يطاق (٢) ، انتهى. لكنّه قدس‌سره في مسألة وجوب الاحتياط قال بعد القطع برجحان الاحتياط : إنّ منه ما يكون واجبا ومنه ما يكون مستحبّا ، فالأوّل : كما إذا تردّد المكلّف في الحكم إمّا لتعارض الأدلّة أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها أو لعدم الدليل

______________________________________________________

لا نصّ فيه. وأمّا الشبهة في موضوع الحكم فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة.» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

١٣٢٣. بناء على كون ذلك من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فتدبّر.

١٣٢٤. مقول «قال». ولا يخفى ما في العبارة من الفتور ، وأصل العبارة هكذا : اعلم أنّ البراءة الأصليّة على قسمين : أحدهما : أنّه عبارة إلى آخر ما ذكره.

١٣٢٥. لا يقال : إنّ هذا منتقض بورد مثله في الشبهات التحريميّة أيضا. لأنّا نقول : لعلّه مبنيّ على توهّم عدم لزوم الحرج من اجتماع تروك كثيرة ، كما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله أيضا في بعض كلماته السابقة. ولكنّا قد تنظّرنا هناك فيه بما لا يخفى. ويحتمل أن يكون قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة لأجل الأخبار الخاصّة ، إذ لا ريب في كون قاعدة نفي الحرج قابلة

٢٣٠

بالكلّية بناء على نفي البراءة الأصليّة أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكلّيات المعلومة الحكم أو نحو ذلك. والثاني : كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعيّ احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعيّ إباحة شىء وحلّيته لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنّه ممّا حرّمه الشارع وإن لم يعلم به المكلّف. ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك أنّها ارتضعت معك الرضاع المحرّم إلّا أنّه لم يثبت ذلك شرعا ، ومنه أيضا الدليل المرجوح (١٣٢٦) في نظر الفقيه. أمّا إذا لم يحصل (١٣٢٧) ما يوجب الشكّ والريبة ، فإنّه يعمل على ما ظهر له من الأدلّة وإن احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحبّ له الاحتياط هنا بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين.

ثمّ ذكر الأمثلة (١٣٢٨) للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ، أعني اشتباه الدليل وتردّده بين الوجوب والاستحباب وتعارض الدليلين وعدم النصّ ، قال :

______________________________________________________

للتخصيص ، وقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق مندفعة بإمكان الاحتياط ، فتأمّل.

١٣٢٦. هذا بالنسبة إلى الوقائع التي تعمّ بها البلوى ، لما سيشير إلى وجوب الاحتياط في غيرها.

١٣٢٧. أي : لم يحصل الشكّ باحتمال النقيض بأحد أسبابه لما قام عليه الدليل الشرعيّ. وهذا القسم خارج من القسمين المذكورين ، فلا يجب فيه الاحتياط ولا يستحبّ ، بل حكمه عدم الاحتياط.

١٣٢٨. من دون ذكر مثال للقسم الرابع. ولا يذهب عليك أنّ قوله : «قال : ومن هذا القسم» بيان لذكر بعض الأمثلة المذكورة. وليس المراد أنّه قال ذلك بعد ذكر المثال لكلّ من الأقسام الثلاثة ، إذ الموجود في مقدّمات الحدائق من عبارته هكذا : «ولنذكر جملة من الأمثلة ليتّضح بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه ، فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعيّ المتعلّق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل ،

٢٣١

ومن هذا القسم : ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا يعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فإنّ الحكم فيه ما ذكر ، كما سلف (٣) ، انتهى.

وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا المحدّث الأسترآبادي حيث حكي عنه في الفوائد المدنيّة أنّه قال : إنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد تواتر الأخبار بأنّ كلّ واقعة محتاج إليها فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى ، فلا يجوز قطعا ؛ وكيف يجوز؟ وقد تواتر عنهم عليهم‌السلام وجوب التوقّف فيما لم يعلم حكمها ، معلّلين بأنّه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى ، وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فاولئك هم الكافرون.

ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام ، فنقول التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما (١٣٢٩) ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم‌السلام ، وهو الحقّ عندي. ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم وارد من الله تعالى.

لا يقال : بقي هنا أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى

______________________________________________________

بأن تردّد بين احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب التوقّف في الحكم ، والاحتياط بالإتيان بذلك» إلى أن قال : «ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذّر الترجيح بينها بالمرجّحات المنصوصة». ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : «ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نصّ» إلى آخر ما أورده في المتن. والقسم الثالث بإطلاقه يشمل ما كانت الشبهة فيه وجوبيّة أيضا.

١٣٢٩. أي : يقول بالحسن والقبح الذاتيّين ، ولا يقول بالملازمة بين حكم العقل والشرع ، ولو استنادا في ذلك إلى الشرع.

٢٣٢

موافقا للبراءة الأصليّة. لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ؛ لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة. إلى أن قال : هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ، نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلوّ ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال. ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة ، وحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ونظائرهما ، أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها.

ثمّ قال ـ بعد أنّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة ـ : إنّ عادة العامّة والمتأخّرين من الخاصّة جرت بالتمسّك بالبراءة الأصليّة ، ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين لعلمنا بأنّ الله تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالى خال عن المعارض ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مخزون عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصليّة فيما لم نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم يعلم حكمه وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين وسنحقّقه فيما يأتي إن شاء الله تعالى (٤).

وذكر هناك ما حاصله : وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ، ولو كان ظاهرا في الندب بني على جواز الترك. وكذا لو وردت رواية ضعيفة (١٣٣٠) بوجوب شيء. وتمسّك في ذلك بحديث : «ما حجب الله علمه» وحديث : «رفع التسعة» ، قال : وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجودي لم يقطع بجوازه ؛ لحديث التثليث.

______________________________________________________

١٣٣٠. يعني : يبني على جواز الترك. وأنت خبير بأنّ صريح هذا الكلام هو عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة ، مع عدم ورود دليل معتبر فيها ، فهو صريح في خلاف ما نسبه إليه أوّلا من وجوب الاحتياط فيها. ولا بأس بنقل كلامه في الفوائد حتّى يتّضح به جليّة الحال فيما نقل المصنّف رحمه‌الله محصّله عنه هنا.

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فنقول : إنّه قال في الفصل الثامن الذي عقده للجواب عن الاسئلة التي أوردها على نفسه : «السؤال الخامس أن يقال : كيف عملكم معشر الأخباريّين في حديث ضعيف يدلّ على وجوب فعل وجودي؟ وجوابه أن يقال : نوجب التوقّف عن تعيين أحد المحتملات ، ومصداقه في هذه المباحث (*) أن لا يقع منه فعل أو قول أو ترك مبنيّ على القطع بأحد المحتملات بعينه ، ويجوز له أن يأتي بفعل أو قول أو ترك يجامع جميع المحتملات ، أو يجامع حال الشكّ والتردّد فيها. فإذا دار الفعل بين الوجوب والحرمة يجب عليه تركه ما دام كذلك. وإذا دار بين الوجوب والندب والكراهة فله فعله بنيّة مطلقة ، وله تركه. ويجب السؤال والتفتيش عن الحكم ، ونحن معذورون ما دمنا ساعين. ومن الموضّحات لذلك قولهم عليهم‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» انتهى.

ثمّ ساق الكلام في بيان الأسئلة إلى أن قال : «السؤال الثالث عشر : هل يكون حكم فعل بلغنا حديث ضعيف صريح في وجوبه ، وحكم فعل بلغنا حديث صحيح صريح في أنّه مطلوب غير صريح وجوبه وندبه ، واحد في جواز الترك؟ وجوابه : أنّ للفرض الثاني صورا : إحداها : أن يكون الظاهر الوجوب ، ولم يكن نصّا فيه. ومن المعلوم أنّ الترك حينئذ من باب الجرأة في الدين ، وتعيين الاحتمال الظاهر كذلك جرأة في الدين ، فيجب الاحتياط في الفتوى والعمل. وثانيتها : تساوي الاحتمالين ، وهنا التوقّف عن تعيين أحدهما ، ومصداقه الاحتياط. وثالثتها : أن يكون الظاهر الندب ، وقد مضى حكمه سابقا». أقول : قد أراد به جواز الترك.

ثمّ قال : «فإن قلت : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» شامل لما نحن فيه. قلت : لا يوجب القطع ، لجواز أن يكون المراد به العدول عن فعل وجودي يحتمل الحرمة إلى ما لا يحتمل الحرمة ، أو يكون المراد به الاستحباب ، كما ذهب إليه

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «يعني : في الموارد التي ذكرها في الأسئلة التي أوردها على نفسه. منه».

٢٣٤

أقول : قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقّق قدس‌سره : أنّ التمسّك بأصل البراءة منوط بدليل عقلي هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا لكون الحسن والقبح أو الوجوب والتحريم عقليّين أو شرعيّين في ذلك.

والعمدة فيما ذكره هذا المحدّث من أوّله إلى آخره تخيّله أنّ مذهب المجتهدين التمسّك بالبراءة الأصليّة لنفي الحكم الواقعي ، ولم أجد أحدا يستدلّ بها على ذلك.

______________________________________________________

جمع من العامّة والخاصّة. ولك أن تقول : الفرض الأوّل والصورة الثالثة مندرجان تحت قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم». وقوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن تسعة أشياء» من جملتها : ما لا تعلمون ، فنحن معذورون ما دمنا متفحّصين. وخرج من تحتهما كلّ فعل وجودي لم نقطع بجوازه بالحديث المشتمل على حصر الامور في ثلاثة وبنظائره. ومن هنا ظهر عليك وانكشف لديك الفرق بين احتمال وجوب فعل وجودي وبين احتمال حرمته ، بأنّه لا يجب الاحتياط في المسألة الاولى ، ويجب الاحتياط في المسألة الثانية».

ثمّ نقل عن جماعة من متأخّري الخاصّة تبعا للعامّة كون أصالة البراءة مفيدة للظنّ بعدم الوجوب في الشبهة الوجوبيّة ، وبعدم التحريم في الشبهة التحريميّة ، وطعن فيه «بأنّ ذلك إنّما يتمّ قبل إكمال الشريعة أو بعده مع تجويز خلوّ بعض الوقائع عن حكم وارد من الله تعالى ، وكذا عند من لم يقل بالواجبات الذاتيّة ومحرّماتها» انتهى موضع الحاجة.

وحاصله : التفصيل في ما قطع بعدم حرمته بين ما ورد خبر ضعيف صريح في وجوبه ، وخبر صحيح ظاهر في الندب ، وبين ما ورد خبر صحيح فيه محتمل للوجوب والندب أو ظاهر في الوجوب ، بالقول بالبراءة في الأوّلين ، وبوجوب الاحتياط في الخبرين ، وهو مبنيّ على عدم الاعتداد بالظواهر. ويناسبه ما حكي عنه من دعوى كون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة سندا ودلالة.

٢٣٥

نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهر جماعة من الإماميّة جعل أصل البراءة من الأدلّة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة ، لكنّ ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ؛ لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب أو غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للبراءة. وما ذكره من تبعيّة خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك (١٣٣١).

لكنّ الإنصاف ، أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ خصوصا في المقام ـ كما سيجيء في محلّه ـ ، ولا أمارة غيره يفيد الظنّ. فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ومنع اعتباره على تقدير الحصول ، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين في هذا المنع.

______________________________________________________

وكيف كان ، فهو ينافي ما نسبه إليه المصنّف رحمه‌الله من وجوب الاحتياط فيما نحن فيه كما عرفت. نعم ، قوله فيما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه : «ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين ...» صريح في عدم جواز العمل بأصالة البراءة في الشبهة الوجوبيّة. ومن هنا قد يتوهّم التنافي بين كلامي المحدّث المذكور. وهو ضعيف. لأن المحدّث المذكور قد زعم أنّ البراءة الأصليّة في كلمات العلماء عبارة عن نفي الحكم الواقعي بسبب حكم العقل ، ولذا جعلها مبنيّة تارة على مذهب الأشاعرة ، واخرى على نفي الملازمة ، وحكم بتماميّتها على المذهبين قبل إكمال الدين ، ثمّ ادّعى في آخر كلامه منافاتها لامور ، ثمّ زعم بقاء جملة من الشبهات تحت قاعدة الاحتياط ، وهي الشبهات التحريميّة ، وجملة من الشبهات الوجوبيّة ، وهو ما ورد فيه خبر صحيح مردّد بين الوجوب والاستحباب ، وخبر صحيح ظاهر في الوجوب ، وادّعى رخصة الشارع في جواز ترك جملة اخرى منها ، وهو ما ورد فيه خبر ضعيف صريح في وجوبه ، وخبر صحيح ظاهر في استحبابه ، ولا ريب أنّ الرخصة الشرعيّة في الظاهر لا تنافي نفي أصالة البراءة مطلقا بالمعنى المذكور.

١٣٣١. لأنّه مع حصول الظنّ بالخطاب الواقعي لأجل الاستصحاب يحصل الظنّ أيضا بمطابقة المصلحة في الواقعة للخطاب المظنون ، بمعنى : كون المصلحة فيها

٢٣٦

وكيف كان : فيظهر من المعارج (١٣٣٢) القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : العمل بالاحتياط غير لازم وصار آخرون إلى لزومه وفصّل آخرون (٥) ، انتهى. وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة. فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ والسيّدين التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل. والأقوى فيه : جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا إلى الإجماع المركّب (١٣٣٣).

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّ محلّ الكلام في هذه المسألة (١٣٣٤) هو

______________________________________________________

مقتضية للإباحة دون الوجوب.

١٣٣٢. لعموم عنوان كلامه ، سيّما مع تمثيله بولوغ الكلب الذي هو من قبيل الشبهات الوجوبيّة. ولعلّ هذا من المحقّق لأجل ملاحظته عمل الشيخ والسيّدين ، كما نقله المصنّف رحمه‌الله. ولكنّه صرّح بأنّ تمسّكهم في أكثر المسائل بأصالة البراءة يكشف عن عدم كون مذهبهم وجوب الاحتياط فيما تمسّكوا به ، لاحتمال كون ذلك منهم في مقام تأييد دليل آخر ، ولذا ربّما يجمعون في مقام الاستدلال بين قاعدة الاحتياط وغيرها من الأدلّة الاجتهاديّة ، مع عدم جريان الاولى مع وجود الثانية.

قال في الانتصار : «وممّا انفردت به الإماميّة كراهة صلاة الضحى ، وأنّ التنفّل بالصلاة بعد طلوع الشمس إلى وقت زوالها محرّمة إلّا في يوم الجمعة خاصّة. والوجه في ذلك الإجماع المتقدّم ، وطريقة الاحتياط ، فإنّ صلاة الضحى غير واجبة عند أحد ، ولا حرج في تركها ، وفي فعلها خلاف هل يكون بدعة ويلحق به إثم؟ فالأحوط العدول عنها» انتهى.

١٣٣٣. لأنّ كلّ من قال بالبراءة في الشبهة التحريميّة قال بها أيضا في الشبهة الوجوبيّة ، وإن لم ينعكس.

١٣٣٤. كذا في المسألة الثانية والثالثة الآتيتين.

٢٣٧

احتمال الوجوب النفسي المستقل ، وأمّا إذا احتمل كون شىء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشكّ في المكلّف به ، وإن كان المختار جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتّفاقيّة.

الثاني : أنّه لا إشكال في رجحان الاحتياط (١٣٣٥) بالفعل حتّى فيما احتمل كراهته.

______________________________________________________

١٣٣٥. هذا شروع بعد منع وجوب الاحتياط في المقام في بيان استحبابه شرعا وعدمه ، وقد اختلفوا فيه ، فعن السيّد الصدر نسبة الأوّل إلى المجتهدين ، وقيل بالثاني. والمصنّف رحمه‌الله قد أهمل بيان أقسام المسألة وأحكامها ، وتحقيق الكلام فيها يحتاج إلى بسط في الكلام ، مع الإشارة في ضمنه إلى ما يتعلّق بما حقّقه المصنّف رحمه‌الله.

فنقول بتوفيق من الملك العلّام ودلالة من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام : إنّه إذا دار الأمر في حكم فعل بين الوجوب وغير الحرمة ، كما هو موضوع البحث في المقام ، فهو يتصوّر على وجوه : أحدها : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب. الثاني : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة. الثالث : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والكراهة. الرابع : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب والكراهة. الخامس : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب والإباحة. السادس : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة والكراهة. السابع : ما دار الأمر فيه بين الأربعة. والشكّ في الثلاثة الأول ثنائي ، وفي الثلاثة الوسطى ثلاثي ، وفي الأخير رباعيّ.

وشبهة الوجوب فيما عدا دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب من الثنائيّات ، إمّا أن تكون ناشئة من وجود دليل ضعيف كالخبر الضعيف ، أو وجود فتوى فقيه أو انقداح رجحان إلزامي في نظر الفقيه ، لأنّه ربّما تختلج بباله شبهة وجوب من خصوصيّات المقام من دون أن يكون فيه دليل ضعيف وإن كان فتوى

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فقيه. وإنّما استثنيناه صورة دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب لعدم شمول أخبار التسامح لها ، لظهورها ـ بل صراحتها كما ستعرفه ـ في ترتّب الثواب على عمل مشكوك الرجحان ، بخلاف هذه الصورة ، لكون الرجحان فيها يقينيّا ، والشبهة إنّما هي في تحقّقه في ضمن فصل الوجوب أو الاستحباب ، ولذا لو أتى به بقصد القربة المطلقة حكم بصحّته لو كان من العبادات ، وترتّب عليه الثواب لا محالة. ومن هنا قد استثناها المصنّف رحمه‌الله من مورد الوجهين اللذين قوّى أوّلهما.

وكيف كان ، فالمقصود في المقام بيان حكم الوجهين الأوّلين من الثنائيّة ، لظهور حكم غيرهما بعد الإحاطة بما سنذكره فيهما. أمّا الأوّل ، أعني : ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب ، كالشكّ في وجوب دعاء رؤية الهلال واستحبابه ، فقد عرفت نسبة السيّد الصدر القول بالاستحباب فيه إلى المجتهدين. وقد يحتجّ له بأنّ الرجحان المطلق ثابت فيه يقينا ، فإذا نفت أصالة البراءة فصل الوجوب ـ أعني : المنع من الترك ـ ثبت فصل الاستحباب ، لامتناع بقاء الجنس بلا فصل ، فيثبت الاستحباب.

وفيه أوّلا : أنّ مقتضى أصالة البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب على مخالفة الواقع لو اتّفقت ، لا نفي الوجوب كما تقدّم في بعض الحواشي السابقة.

وثانيا : أنّ الثابت في الواقع إنّما هو أحد الأمرين من الوجوب والاستحباب ، ولا ريب في قيام كلّ منهما بفصله الخاصّ ، ولا بقاء للجنس مع عدم فصله ، ولذا قيل بكونه علّة له ، فإذا انتفى فصل الوجوب بالأصل فلا بدّ من انتفاء جنسه الذي تحقّق في ضمنه إن كان الفعل واجبا في الواقع ، فلا يبقى جنسه حتّى يتحقّق في ضمن فصل الاستحباب ، ولذا قيل : إنّ الفصول لا تثبت بالاصول ، فإثبات الاستحباب حينئذ يحتاج إلى دليل آخر لا محالة.

ونقل في الضوابط عن صاحب الرياض القول بالتخيير قائلا : «إنّ الشكّ الواقع في المكلّف به على قسمين : أحدهما : الشكّ في متعلّق الطلب ، كما لو دار

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر فيه بين الوجوب والحرمة. والآخر : الشكّ في كيفيّة الطلب ، كما في دوران الأمر فيما نحن فيه بين الوجوب والاستحباب. وفي كلا القسمين نحكم بالتخيير البدوي» انتهى. وحاصله : منع جريان البراءة في المقامين ، فيؤخذ بأحد الاحتمالين.

وفيه : أنّ مقتضى أصالة البراءة ليس إلّا مجرّد نفي العقاب ، ومقتضاها في المقام جواز كلّ من الفعل والترك ، فلا وجه لمنع جريانه هنا. اللهمّ إلّا أن تؤخذ أصالة البراءة بمعنى استصحابها ، فيقال : إنّ ما نحن فيه من قبيل ما علم بحدوث حادث وشكّ في الحادث ، وهو خصوص الوجوب والاستحباب ، فاستصحاب عدم أحدهما معارض باستصحاب عدم الآخر ، وبعد تساقطهما لأجل التعارض لا مناص من الحكم بالتخيير. ولكن أخذها بهذا المعنى فاسد جدّا ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله غير مرّة.

والتحقيق ما عرفت من جواز الإتيان بالفعل بنيّة مطلقة من دون اعتبار وجوبه واستحبابه ، لعدم الدليل على تعيين أحدهما بالخصوص.

وأمّا الثاني ، أعني ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة ، مع عدم وجود دليل ضعيف ولا قول فقيه فيه ، فلا إشكال في رجحان الاحتياط فيه. ولعلّه يثاب عليه أيضا ـ كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ إذا أتى به بداعي احتمال المحبوبيّة ، لأنّ ذلك وإن لم يكن إطاعة حقيقة ، نظرا إلى توقّفها على العلم بالأمر ، إلّا أنّه في حكمها ، لكون العبد معه شبيها بالمنقادين. ولعلّ الحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بترتّب العقاب على ترك الاحتياط اللازم ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. والوجه فيه يظهر ممّا أسلفناه عند شرح ما يتعلّق بالتنبيه الرابع من تنبيهات المسألة الاولى من مسائل المطلب الأوّل ، فراجع.

ولكن مع ذلك لا يحكم باستحباب الفعل ، لأنّ حسن الاحتياط وترتّب الثواب عليه لا يستلزم حسن المحتاط فيه ورجحانه من حيث هو ، لفرض عدم كون الإتيان به إطاعة حقيقيّة حتّى تستدعي وجود أمر كاشف عن حسن المأمور به ، و

٢٤٠