فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

لم يزل بنائهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب (١١٨٢)

______________________________________________________

١١٨٢. قد يعبّر بقبح التكليف بلا بيان. وإنّما عبّر المصنّف رحمه‌الله بقبح العقاب ، لأنّ القدر المسلّم من حكم العقل حكمه بقبح العقاب بلا بيان لا قبح التكليف بدونه ، ولذا يجوز إجراء البراءة مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فيقال : إنّ الأصل عدم كلّ منهما مع القطع بثبوت أحدهما.

ويدلّ على ما ذكرناه أيضا أنّ التكليف بلا بيان لو كان قبيحا كان كلّ من الوجوب والاستحباب المشكوكين موردا للأصل ، لفرض قبح التكليف المجهول مع قطع النظر عن ترتّب العقاب عليه. وحينئذ فإذا تردّد الأمر بين وجوب فعل واستحبابه ، كغسل الجمعة ودعاء رؤية الهلال ، تتعارض أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الاستحباب ، للعلم الإجمالي بثبوت أحدهما. ولا يمكن إجراء أصالة عدم كلّ منهما كما في الفرض الأوّل ، لاستلزامه المخالفة العمليّة هنا ، بخلافه هناك. ومع عدم جريان الأصلين لا بدّ من القول بوجوب الاحتياط ، لاحتمال الوجوب ، وليس كذلك ، لتعيّن إجراء أصالة البراءة عن الوجوب خاصّة ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في محلّه ، وليس ذلك إلّا لأجل كون مبنى أصالة البراءة على قبح العقاب بلا بيان ، لا على قبح التكليف بدونه.

وعلى كلّ تقدير فقد يقرّر الدليل بوجهين :

أحدهما : أنّ التكليف أو العقاب بلا بيان قبيح ، ومجرّد احتمال التكليف في الواقع غير كاف في البيان ، بأن يحكم العقل بمجرّد ذلك بوجوب الاحتياط ، ويقنع به عن البيان التفصيلي ، إذ بيان كلّ شيء بحسبه ، فبيان الأحكام الواقعيّة إنّما هو ببيان نفس هذه الأحكام ، حتّى إنّه لو صرّح الشارع بوجوب الاحتياط فهو تكليف آخر ظاهري لا دخل له في التكليف بنفس الواقع ، واقتناع الشارع به من

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

بيان الواقع مع ثبوت التكليف به قبيح منه. وعلى هذا الوجه يبتني ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من ورود قاعدة قبح التكليف بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

ولكنّك خبير بأنّ مقتضى هذا التقرير معارضة دليل العقل لأدلّة وجوب الاحتياط ، وهو ينافي ما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه من عدم المعارضة بينهما. وبالجملة ، إنّ دعواه ورود دليل العقل على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تنافي ما صرّح به في آخر كلامه.

وثانيهما : أنّ التكليف أو العقاب بلا بيان قبيح ، فلا بدّ للشارع إمّا بيان نفس الأحكام الواقعيّة ، وإمّا بيان طريق ظاهري إليها ولو كان هو الاحتياط. وهذا الوجه مبنيّ ـ بعد منع كون مجرّد احتمال التكليف في الواقع كافيا عن البيان ـ على منع دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه ، وهو كذلك كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

ولكن على هذا التقرير يمكن منع ورود دليل العقل على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ بعد الاعتراف بنهوض هذه القاعدة لإثبات حكم ظاهري كان هذا الحكم الظاهري بيانا ظاهريّا للتكليف المجهول. مضافا إلى ما يرد على المصنّف رحمه‌الله من أنّ قوله : «لا يكون بيانا للتكليف المجهول» إن أراد به عدم صلوح قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل للدلالة على نفس الحكم المجهول المحتمل فهو مسلّم ، إلّا أنّ القول بوجوب الاحتياط لا يبتني على ذلك ، بل على احتمال العقاب أو ثبوته في الجملة ، كيف وما ادّعاه من قبح العقاب بلا بيان ظاهر في تسليم وجوب الاحتياط مع فرض عدم القبح المذكور.

وإن أراد به عدم صلوحها لرفع قبح العقاب بلا بيان كما هو ظاهره ـ نظرا إلى أنّ هذه القاعدة على تقدير تماميّتها إنّما تثبت حكما ظاهريّا في موردها يترتّب العقاب على مخالفته ، سواء كان في موردها حكم واقعي أم لا ، وبالجملة إنّها إنّما تصلح لدفع القبح المذكور لو كان مقتضاها ثبوت العقاب على مخالفة الواقع لو كان

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في موردها تكليف ، لا ثبوته على مخالفة مودتها مطلقا ـ يرد عليه أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشادي محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، فمقتضاها على تقدير تماميّتها هو ترتّب العقاب على الواقع لو كان في الواقع تكليف.

ثم إنّ قبح التكليف بلا بيان إنّما هو فيما أمكن فيه البيان من الشارع ولم يبيّنه ، بأن لم يكن له فيه عذر ومانع من البيان وتبليغ الأحكام ، وإلّا فلا ريب في عدم تقبيح العقل للتكليف بلا بيان ، بل بمجرّد احتماله يحكم العقل حينئذ بوجوب الاحتياط وإن لم يصرّح به الشارع.

ومن هنا يندفع ما ربّما يمكن أن يورد على المقام ، من أنّ التكليف بلا بيان إن كان قبيحا لزم عدم وجوب النظر إلى معجزة مدّعي النبوّة ، لأجل أصالة البراءة عن وجوبه ، لفرض عدم وصول البيان من الشارع فيه ، فلزم إفحام الأنبياء عليهم‌السلام.

ووجه الاندفاع : ما عرفت من أنّ حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان مشروط بإمكان البيان ، وهو متعذّر في المقام ، إذ لو لم يجب النظر إلى المعجزة لا يكون طريق إلى معرفة نبوّة المدّعي لو كان صادقا في الواقع ، إلّا الأخذ بدعواه للنبوّة ، وجوازه موقوف على ثبوت صدقه ونبوّته ، فلو ثبتت نبوّته بقوله لزم الدور ، فلا بدّ حينئذ من النظر للاحتياط كما عرفت. مع أنّ وجوب النظر إنّما هو من باب المقدّمة ، لوجوب تصديق المدّعي لو كان صادقا في دعواه في الواقع ، فالمقصود من نفي وجوب النظر بأصالة البراءة نفي وجوب تصديقه.

وحينئذ نقول : إنّ العمل بالاصول موقوف على الفحص إجماعا ، والفحص في العمل بها في الأحكام إنّما هو عن الأدلّة ، وفي مسألة النبوّة عن معجزاته بالنظر إليها ، فعدم جواز العمل بالأصل إنّما هو لفقد شرطه ، لا لأجل عدم تقبيح العقل للتكليف بلا بيان.

وربّما يظهر من المحكيّ عن الهداية التفصيل في المقام بين ما قبل بسط الشرع

١٠٣

على شىء من دون بيان التكليف. ويشهد له : حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.

ودعوى : أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة ، مدفوعة : بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كلّية ظاهريّة وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ؛ فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة بل قاعدة القبح واردة عليها ؛ لأنّها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها.

______________________________________________________

وانتشار الأحكام وما بعده ، فسلّم قبح التكليف بلا بيان في الأوّل ، ومنعه في الثاني. وذلك لأنّ التكليف بلا بيان على وجوه : أحدها : أن يكلّف الشارع من دون بيان ، مع مانع من بيانه كما عرفته من مسألة النبوّة. وثانيها : أن يكلّف بلا بيان ، مع عدم المانع من قبله ولا من قبل المكلّف. وثالثها : أن يكلّف من دون بيان مع وجود المانع من قبل المكلّف ، بأن أرسل الله سبحانه رسولا ، فبلّغ جميع ما يجب تبليغه ، ونصب أوصياء بعده ليكونوا مرجعا للأنام في كلّ زمان ، ويزيد واما نقصوا وينقصوا ما زادوا ، ولكنّ المكلّفين بسوء اختيارهم أزالوا هذه النعمة عن أنفسهم ، وصاروا سببا لغيبة الوصيّ من بينهم ، فقصر باعهم عن تناول الأحكام ومعرفتها لذلك.

وإذا تحقّق ذلك فنقول : لا شكّ في عدم وجوب البيان ووجوب الاحتياط في الأوّل على ما بيّنّاه ، وكذلك في القبح على الثاني. وأمّا الثالث فليس في العقل ما يقبّح التكليف بلا بيان في هذا القسم. وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، إذ لا ريب في تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما يجب عليه تبليغه ، ولا في عدم تقصير أوصيائه في

١٠٤

هذا كلّه إن اريد ب «الضرر» العقاب ، وإن اريد به مضرّة اخرى غير العقاب ـ التي لا يتوقّف ترتّبها على العلم ـ ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان إلّا أنّ الشبهة (١١٨٣)

______________________________________________________

ذلك ، وإنّما صار المكلّفون لأجل تغلّبهم وظلمهم سببا لغيبة الحجّة من بينهم ، والحرمان من الانتفاع بوجوده الشريف وما معه من الأحكام ، كما هو واضح بالضرورة.

وبالجملة ، إنّه لا فرق في عدم القبح بين ما كان المانع من قبل المكلّف ـ بالكسر ـ كما عرفت من مسألة المعجزة ، أو من قبل المكلّف ـ بالفتح ـ كما فيما نحن فيه.

ولكنّه لا يخلو عن مناقشة بل منع ، لوضوح الفرق بين المقامين ، لعدم إمكان البيان في مسألة المعجزة مطلقا لا تفصيلا ولا إجمالا ، بأن أوجب الاحتياط فيها ، لما عرفت من استلزامه الدور ، بخلاف ما نحن فيه ، لإمكان أن يبيّن وجوب الاحتياط عند تعذّر معرفة الأحكام الواقعيّة لأجل غيبة الإمام عليه‌السلام أو غيرها ، فمع عدم بيانه لذلك فالعقل يستقلّ بقبح التكليف لا محالة.

لا يقال : لعلّه قد بيّن ولم يصل إلينا ، مع أنّ أخبار الاحتياط ناطقة به.

لأنّا نقول : إنّ مطلق البيان غير كاف ما لم يصل إلينا ، ومع وصوله لا بدّ أن يكون واضح الدلالة ، وسيجيء منع دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه. مع أنّا نمنع عدم قبح التكليف بلا بيان في مسألة المعجزة أيضا ، لما عرفت من أنّ عدم جواز العمل بأصالة البراءة فيها لفقد شرطها لا لأجل منع القبح. وبالجملة ، إنّه لا فرق في قبح التكليف بلا بيان بين المقامين ، لاستقلال العقل بالبراءة مطلقا ما لم يصل بيان ولو إجمالا.

١١٨٣. حاصل ما ذكره من الجواب يرجع إلى وجوه :

أحدها : كون الشبهة في المقام موضوعيّة.

١٠٥

من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ، فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود ؛ فلا بدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر ، وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعية إن شاء الله.

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس‌سره في الغنية : أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق. وتبعه بعض من تأخّر عنه ، فاستدلّ به في مسألة البراءة. والظاهر : أنّ المراد به (١١٨٤) ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ، كما

______________________________________________________

وثانيها : منع وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل. والوجه فيه عدم إمكان التحرّز عن المضارّ الدنيويّة المحتملة ، لاحتمال وجود المفسدة في جميع الأفعال من جهة بل من جهات ، كما هو واضح. ويمكن أن يقال في منع وجوب التحرّز عن المفاسد المحتملة ووجوب تحصيل المصالح كذلك التي هي منشأ الأحكام الشرعيّة : إنّ ذلك إنّما يتمّ على تقدير كون هذه المفاسد والمصالح علّة تامّة لها ، ولم يثبت ، لاحتمال كون تأثيرها مشروطا بالعلم بها. ولا فرق حينئذ بين المفاسد الدنيويّة والأخرويّة غير العقاب.

وثالثها : ثبوت الرخصة من الشارع في ارتكابها ، وهي كاشفة عن وجود ترياق لها ، وإن كان ذلك حاصلا بالعمل بالأحكام المعلومة. بل ربّما يقال في منع حكم العقل بوجوب دفع المفاسد المحتملة بكفاية مجرّد احتمال جعل الشارع لها ترياقا وإن لم يعرفه المكلّف. ولكنّه كما ترى غير مانع من حكم العقل بالوجوب. وبعبارة اخرى : إنّا إن قلنا باعتبار أصالة البراءة من باب الشرع ، كشف ذلك عن وجود ترياق يتدارك به المفسدة اللازمة من العمل بالبراءة. وإن قلنا باعتبارها من باب العقل ، فهو إنّما يحكم بها بعد منع وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا يكفي فيه مجرّد احتمال ما ذكرناه.

١١٨٤. حاصله : أنّ غرض الشارع من التكليف هو إطاعة ما أمر به أو نهى

١٠٦

صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ؛ وإلّا فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف به.

واحتمال كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع عدم قصد الإطاعة أو كون الغرض من التكليف مع الشكّ فيه إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوبا للآمر ، وهذا ممكن من الشاكّ وإن لم يكن من الغافل ، مدفوع : بأنه إن قام دليل (١١٨٥)

______________________________________________________

عنه ، لا مجرّد وقوع المأمور به وعدم وقوع المنهيّ عنه ولو من باب الاتّفاق. والإطاعة في التعبّديات هي الإتيان بالمأمور به من حيث إنّ الشارع أمر به ، وهو معنى القربة المعتبرة فيها ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى لا يمكن إلّا مع العلم بالأمر. وأمّا في التوصّليات فهي الإتيان بالفعل المأمور به في الخارج مع القصد إلى إيقاعه في الخارج ، وإن لم يكن بقصد امتثال ما أمره به ، بأن يوقع عقد البيع مع القصد إلى كونه من الأسباب الناقلة شرعا ، وإن لم يكن الإتيان به بقصد أنّه ممّا أمر الله به حتّى يترتّب عليه الثواب. ولا ريب في عدم القدرة أيضا على الإتيان بالمأمور به كذلك مع عدم العلم بالأمر.

وبالجملة ، إنّ مجرّد صدور الفعل المأمور به من باب الاتّفاق لا يوجب الإطاعة ، كما أنّ صدور تركه كذلك لا يوجب المخالفة. وسقوط التكليف في بعض الموارد بفعل الغير ـ كما في دفن الميّت وأداء الدين من غير المديون ـ إنّما هو من جهة سقوط أصل التكليف بفعل الغير ، لأجل حصول الغرض لا من جهة حصول الإطاعة.

١١٨٥. حاصله : أنّ الغرض من التكليف هو امتثاله ، فلو جاز التكليف بالمجهول فلا بدّ أن يكون الغرض منه امتثاله مطلقا ولو في حال الجهل ، ولا ريب أنّ الامتثال التفصيلي في حال الجهل متعذّر ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة. وأمّا الامتثال الإجمالي بالإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر في الواقع ، فإن قام دليل على

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب ذلك في التكاليف المجهولة أغنى ذلك عن الأمر الواقعي ، لكون الغرض المقصود من الأمر الواقعي حاصلا بهذا الأمر الظاهري. وإن لم يقم على وجوبه دليل فمجرّد التكاليف الواقعيّة المشكوكة لا تنفع في تحصيل هذا الغرض ، لأنّه لو جاز التكليف بالمجهول كان الغرض منه حمل المكلّف عليه وإتيانه به مطلقا ولو مع الجهل به ، لأنّ ظاهر التكليف حيث ثبت كون المقصود منه إتيان المكلّف بالمكلّف به على الحال التي وقع عليها ، فالتكليف المشكوك بنفسه لا يفيد الغرض المذكور.

والحاصل : أنّه مع فرض عدم قيام دليل على وجوبه فغاية ما يترتّب على الأمر الواقعي المحتمل هو الإتيان بالفعل أحيانا من باب الاتّفاق أو لداعي احتماله ، لا لداعي إطاعته التفصيليّة ، وهو غير مجد في تحصيل الغرض المقصود منه من حمل المكلّف على الإتيان بالمكلّف به مطلقا ، وهو واضح.

هذا ، ويمكن أن يقال بورود جميع ما ذكره فيما ثبت وجوب الاحتياط فيه ، كما لو تردّد الواجب بين الظهر والجمعة أو بين القصر والإتمام في بعض الموارد ، إذ يمكن أن يقال هنا أيضا : إنّ التكليف بالمجهول لو جاز كان الغرض منه امتثاله مطلقا ، والامتثال التفصيلي متعذّر ، والإجمالي إن قام على وجوبه دليل أغنى هذا الدليل عن التكليف الواقعي ، وإلّا فمجرّد التكليف الواقعي لا ينفع في تحصيل الغرض المذكور. بل يمكن إجراء هذا الكلام في جميع موارد إمكان الاحتياط ، سواء كانت الشبهة بدويّة أم مشوبة بالعلم الإجمالي ، إذ ما ذكر من الوجه يمنع إمكان الاحتياط لا وجوبه. مع أنّ دعوى إغناء الأمر الظاهري بالاحتياط عن الأمر الواقعي متّضحة الفساد ، لوضوح عدم إغناء شيء منهما عن الآخر. أمّا عدم إغناء الأوّل فلكون إمكان الاحتياط متفرّعا على احتمال التكليف الواقعي. وأمّا عدم إغناء الثاني فلأنّه إنّما يسلّم مع إمكان تحصيل الواقع بالعلم التفصيلي ، وأمّا مع عدمه ـ كما في محلّ الفرض من موارد أصالة البراءة ، لفرض عدم إمكان تحصيل العلم

١٠٨

على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل ، وإلّا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.

والحاصل أنّ التكليف المجهول لا يصلح لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

واعلم : أنّ هذا الدليل العقلي كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقليّة معلّق على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط ؛ فلا يثبت به إلّا الأصل في مسألة البراءة ، ولا يعدّ من أدلّتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة : منها : استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون. وفيه : أنّ الاستدلال مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعي دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهريّة. وسيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ إن شاء الله. وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفع في المقام ؛ لأنّ الثابت بها (١١٨٦) ترتّب اللوازم المجعولة الشرعيّة (١١٨٧)

______________________________________________________

بالواقع فيها تفصيلا ـ فلا يكون الأمر بالاحتياط فيه مغنيا عن الواقع لا محالة.

١١٨٦. يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه ـ منع جريان استصحاب البراءة في مورد قاعدتها ، لكون الشكّ في التكليف علّة تامّة لحكم العقل بعدم التكليف في مقام الظاهر ، وحينئذ لا يبقى شكّ فيه حتّى يجري استصحاب البراءة. وحينئذ تكون قاعدة البراءة حاكمة على استصحابها ، نظير حكومة قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى استصحابه. اللهمّ إلّا أن يقال بكون التمسّك بالاستصحاب في المقام مبنيّا على الغضّ عن حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، أو على ظاهر المشهور من كون اعتبار البراءة من باب الاستصحاب.

١١٨٧. لأنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ليس المراد به النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، لانتقاضه به قهرا ، بل المراد به ـ على ما سيجيء في محلّه ـ

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بالالتزام ببقاء المتيقّن السابق في زمان الشكّ إذا كان المستصحب حكما شرعيّا ، وببقاء الآثار الشرعيّة المرتّبة على المتيقّن السابق إن كان من الموضوعات الخارجة مثل حياة زيد ، لأنّ المقصود من استصحاب وجوده هو ترتيب الأحكام المرتّبة على وجوده في زمان اليقين به في زمان الشكّ فيه ، مثل الحكم بوجوب نفقة زوجته وعدم انتقال ملكه إلى الوارث ونحوهما ، ولذا لا يجري الاستصحاب في الموضوعات التي لا تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، مثل استصحاب حياة جنّ معهود مثلا.

والمستصحب فيما نحن فيه هي براءة الذمّة من التكليف ، وعدم المنع من الفعل ، وعدم استحقاق العقاب عليه. والمقصود من استصحاب هذه الامور هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ، كإثبات الإذن والترخيص من الشارع في الفعل ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله. والقطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل ليس من اللوازم الشرعيّة للامور المذكورة ، وكذلك الإذن والترخيص ، فإنّه وإن كان من الامور الشرعيّة إلّا أنّه ليس من لوازم الامور المذكورة ، بل من مقارناتها على ما حقّق به المقام ، ولا هو موردا للاستصحاب ، لعدم توجّه الخطابات الشرعيّة إلى المجنون والصبيّ ، فكما أنّه لا وجوب ولا تحريم في حقّهما ، كذلك لا استحباب ولا كراهة ولا إباحة أيضا في حقّهما ، حتّى يستصحب شيء منها.

نعم ، استصحاب عدم المنع مثلا الثابت في حال الصغر والجنون إلى زمان ما بعد البلوغ ، مع العلم بعدم خلوّ الواقعة من أحد الأحكام الخمسة ، لا ينفكّ عن الإباحة بالمعنى الأعمّ الشامل للثلاثة الأخيرة. ولكنّ الاستصحاب كما لا يثبت اللوازم غير الشرعيّة ، كذلك لا يثبت المقارنات الاتّفاقيّة وإن كانت شرعيّة أيضا. بل الظاهر أنّ القائلين بالاصول المثبتة أيضا لا يقولون بذلك ، لأنّهم إنّما يقولون

١١٠

على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلّا براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، والمطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك ـ إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب ، احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتّى يأمن العقل من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ـ ، ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب (١١٨٨) في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر.

______________________________________________________

باعتباره في إثبات اللوازم مطلقا لا ما يشمل ذلك أيضا ، كما سيجيء في محلّه. فلا يصحّ على مذهبهم أيضا إثبات أحد الضدين بنفي الآخر ، كإثبات الاستحباب بنفي الوجوب بالأصل فيما دار الأمر بينهما. والعجب من صاحب الفصول ، فإنّه مع اعترافه باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد وعدم اعتداده بالاصول المثبتة قد تمسّك به في المقام ، وقد عرفت التنافي بينهما ، بل هذا شيء لا يقول به القائلون بالاصول المثبتة على ما عرفت.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام. وهو متّجه إذا كان المقصود في المقام هو استصحاب الامور المذكورة لإثبات عدم العقاب أو الإذن والرخصة من الشارع. وأمّا إذا كان المقصود استصحاب عدم الوجوب والحرمة ، فهو أيضا وإن لم يثبت الإذن والرخصة على ما عرفت ، إلّا أنّه قد يثمر في بعض المواضع ، مثل ما ورد في الأخبار من أنّ من عليه فريضة لا يجوز له التطوّع ، حيث يستفاد منه كون جواز التطوّع لازما شرعيّا لعدم فريضة على المكلّف ، فإذا صحّ نفي الوجوب بالاستصحاب ثبت جواز التطوّع له شرعا ، فتدبّر.

١١٨٨. الأولى ترك لفظ الاستحقاق ، لأنّ عدم استحقاق العقاب أحد المستصحبات لا من لوازمها ، فضلا عن أن يكون شرعيّا أو غيره. اللهمّ إلّا أن يريد

١١١

وأمّا الإذن والترخيص في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلّا أنّ الإذن الشرعيّ ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ؛ حيث إنّ عدم المنع عن الفعل ـ بعد العلم إجمالا بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ـ لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه ، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم.

ومن هنا تبيّن أنّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا (٤٦) ـ من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وعدم إثباته إلّا اللوازم الشرعيّة ـ في هذا المقام باستصحاب البراءة ، منظور فيه. نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ أو أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّ ما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه ؛ بناء على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب ، وموضوع البراءة في السابق ومناطها هو الصغير الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل (١١٨٩). وبالجملة : فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

______________________________________________________

باستحقاق العقاب ترتّبه مجازا ، أو يريد أنّ عدم استحقاقه ليس من اللوازم الشرعيّة للفعل حتّى يثبت باستصحاب نفسه. وهذا وإن كان صحيحا إلّا أنّه لا تفي به العبارة ، بل مناف لسياقها.

١١٨٩. الأمر بالتأمّل إشارة إلى بقاء الموضوع في زمان الشكّ في محلّ الفرض بالمسامحة العرفيّة ، وإن كان مرتفعا بالمداقّة العقليّة ، لكون بلوغ الصبيّ وإفاقة المجنون عند أهل العرف من قبيل تغيّر حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع. وسيجيء توضيح ما يتعلّق بذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

وقد يورد على استصحاب البراءة أيضا بالعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، لأنّ اليقين بالبراءة في حال الصغر والجنون إنّما هو مع العلم بعدم التكليف رأسا ، وقد علمنا إجمالا بانتقاض هذه الحالة بعد البلوغ والإفاقة بالعلم

١١٢

ومنها : أنّ الاحتياط عسر منفي وجوبه (٤٧). وفيه : أنّ تعسّره ليس إلّا من حيث كثرة موارده وهي ممنوعة ؛ لأنّ مجراها عند الأخباريّين موارد فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ، وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحرج. ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة فلا بدّ له من العمل (١١٩٠) بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا عن لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدّي عن الظنون المخصوصة المنصوصة ، فراجع.

______________________________________________________

بأنّ للشارع في كلّ واقعة حكما من الأحكام الخمسة. وبعبارة اخرى : إنّ المستصحب إن كان هي البراءة الثابتة في حال الصغر والجنون ، فهي منتقضة بالعلم بخلافها إجمالا على ما عرفت. وإن كان هو عدم الوجوب والحرمة ، فهو معارض باستصحاب عدم الإباحة أيضا ، لكون الشكّ حينئذ في الحادث بعد العلم إجمالا بحدوث شيء.

وقد يذبّ عنه بأنّ المقصود باستصحاب عدم الوجوب والحرمة ليس هو إثبات الإباحة حتّى يرد ما عرفت ، بل المقصود نفي الأثر الزائد المرتّب على ما علم إجمالا ، لأنّه إذا علم حدوث أحد شيئين وكان أحدهما أكثر آثارا من الآخر فالأصل يقتضي نفي الأثر الزائد ، والوجوب والحرمة يختصّان بالنسبة إلى الإباحة بالمعنى الأعمّ بترتّب العقاب على مخالفتهما ، فالأصل يقتضي نفى هذا الأثر ، مع السكوت عن كون الثابت إجمالا هو ما ترتّب عليه هذا الأثر أو غيره.

١١٩٠. مع العمل بالظنّ غير المنصوص على حجيّته تقلّ موارد البراءة أيضا ، وهي موارد فقد الظنّ المطلق ، فلا يلزم من العمل بالاحتياط فيها عسر.

١١٣

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة. وفيه ما لا يخفى (١١٩١) ، ولم أر ذكره إلّا في كلام شاذّ لا يعبأ به.

______________________________________________________

١١٩١. لأنّ محلّ الكلام في المقام ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ، فلا يشمل ما دار الأمر فيه بين المحذورين وقد يتمسّك في المقام أيضا بالغلبة ، نظرا إلى كون أغلب الأشياء مباحة. وفيه أوّلا : منع الغلبة ، لأنّ مقصودهم حيث يتمسّك بها كون النادر مضمحلّا في جنب الغالب ، ولا ريب أنّ الواجب والحرام ليسا كذلك بالنسبة إلى المباح. وثانيا : منع حصول الظنّ من هذه الغلبة. وثالثا : منع اعتبار الظنّ الحاصل منها. ورابعا : خروج أصالة البراءة على هذا التقدير من كونها من الأدلّة الفقهائيّة ، لكون الغلبة مقيدة للظنّ بإباحة المشكوك بحسب الواقع ، فتأمّل.

١١٤

المصادر

(١) الفوائد الحائرية : ص ٤٩٩ ، الفائدة ٣٣ في تعريف المجتهد والفقيه.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧.

(٣) البقرة (٢) : ٢٢٢.

(٤) الطلاق (٦٥) : ٧.

(٥) مناهج الاصول : ص ٢١٠.

(٦) الطلاق (٦٥) : ٧.

(٧) مجمع البيان ج ١٠ : ص ٣٠٩.

(٨) الكافي ج ١ : ص ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ٥.

(٩) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(١٠) الإسراء (١٧) : ١٥.

(١١) القوانين ج ٢ : ص ١٦ ـ ١٧.

(١٢) التوبة (٩) : ١١٥.

(١٣) كتاب التوحيد للصدوق : ص ٤١٤ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، الحديث ١١.

(١٤) الأنفال (٨) : ٤٢.

(١٥) الانعام (٦) : ١٤٥.

(١٦) الأنعام (٦) : ١١٩.

(١٧) الوسائل ج ١١ : ص ٢٩٥ ، باب ٥٦ ، الحديث ١.

(١٨) الوسائل ج ١٦ : ص ١٣٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، الحديث ١٢.

(١٩) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٢٠) الكافى ج ٢ : ص ٤٦٣ ، الحديث ٢.

(٢١) النهاية لابن الأثير ، ج : ٣ ، ص ١٥٢.

(٢٢) الوسائل ج ٤ : ص ١١٩١ ، الباب ١٦ من أبواب الذكر ، الحديث ١.

(٢٣) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٤ ، الحديث ١.

(٢٤) الكافي ج ٢ : ص ٤٢٥ ، باب الوسوسة وحديث النفس ، الحديث ٣.

(٢٥) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٥ ، الحديث ٤.

(٢٦) الكافى ج ٢ : ص ٤٢٦ ، الحديث ٥.

(٢٧) الخصال : ص ٨٩ ، باب الثلاثة ، الحديث ٢٧.

(٢٨) النمل (٢٧) : ٤٧.

(٢٩) النساء (٤) : ٥٤.

(٣٠) المدثر (٧٤) : ١٨ ـ ١٩.

(٣١) نهج البلاغة : ص ٤٨٧ ، الحكمة ١٠٥.

(٣٢) عوالي اللآلي ج ١ : ص ٤٢٤ ، الحديث ١٠٩.

(٣٣) الكافي ج ١ : ص ١٦٤ ، باب حجج الله علي خلقه ، الحديث ٢.

١١٥

(٣٤) الوسائل ج ٥ : ص ٣٤٤ ، الباب ٣٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١.

(٣٥) الكافي ج ١ : ص ١٦٤ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث ١.

(٣٦) من لا يحضره الفقيه ج ١ : ص ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧.

(٣٧) الوسائل ج ١٤ : ص ٣٤٥ ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ٤.

(٣٨) الوافية : ص ١٨١.

(٣٩) مناهج الأحكام : ص ٢١٤.

(٤٠) القوانين ج ٢ : ص ٢٥٩.

(٤١) الذريعة ج ٢ : ص ٨٠٩ ـ ٨١٢.

(٤٢) عدّة الاصول ج ٢ : ص ٧٥٠.

(٤٣) السرائر ج ١ : ص ٤٦.

(٤٤) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٤٥) معارج الاصول : ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٤٦) الفصول : ص ٣٥٢ ، ٣٧٠ و ٣٧٧.

(٤٧) مفاتيح الاصول : ص ٥٠٦.

١١٦

احتجّ للقول الثاني ـ وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ـ بالأدلّة الثلاثة : فمن الكتاب طائفتان : إحداهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ؛ فإنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء حيث إنّه لم يؤذن فيه. ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ؛ لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ؛ فإنّه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.

والاخرى : ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط والاتّقاء والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت ـ للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد ـ ، وهي قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) و (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢). أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤) ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٥).

والجواب أمّا عن الآيات الناهية عن القول بغير علم ـ مضافا إلى النقض (١١٩٢)

______________________________________________________

١١٩٢. يرد عليه أيضا : أنّ قول الأخباريّين بوجوب الاحتياط وحرمة الارتكاب قول بغير علم. وما ذكره المصنّف من عدم ابتناء القول بالاحتياط على الفتوى بحرمة الارتكاب مبنيّ على المماشاة مع الخصم ، وإلّا فلا ريب في فتوى الأخباريّين بوجوب الاحتياط وحرمة الارتكاب.

١١٧

بشبهة الوجوب والشبهة في الموضوع ـ : فبأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا على قبح العقاب من غير بيان المتّفق عليه بين المجتهدين والأخباريين ليس من ذلك. وأمّا عمّا عدا آية التهلكة : فبمنع منافاة الارتكاب (١١٩٣) للتقوى والمجاهدة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله (٦). وأمّا عن آية التهلكة :

______________________________________________________

١١٩٣. لأنّ للتقوى معنيين :

أحدهما : ما ذكره الفقهاء عند تعريف العدالة بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى ، من الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات. وعلى هذا المعنى لا ينافي ارتكاب الشبهة للتقوى ، لفرض عدم العلم بحرمة المشتبه. وإليه ينظر قوله : «بمنع منافاة الارتكاب للتقوى».

وثانيهما : ما هو المتداول بين عامة الناس ، حيث لا يطلقون المتّقي إلّا على الأوحديّ من الناس ، وهو من أتى بالواجبات والمستحبّات ، واجتنب عن المحرّمات والمكروهات ، بل عن المباحات والمشتبهات ، على حسب ما يسعه وسعه. فلو كان المراد بالتقوى في الآيتين هو هذا المعنى لزم فيهما تخصيص الأكثر ، بناء على حمل الأمر فيها على ظاهره من الوجوب ، للقطع بجواز ارتكاب المباحات والمكروهات ، وكذا الشبهات التحريميّة الموضوعيّة ، باتّفاق من الأخباريّين ، وكذلك ترك المستحبّات ، وكذا الشبهات الوجوبيّة مطلقا ، حكميّة كانت أم موضوعيّة ، باتّفاق منهم ، فلا يبقى تحت الآيتين إلّا الواجبات والمحرّمات والشبهات التحريميّة الحكميّة. ولا ريب في كون الخارج حينئذ أكثر من الباقي ، كيف لا والشبهات الموضوعيّة بانفرادها أكثر من الداخل ، لكون أكثر الأشياء ـ من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها ـ مشتبهة بحسب الواقع. فلا مناص في دفع هذا الإشكال من حمل الأمر في الآيتين على مطلق الرجحان ، وهو مناف للغرض من الاستدلال بهما.

فإن قلت : إنّ المتفاهم عرفا من التقوى هو ترك ما في فعله وفعل ما في تركه

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

خوف ، فلا تشمل المستحبّات والمكروهات والمباحات ، فينحصر مفهومه في فعل الواجبات والشبهة الوجوبيّة وترك المحرّمات والشبهة التحريميّة ، سواء كانت حكميّة أم موضوعيّة ، والخارج منها لا يستلزم تخصيص الأكثر ، لكون التخصيص بحسب النوع دون الأفراد ، لأنّ الخارج حينئذ نوعان ، أعني : الشبهة الوجوبيّة مطلقا والشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، والباقي ثلاثة أنواع ، أعني : الواجبات والمحرّمات والشبهة التحريميّة الحكميّة.

قلت أوّلا : إنّ التخصيص النوعي خلاف الأصل ، لظهور العمومات في خصوص الأفراد لا الأنواع ، والتخصيص النوعي مجاز لا بدّ في حمل اللفظ عليه من نصب قرينة.

وثانيا : أنّا نمنع شمول التقوى للواجبات والمحرّمات أيضا ، لما عرفت من ظهوره في ترك ما في فعله وفعل ما في تركه خوف العقاب ، والعقاب في ترك الواجب وفعل الحرام متحقّق لا ممّا يخاف عنه ، فيكون الخارج أيضا أكثر من الباقي. مع أنّ الآيتين آبيتان عن التخصيص ، سواء كان نوعيّا أم فرديّا ، لكونهما من القضايا التي كان موضوع الحكم فيها علّة له ، لأنّ علّة وجوب التقوى هو حسن ما يتّقى به ، فكلّ ما يحصل به التقوى فالعلّة موجودة فيه ، فلا يمكن تخصيصهما بما يحصل به التقوى أيضا ، فلا بدّ من حمل الأمر فيهما على إرادة مطلق الرجحان لتسلما من محذور التخصيص من رأس. فهما دليلان لنا لا علينا ، لفرض ظهورهما في استحباب الاحتياط غير المنافي للقول بالبراءة لا في مطلوب الخصم من وجوبه.

وممّا ذكرناه ظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله بقوله : «مع أنّ غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه‌الله».

وممّا ذكرناه تبيّن عدم دلالة آية المجاهدة أيضا ، إمّا لظهورها في فعل الواجبات وترك المحرّمات خاصّة ، كالتقوى على معناها الأوّل ، كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله. وإمّا لأنّ تعميمها يستلزم تخصيص الأكثر ، نظير ما تقدّم في التقوى

١١٩

فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم (١١٩٤) ، وبمعنى غيره (١١٩٥) يكون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاجتناب بالاتّفاق.

ومن السنّة طوائف : إحداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم. وقد ظهر جوابها ممّا ذكر في الآيات. والثانية : ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة وعدم العلم وهي لا تحصى كثرة (١١٩٦). وظاهر التوقّف المطلق السكون وعدم المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». فلا يردّ على الاستدلال : أنّ التوقّف في الحكم الواقعي مسلّم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقّف في العمل لا معنى له.

فنذكر بعض تلك الأخبار تيمنا : منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : «إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك (١١٩٧) ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٧). ونحوها صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام وزاد فيها : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (٨).

______________________________________________________

على معناها الثاني. وأمّا آية التنازع فيرد عليها : أنّ العمل بالبراءة المستفادة من الأدلّة الأربعة ردّ لحكم المشتبه إلى الله ورسوله. ولعلّه لغاية ضعف دلالتها لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله للجواب عنها.

١١٩٤. لما أسلفه من قبح العقاب بلا بيان.

١١٩٥. من سائر المفاسد الدنيويّة أو الاخرويّة.

١١٩٦. هي قريبة من التواتر ، أو متواترة على ما ادّعاه الشيخ الحرّ العاملي في باب القضاء من الوسائل.

١١٩٧. قال الطريحي : وفي الحديث المشتبه أمره : «فأرجه حتّى تلقى إمامك» أي : أخّره واحبس أمره من الإرجاء وهو التأخير.

١٢٠