فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لذا قد حكم المصنّف رحمه‌الله بعدم كون ما يترتّب على الاحتياط ثوابا ، بل هو نوع تفضّل من الله سبحانه لأجل جعل نفسه في عدد المطيعين ، لأنّ الثواب هو الجزاء على فعل المأمور به ، ولا علم بالأمر هنا بالفرض. وتوضيحه : أنّ الثواب ـ كما عرّفه القوشچي ـ هو النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال. وقيد الاستحقاق احتراز عن التفضّل ، والمقارنة احتراز عن الاجرة. واشترطوا في موجبه المشقّة ، نظرا إلى عدم اقتضاء ما ليست فيه مشقّة لذلك. وصرّحوا بعدم صحّة الابتداء به ، وعلّله المحقّق الطوسي بأنّه لو أمكن الابتداء به كان التكليف عبثا.

ولعلّ الوجه في إخراج المصنّف رحمه‌الله ما يترتّب على الاحتياط من الحدّ هو عدم ثبوت الاستحقاق بذلك. والوجه فيه أيضا يظهر ممّا حقّقناه في مبحث المقدّمة في وجه عدم ترتّب الثواب على الواجبات الغيريّة ، لكون الاحتياط أيضا من المقدّمات العلميّة ، كيف ولو كان ذلك سببا للثواب كان الإتيان بمقدّمات الحرام أيضا سببا للعقاب ، فتلزم حرمة الأفعال المباحة غالبا ، لكونها من مقدّمات الحرام. وقد أشرنا سابقا إلى بعض الكلام في ذلك ، وإلى اختصاص حرمة المقدّمة بصورة قصد التوصّل بها إلى الحرام وبالعلّة التامة له.

وبالجملة ، إنّ الظاهر اختصاص موجب الثواب بإطاعة الأوامر ، فما يترتّب على الاحتياط على تقدير عدم إصابة الواقع لا بدّ أن يكون من باب التفضّل دون الثواب. ومن ذلك كلّه قد قوّى المصنّف رحمه‌الله عدم صحّة الفعل لو كان عبادة على تقدير وجوبه في الواقع. وحاصله : عدم الإمكان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، لأنّ الاحتياط لغة هو الأخذ بالأوثق ، واصطلاحا كلّ فعل أو ترك يحرز به الواقع ، والفعل إنّما يكون عبادة إذا اشتمل على قصد القربة شرطا أو شطرا ، المتوقّف على العلم بالأمر به إجمالا أو تفصيلا ، فالاحتياط بالعبادة فرع إحراز كونها عبادة ، وهو فرع العلم بالأمر المفروض عدمه في المقام. ومن هنا قد صرّح المدقّق الشرواني بكون الاحتياط فيها تشريعا محرّما ،

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوقّف السبزواري في مشروعيّته ، على ما حكي عنهما.

نعم ، قد احتمل المصنّف رحمه‌الله جريان الاحتياط في المقام ، بناء على كفاية هذا المقدار من الحسن العقلي في العبادة ، ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بمعنى عروض حسن الفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع ، وإن لم يكن مأمورا به في الواقع. مضافا إلى حسن هذا النحو من الإطاعة الحكميّة. ثمّ استشهد له سيرة العلماء ، مضافا إلى ما استدلّ به عليه في الذكرى.

وأقول : لا بأس بتقديم الكلام فيما ذكره الشهيد رحمه‌الله ، ثمّ الإشارة إلى توضيح ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من عروض الحسن للفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته.

فنقول : قد ذكر الشهيد في خاتمة مباحث الأوقات أنّه «قد اشتهر بين متأخّري الأصحاب قولا وفعلا الاحتياط بقضاء صلاة يتخيّل اشتمالها على خلل ، بل جميع العبادات الموهوم فيها ذلك. وربّما تداركوا ما لا مدخل للوهم في صحّته وبطلانه في الحياة وبالوصيّة بعد الوفاة. ولم نظفر بنصّ في ذلك بالخصوص. وللبحث فيه مجال ، إذ يمكن أن يقال بشرعيّته بوجوه : منها : قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) و (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» و «إنّما الأعمال بالنّيات» و «من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للمتيمّم لمّا أعاد صلاته لوجود الماء في الوقت : «لك الأجر مرّتين» والذي لم يعد : «أصبت السنّة». وقول الصادق عليه‌السلام في الخبر السالف : «انظروا إلى عبدي يقضي ما لم أفترض عليه». وقول العبد الصالح في مكاتبة عبد الله بن وضّاح : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ الحائط لدينك».

ثمّ ذكر وجوها للمنع وقال : «والأقرب الأوّل ، لعموم قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ

٢٤٢

الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصّلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر». ولأنّ الاحتياط المشروع في الصلاة من هذا القبيل ، فإنّ غايته التجويز ، ولهذا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن كان صلّى أربعا كان هاتان نافلة». ولأنّ إجماع شيعة عصرنا وما راهقه عليه ، فإنّهم لا يزالون يوصون بقضاء العبادات مع فعلهم إيّاها ، ويعيدون كثيرا منها قضاء أو أداء. والنهي عن إعادة الصلاة هو في الشكّ الذي يمكن فيه البناء» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهذه خمسة عشر وجها لمشروعيّة الاحتياط في العبادات ، كلّها لا يخلو من نظر.

أمّا الأوّلان ، فلما أفاده المصنّف رحمه‌الله من عدم حصول موضوع التقوى في المقام إلّا بالعلم بالأمر ، لأنّ التقوى هو إتيان ما أمر الله به والانتهاء عمّا نهى عنه ، فشمول الأمر به للمأتيّ به فرع احتماله لكونه عبادة ، واحتماله له فرع إتيانه بقصد القربة وإلّا لم يكن عبادة يقينا ، وهو فرع العلم بالأمر به تفصيلا أو إجمالا ، فلو اريد إثبات صحّة قصد التقرّب به بهذا الأمر لزم الدور ، اللهمّ إلّا أن يلتزم بما أجاب به من النّقض والحلّ.

ولكنّا قد قرّرنا الجواب عن الأوّل في مبحث الصحيح والأعمّ ، باختلاف معنى الصحة المأخوذة في موضوع العبادة والمتفرّعة على الأمر بها ، لكون المراد بالاولى كون المأمور به تامّ الأجزاء والشرائط ، بمعنى شرائط المأمور به ، وبالثانية عند المتكلّمين مطابقة الأمر ، وعند الفقهاء إسقاط الإعادة والقضاء. وقد أوضحنا تفصيل الكلام في ذلك في كتابنا المسمّى بغاية المأمول في كشف معضلات الاصول. ولا ريب أنّ ما يتوقّف عليه الأمر هي الصحة بالمعنى الأوّل ، وما يتوقّف عليه سقوط التكليف وكون الفعل عبادة هي الصحّة بالمعنى الثاني.

ومن هنا يظهر وجه النظر في قوله : «إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا» لأنّه إن أراد أخذ ذلك في موضوع الأمر بالصلاة مثلا ـ

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما هو ظاهره ـ فقد عرفت ضعفه ، كيف لا وهو غير معقول. وإن أراد أخذه في كيفيّة امتثال الأمر بها ـ كما هو كذلك ـ فهو لا يتوقّف على سبق اعتبار ذلك في المأمور به شطرا أو شرطا ، لفرض كونه من شرائط امتثال الأمر ومنتزعا عليه فكيف يتقدّم عليه؟

ويرد على الثاني أيضا أنّ التقوى بنفسها ليست عبادة يعتبر في تحقّقها قصد امتثال الأمر بها ، بل هي أمر يحصل بامتثال الأوامر والانتهاء عن النواهي الشرعيّة ، سواء كان ما يتّقى به عبادة أم غيرها. فمجرّد قصد امتثال الأمر بالتقوى لا يوجب كون المتّقى به عبادة ، كيف وقد تكون المتّقى به من الواجبات التوصّلية ، وقد يحصل بترك المحرّمات. مضافا إلى وضوح كون الأمر بها للإرشاد ، فلا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس ما يتّقى به.

وأمّا الثالث والرابع ، فإنّ المراد بالمجاهدة إن كان معناها المتبادر منها لا يرتبط بالمقام. وإن كان المراد بها المجاهدة والاجتهاد في تحصيل الأحكام الشرعيّة وامتثالها ، لا تشمل ما لم يعلم حكمه من الشرع ، كما هو الفرض في المقام.

وأمّا الخامس ، فلعدم العلم بدخول محلّ الفرض في (ما آتَوْا). والمراد بالآية الشريفة ـ والله أعلم ـ بيان حال الأشخاص الذين اتّبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتوا بما أتى به من الأحكام في حال كون قلوبهم خائفة من الله تعالى ، لا الإتيان بما لم يعلم حكمه من الشرع ، فضلا عن الإتيان بما يحتمل التحريم من جهة التشريع ، فتأمّل.

وأمّا السادس ، فهو على خلاف المدّعى أدلّ ، لكون الإعادة والقضاء من دون علم بالأمر بهما محلّ ريبة ، لما عرفت من احتمال التشريع فيهما ، فيجب تركهما بمقتضى الرواية ، فتأمّل. مع أنّ مقتضاها الأمر بالاحتياط ، وقد عرفت الإشكال في تحقّقه في العبادات.

وأمّا السابع ، فإنّ المراد به بيان اعتبار النيّة فيما ثبت من الشرع لا فيما شكّ في ثبوته فيه كما في محلّ الفرض ، لاختلاف وجوه العبادات بها ، لأنّ الصلاة مثلا

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بنيّة القربة من المقرّبات إلى الله تعالى ، وبنيّة الرياء من المبعّدات عن حضرته سبحانه.

وأمّا الثامن ، فقد ظهر الجواب عنه ممّا أوردناه على الوجد السادس ، لكون القضاء والإعادة في محلّ الفرض محلّ شبهة وريبة.

وأمّا التاسع ، فإنّ إعادة المتيمّم الواجد للماء في الوقت لا بدّ أن تكون مع علمه بجواز الإعادة ولو لادراك كمال الصلاة مع الوضوء قبل اطّلاعه على ما وعده الإمام عليه‌السلام من الأجرين ، إذ لو لم يكن عالما به قبله لم تصحّ الإعادة كما هو واضح ، والفرض في المقام عدم العلم بالجواز.

وأمّا العاشر ، فإنّ المراد به مدح من امتثل بغير ما فرضه الله عليه ، والمراد بالقضاء فيه مطلق الفعل لا تدارك ما فات منه ، فلا دخل له فيما نحن فيه ممّا لم يعلم فيه الأمر أصلا.

وأمّا الحادي عشر ، فإنّ الأمر بالاحتياط فيه وارد على طبق القاعدة ، لثبوت التكليف في مورده مع الشكّ في الخروج من عهدته مع موافقته الاستصحابات الموضوعيّة ، كما تقدّم توضيحه من المصنّف رحمه‌الله في المطلب الأوّل في تضاعيف أدلّة الاحتياط ، والفرض في المقام سقوط أصل التكليف ظاهرا ، وكون الإعادة والقضاء لاحتمال خلل لم يعلم الآمر بتداركه.

وأمّا الثاني عشر ، فإنّ المراد به المنع من النهي عن صلاة علم الأمر بها ، فلا يشمل المقام.

وأمّا الثالث عشر ، فإنّ المراد به التخيير بين الاستقلال والاستكثار في ما علم كونه صلاة وسمّاه الشارع بها ووعد الجزاء بها ، لأنّ هذا هو الظاهر من كونها خير موضوع ، لا ما لم يعلم الأمر به أصلا.

وأمّا الرابع عشر ، فإنّ تشريع صلاة الاحتياط عند الشكّ في عدد ركعاتها إنّما هو من جهة كون الصلاة مع جميع أجزائها وشرائطها المعيّنة مطلوبة و

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مقصودة من المكلّف ، والعلم بالخروج من عهدة التكليف بها لمّا لم يحصل إلّا بالعلم وجدانا أو شرعا بالإتيان بها على ما هي عليه من الأجزاء والشرائط ، فالشارع قد جعل صلاة الاحتياط ـ تسهيلا للأمر على المكلّف ـ جابرة لما احتمل فيها من النقص في ركعاتها ، ولذا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإن كان صلّى أربعا كان هاتان نافلة». وأين هذا ممّا علم بسقوط التكليف فيه ظاهرا ، وكان الغرض من القضاء والإعادة تدارك خلل محتمل لم يعلم الإذن من الشارع بتداركه؟

وأمّا الخامس عشر ، فلعدم الاعتداد بالإجماع في المسائل المستحدثة ، سيّما هذه المسألة التي لم يتعرّض لها أحد قبل الشهيد ، وإليه أشار في موضع آخر بقوله : «إنّ معاصري الأئمّة عليهم‌السلام من جهة شدّة اهتمامهم وعنايتهم بالصلاة كانوا لا يحتاجون إلى إعادتها وقضائها». نعم ، تمكن دعواه على طريقة الشيخ من ابتناء حجّية الإجماع على قاعدة اللطف ، وهذا ربّما يوهم موافقته له فيها.

نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بهذا الإجماع ، لا من حيث كونه إجماعا حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل من حيث كشفه عن استقرار عمل الصلحاء من العباد والكمّلين من العلماء في زمن الغيبة على ذلك ، وهو يكشف عن وجود دليل معتبر عندهم ، على ذلك أو عن حسن هذا الفعل عندهم مع قطع النظر عن حسنه المحتمل بحسب نفس الأمر ، من أجل احتمال وجوبه في الواقع كما هو محلّ الفرض. ولعلّ مراد المصنّف رحمه‌الله أيضا بدعوى كفاية الحسن العقلي في العبادة مستشهدا لها سيرة العلماء هو ما ذكرناه ، من كشف سيرتهم عن وجود دليل معتبر عندهم ، وإلّا فمجرّد دعوى كفاية الحسن العقلي فيها إعادة للمدّعى ، وسيرة العلماء مجرّدة عن اعتبار ما ذكرناه لا دليل على اعتبارها.

وعلى كلّ تقدير ، فممّا ذكرناه يندفع احتمال التشريع في المقام كما زعمه المدقّق الشرواني ، إذ لم يقل أحد بذلك مع وجود دليل معتبر ، أو حسن الفعل في نفسه الكاشف عن حسنه عند الشارع أيضا وأمره به.

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذلك يندفع ما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله في وجه عدم جريان الاحتياط في المقام ، من كون الأمر بالاحتياط ـ كأوامر الإطاعة ـ إرشاديّا لا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على نفس الواقع مع قطع النظر عن هذا الأمر ، لأنّ ذلك إنّما يرد لو قلنا بأنّ مبنى الاحتياط بالإعادة والقضاء من جهة احتمال خلل فيها على مجرّد كون ذلك طريق امتثال للأمر المحتمل ، وليس كذلك ، لما عرفت من كون ذلك لأجل حسن الفعل في نفسه. مضافا إلى حسن الإطاعة الحكميّة ، لكشفه عن أمر الشارع به في الواقع بحكم الملازمة.

فإن قلت : كون الصلاة المعادة أو المقضيّة عبادة وحسنة موقوف على أمر الشارع بها ، إذ لا حسن للعبادات من دون أمره بها ، ولذا لا تصحّ من دون قصد التقرّب بامتثال الأمر المتعلّق بها ، وأمره بها فرع حسنها في نفسها ، لكون أوامره تابعة للحسن الواقعي لا محالة ، فيلزم الدور. ولعلّه من هنا قد التزم صاحب الفصول بكفاية الحسن في الأمر ، وعدم لزوم حسن المأمور به في أمر الشارع به ، ومنع الملازمة بين حكم العقل والشرع وإلّا لم يندفع الدور. ومن هنا يظهر ضعف قول المصنّف رحمه‌الله : «والتحقيق : أنّه إن قلنا بكفاية ...» ، لأنّ صريحه اندفاع الدور على تقدير حسن الفعل المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته. مضافا إلى حسن الإطاعة الحكميّة ، إذ قد عرفت بقاء إشكال الدور على هذا التقدير أيضا ، وإن اختلف تقريره على التقديرين ، لأنّ لزومه على تقدير عدم حسن الفعل في نفسه من جهة أنّ شمول الأمر بالاحتياط للمأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته موقوف على قصد القربة به ، وهو موقوف على شمول الأمر المذكور له ، وعلى تقدير حسنه في نفسه من جهة أنّ حسن الفعل المأتيّ به موقوف على أمر الشارع به ، وأمره به موقوف على حسنه كما عرفت.

قلت : إنّه ـ مع انتقاضه بسائر العبادات التي علم أمر الشارع بها ، لورود المحذور المذكور فيها أيضا ـ يمكن منع توقّف حسن العبادات على أمر الشارع ، و

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لذا لو أتى بها حبّا لله وشكرا له لم يقل أحد ببطلانها. وما قرع سمعك من اعتبار قصد القربة وامتثال أمره تعالى في صحّتها ، إنّما هو لبيان أقلّ مراتب ما يعتبر في العبادة من القصد لا للحصر. بل نقول : إنّه لو أتى بها بقصد حسنها الواقعي وإن لم يعلم بحسنها الخاصّ كفى في صحّتها ، وترتّب عليها ما يترتّب عليها لو أتى بها بقصد امتثال الأمر ، لأنّ الثواب ـ من التقرّب ودخول الجنّة وغيرهما ـ من آثار حسن الفعل لا من آثار إطاعة أمر الشارع من حيث هي.

ولعلّه إلى ما ذكرناه يرجع ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في دفع الدور حلّا على تقدير عدم كفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة ، من كون المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر الواردة فيهما هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة.

وحاصله : أنّ موضوع الاحتياط والاتّقاء إنّما يتوقّف على قصد القربة إذا كان اعتبار قصدها مأخوذا في موضوع الأوامر الواقعيّة شطرا أو شرطا ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الإتيان بالفعل باحتمال محبوبيّته في الواقع من دون قصد القربة لا يكون احتياطا واتّقاء ، لعدم موافقته للأمر الواقعي على تقدير وجوده في الواقع ، لما عرفت من فرض اعتبار قصد القربة في موضوعه. وأمّا إذا لم يكن مأخوذا في موضوع الأوامر الواقعيّة كما أوضحناه ، فلا ريب في موافقة الفعل المأتيّ به ـ باحتمال محبوبيّته في الواقع ـ للأمر الواقعي على تقدير وجوده في الواقع ، وحينئذ يدّعى كون هذا الفعل متعلّقا لأوامر الاحتياط والاتّقاء ، فيقصد بها القربة.

نعم ، [إن](*) أراد أنّ المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر المتعلّقة بهما هو الاحتياط والاتّقاء في الجملة ، يعني : في غير جهة قصد القربة ، فرارا عن لزوم الدور ، أمكن منعه ، لمخالفته لظاهر هذه الأوامر ، ولعدم الحاجة إلى هذه الدعوى كما عرفت.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعنى.

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والذي يوضح المقام ويحسم مادّة الإشكال هو الفرق بين شرائط المأمور به التي هي قيود للماهيّة ومعتبرة في تحصّلها في الخارج ، مثل الطهارة وستر العورة ونحوهما بالنسبة إلى الصلاة ، وبين شرائط امتثال الأمر. والأوّل لا بدّ من تحقّقه في تحقّق موضوع العبادة ، والثاني يختلف باختلاف حالات المكلّف كما ستعرفه. وقصد القربة من قبيل الثاني ، إذ لو كان مأخوذا في المأمور به لزم تقدّمه على الأمر ، والفرض تأخّره عنه وكونه متفرّعا عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه ، فلا بدّ أن يكون ذلك معتبرا في تحقّق امتثال الأمر دون المأمور به.

وحينئذ نقول : إنّ مطابقة الفعل المأتيّ به للمأمور به الواقعي على تقدير وجود الأمر في الواقع لا يتوقّف على قصد القربة به ، لأنّه إنّما يلزم على تقدير أخذه في نفس المأمور به الواقعي لا في كيفيّة امتثال الأمر المتعلّق به ، وقد عرفت خلافه.

وحينئذ يصحّ قصد القربة بإطاعة الأمر بالاحتياط والاتّقاء ، وإن لم يأت به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. ولكنّك خبير بأنّك بعد ما عرفت من كون قصد القربة من شرائط امتثال الأمر دون المأمور به ، فلا ريب أنّ اعتبار قصدها في صحّة العبادات مأخوذ من العرف لعدم صدق الامتثال بدونه. وحينئذ إن علم الأمر المتعلّق بالفعل المتعبّد به تفصيلا أو إجمالا ، فالمعتبر عرفا هو الإتيان به بقصد كونه مقرّبا إلى الله تعالى. وإن احتمل فيه ذلك يجب الإتيان به باحتمال كونه مقرّبا ، لكفاية ذلك في صدق امتثال الأمر المحتمل عرفا. وحينئذ فمع تحقّق الأمر في الواقع يثاب على إطاعته ، ومع عدمه يثاب على عمله ، لأجل كون ذلك شبه انقياد وإطاعة حكميّة. ومن هنا تصحّ دعوى جريان الاحتياط في العبادات كغيرها من دون حاجة إلى دعوى كفاية الحسن العقلي في صيرورة المأتيّ به بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع عبادة ، وكذا إلى دعوى كون المراد بالاحتياط والاتّقاء في الأوامر الواردة فيهما موافقة المأتيّ به للواقع في غير جهة قصد القربة ، كما صدر

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

عن المصنّف رحمه‌الله ، لما عرفت من تحقّق موضوع الاحتياط والاتّقاء في العبادات كغيرها من دون حاجة إلى الدعويين.

نعم ، على ما ذكرناه يتعيّن الإتيان بالفعل بداعي احتمال محبوبيّته ، ويكون حسن الفعل تابعا بتحقّق الأمر في الواقع ، وإن أثيب العبد على تقدير عدمه أيضا من جهة الإطاعة الحكميّة. ويتعيّن أيضا حمل الأوامر الواردة في الاحتياط والاتّقاء على الإرشاد ، لوضوح كونها حينئذ مؤكّدة لحكم العقل. وحينئذ لا يمكن الحكم باستحباب الفعل من حيث نفسه ، بمعنى مطلوبيّة الإتيان به من حيث رجحان نفسه وإن لم يكن بداعي احتمال محبوبيّته في الواقع ، وهو خلاف ظاهر العلماء ، لحكمهم باستحبابه من دون تقييد إتيانه بالداعي المذكور ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله. ولعلّ هذا هو الداعي له إلى الدعوى الثانية ليصحّ معها الحكم بالاستحباب النفسي.

ويمكن أن يحتجّ له أيضا بأخبار التسامح ، لأنّ الإعادة والقضاء فيما نحن فيه وإن لم يرد بهما خبر ضعيف ، إلّا أنّه يمكن إثبات استحبابهما باتّحاد طريق المسألتين ، لأنّ ما وعده الإمام عليه‌السلام من الثواب على العمل في مورد هذه الروايات وإن كان هو صورة سماع الثواب أو بلوغه ، إلّا أنّ المتأمّل في الروايات يقطع بكون ترتّب الثواب الموعود على العمل من جهة إتيان المكلّف به ، لاحتمال حسنه في الواقع ومحبوبيّته عند الشارع من دون مدخليّة لبلوغ الثواب من حيث هو في ذلك. وحينئذ تندرج الإعادة والقضاء فيما نحن فيه في ذلك ، بل يندرج فيه كلّ فعل يحتمل رجحان في الواقع وإن لم يرد ذلك بطريق أخبار الآحاد ، فيندرج فيه جميع الأقسام السبعة المتقدّمة في صدر المبحث. بل تمكن دعوى شمول البلوغ والسماع في هذه الأخبار لفتوى الفقيه ، فيشمل ما نحن فيه بالمنطوق لا بالملازمة ، لفتوى الفقهاء بالاستحباب فيه أيضا.

هذا كلّه في ما دار الأمر فيه بين الوجوب والإباحة ، مع عدم ورود خبر

٢٥٠

والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبيّة ؛ لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، والحكم بالثواب هنا أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم ، بناء على أنّه (*) في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا.

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان : أقواهما العدم (١٣٣٦) ؛ لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (**) كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة. وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ، بل هو لأجل كونه انقيادا للشارع والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا.

______________________________________________________

ضعيف أو فتوى فقيه بالوجوب. وأمّا إذا كان احتمال الوجوب ناشئا من أحدهما فلا مناص من الحكم بالاستحباب ، لأخبار التسامح ، بناء على شمولها لفتوى الفقيه أيضا. وللمصنّف قدس‌سره في ذلك رسالة مفردة ، مشتملة على تحقيقات رشيقة ، ورموز وإشارات دقيقة ، لم يسبق عليه بمثلها أحد فيما أعلم ، ولله درّه ، لأنّه في جميع مصنّفاته قد أفاد وأجاد ، وأتى بما فوق المراد ، شكّر الله سعيه ، وطيّب رمسه ، وجزاه الله عنّا كلّ الجزاء. وإنّي أورد تلك الرسالة في هذه التعليقة بعد الفراغ ممّا يتعلّق بشرح كلامه في هذا التنبيه ، لأنّه ما أجمله في المقام ـ من تقرير أسئلة ، وتحرير أجوبة ، ومنع اعتراضات ، ودفع شبهات ـ قد كشف الحجاب هناك عن تفصيلها ، ودفع الستر عن مستورها ، فمن أراد أن يصدع الحقّ فعليه بمراجعتها.

١٣٣٦. هذا بحسب الدليل في بادئ النظر ، وإلّا فالذي استقرّ عليه رأيه في آخر كلامه هو الوجه الثاني.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أنّه» ، أنّها.

(**) في بعض النسخ زيادة : أو الظنّ المعتبر.

٢٥١

ودعوى : أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الإتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا. مدفوعة ؛ لما تقدّم في المطلب الأوّل من أنّ الأمر الشرعيّ بهذا النحو من الانقياد ـ كأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعيّة في معلوم التكليف ـ إرشادي محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشاديّة ، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، كما أنّ إطاعة الأوامر المتحقّقة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (٦).

ويحتمل الجريان بناء على أنّ هذا المقدار من الحسن العقلي يكفي في العبادة ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا ؛ ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة. واستدلّ في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ.) (٧)

والتحقيق أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ولو إجمالا ، فهو ، وإلّا فما أورده قدس‌سره في الذكرى كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها ؛ لأنّ موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقّف عليه هذه الأوامر لا يتحقّق إلّا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ؛ وإلّا لم يكن احتياطا ؛ فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنويّة فيها.

اللهمّ إلّا أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٨) ؛ حيث إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها ـ : إنّ المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما

٢٥٢

يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل ، وحينئذ : فيقصد المكلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر.

ومن هنا يتّجه (١٣٣٧) الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلّد كون هذا الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة ؛ ولو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة ، لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلّا مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط ، مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه (١٣٣٨). فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي.

قاعدة التسامح في أدلّة السنن : ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الإرشاد العقلي ؛ لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (٩). وعن البحار بعد ذكرها : أنّ هذا الخبر من المشهورات ، رواه العامّة والخاصّة بأسانيد. والظاهر : أنّ المراد من «شيء من الثواب» ـ بقرينة ضمير «فعمله» وإضافة الأجر إليه ـ هو الفعل المشتمل على الثواب. وفي عدّة الداعي عن

______________________________________________________

١٣٣٧. لفرض تعلّق الأمر بالإتيان بجميع ما يعتبر في العبادة ما عدا قصد القربة ، فيثبت به استحباب الفعل شرعا ، وتقصد القربة بامتثال هذا الأمر دون الأمر المحتمل الواقعي ، ليعتبر في تحقّق امتثاله علم المقلّد بكونه ممّا شكّ في كونه عبادة ، وإتيانه به بداعي احتمال المحبوبيّة ، لعدم مدخليّة شيء منهما في تحقّق موضوع الاحتياط بالمعنى المذكور الذي هو متعلّق الأمر.

١٣٣٨. لإفتائهم في موارد هذه المسألة بالاستحباب من دون تقييد.

٢٥٣

الكليني قدس‌سره : أنّه روى بطرقه عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّه : «من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما بلغه» (١٠). وأرسل نحوه السيّد في الإقبال عن الصادق عليه‌السلام ، إلّا أنّ فيه : «كان له ذلك».

والأخبار الواردة في هذا الباب (١٣٣٩) كثيرة ، إلّا أنّ ما ذكرناه أوضح دلالة على ما نحن فيه ، وإن كان يورد عليه أيضا تارة بأنّ ثبوت (١٣٤٠) الأجر

______________________________________________________

١٣٣٩. سيأتي في الرسالة الموعودة ـ مضافا إلى ما نقله المصنّف رحمه‌الله هنا ـ أخبار خمسة أخر ، ولكن لم يعلم وجه كون ما نقله هنا أوضح دلالة منها.

وكيف كان ، فهذه الأخبار هي العمدة عندهم في إثبات جواز التسامح في أدلّة السنن. ومرادهم بالتسامح فيها عدم اشتراطهم فيها ما اشترطوه في أدلّة التكاليف الإلزاميّة من الوجوب والحرمة. استنادا فيه إلى دليل معتبر ، وهي الأخبار المذكورة. فلا يرد حينئذ أنّ المثبت للاستحباب إن كان دليلا ضعيفا فلا وجه للاستناد إليه ، لأنّ إثبات الاستحباب والكراهة ـ كإثبات الوجوب والحرمة ـ محتاج إلى دليل معتبر ، لاشتراك الجميع في كونها من الأحكام التوقيفيّة الشرعيّة. وإن كان دليلا معتبرا فلا مورد للتسامح حينئذ.

ثمّ إنّه يمكن أن يورد على الأخبار المذكورة ـ مضافا إلى ما أورده هنا وفي الرسالة الآتية ـ أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام في رواية صفوان الآتية في الرسالة : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير» كون البالغ هو أصل الثواب مع العلم بكون الموعود عليه الثواب خيرا ، فلا يشمل ما شكّ في أصل خيريّته ، يعني : في أصل شرعيّته ، سواء كان البالغ هو ذلك أو هو مع الثواب.

وفيه : ـ مع إطلاق غيرها وعدم الدليل على التقييد في المقام ـ أنّه يحتمل أن يراد منها بلوغ كلّ من الثواب والخيريّة ، لا الأوّل بعد العلم بالثاني. ويؤيده عمل العلماء وفهمهم ، فتدبّر.

١٣٤٠. هذا هو الإيراد الخامس الآتي في الرسالة الآتية.

٢٥٤

لا يدلّ على الاستحباب (١٣٤١) الشرعيّ ، واخرى بما تقدّم في أوامر الاحتياط من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون هي المصحّحة لفعله ، فيختصّ موردها (١٣٤٢) بصورة تحقّق الاستحباب ، وكون البالغ هو الثواب الخاصّ ، فهو التسامح فيه دون أصل شرعيّة الفعل. وثالثة : بظهورها (١٣٤٣) فيما بلغ فيه الثواب المحض ، لا العقاب محضا أو مع الثواب. لكن يردّ هذا منع الظهور مع إطلاق الخبر (١٣٤٤) ، ويردّ ما قبله ما تقدّم

______________________________________________________

١٣٤١. لعدم الملازمة بينهما ، لجواز كون الثواب على الإطاعة الحكميّة ، كما سيشير إليه.

١٣٤٢. هذا تقرير آخر للإيراد الثاني من الإيرادات التي أوردها في الرسالة الآتية ، إلّا أنّه استند هنا في الحمل على صورة تحقّق الاستحباب إلى لزوم الإشكال الذي ذكره على تقدير كون المراد بلوغ أصل الاستحباب ، وهناك إلى ظواهر الأخبار. ولعلّ الوجه فيه ظاهر تنكير لفظ «شيء» في قوله : «شيء من الثواب» في الصحيحة ، وكذا تنكير لفظ «ثواب» في جملة اخرى. وقد أجاب عن الأوّل هنا ، وعن الثاني هناك ، فراجع.

١٣٤٣. لأنّ الخبر الضعيف قد يتضمّن استحباب فعل ، وقد يتضمّن وجوبه التوصّلي ، وقد يتضمّن وجوبه التعبّدي. والأوّل مستلزم للإخبار عن الثواب المحض. والثاني عن العقاب المحض ، لعدم ترتّب الثواب على الواجبات التوصّلية ما لم يقصد امتثال الأمر المتعلّق بها. والثالث عن كلّ منهما. والأخبار المذكورة حيث كان ظاهرها صورة الإخبار عن الثواب المحض فلا تشمل الأخيرين ، وهو خلاف ظاهر أهل التسامح ويمكن أن يمثّل أيضا للأوّل بما تضمّن استحباب فعل مع الوعد عليه ، وللثاني بما تضمّن وجوبه مع الوعيد على تركه ، وللثالث بذلك أيضا مع الوعد على فعله.

١٣٤٤. قد أوضحه في الرسالة الآتية ، فراجع.

٢٥٥

في أوامر (١٣٤٥) الاحتياط.

وأمّا الإيراد الأوّل ، فالإنصاف أنّه لا يخلو (١٣٤٦) عن وجه ؛ لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل ويؤيّده : تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل (١٣٤٧) المدح والثواب ، وحينئذ : فإنّ كان الثابت بهذه الأخبار أصل الثواب (١٣٤٨) كانت مؤكّدة لحكم العقل بالاستحقاق ، وأمّا طلب الشارع لهذا الفعل : فإن كان على وجه الإرشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود فهو لازم للاستحقاق المذكور ، وهو عين

______________________________________________________

١٣٤٥. من كون المقصود من الاحتياط المأمور به الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي. فإن قلت : إنّ أخبار التسامح ما بين صريح وظاهر في اعتبار كون العمل بداعي بلوغ الثواب ، فكيف لا يعتبر ذلك في صحّة العمل وترتّب الثواب الموعود عليه؟

قلت : لعلّ المراد بها كون بلوغ الثواب داعيا إلى العمل وباعثا له لا معتبرا في النيّة ، ولا ريب في عدم مدخليّة دواعي الفعل في صحّته وما يترتّب عليه من الثواب. مع أنّ الظهور المذكور ناش من أخذ الفاء في قوله «فصنعه» أو «فعمله» للتفريع ، ويحتمل أن يكون لمجرّد العطف ، فلا يدلّ على تفرّع العمل على بلوغ الثواب ، حتّى يدّعى ظهور ذلك في اعتبار تقييد العمل بالداعي المذكور ، فتدبّر.

١٣٤٦. سيأتي في الرسالة الآتية ما يوضح ورود الإيراد على تقدير كون الفاء للتفريع ، واندفاعه على تقدير كونه للعطف.

١٣٤٧. لأجل الانقياد والإطاعة الحكميّة.

١٣٤٨. يعني : مطلقا لا الثواب الخاصّ. وحاصله : أنّ المراد بالثواب الموعود إن كان مطلقه ، يؤكّد ذلك حكم العقل بحسن الإتيان بالفعل بداعي احتمال محبوبيّته عند الشارع ، واستحقاق الفاعل لذلك للثواب في الجملة. وأمّا أمر الشارع

٢٥٦

الأمر بالاحتياط. وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب ، فهو غير لازم للحكم بتنجّز الثواب ؛ لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه فيشبه قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي) (١١) ، إلّا أنّ هذا وعد على الإطاعة الحقيقيّة ، وما نحن فيه وعد على الإطاعة الحكميّة ، وهو الفعل الذي يعدّ معه العبد في حكم المطيع ، فهو من باب وعد الثواب على نيّة الخير التي يعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ استفادة الاستحباب الشرعيّ فيما نحن فيه نظير استفادة الاستحباب الشرعيّ من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ، مثل قوله عليه‌السلام : «من سرّح لحيته فله كذا» ، فمدفوع بأنّ الاستفادة هناك باعتبار أنّ ترتّب الثواب لا يكون إلّا مع الإطاعة حقيقة أو حكما ، فمرجع تلك الأخبار (١٣٤٩) إلى بيان الثواب على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ، فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالا إنيّا. ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

______________________________________________________

بهذا الفعل لتحصيل هذا الثواب ، فإن كان للإرشاد يوافق حكم العقل بحسن الاحتياط ، والإتيان بالفعل على الوجه المذكور. وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب كما هو المدّعى ، فتنجّز الثواب الموعود المذكور لا يصحّ أن يكون غاية لهذا الأمر ، لعدم كونه من لوازم تنجّزه ، لأنّ الفرض تنجّزه بحكم العقل وإن لم يكن هنا طلب شرعيّ. نعم ، تنجّزه عقلي لازم الحكم العقل بحسن الاحتياط ، فلا يصحّ أن يكون غاية للطلب الشرعيّ.

١٣٤٩. حاصل الفرق بين هذه الأخبار وما نحن فيه : أنّ الثواب الموعود في هذه الأخبار هو الثواب المترتّب على نفس الفعل من حيث هو ، وهو مستلزم لكون الفعل من حيث هو مأمورا به وجوبا أو استحبابا ، فيكون الثواب حينئذ مترتّبا على الإطاعة الحقيقيّة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الثواب فيه مترتّب على

٢٥٧

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة الحكميّة ، فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلا ، فلا يدلّ على طلب شرعيّ آخر له. نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود. فالغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتياط تأييد حكم العقل والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.

وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها (١٣٥٠) ، فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ـ بناء على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ـ ، إلّا أنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعيّ هو الموجب لهذا الثواب ، بل هو نظير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١٢) ملزوم لأمر إرشادي يستقلّ به العقل بتحصيل ذلك الثواب المضاعف. والحاصل : أنّه كان ينبغي (١٣٥١) للمتوهّم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ما ورد من الثواب في بيان المستحبّات.

______________________________________________________

الإتيان بالفعل بداعي كونه ممّا يثاب عليه ، كما هو ظاهر أخبار التسامح ، فيكون الثواب مترتّبا على الإطاعة الحكميّة وهو لا يستلزم الاستحباب الشرعيّ ، بخلاف الأوّل. وإن شئت قلت : إنّ المراد بالثواب الموعود في تلك الأخبار هو الثواب المصطلح الذي لا يترتّب إلّا على الإطاعة الحقيقيّة ، وفي هذه الأخبار هو التفضّل المجامع للإطاعة الحكميّة.

١٣٥٠. مثل قوله عليه‌السلام : «كان له من الثواب ما بلغه».

١٣٥١. لا يخفى ما في العبارة ، لأنّ هذا ليس حاصلا للشقّ الثاني من الترديد ولا الشقّين معا ، بل هو حاصل لما أجاب به عن التوهّم المذكور في الشقّ الأوّل.

٢٥٨

ثمّ إنّ الثمرة بين ما ذكرنا (١٣٥٢) وبين الاستحباب الشرعيّ تظهر في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا ؛ فإنّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلّا استحقاق الثواب عليه ، ولا يترتّب عليه رفع الحدث ، فتأمّل (١٣٥٣).

وكذا الحكم باستحباب (١٣٥٤) غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط ، لا يسوّغ جواز المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ، فافهم.

______________________________________________________

١٣٥٢. يعني مع تسليم ترتّب الثواب الموعود على التقديرين. وربّما يتوهّم هنا وجود ثمرة اخرى أيضا ، وهي جواز الإفتاء بالاستحباب على القول به ، بخلافه على القول بحمل الأخبار المذكورة على الإرشاد وتأكيد حكم العقل ، لعدم جواز الإفتاء حينئذ لمقلّده فيما ورد خبر ضعيف على استحباب فعل بجواز فعله إلّا بعد بيان مدلول الخبر له ، وإرشاده إلى الإتيان بالفعل بداعي بلوغ الثواب.

وفيه : أنّه على تقدير حمل الأخبار المذكورة على بيان حكم العقل بحسن الاحتياط ، فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله عدم اعتبار الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر أو الثواب عند بيان الاحتياط في العبادات ، وأشار إليه عند الجواب عن الإيراد الثاني ، وقد أسلفنا هناك ما تتبصّر بملاحظته هنا.

١٣٥٣. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان منع كون كلّ وضوء مستحبّ شرعا رافعا للحدث ، ولذا قد تخلّف عنه كثيرا ، كاستحبابه للحائض وجماع المحتلم ونحوهما. ولكنّ الذي اختاره المصنّف رحمه‌الله في الفقه كون ارتفاع الحدث الأصغر لازما لطبيعة الوضوء في محلّ قابل له. والمسألة محلّ خلاف ، وتفصيلها محرّر في الفقه.

١٣٥٤. قال المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة عند شرح قول المحقّق : «ولو جفّ ما على يده أخذ من لحيته وأشفار عينه» : إنّ إطلاق اللحية في كلام المصنّف رحمه‌الله وغيره تبعا للنصوص ، من غير تقييد بظاهر ما كان في حدّ الوجه ، يحتمل أن يكون من جهة كون تخلّل باطن اللحية وغسل المسترسل منها مستحبّا.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحتمل أن يكون المراد منها خصوص ما تقدّم في غسل الوجه الذي يجب غسله. ويحتمل أن يراد جواز الأخذ منها وإن لم يكن غسل الزائد واجبا ولا مستحبّا ، لعدّه عرفا من الماء المستعمل في الوضوء ما لم ينفصل عن المحلّ العرفي للغسل ولو باعتبار جزئه. بل يحتمل المسح بالماء المستعمل لأصل الوضوء ولو من باب المقدّمة الوجوديّة أو العلميّة ، فيؤخذ من جزء الرأس الذي غسل مقدّمة ، ومن المواضع المشكوكة المحكوم بوجوب غسلها بقاعدة الاحتياط ، بل ومن المواضع التي حكم باستحباب غسلها بمجرّد خبر ضعيف أو فتوى فقيه تسامحا ، لأنّه يكون من أجزاء الفرد المندوب باعتبار اشتماله على هذا الجزء. لكن في جميع ذلك نظر ، بل لا يبعد وجوب الاقتصار على ما ثبت بالدليل كونه من مواضع الغسل أصالة» انتهى.

ومنه يظهر أنّ الوجه في جواز المسح ببلل المسترسل من اللّحية أمران : أحدهما : استحباب غسله في الوضوء ، فيكون جزء فرد منه ، فيصدق على بلله الماء المستعمل في الوضوء. وثانيهما : صدق ذلك عليه عرفا ، وإن لم يجب ولم يستحبّ غسله فيه.

ولعلّ وجه النظر فيهما ـ بعد أصالة عدم حصول الطهارة بذلك ـ أنّ ظاهر الأخبار الواردة في المقام اعتبار كون المسح بنداوة الوضوء ، مثل ما رواه المفيد في إرشاده عن محمّد بن إسماعيل ، عن محمّد بن الفضل ، عن عليّ بن يقطين ، وفيه بعد أمر عليّ بن يقطين بالوضوء على وجه التقيّة ، وفعل ابن يقطين كما أمره عليه‌السلام ، وصلاح حاله عند الرشيد ، كتاب عليه‌السلام إليه : «يا عليّ توضّأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرّة واحدة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين ، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنّا نخاف عليك». ولا ريب في عدم صدق ذلك على الوجه الثاني ، إذ النداوة هو البلل ، فإذا أضيفت إلى الوضوء فهي ظاهرة في إرادة البلل الباقي على أعضاء الوضوء ، فلا يشمل مطلق الماء المستعمل في الوضوء ، ولذا لا يشمل ما انفصل عنها

٢٦٠