فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

منهما تحت عنوان واحد تعلّق الخطاب به على تقدير كونه هو المحرّم الواقعي ، بأن اشتبه مصداق موضوع الحكم في الخارج مع العلم بنفس الخطاب تفصيلا ، كاندراج كلّ واحد من الإنائين المشتبهين تحت قوله : اجتنب عن النجس على تقدير كونه هو النجس في الواقع ، بخلاف ما لو علم إجمالا بنجاسة ثوب مخصوص وغصبيّة أرض مخصوصة ، لأنّ الأوّل إنّما يندرج تحت عنوان النجس والآخر تحت عنوان الغصب ، ولا يجمعهما خطاب واحد مفصّل.

والوجه فيه : أنّ المتيقّن من قبح مخالفة خطابات الشارع هي مخالفة ما علم منها تفصيلا لا الخطاب المردّد بين الخطابين ، لعدم كون الأمر المردّد خطابا واقعيّا ، والفرض عدم العلم بتوجّه خصوص أحد الخطابين المحتملين إليه ، فلا داعي للاجتناب عن كلا الأمرين اللذين علم إجمالا باندراج أحدهما تحت أحد الخطابين.

وحينئذ نقول : إنّ المشتبهين إمّا أن يتساويا في الاندراج تحت عنوان موضوع خطاب تفصيلي ، كالإناءين أو الثوبين اللذين علم نجاسة أحدهما أو كونه مغصوبا ، ولا إشكال في وجوب الاحتياط فيه.

وإمّا أن يتساويا كذلك لكن اختلف تعلّق الخطاب بهما ، كما إذا علم بنجاسة واحد من الإناء والأرض ، لأنّهما وإن تساويا في الاندراج تحت عنوان النجاسة ، إلّا أنّ تعلّق الخطاب بالأوّل من حيث حرمة التيمّم أو السجدة على الأرض النجسة ، وبالثاني من حيث حرمة الشرب أو التوضّؤ منه. ومن هذا القسم ما ذكره صاحب المدارك من مثال الإناء وخارجه ، فإنّ تعلّق خطاب وجوب الاجتناب عن النجس بالإناء من حيث حرمة الشرب والتوضّؤ به ، وبخارجه باعتبار حرمة التيمّم والسجدة عليه وهذا القسم من جهة تساوي اندراج المشتبهين فيه تحت عنوان واحد تعلّق به خطاب تفصيلي ـ وهو قوله : اجتنب عن النجس ـ يجب الاجتناب عنه ، ومن جهة انحلال الخطاب التفصيلي الذي فرض اختلاف تعلّقه بهما على خطابين مردّدين ـ على ما عرفت ـ لا يجب الاجتناب

٤٢١

لا؟ مثلا إذا كان أحد المشتبهين ثوبا والآخر مسجدا ؛ حيث إنّ المحرّم في أحدهما اللبس وفي الآخر السجدة ، فليس هنا خطاب جامع للنجس الواقعي ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النجس في الصلاة» و «لا تسجد على النجس».

وأولى من ذلك بالإشكال ما لو كان المحرّم على كلّ تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير ؛ لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب «الاجتناب عن النجس» بخلاف الثاني. وأولى من ذلك ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو كون هذا المائع خمرا.

وتوهّم إدراج ذلك كلّه في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوع بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلّقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ، كما لا يخفى.

والأقوى أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلا وعرفا في مخالفة نواهي الشارع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه وبين العلم الإجمالي بمخالفة أحد النهيين ؛ ألا ترى أنّه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس ، لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى المرأة وشرب المائع في المثال الأخير.

______________________________________________________

عنه ، ومن هنا كان وجوب الاحتياط في الأوّل أولى من هذا القسم.

وإمّا أن يختلفا في ما ذكرناه مع اتّحاد عنوان نفس المشتبهين ، كما إذا علم بنجاسة أحد ما يعين أو غصبيّة الآخر ، لأنّ عنوان المشتبهين فيه ـ وهو كونه مائعا ـ وإن كان متّحدا ، إلّا أنّ اندراج أحدهما تحت عنوان موضوع الخطاب الواقعي باعتبار كونه نجسا والآخر باعتبار كونه غصبا ، والحكم بوجوب الاجتناب في سابقه أولى من هذا القسم ، لكون اعتبار الخطاب الجامع التفصيلي ـ الذي هو مناط الموافقة والمخالفة ـ لأجل اتّحاد عنوان موضوع الخطابين المحتملين هناك أقرب

٤٢٢

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطّلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور ، فكما تقدّم أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعيّ واحد كالخمر مع الإذن في ارتكاب المائعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الإذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما.

وأمّا الموافقة القطعيّة فالأقوى ايضا وجوبها ؛ لعدم جريان أدلّة الحلّية ولا أدلّة البراءة (١٥٠٧) عقليّها ونقليّها. أمّا النقليّة فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ

______________________________________________________

من اعتباره هنا ، إذ لا جامع بين موضوع الخطابين المحتملين هنا حتّى ينتزع منهما خطاب تفصيلي ، ويقال بتساوي المشتبهين في الاندراج تحت موضوعه الكلّي ، إلّا اتّصاف موضوع كلّ منهما على تقدير تحقّقه في الواقع بكونه حراما ، فينتزع منهما هنا أيضا بملاحظة اشتراك عنوان المشتبهين في كونه مائعا خطاب تفصيلي ، وهو وجوب الاجتناب عن مائع حرام.

وإمّا أن يختلفا في ما ذكرنا وفي عنوان أنفسهما ، كما إذا تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبيّة أو كون هذا المائع خمرا ، إذ لا جامع هنا إلّا باعتبار وجوب الاجتناب عن الحرام ، ولذا كان وجوب الاحتياط في سابقيه أولى من هذا القسم. وبالجملة إنّك حيث قد عرفت كون المدار في الإطاعة والمخالفة على الخطابات التفصيليّة ، وكان الخطاب التفصيلي في ما عدا القسم الأوّل اعتباريّا ، وكان اعتبار جامع بين المشتبهين يكون موضوعا للخطاب المنتزع مختلفا في القرب والبعد ، لاشتمال كلّ سابق على جامع لاحقه ، مع اختصاصه لما لم يشتمل عليه لاحقه ، أو لاشتماله على ما هو أقوى من جامع لاحقه ، كما يظهر بالتأمّل في ما قدّمناه ، كان وجوب الاحتياط في كلّ سابق أولى من لاحقه ، وفي كلّ لاحق أشكل من سابقه. وممّا ذكرناه يتّضح الوجه في ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الفرق بين الأقسام المذكورة غاية الوضوح. وكيف كان ، فما قوّاه المصنّف رحمه‌الله هو الأقوى.

١٥٠٧. المراد بالاولى أدلّة أصالة الإباحة المختصّة بالشبهة في التحريم ، و

٤٢٣

من المشتبهين ، وإبقائهما (١٥٠٨) يوجب التنافي مع أدلّة تحريم العناوين الواقعيّة ، وإبقاء واحد على سبيل البدل غير جائز ؛ إذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم.

وأمّا العقل ؛ فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام المردّد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام بعد عدم القبح المذكور بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما.

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا أن تجوّز الاولى وإمّا أن تمنع الثانية.

الثاني : أنّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ؛ فلا مؤاخذة إلّا على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث إنّه مشتبه ؛ فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ولو لم يصادف الحرام ، ولو ارتكبهما استحقّ عقابين (١٥٠٩)؟

______________________________________________________

بالثانية أدلّة البراءة. ويحتمل أن يريد بالاولى ما اختصّ بالشبهة في التحريم من أدلّة البراءة ، مثل قوله : عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» وقوله : عليه‌السلام «وكلّ شيء لك حلال». وبالثانية عموماتها ، مثل قوله : عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد». ومثل حديث الرفع ونحوهما.

١٥٠٨. يعني : تحت ما تقدّم من الأدلّة.

١٥٠٩. فإن قلت : يمكن أن يقال بتثليث العقاب على تقدير ارتكاب المشتبهين ، وبترتّب عقابين على ارتكاب أحدهما مع مصادفته للواقع ، لأنّ الحرام الواقعي بعنوانه الخاصّ موضوع ، والمشتبهين بوصف الاشتباه فيهما موضوعان آخران ، والفرض كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع بحيث يترتّب العقاب على مخالفته من حيث هو ، وكذا المشتبهان بوصف الاشتباه فيهما محكومان بالحرمة شرعا بحيث يترتّب العقاب على ارتكاب كلّ منهما. والقول بتداخل عقاب الظاهر

٤٢٤

فيه وجهان بل قولان ، أقواهما الأوّل ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ـ بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع ـ حكم إرشادي ، وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» ، لم يكن إلّا إرشاديّا ، ولم يترتّب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الإرشادي.

______________________________________________________

والواقع في المصادف للواقع لا وجه له ، نظير ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في مسألة التجرّي ـ على القول بحرمته ـ في مقام الردّ على صاحب الفصول. ويمكن أن يقال باتّحاد العقاب على تقدير ارتكاب كلا المشتبهين ، وإن قلنا بحرمتهما شرعا ، بناء على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله ـ في آخر هذا المقصد عند بيان شرائط العمل بأصالة البراءة ـ من عدم ترتّب العقاب على مخالفة الأحكام الظاهريّة ، فما وجه عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لهذين الوجهين في المقام؟

قلت : لعلّ الوجه فيه أنّ كلّ من جعل وجوب الاجتناب عن المشتبهين عقليّا قد جعل حكم العقل حينئذ إرشاديّا ، فلا وجه حينئذ للقول باثنينيّة العقاب فضلا عن تثليثه ، كما يظهر ممّا ذكره في وجه ما قوّاه. وكلّ من جعله شرعيّا جعل كلّ واحد من المشتبهين موضوعا مستقلّا محلّا للثواب والعقاب. وبعبارة اخرى : أنّ من قال بكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ، وبوجوب دفع الضرر المحتمل الّذي هو من باب الإرشاد ، قال باتّحاد العقاب هنا ، وحمل الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط على إمضاء حكم العقل. ومن لم يقل بكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف بالواقع ، وقال بوجوب الاحتياط هنا من باب الأخبار ، التزم باثنينيّة العقاب. وعلى كلّ تقدير لا وجه لتثليث العقاب هنا.

نعم ، من لم يلتزم بترتّب العقاب على الأحكام الظاهريّة فلا بدّ له من القول باتّحاد العقاب ، وإن قلنا بكون وجوب الاجتناب عن المشتبهين شرعيّا أيضا ، إلّا أنّ التزام المصنّف رحمه‌الله هنا باثنينيّة العقاب على القول بوجوب اجتنابهما شرعا مبنيّ

٤٢٥

وإلى هذا المعنى أشار (١٥١٠) صلوات الله عليه بقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» وقوله : «من ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم». ومن هنا ظهر : أنّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب إلى حكم العقل وبين الاستناد فيه إلى حكم الشرع بوجوب الاحتياط. وأمّا حكمهم بوجوب دفع الضرر (١٥١١) المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه

______________________________________________________

على ظاهر المشهور لا على مختاره.

١٥١٠. لأنّ الأمر بالترك وإن كان ظاهرا في الطلب الشرعيّ ، إلّا أنّ تعليله بقوله : «حذرا عمّا به البأس» قرينة لصرفه عن ظاهره.

١٥١١. هذا تصريح من المصنّف رحمه‌الله بعدم الفرق في ما نحن فيه بين كون كلّ من المشتبهين مشكوكا ، وكون أحدهما مظنونا بظنّ غير معتبر. ودفع لتوهّم أنّه إذا لم يترتّب العقاب على مخالفة القطع بالضرر مع عدم المصادفة فمع الظنّ به كذلك بطريق أولى ، وهو خلاف ما حكموا به في الضرر الدنيوي المظنون.

وتحقيقه أنّ ارتكاب الضرر الدنيوي قد حكم الشارع بحرمته بنفسه ، وجعل مطلق الظنّ طريقا إليه ، صادف الواقع أم لا ، كسائر الظنون الخاصّة المتعلّقة بالأحكام الواقعيّة أو الموضوعات كذلك. ولا ريب أنّ اعتبار الطرق الشرعيّة ليس من باب مجرّد الكشف عن الواقع حتّى يكون مدار الموافقة والمخالفة على نفس الواقع ، بل لأجل مصلحة في سلوكها يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها له ، وإلّا فتفويت الواقع من الشارع على المكلّف مع تمكّنه من تحصيله بالعلم ـ كما هو الفرض من اعتبار الطرق الشرعيّة مطلقا حتّى مع التمكّن من العلم ـ قبيح جدّا. وحينئذ لا بدّ أن يكون مدار الموافقة والمخالفة مع فقد العلم على مؤدّيات الطرق الظاهريّة. وقد حرّر تحقيق ذلك في مقام آخر.

هذا بخلاف الظنّ غير المعتبر في ما نحن فيه ، إذ الفرض أنّه لا دليل عليه شرعا حتّى يستكشف به عن وجود المصلحة فيه مطلقا ، سواء طابق الواقع أم لا ، و

٤٢٦

وإن لم يصادف الواقع ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ الضرر الدنيويّ ارتكابه مع العلم حرام شرعا ، والمفروض أنّ الظنّ في باب الضرر طريق شرعيّ إليه ، فالمقدم مع الظن كالمقدم مع القطع مستحقّ للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرّمات بالظنّ المعتبر.

______________________________________________________

لا دليل آخر أيضا على كون مدار الموافقة والمخالفة على مؤدّاه. بل لو فرض حكم العقل باعتباره لأجل دليل الانسداد ، لا يترتّب عليه أيضا أثر سوى ما يترتّب على نفس الواقع ، لكون اعتباره حينئذ كالقطع من باب مجرّد الكشف والإرشاد. وغاية الفرق بين الظنّ غير المعتبر والظنّ المعتبر بدليل الانسداد هو عدم وجوب الالتزام به شرعا ، بل حرمته تشريعا على الأوّل ، بخلافه على الثاني ، فيعذر مع مخالفة عمله للواقع على الأوّل دون الثاني. ومن هنا يظهر الوجه في عدم ترتّب أثر على الظنّ المتعلّق بأحد المشتبهين مع عدم المصادفة في ما نحن فيه. وكذا الوجه في الفرق بين القطع بالعقاب والظنّ بالضرر الدنيوي.

وهذا غاية توضيح المقام. وهو مع الغضّ عن كون اعتبار الظن بالضرر الدنيوي من باب الشرع أو العقل لا يخلو من نظر.

أمّا أوّلا : فإنّ الالتزام بوجود المصلحة في الطرق الظاهريّة مستلزم للقول بالإجزاء ، والظاهر أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول به. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ وجود المصلحة فيها مقيّد بعدم انكشاف خلافها ، لأنّ مجرّد احتمال ذلك يكفي في منع القول بالإجزاء ، كما قرّرناه في مسألة الإجزاء.

وأمّا ثانيا : فإنّه مستلزم للقول بترتّب العقاب على مخالفة الطرق الظاهريّة على تقدير عدم مصادفتها للواقع ، وقد أشرنا عند شرح قوله : «استحقّ عقابين» إلى أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول بذلك.

وأمّا ثالثا : فإنّه لم يفرّق في مسألة التجرّي بين الضرر الدنيويّ المظنون وغيره ، في عدم ترتّب العقاب على مخالفته على تقدير عدم مصادفته للواقع ، بل استدلّ على القول بحرمته بقوله : «لا خلاف بينهم ظاهرا في أنّ سلوك الطريق

٤٢٧

نعم ، لو شكّ في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة وعدم الضرر ؛ لعدم استحالة (١٥١٢) ترخيص الشارع في الإقدام على الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان في الترخيص مصلحة اخرويّة ، فيجوز ترخيصه في الإقدام على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الإقدام على إرادته. وهذا بخلاف الضرر الاخروي ؛ فإنّه على تقدير ثبوته واقعا يقبح من الشارع الترخيص فيه. نعم ، وجوب دفعه عقلي ولو مع الشكّ ، لكن لا يترتّب على ترك دفعه إلّا نفسه على تقدير ثبوته واقعا حتّى أنّه لو قطع به ثمّ لم يدفعه واتّفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلّا من باب التجرّي ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجّية القطع الكلام فيه ، وسيجيء أيضا.

______________________________________________________

المظنون الخطر أو مقطوعه معصية ، يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه» انتهى. ولم يجب عنه إلّا بمنع الاتّفاق.

١٥١٢. فيه إشارة إلى دفع ما ربّما يتوهّم من أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي متفرّع على وجود الضرر ولو على سبيل الاحتمال ، وحكمه بأصالة البراءة في المقام مبنيّ على عدم هذا الضرر يقينا ، لأنّ الفرض أنّ احتمال التكليف هنا مسبّب عن احتمال الضرر ، ولا مسرح له لدفع احتمال المضارّ الدنيويّة ، وحينئذ تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل جارية من دون معارضته بقاعدة البراءة.

نعم ، لو كان الضرر اخرويّا استقلّ العقل بدفعه ، لقبح العقاب وما في معناه بلا بيان ، وحينئذ تكون قاعدة البراءة حاكمة عليها. ووجه الدفع : أنّ العقل وإن لم يستقلّ بدفع احتمال المضارّ الدنيويّة ، إلّا أنّ احتمالها لمّا كان مستلزما لاحتمال العقاب الاخروي فالعقل يستقلّ أنّه لو كان هنا ضرر فلا بدّ للشارع من جبره بمصلحة اخرى ، إذ لولاه لزمت المؤاخذة مع جهل المكلّف بموضوع الضرر ، وهو قبيح ، وقد صرّح المصنّف بقبح العقاب من دون علم المكلّف به مع كون الشبهة موضوعيّة في مسألة الشبهة التحريميّة الموضوعيّة. وإن شئت قلت : إنّ الشارع قد

٤٢٨

فإن قلت : قد ذكر العدليّة في الاستدلال على وجوب شكر المنعم بأنّ في تركه احتمال المضرّة ، وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه (١٥١٣) دعوة نبيّ زمانه ، فيدلّ ذلك على استحقاق العقاب (١٥١٤) بمجرّد ترك (*) دفع الضرر الاخروي المحتمل. قلت : حكمهم باستحقاق

______________________________________________________

رخّص في الارتكاب بمقتضى عموم أخبار البراءة ، فلو لا جبره للضرر المحتمل بمصلحة اخرى لزم إذنه في الدخول فيه من دون جبره بشيء ، وهو قبيح. ولعلّ هذا مراد المصنّف رحمه‌الله كما يظهر من تلك المسألة.

نعم ، لمّا كان العقاب الاخروي غير منجبر بمصلحة أصلا ، فالترخيص في مورد احتماله لا يكون إلّا بعد ارتفاع نفس هذا الضرر ، فالترخيص في مورده حينئذ إن ثبت على سبيل القطع فهو يكشف عن عدم العقاب قطعا ، وإن ثبت ظنّا كشف عن عدمه كذلك.

ثمّ إنّ المصلحة الجابرة لا بدّ أن تكون موازنة للمفسدة المجبورة ، وإلّا لزم تفويت مقدار التفاوت من دون جبره بشيء. ولعلّ مصلحة تسهيل الأمر من هذا القبيل في الجملة ، لعدم بلوغها على إطلاقها حدّ الإلزام إلّا في موارد يلزم من عدم الرخصة فيها في الفعل اختلال النظم أو العسر المنفي شرعا ، فتدبّر.

١٥١٣. أي : لم تثبت عنده نبوّة مدّعيها ، سواء لم تبلغه دعوته أو بلغته ولم تثبت عنده ، كما يشير إليه قوله في الجواب : «مع عدم العلم به من طريق شرعيّ».

١٥١٤. سواء صادف الواقع أم لا ، فلا يتمّ ما تقدّم من عدم العقاب مع عدم المصادفة. وحاصل ما أجاب به أنّ حكمهم بترتّب العقاب على المخالفة إنّما هو لأجل العلم بالمصادفة في خصوص المقام ، لا لأجل مخالفة ما حكم به العقل مطلقا. وذلك لأنّ تشريع الأحكام ، ووجود نبيّ في كلّ زمان ، ووجوب الشكر لكلّ واحد من الأنام ، لمّا كان ثابتا عندهم فأطلقوا القول بعقاب تارك الفحص ، وغرضهم أنّ أثر حكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل إنّما يظهر في

__________________

(*) في بعض النسخ : كلمة «ترك» زائدة.

٤٢٩

العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه (*) لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ؛ فإنّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه ، فإذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فإن قلنا بحكومة العقل في مسألة «دفع الضرر المحتمل» صحّ عقاب تارك الشكر من أجل إتمام الحجّة عليه بمخالفة عقله ، وإلّا فلا ، فغرضهم : أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما يظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع ، لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريميّة شطر من الكلام في ذلك. وقد يتمسّك لإثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلا ، فيحرم شرعا.

وقد تقدّم في فروع حجّية العلم الكلام على حرمة التجرّي (١٥١٥) حتّى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع ، كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت ، وإن تردّد في النهاية.

وأضعف من ذلك التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط ، لما تقدّم من أنّ الظاهر من مادّة «الاحتياط» التحرّز عن الوقوع في الحرام ، كما يوضح ذلك النبويّان

______________________________________________________

الضرر الثابت شرعا ، لعدم المانع حينئذ من ترتّبه على المخالفة بمجرّد احتماله ، لإتمام الحجّة حينئذ بحكم العقل بوجوب الدفع ، لا أنّ العقاب يترتّب على المخالفة على كلّ تقدير وإن لم يكن ثابتا في الواقع أيضا.

فإن قلت : إنّ هذا ينافي قضيّة قبح العقاب بلا بيان.

قلت : إنّ حكم العقل بهذا إنّما هو في ما أمكن فيه البيان من الشارع ، والبيان في مسألة النبوّة غير ممكن للشارع ، لأنّ تصديق قوله يتوقّف على تصديق نبوّته ، فلو صدّقنا نبوّته أيضا بقوله لزم الدور.

١٥١٥. لفظ «على» هنا للضرر. قوله : «كما أفتى به» الضمير المجرور عائد إلى عدم الحرمة المستفاد من قوله : «الكلام على حرمة ...».

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بمجرّد احتمال الضرر فى تركه» ، بمجرّد ترك دفع الضرر فى تركه.

٤٣٠

السابقان (١٥١٦) ، وقولهم صلوات الله عليهم : «إنّ الوقوف عند الشبهة أولى من الاقتحام في الهلكة».

الثالث : أنّ وجوب الاجتناب (١٥١٧) عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي على كلّ تقدير ، بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف بالاجتناب منجّزا ، فلو لم يكن كذلك بأن لم يكلّف به أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو

______________________________________________________

١٥١٦. من حديث التثليث والمرسل في السرائر : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس».

١٥١٧. اعلم أنّ هذه المسألة ـ أعني : اشتراط كون طرفي العلم الإجمالي محلّ ابتلاء للمكلّف في وجوب الاجتناب عنهما ـ من خواصّ هذا الكتاب ، ولم يسبق إلى المصنّف رحمه‌الله في ذلك أحد فيما أعلم. ومرجعه إلى اشتراط كون كلّ من المشتبهين بحيث لو علم تفصيلا بكونه هو الحرام الواقعي المعلوم إجمالا تنجّز التكليف بالاجتناب عنه فعلا. ولو لم يكن كلاهما أو أحدهما كذلك لم يجب الاجتناب ، إذ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة إنّما هو من باب المقدّمة العلميّة للاجتناب عن الحرام الواقعي ، لابتنائه على مقدّمتين : إحداهما : تنجّز التكليف بالواقع ، والاخرى : وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لو لم يجب ذلك لم يثبت وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. وكذا لو لم يعلم بوجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي فعلا لم يبق مقتض لوجوب الاجتناب عن مقدّمته العلميّة ، لوضوح عدم كفاية العلم إجمالا بالحرمة الواقعيّة مطلقا في ذلك ، إذ الباعث على حكم العقل هو العلم بتوجّه خطاب متعقّب للعقاب على المخالفة لو اتّفقت بارتكاب أحد المشتبهين ، فمع عدم العلم به لا يبقى مقتض للاجتناب ، بل رجع الشكّ في التكليف الحادث إلى الشكّ البدوي. وحينئذ يخرج من قاعدة وجوب الاجتناب أمران :

أحدهما : ما لم يكن العلم الإجمالي فيه مؤثّرا في إحداث تكليف جديد ، كما

٤٣١

كثير لا ينفعل بالنجاسة أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه ، لم يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ؛ إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا ، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به.

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوما (١٥١٨) لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه ، فإنّ ما لا يتمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الشكّ في أصل تنجّز التكليف لا في المكلّف به تكليفا منجّزا.

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكنا عقلا ، لكن المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتل به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النجس بين إنائه وإناء آخر لا دخل للمكلّف فيه أصلا ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكّن عقلا غير منجّز عرفا ؛ ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به ، نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتّفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو تملّك أو إباحة فاجتنب عنه.

______________________________________________________

إذا علم بنجاسة أحد الإنائين تفصيلا ، ثمّ علم إجمالا بملاقاة أحدهما للنجاسة ، إذ الحادث بسبب العلم الإجمالي حينئذ هو الشكّ في عروض النجاسة لمعلوم الطهارة ، لفرض العلم بنجاسة الآخر تفصيلا ، وعدم تأثير ملاقاة النجس للنجس في شيء.

وثانيهما : ما كان العلم الإجمالي فيه سببا لحدوث تكليف مشروط تنجّزه إمّا بالقدرة ، كما إذا كان أحد المشتبهين غير مقدور للمكلّف ، وإمّا بابتلائه كما إذا كان أحدهما خارجا من محلّ ابتلائه ، مثل ما لو علم بنجاسة ثوبه أو ثوب بنت قيصر ، لعدم صحّة التكليف في أمثالهما إلا مشروطا بالقدرة أو الابتلاء ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

١٥١٨. إذا علم بكونه الحرام الواقعي.

٤٣٢

والحاصل أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصّة بحكم العقل والعرف بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها ، ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء. ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلي تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

وهذا باب واسع ينحلّ به الإشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلّف عادة أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فإنّ الثوبين لكلّ منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ، فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ؛ إذ لا يترتّب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتّبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم إجمالا.

ألا ترى أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة أو غيرها من ضرّاتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، ولو شكّ الزوج هذا الشكّ لم يجز له النظر إلى إحداهما ؛ وليس ذلك إلّا لأنّ أصالة عدم تطليقة كلّا منهما متعارضان في حقّ الزوج بخلاف الزوجة ؛ فإنّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا تثمر لها ثمرة عمليّة. نعم ، لو اتّفق ترتّب تكليف على زوجيّة (١٥١٩) ضرّتها دخلت في الشبهة المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية (١٥٢٠).

وممّا ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك رحمه‌الله من الاستنهاض على ما اختاره من عدم وجوب الاجتناب (*) في الشبهة المحصورة بما يستفاد من الأصحاب

______________________________________________________

١٥١٩. كما إذا اشترت من النفقة التي أخذت ضرّتها من زوجها.

١٥٢٠. منها مسألة واجدي المني في الثوب المشترك ، إذ يجوز لكلّ منهما الصلاة ودخول المساجد ومسّ كتابة القرآن بعد الوضوء ، وغير ذلك ممّا لا يجوز

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الاجتناب» ، الاحتياط.

٤٣٣

من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ؛ إذ لا يخفى أنّ خارج الإناء ـ سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ـ ليس ممّا يبتلي به المكلّف عادة ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما ؛ للعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.

ويؤيّد ما ذكرنا (١٥٢١) صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام ، الواردة فيمن رعف فامتخط (١٥٢٢) فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بيّنا فلا» (٨). حيث استدلّ به الشيخ قدس‌سره على العفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم ، وحملها المشهور على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شىء في الماء يحكم بطهارته ، ومعلوم أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة. وما ذكرنا واضح لمن تدبّر ، إلّا أنّ الإنصاف (١٥٢٣) أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى.

______________________________________________________

للجنب ارتكابه ، استصحابا للطهارة. نعم ، لا يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر ، بناء على كون المدار في صحّة الاقتداء على الصحّة عند المأموم دون الإمام.

١٥٢١. لأنّ حمل المشهور للصحيحة على صورة كون الشبهة محصورة ، مع قولهم فيها بوجوب الاحتياط ، لا يتمّ إلّا على اشتراط وجوب الاجتناب عندهم بكون كلّ من طرفي الشبهة محلّ ابتلاء للمكلّف ، وعلى كون مورد الصحيحة ممّا خرج أحد طرفي الشبهة فيها من محلّ الابتلاء.

١٥٢٢. قال الطريحي : «المخاط بضمّ الميم ما يسيل من أنف الحيوان من الماء ، امتخط رمى به من أنفه».

١٥٢٣. هذا بيان لميزان العمل في موارد الشكّ في الابتلاء وعدمه ، بعد بيان اشتراط وجوب الاجتناب به. وتحقيق المقام يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي أنّ عموم التكليف إذا ثبت إمّا أن يثبت بدليل لبّي كالإجماع ونحوه ، وإمّا بدليل لفظي. وعلى الثاني : إمّا أن يكون اللفظ مجملا ، كالصلاة على القول بكون ألفاظ

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادات موضوعة للصحيحة ، وإمّا أن يكون مبيّنا. وعلى جميع التقادير : إذا ورد له مقيّد فهو أيضا إمّا أن يثبت بدليل لبّي ، أو لفظي مجمل أو مبيّن. فهنا صور :

إحداها : أن يكون كلّ من إطلاق الحكم والمقيّد له ثابتا بدليل لبّي أو لفظي مجمل. وحينئذ إذا شكّ في اندراج بعض الأفراد تحت أحدهما ، فلا بدّ فيه من العمل بمقتضى الاصول إذا لم يستلزم المخالفة العمليّة للحكم المعلوم إجمالا ، وإلّا يحكم فيه بالاحتياط أو التخيير.

الثانية : أن يكون كلّ منهما ثابتا بدليل لفظي مبيّن. وحينئذ إمّا أن يكون كلّ منهما مبيّنا بالنسبة إلى جميع أفرادهما ، أو يكون لكلّ منهما أو لأحدهما أفراد مشكوكة. ولا إشكال في بناء العامّ على الخاصّ مطلقا على الأوّل. وأمّا الثاني فهو كالصورة الاولى مع اتّحاد إجمالهما بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة. وأمّا الثالث فيرفع إجمال المجمل منهما بالمبيّن منهما ، بمعنى الحكم بدخول الفرد المشكوك فيه تحت المبيّن منهما.

ومنه يظهر حكم الصورة الثالثة ، وهي أن يثبت حكم العامّ بدليل لفظي مبيّن ، والخاصّ بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، لأنّه حينئذ إن كان لمدلول الخاصّ قدر متيقّن يحكم بدخول الفرد المشكوك فيه تحت المبيّن منهما ، ويجعل المبيّن منهما معيّنا للمراد بالمجمل. فإذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وثبت بدليل لبّي أو لفظي مجمل وجوب إهانة الفسّاق ، وعلمنا بدليل خارج بدخول الفاسق بالجوارح في المراد ، وشكّ في دخول الفاسق بالعقيدة فيه ، يحكم بعموم العامّ بكون المراد بالفاسق هو الأوّل خاصّة. نعم ، إن لم يكن لمدلوله متيقّن أصلا ، كما إذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وانعقد الإجماع على وجوب إهانة بعض النحاة ، يحكم بإجمال العامّ بمقدار مدلول الخاصّ ، ويرجع في مورد الإجمال إلى الاصول.

الرابعة : عكس سابقتها ، بأن يثبت الحكم العامّ بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، والخاصّ بإطلاق دليل لفظي مبيّن ، فيجعل الثاني مبيّنا للمراد بالأوّل ، بإدخال الفرد

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المشكوك فيه تحته.

هذا كلّه إذا كانت الشبهة في الفرد المشكوك فيه حكميّة ، وإن كانت مصداقيّة يعمل فيها بما عرفته في الصورة الاولى إذا كان الدليلان لبيّين أو لفظيّين مجملين. وكذا مع كون أحدهما لفظيّا مبيّنا والآخر لبّيا أو لفظيّا مجملا ، كما إذا ورد قوله : أكرم العلماء وثبت بالإجماع أيضا وجوب إهانة الفسّاق ، وشكّ في كون رجل عادلا عالما أو فاسقا جاهلا. وكذلك لو كانا لفظيّين مبيّنين ، كالمثال المذكور إذا ثبت الخاصّ بدليل لفظي مبيّن ، لما تقرّر في محلّه ـ وصرّح به المصنّف رحمه‌الله أيضا في مبحث الاستصحاب ـ من إجمال العمومات والمطلقات بالنسبة إلى المصاديق المشتبهة. نعم ، لو اشتبه مصداق أحدهما مع شمول عنوان موضوع الآخر له ، كما إذا فرض الشكّ في المثال في كون عالم فاسقا أو عادلا ، يحكم بعموم العامّ حينئذ بدخول الفرد المشكوك فيه تحته وخروجه من تحت عنوان الخاصّ ، كما هو مقرّر في محلّه.

وإذا عرفت هذا نقول : إنّه لا ريب أنّ اشتراط تنجّز التكاليف بالابتلاء لم يرد فيه نصّ من الكتاب والسنة ، وإنّما استفيد ذلك من عدم حسن التكليف الفعلي بدونه عند العقلاء. ومنه يظهر عدم صحّة فرض الشبهة في الابتلاء وعدمه في الموارد التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله مفهوميّة ، لأنّه فرع ورود دليل لفظي فيه ، وقد عرفت أنّه ليس في الأدلّة اللفظيّة منه عين ولا أثر ، فلا بدّ أن تكون الشبهة فيه موضوعيّة ، لأنّ مرجع الشبهة في موارد الشكّ في تحقّق الابتلاء وعدمه إلى الشكّ في تحقّق موضوعه ، من جهة الجهل بحال أهل العرف من حيث تحسينهم للتكليف الفعلي فيها وعدمه.

وممّا ذكرناه يظهر محلّ النظر في كلامه. أمّا أوّلا فإنّ إطلاق ما قرّره أوّلا من الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشكّ ، وكذا إطلاق ما قرّره ثانيا من الرجوع إلى إطلاق دليل الحرمة الواقعيّة ، لا يخلو من نظر بل منع ، لأنّ الرجوع إلى

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

البراءة إنّما يصحّ إن لم يكن هنا إطلاق لفظي كما هو واضح. ومن هنا يظهر أنّ التعبير بالأولويّة بقوله : «إلّا أنّ هذا ليس بأولى ...» لا يخلو من شيء ، لأنّ الرجوع إلى إطلاق الأدلّة في موارد وجوده متعيّن ليس على وجه الأولويّة (*). وكذا الرجوع إلى إطلاق الدليل إنّما يتمّ في موارد وجود دليل لفظي ، وقد عرفت أنّ الحكم قد يثبت بدليل لبّي أو لفظي مجمل ، فلا معنى للرجوع إلى الإطلاق في مثله ، لأنّ المتعيّن في مثله الرجوع إلى الاصول.

وأمّا ثانيا فإنّه ربّما يظهر من قوله : «لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه» كون الشبهة في مصداق الابتلاء في ما نحن فيه ناشئة من الشبهة في مفهومه ، وقد عرفت ضعفه ، لعدم ورود لفظ الابتلاء وعدمه في الكتاب والسنة أوّلا ، وعدم جواز الرجوع إلى أصالة الإطلاق وعدم التقييد في ما كانت الشبهة في تحقّق مصداق القيد ـ على تقدير تسليم وروده في الكتاب والسنّة ـ ثانيا ، لأنّ الرجوع إلى الإطلاقات إنّما يصحّ في ما كان الشكّ في أصل التقييد أو مقداره لا في تحقّق مصداقه كما في ما نحن فيه ، إذ المتعيّن فيه الرجوع إلى أصالة عدم تحقّقه.

ولعلّ مراده بقوله : «لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه» كون الشبهة في مصداق الابتلاء ناشئة من الشبهة في الأمر المركوز في نظر العقلاء الذي علّق عليه تنجّز التكاليف ، وإن كانت العبارة قاصرة عن إفادته.

وحاصله : أنّ الابتلاء الذي علّق عليه تنجّز التكاليف أمر مركوز في نظر العقلاء ، وقد علمنا تحقّقه في بعض الموارد وعدمه في آخر وشككنا في تحقّقه في ثالث ، إلّا أنّ الشكّ في تحقّقه فيه ناش من عدم ضبط الأمر المركوز كمّا ، لا من اختلاط بعض الامور الخارجة ، كما هو الشأن في سائر الشبهات الموضوعيّة. و

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «اللهمّ إلّا أن يريد بالأولويّة معنى التعيّن واللزوم ، كما في آية أولي الأرحام. منه».

٤٣٧

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتّفق عادة ابتلائه بالموضع النجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب الاجتناب عن ثوبه ، وأمّا لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا ، ففيه تأمّل. والمعيار في ذلك وإن كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء واتّفاق صيرورته واقعة له ، إلّا أنّ تشخيص ذلك مشكل جدّا.

نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلّا معلّقا : الأصل البراءة من التكليف المنجّز ، كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا أو معلّقا على أمر محقّق العدم ، أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه أو كون المتحقّق من أفراده كما في المقام (١٥٢٤) ، إلّا أنّ هذا ليس بأولى من أن يقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلّق بالابتلاء ، كما لو قال : «اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدّام أمير البلد» مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو «لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه» ، مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلا ولا عادة ، إلّا أنّه بعيد الاتّفاق ، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.

______________________________________________________

حينئذ يصحّ التمسك بالإطلاقات في موارد الشكّ ، لأنّ مرجع الشبهة حينئذ إلى الشكّ في التقييد زائدا عمّا علم تقييد تلك الإطلاقات به.

ولكنّك خبير بما فيه من الضعف ، لأنّ المدار في تحقّق الابتلاء وعدمه ـ كما صرّح به ـ على حسن التكليف الفعلي عرفا وعدمه ، فمرجع الشبهة في جميع مواردها لا بدّ أن يكون إلى الشكّ في تحقّق موضوع هذا الكلّي لا محالة.

١٥٢٤. لا يخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل ما شكّ في تحقّقه ، لا من قبيل ما

٤٣٨

فمرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد ـ لتعذّر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفيّة ـ هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز ، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلّا ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام ، إلّا أن يقال إنّ المستفاد (١٥٢٥) من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ؛ إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ ، فافهم.

الرابع : أنّ الثابت في كلّ من المشتبهين (١٥٢٦) ـ لأجل العلم الإجمالي بوجود

______________________________________________________

شكّ في كون المتحقّق من أفراد ما علم التعليق عليه ، فتدبّر.

١٥٢٥. بتقريب أنّ الماء وظاهر الإناء من موارد الشكّ في الابتلاء وعدمه ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام فيه بعدم وجوب الاحتياط ، فيستفاد منه كون الحكم كذلك في سائر موارد الشكّ أيضا ، لوضوح عدم خصوصيّة لهذا المورد ، إذ احتمال كون مقتضى القاعدة في موارد الشكّ في الابتلاء من موارد الشبهة المحصورة هو وجوب الاحتياط كموارد العلم بالابتلاء ، وكون خصوص مثال الماء وظاهر الإناء خارجا من هذه القاعدة للصحيحة ، بعيد جدّا.

١٥٢٦. مرجع ما ذكره إلى أنّ حكم العقل على المشتبهين بحكم في الشبهة المحصورة وما يضاهيها من باب المقدّمة العلميّة ، إنّما هو في ما كان ترك المشتبهين أو الإتيان بهما مقدّمة علميّة لامتثال تكليف منجّز مشتبه مصداقه بين المشتبهين أو الامور المشتبهة ، كما في مثال الإنائين والقبلة عند اشتباهها في جهتين أو جهات. وأمّا إذا كان تنجّز التكليف وتوجّهه إلى المكلّف فعلا معلّقا على ارتكاب الموضوع الواقعي المشتبه بين أمرين أو امور ، فلا معنى حينئذ لتعلّق حكم ظاهري بالمشتبهين لأجل العلم الإجمالي المفروض من باب المقدّمة العلميّة ، لأنّ ذلك فرع تنجّز التكليف ، والفرض توقّف تنجّزه على ارتكاب الموضوع الواقعي المشتبه ،

٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كما إذا اشتبه إناء خمر بإناء ماء ، لأنّ تنجّز التكليف بإقامة الحدّ على شارب الخمر موقوف على شرب الخمر الواقعي المشتبه ، فلا تكليف بها قبل شرب أحد المشتبهين حتّى تتأتّى فيه قضيّة المقدّمة العلميّة. وأمّا بعد شرب أحدهما فلا مقتضى أيضا لإقامة الحدّ عليه ، لعدم العلم بحدوث سببه ، بل الأصل عدمه. نعم ، بعد شربها يحصل العلم بحدوث سببه ، وهو خارج ممّا نحن فيه. فمن هنا يفرّق بين الأحكام الوضعيّة والطلبيّة في باب الشبهة المحصورة ، لعدم تأتّي المقدّمة العلميّة على الاولى ، بخلاف الثانية على ما عرفت.

نعم ، لو كان الحكم الوضعي مرتّبا على الطلبي ترتّب ذلك على المشتبهين أيضا بواسطة عروض الحكم الطلبي لهما ، كما لو ترتّب بطلان الوضوء على التوضّؤ بالماء المتنجّس بواسطة وجوب الاجتناب عنه ، لأنّه إذا ثبت وجوب الاجتناب عن المشتبهين ترتّب عليهما البطلان أيضا على تقدير التوضّؤ بأحدهما. وهو أيضا خارج ممّا نحن فيه ، لأنّ محلّ النزاع هي الآثار الوضعيّة المرتّبة على الموضوعات المشتبهة من دون توسط حكم طلبي في عروضها ، لأنّها هي التي لا تجري فيها المقدّمة العلميّة على ما عرفت. ولا إشكال في كبرى ما قدّمناه ، ولعلّه لا خلاف فيها أيضا. وإنّما وقع الخلاف لأجل بعض الأدلّة الآخر في بعض صغرياتها ، وهو تنجّس ملاقي أحد المشتبهين في ما اشتبه النجس بالطاهر منهما. وقد حكي (*) القول به عن الفاضل في المنتهى والمختلف وجماعة ممّن تأخّر عنه.

أقول : قد اختاره في الحدائق ، وحكاه فيها عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده المدنية. والمشهور ـ كما في الجواهر ـ القول بعدمه ، واختاره المصنّف رحمه‌الله ، وستطّلع على حقيقة الحال في ذلك.

هذا غاية توضيح المقام. والإنصاف أنّ بعض ما قدّمناه لا يخلو من نظر ، لأنّ

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «حكاه المصنّف عن المنتهى تبعا للمدارك ، وفي الجواهر عن المختلف.

منه».

٤٤٠