فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

هو قبيح على الشارع ، لمنافاته لجعل الأحكام على مذهب الإماميّة من كونها ناشئة من المصالح والمفاسد الواقعيّة ، وكون الغرض من جعلها تحصيل هذه المصالح والاحتراز عن هذه المفاسد. واحتمال كون اعتبارها لأجل إيصالها إلى الواقع دائما بعيد في الغاية. وحينئذ فمع تعارض الخبرين لا بدّ من أن يكون كلّ منهما حجّة شرعيّة مأمورا بالعمل به ، مع قطع النظر عن غلبة إيصالهما إلى الواقع ، لما عرفت من تضمّن كلّ منهما المصلحة المطلوبة ، إلّا أنّ تعارضهما لمّا كان مانعا من العمل بهما معا فالعقل يستقلّ بالعمل بكلّ منهما تخييرا ، لوجود المصلحة في كلّ منهما.

نعم ، مقتضى القاعدة على الثاني هو التساقط ، لعدم كون الطريق المزاحم بالمثل طريقا إلى الواقع ، فيسقطان عن مرتبة الاعتبار ، لزوال مناط اعتبارهما ، فلا بدّ أن يكون القول بالتخيير حينئذ من باب التعبّد بالأخبار الواردة فيه ، بخلافه على الأوّل ، لكون هذه الأخبار حينئذ مؤكّدة لحكم العقل ومؤيّدة له.

هذا بخلاف تعارض الاصول ، إذ لا مصلحة فيها سوى عذر المكلّف على تقدير مخالفتها الواقع ، فلا يتأتّى فيها ما قدّمناه من الحكم بالتخيير لأجل تعارض المصلحتين ، بل قد عرفت أنّ تعارضهما من قبيل تعارض الحقّ والباطل ، وأنّ العقل في مثله يحكم بالاحتياط دون التخيير. ولا فرق في ذلك بين الاصول العمليّة واللفظيّة. أمّا الاولى فلما عرفت. وأمّا الثانية فإنّ اعتبار الظواهر إنّما هو من باب الظهور العرفي ، ولا يبقى لها مع التعارض ظهور ، فيخرج كلّ من المتعارضين منها من مرتبة الحجيّة ، لزوال مناط اعتبارهما. وحينئذ إذا فرض تعارض ظاهرين بالتباين الكلّي خرج كلّ منهما من الحجّية. وإذا تعارضا بالعموم من وجه ، فلا بدّ من الحكم بالإجمال في مادّة التعارض ، والرجوع فيها إلى الأصل إن كان أحدهما موافقا له ، وإلّا يحكم بالتخيير من باب الاضطرار في تعارض الاحتمالين. ولا تشمله أيضا أخبار التخيير ، لاختصاصها بالمتعارضين بحسب السند دون الدلالة.

والانصاف أنّ المقام بعد لا يصفو عن شوب إشكال ، إذ ما قدّمناه من شمول

٤٠١

المذكورة البناء على حلّية محتمل التحريم والرخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل. ولو سلّم ، فظاهرها البناء على كون كلّ مشتبه كذلك ، وليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخلّ أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر.

احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ومنع عنه بوجهين : الأوّل : الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها ، وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام ؛ إمّا لاستلزامه (١٤٨١) للعلم بارتكاب الحرام وهو حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم (١٤٨٢) من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام.

قال في توضيح ذلك : إنّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا (٣).

والجواب عن ذلك أنّ الأخبار المتقدّمة على ما عرفت إمّا أن لا تشمل شيئا (١٤٨٣) من المشتبهين وإمّا أن تشملهما جميعا ، وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغير صالح للمنع.

______________________________________________________

أدلّة أخبار الآحاد لصورة التعارض ربّما يشكل باستلزامه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ شمولها للأخبار السليمة عن المعارض بالوجوب التعييني ، وللأخبار المعارضة بالوجوب التخييري ، إلّا أنّ هذا شيء وارد على ما قدّمناه من كون الأخبار الدالّة على التخيير في تعارض الأخبار واردة على القاعدة ، وهو لا يجدي في إثبات التخيير في تعارض الاصول كما هو المطلوب.

١٤٨١. ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله.

١٤٨٢. هو النراقي في مناهجه.

١٤٨٣. قد تقدّم توضيحه عند شرح قوله : «فإن قلت : قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال ...».

٤٠٢

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه إن اريد أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ دليل عليه (١٤٨٤) ، نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام من حيث التجسّس (١٤٨٥) المنهيّ عنه وإن لم يحصل له العلم.

وإن اريد أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشارع ـ بل مطلق الموالي ـ هي المخالفة العلميّة دون الاحتماليّة ؛ فإنّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلميّة ، ففيه : مع إطباق العلماء بل العقلاء ـ كما حكي (١٤٨٦) ـ على وجوب المقدّمة العلميّة ، أنّه إن اريد من

______________________________________________________

١٤٨٤. فإن قلت : كيف تنكر الدليل عليه والمصنّف رحمه‌الله قد ادّعى في غير موضع قبح المخالفة القطعيّة.

قلت : فرق بين المخالفة القطعيّة بمعنى الإتيان بما تعلم تفصيلا أو إجمالا مخالفته للواقع ، وبين تحصيل القطع تفصيلا أو إجمالا بالمخالفة السابقة ، والقبيح هو الأوّل دون الثاني.

١٤٨٥. قال سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.) والمعنى والله أعلم : لا تتّبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها ، ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكرهه وإن كان فيه. وفي اصول الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تطلبوا عثرات المؤمنين ، فإنّه من تتّبع عثرات أخيه تتّبع الله عثراته ، ومن تتّبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته». والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

وفي كلام المصنّف رحمه‌الله إشارة إلى عدم استلزام حرمة التجسّس حرمة تحصيل العلم بتحقّق المعصية من وجهين : أحدهما : اختصاص الأوّل بالبحث عن عثرات الغير ، فلا يشمل البحث عن عثرات نفسه. وثانيهما : أنّ الحرام في الأوّل نفس التجسّس وإن لم يحصل به العلم ، بخلاف ما نحن فيه.

١٤٨٦. قد تقدّم حكاية نفي الخلاف عنه عن الفاضل التوني.

٤٠٣

حرمة المخالفة العلميّة حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ؛ إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا.

وإن اريد منها حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ، فمرجعها إلى حرمة (١٤٨٧) تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد الوجه الثاني ؛ فإنّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعيّن ، فضمّ الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته. نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام.

ومن ذلك يظهر : فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، فإنّ حرمته وإن كانت معلومة إلّا أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقّق لا لذات الحرام ، فلا يحرم إيجاد الاجتماع ، إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقّق ، ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام.

الثاني : ما دلّ بنفسه او بضميمة ما دلّ على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعى على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها ـ على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع ـ وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات

______________________________________________________

١٤٨٧. لأنّ ظاهر قوله : «وإن اريد منها حرمة المخالفة ...» دعوى اشتراط العلم في صدق المعصية ، بمعنى اشتراط تأثير مخالفة الحرام الواقعي في ترتّب العقاب بحصول العلم بتحقّقها ولو بعدها ، لا مجرّد احتمالها حين العمل. وحينئذ فنسبة الحرمة في كلام المستدلّ إلى تحصيل العلم إنّما هي من جهة كونه جزء أخير من العلّة التامّة ، لكن تمكن دعوى القطع بعدم تأثير مخالفة الحرام الواقعي مع عدم العلم بها حين العمل ـ لا تفصيلا ولا إجمالا ـ في ترتّب العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فلا بدّ أن يكون العقاب مترتّبا على تحصيل العلم بالمخالفة بعد تحقّقها ، ولذا ادّعى المصنّف رحمه‌الله أنّ مرجع ما ذكر في هذا الشقّ من الترديد إلى حرمة تحصيل العلم الذي تصير به المخالفة قطعيّة.

٤٠٤

بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها. وهذه الأخبار كثيرة : منها : موثّقة سماعة. قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني اميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ويقول : إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، فقال عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحطّ الخطيئة. ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس».

فإنّ ظاهره نفي البأس عن التصدّق والصلة والحجّ من المال المختلط وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة (١٤٨٨) على جواز التصرّف في الجميع. ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتض بنفسه لحرمة التصرّف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ، ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا ، لكن عرفت أنّه يجوز الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريّا عن ذي المقدّمة.

______________________________________________________

١٤٨٨. هذا تقريب للاستدلال بالرواية. وتوضيحه : أنّه ليس فيها دلالة على جواز التصرّف في الجميع ، لعدم وقوع السؤال عنه ، بل عن جواز التصرّف في الجملة ، بالتصدّق وصلة القرابة والحجّ ونحوها ، فليست هي واردة لبيان الإطلاق وجواز التصرّف في الجميع حتّى يقال بظهورها في جواز المخالفة القطعيّة ، لأنّ غايتها عدم وجوب الموافقة القطعيّة لا جواز المخالفة كذلك. وحينئذ يصحّ الاستناد إليها في إثبات عدم وجوب الموافقة القطعيّة ، وتثبت حرمة المخالفة القطعيّة بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، فيثبت التخيير بين المشتبهين. ومع تسليم ظهورها في ارتكاب الجميع لا بدّ من صرفها إلى ما ذكرناه ، لأجل ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، لأنّ مقتضاه بنفسه وبضميمة حكم العقل وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. ولا يجوز ورود

٤٠٥

والجواب عن هذا الخبر : أنّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ؛ لأنّه يتصدّق ويصل ويحجّ بالبعض ويمسك الباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ؛ فلا بدّ إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة وإمّا من صرفه عن ظاهره ، وحينئذ : فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ، كالربا بناء على ما ورد (١٤٨٩) في عدّة أخبار من حلّية الربا الذي اخذ جهلا ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط.

______________________________________________________

الرخصة على خلافه ، لكونه إذنا في المعصية ، وهو قبيح عقلا. نعم ، قد تقدّم سابقا جواز الإذن في ارتكاب أحدهما بجعل الآخر بدلا عن الواقع ، وحينئذ فما دلّ على جواز ارتكاب كليهما لا بدّ من صرفه إلى ما لا ينافي ذلك.

١٤٨٩. قد تقدّم شطر من هذه الأخبار في المقام الأوّل. ولا خلاف في حرمة الربا مع العلم بحرمته. وكذا الاختلاف (*) ـ كما قيل ـ في عدمها مع الجهل بها. وإنّما الخلاف في وجوب ردّ ما أخذه حال الجهل إذا علم به بعد ذلك ، فذهب الشيخ في النهاية والصدوق في المقنع إلى عدمه ، ونقله في محكي المختلف عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، وتبعهما جماعة من المتأخّرين ، كالمحقّق في النافع والشهيد في الدروس وغيرهما. وعن التنقيح نسبته إلى الشيخ وأتباعه.

وصرّح في المناهل بعد اختياره بعدم الفرق بين القاصر والمقصّر ، وأنّه متى عرف وتاب حلّ له ما مضى من الربا ، وإن كان متميّزا وصاحبه معروفا ، وإن لم يتب فكالعامد : «وحكمه أنّه يجب عليه ردّ الزائد مطلقا على نحو سائر أموال الناس التي عنده أو بذمّته. وأمّا القدر المساوي فكذلك إن لم يتب ، وإن تاب حلّ له المساوي وإن كانت المعاوضة باطلة» انتهى.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، وهو تصحيف : لا خلاف.

٤٠٦

وبالجملة : فالأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته على أصناف. منها : ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام». وهذا الصنف

______________________________________________________

وفي الجواهر : «ظاهرهم اشتراط ذلك بالانتهاء عمّا مضى ، بأن يتوب عمّا سلف». وفي الحدائق التصريح بصحّة المعاملة مع الجهل. وفي الجواهر بعد نقله : «ولعلّه مراد الباقين ، إذ الحكم بعدم وجوب الردّ مع القول بفساد المعاملة في غاية البعد».

وتقدّم في ما علّقناه على المقام الأوّل عن ابن الجنيد التفصيل بين ما كان متميّزا معروفا ، وبين ما كان مختلطا بحلال ، بالقول بوجوب الردّ في الأوّل دون الثاني ، خلافا للحلّي في السرائر والعلّامة في المختلف ، فيجب الردّ مطلقا. ونقل المصنّف رحمه‌الله في بعض تحقيقاته عن الحلّي وجوب إخراج الخمس. وحمل المصنّف رحمه‌الله الأخبار الواردة في المقام على المال الموروث ، مع العلم بأن المورّث كان يأكل الربا ، مع عدم العلم بوجوده في المال المخصوص.

ولكن ينافيه صريح جملة اخرى من الأخبار المعتبرة. ويضعّف سابقه بكون الأخبار الواردة في المقام أخصّ ممّا دلّ على وجوب إخراج الخمس من المختلط بالحرام. ويضعّف قول الشيخ والصدوق بأنّ حمل المطلق على المقيّد يقتضي ترجيح قول ابن الجنيد ، وإن أمكن حمل ما دلّ بظاهره على وجوب ردّ ما كان معزولا على الاستحباب ، إلّا أنّ الأوّل أولى كما لا يخفى ، ولكنّ القول به نادر ، فيشكل به الخروج من عمومات الضمان ، وإن ساعدته الأخبار المعتبرة ، وسبيل الاحتياط واضح.

وحمل المصنّف رحمه‌الله للموثّقة هنا على صورة الجهل بالربا لا يدلّ على اختياره قول الشيخ ، لأنّ الكلام هنا في الحكم التكليفي دون الوضعي ، وارتفاع الأوّل لا يستلزم ارتفاع الثاني. وممّا ذكرناه يظهر الوجه فيما ذكره المصنّف رحمه‌الله من نفي الأولويّة ، لما عرفت من عدم الخلاف في المعذوريّة من حيث الحكم التكليفي. اللهمّ

٤٠٧

لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب المشتبهين ؛ لأنّ حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعيّنة في الشبهة المجرّدة من العلم الإجمالي والشبهة الغير المحصورة (١٤٩٠) متعسّر بل متعذّر (١٤٩١) ، فيجب حملها على صورة عدم التكليف (١٤٩٢) الفعليّ بالحرام الواقعي.

ومنها : ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدّم. وهذا أيضا لا يلتزم المستدلّ بمضمونه ، ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ـ لأنّ موردها فيها ـ ، فيجب حمله على أقرب المحتملين من ارتكاب البعض مع إبقاء مقدار الحرام ومن وروده في مورد خاصّ ، كالربا ونحوه ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة. ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الربا من حلّ جميع المال المختلط به.

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا ، كأخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان. وسيجيء : حمل جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ومتفرّعا على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشكّ.

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلّة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقّفة (١٤٩٣) على الاجتناب عن كلا المشتبهين ـ ، مشكل جدّا ، خصوصا مع اعتضاد القاعدة

______________________________________________________

إلّا أن يقال بأنّ المنساق من الموثّقة ارتفاع الحكم الوضعي أيضا ، فتأمّل.

١٤٩٠. هذا مبنيّ على ظاهر مذهب المشهور ، وإلّا فالمختار عند المصنّف رحمه‌الله ـ كما سيجيء ـ هي حرمة المخالفة القطعيّة فيها.

١٤٩١. كما تقدّم في الجواب عن السؤال الثاني في تقريب ما اختاره.

١٤٩٢. كما في الشبهة المجرّدة.

١٤٩٣. لفظة «المتوقّفة» صفة للإطاعة ، وفيه نوع مسامحة ، لوضوح عدم

٤٠٨

بوجهين آخرين هما كالدليل على المطلب ، أحدهما الأخبار الدالّة على هذا المعنى : منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» ، والمرسل المتقدّم : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ، وضعفها ينجبر (١٤٩٤) بالشهرة المحقّقة والإجماع المدّعى في كلام من تقدّم.

ومنها : رواية ضريس عن السّمن والجبن في أرض المشركين؟ «قال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكل» (٤) ، فإنّ الخلط يصدق (١٤٩٥) مع الاشتباه. ورواية ابن سنان : «كلّ شىء حلال حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (٥) ، فإنّه يصدق على مجموع قطعات اللحم أنّ فيه الميتة.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث التثليث : «وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» بناء على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام ، فإن كان الحرام لم يتنجّز

______________________________________________________

توقّفها على الاحتياط ، إذ المتوقّف عليه هو العلم بها دون نفسها ، إذ لا ريب في تحقّق إطاعة النهي لو ترك أحد المشتبهين واتّفق كونه هو الحرام الواقعي.

ثمّ إنّ الوجه فيما استشكله ليس هو عدم جواز مخالفة حكم العقل بالأدلّة الشرعيّة ، لوضوح حكومة أدلّة البراءة عليها ، بل هو عدم تماميّة دلالة تلك الأدلّة ، كما هو واضح.

١٤٩٤. يؤيّده أنّ المرسل الأوّل محكيّ عن السرائر ، والحلّي لا يعمل بأخبار الآحاد.

١٤٩٥. فلا يمكن أن يتوهّم أنّ الخلط إنّما يصدق مع الامتزاج الذي تقدّم خروجه من محلّ النزاع. قال في المصباح : «خلطت الشيء بغيره خلطا ـ من باب ضرب ـ ضممته إليه فاختلط هو. وقد يمكن التميّز بعد ذلك كما في خلط الحيوانات ، وقد لا يمكن كخلط المائعات ، فيكون مزجا. قال المرزوقي : أصل الخلط تداخل أجزاء الأشياء بعضها في بعض ، وقد توسّع فيه حتّى قيل : رجل خليط إذا اختلط كثيرا بالناس ، والجمع خلطاء ، مثل شريف وشرفاء. ومن هنا قال

٤٠٩

التكليف به فالهلاك المترتّب عليه منقصته الذاتيّة ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ـ كما فيما نحن فيه ـ كان المترتّب عليه هو العقاب الاخروي ، وحيث إنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالشبهة المحصورة ، ولمّا كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم إجماعا كان الاجتناب عن الشبهة المجرّدة غير واجب بل مستحبّا. وفائدة الاستدلال (١٤٩٦) بمثل هذا الخبر : معارضته لما يفرض من الدليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا ، وجعل الآخر بدلا عن

______________________________________________________

ابن فارس : الخليط المجاور ، والخليط الشريك» انتهى.

١٤٩٦. دفع لما ربّما يتوهّم من عدم إجداء خبر التثليث في المقام ، لأنّ الاستدلال به إنّما يتمّ بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، كما قرّره هنا ، وأوضحه عند الجواب عن أدلّة الأخباريّين في الشبهة التحريميّة الحكميّة ، وهو بنفسه ناهض لإثبات المطلوب من دون حاجة إلى ضمّ الخبر إليه. ووجه الدفع واضح.

وربّما يشكل ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كان المراد بالمشار إليه بقوله : «هذا الخبر» هو خبر التثليث ، ولكن ينافيه قوله : «بمثل خبر التثليث وبالنبويّين» لأنّ ظاهره كون ما ذكر فائدة لجميع ما تقدّم في الوجه الأوّل من الأخبار ، فلا بدّ أن يكون المراد بالمشار إليه جنس الخبر ليشمل جميع هذه الأخبار ، مع وضوح عدم ورود الإشكال المذكور على ما عدا خبر التثليث. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المراد بالمشار إليه هو خبر التثليث ، إلّا أنّ الفائدة المذكورة تعمّه وغيره من الأخبار المذكورة ، لكن تبقى النكتة حينئذ في تخصيص النبويّين بالذكر ، إلّا أن يكون من باب المثال. ومع ذلك كلّه تشكل الفائدة المذكورة بمنع معارضة خبر التثليث والدليل المفروض ، لأنّ مؤدّى الأوّل لا يزيد على قاعدة الاحتياط. ولا ريب في حكومة الدليل المفروض ـ بل وروده ـ عليها. مع أنّ النسبة بينه على تقدير شموله للشبهات البدويّة وبين خبر التثليث هو التباين ، لدلالة الأوّل على البراءة في الشبهة التحريميّة مطلقا ، والثاني على وجوب الاحتياط كذلك ، فلا وجه لتخصيص

٤١٠

الحرام الواقعي ؛ فإنّ مثل هذا الدليل لو فرض وجوده حاكم على الأدلّة (١٤٩٧) الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ، لكنّه معارض بمثل خبر التثليث وبالنبويّين ، بل مخصّص بهما لو فرض عمومه للشبهة الابتدائيّة ، فيسلم تلك الأدلّة ، فتأمّل.

الثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمّة عليهم‌السلام والشيعة بل العامّة أيضا ، بل استدلّ صاحب الحدائق (١٤٩٨) على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة ، لكنّ الإنصاف عدم بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلّا ، وإن كان ما يستشمّ منها قولا وتقريرا من الروايات كثيرة :

______________________________________________________

أحدهما بالآخر. ولعلّه إلى الوجهين أو أحدهما أشار المصنّف رحمه‌الله بالأمر بالتأمّل.

نعم ، يمكن دفع الثاني بأنّ خبر التثليث وإن كان أعمّ موضوعا من الشبهات البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي ، إلّا أنّه من حيث دلالته على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي وعدمه في غيرها ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في تقريب دلالته على المقام ـ أخصّ حكما من الدليل المفروض الدالّ على البراءة مطلقا.

١٤٩٧. لأنّ الحكومة تارة تكون بالتخصيص في دليل آخر ، كأدلّة العسر بالنسبة إلى غيرها من أدلّة التكاليف ، واخرى بالتعميم في موضوع دليل آخر ، كالبيّنة بالنسبة إلى أدلّة المحرّمات وغيرها ، لإفادتها دخول موردها في موضوعات تلك الأدلّة بحكم الشرع. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لإفادة الدليل المفروض لدخول المتروك من المشتبهين بعد تناول الآخر في موضوع المحرمات الواقعيّة ، بأن يراد من أدلّته ما يشمل ذلك أيضا.

وفيه : أنّه لا بدّ أن يراد حينئذ بقول الشارع : اجتنب عن النجس ما يشمل ذلك ، ولا ريب أنّ شموله له على وجه التخيير ، ولسائر النجاسات المعلومة تفصيلا على وجه التعيين ، فيلزم استعماله في معنيين.

١٤٩٨. قال في مقدّمات الحدائق «ولا يخفى أنّ القواعد كما يكون بورود

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم كلّيا وباشتمال القضيّة على سور الكلّية ، كذلك تحصل بتتبّع الجزئيّات إجمالا كما في القواعد النحويّة ، بل في بعض الأخبار الواردة في هذا المقام تصريح بكلّية الحكم أيضا. ولنشر هنا إلى بعض الأخبار إجمالا» ثمّ نقل موثّقة عمّار في الإنائين المشتبهين ، وحسنة الصفّار في الثوبين المشتبهين ، والأخبار الواردة في غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي. وأضاف المصنّف رحمه‌الله إلى هذه الأخبار ما دلّ على بيع الذبائح وخبر القرعة.

أقول : أولى منهما ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأمر برمي كلّ من المشتبهين من الميتة والمذكّى. والإنصاف أنّ الاستقراء ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ وإن لم يحصل بذلك ، إلّا أنّه يمكن توجيه كلامه بمنع كون مراده دعوى استقراء الأحكام في إثبات الكلّية المدّعاة ، بل مراده دعوى حصول الظنّ بها من ملاحظة الأخبار الواردة في جزئيّات هذه الكلّية ، لعدم الفرق في اعتبار الظنون الحاصلة من ظواهر الألفاظ بين الحاصل من خصوص خبر والحاصل من مجموع الأخبار ، ولذا يستدلّ كثيرا على المطلوب بمجموع الأدلّة ، وإن كان كلّ واحد منها قابلا للمناقشة أو المنع.

ولكن يرد عليه منع كون الأمثلة المستقرأ فيها من محلّ النزاع. أمّا موثّقة عمّار فلدوران الأمر فيها إمّا بين الواجب والحرام أو بين الواجب وغير الحرام ، على الوجهين في كون استعمال النجس في المشترط بالطهارة ـ سوى الأكل والشرب ـ حراما ذاتيّا كما يظهر من بعضهم ، أو تشريعيّا كما هو الظاهر وأسلفناه سابقا ، وعلى التقديرين فهو خارج ممّا نحن فيه من دوران الأمر بين الحرمة الذاتيّة وغير الوجوب. نعم ، استعمال الإنائين في الأكل والشرب ينطبق على ما نحن فيه ، لكنّه خارج من مورد الموثّقة. ومن هنا يظهر أنّ ما اشتهر من التمثيل بها للمقام على إطلاقه ليس بصحيح.

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا حسنة الصفّار ففيها ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ القول بوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين لا ينافي القول بالتخيير في ما نحن فيه ، وذلك لأنّ مقتضى أصالة البراءة ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع ـ هو مجرّد الرخصة في الارتكاب وعدم ترتّب العقاب عليه على تقدير مصادفته للواقع ، لا إثبات الأحكام الوضعيّة أيضا من الطهارة وغيرها ، فلا يحصل اليقين بالبراءة بالصلاة في أحدهما. وقد تقدّم سابقا اختصاص محلّ النزاع بما لم يكن أحد المشتبهين مجرى لأصل موضوعي ، وهو هنا قاعدة الاشتغال.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ جريان أصالة البراءة في أحد المشتبهين وإن لم يكن مجديا في إثبات طهارته حتّى يحكم بصحّة الصلاة فيه ، إلّا أنّه لا مانع من جريان قاعدة الطهارة أو استصحابها في أحدهما على القول بكفاية الموافقة الاحتماليّة. فمقتضى القاعدة حينئذ هو الحكم بصحة الصلاة في أحدهما ، لحكومة قاعدة الطهارة على قاعدة الاشتغال ، لكن حكم الشارع حينئذ بعدم الصحّة يكشف عن عدم جريان قاعدة الطهارة في موارد العلم الإجمالي ، وحينئذ يحكم بعدم جريان قاعدة البراءة أيضا ، لعدم تعقّل الفارق ، إذ المانع من جريان قاعدة الطهارة ليس إلّا العلم الإجمالي المشترك في المنع بين القاعدتين.

ومنه يظهر الكلام في الأخبار الدالّة على غسل الثوب النجس بعضه مع اشتباهه بالباقي ، لأنّه مع خروجه من محلّ النزاع ـ كما عرفت ـ أنّ أصالة البراءة بعد غسل الثوب بمقدار يرتفع معه العلم الإجمالي غير مجدية في الحكم بصحّة الصلاة إلّا بالتقريب الذي عرفته. نعم ، قول المصنّف رحمه‌الله : «فإنّه لو جرت أصالة الطهارة وأصالة الحلّ لحلّت الطهارة والصلاة في بعض المشتبهين» لا يخلو من نظر ، لعدم استناد صحّة الصلاة إلى أصالة الحلّ أصلا ، لما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالفساد مع قطع النظر عن جريان أصالة الطهارة.

وأمّا الأخبار الدالّة على جواز بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها ، ففيها أنّها

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

موهونة بإعراض الأصحاب عنها ، للإجماع على عدم جواز المعاوضة على الميتة كما عن التذكرة والمنتهى والتنقيح. وما وجّه به المصنّف رحمه‌الله الجواز هنا غير وجيه كما ستعرفه. مضافا إلى خروج مثال المذكّى والميتة من محلّ النزاع ، لأنّ الخلاف في المقام إنّما هو فيما كان العمل بالأصل بالمشتبهين مستلزما للمخالفة العمليّة ، وإلّا جازت المخالفة القطعيّة فيه ، لما قرّره المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من عدم حرمة المخالفة الالتزاميّة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في المكاسب.

ولا بأس بنقل كلامه هنا ، لعدم خلوّه من فائدة ، قال : «إنّه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة ، كذلك لا يجوز بيعها منضمّة إلى مذكّى. ولو باعها فإن كان المذكّى ممتازا صحّ البيع فيه وبطل في الميتة ، كما سيجيء في محلّه. وإن كان مشتبها بالميتة لم يجز بيعه أيضا ، لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة ، بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع ، فأكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل ، كما أنّ أكل كلّ من المشتبهين في حكم أكل الميتة. ومن هنا يعلم أنّه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحلّ للميتة وغيره. لكن في صحيحة الحلبي وحسنته : «إذا اختلط المذكّى بالميتة بيع ممّن يستحلّ الميتة». وحكي نحوهما عن كتاب عليّ بن جعفر. واستوجه العمل بهذه الأخبار في الكفاية. وهو مشكل ، مع أنّ المرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه يرمى بهما. وجوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكّى. وفيه : أنّ القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكّى لأجل الاشتباه.

نعم ، لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وجواز ارتكاب أحدهما جاز البيع بالقصد المذكور. لكن لا ينبغي القول به في المقام ، لأنّ الأصل في كلّ واحد من المشتبهين عدم التذكية ، غاية الأمر العلم الإجمالي بتذكية أحدهما ، وهو غير قادح في العمل بالأصلين. وإنّما يصحّ القول بجواز ارتكاب أحدهما في

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المشتبهين إذا كان الأصل في كلّ منهما الحلّ ، وعلم إجمالا بوجود الحرام ، فقد يقال هنا بجواز ارتكاب أحدهما اتّكالا على أصالة الحلّ ، وعدم جواز ارتكاب الآخر بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام الواقعي ، وإن كان هذا الكلام مخدوشا في هذا المقام أيضا ، لكنّ القول به ممكن هنا ، بخلاف ما نحن فيه لما ذكرناه ، فافهم.

وعن العلّامة حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحلّ للميتة بذلك برضاه. وفيه : المستحلّ قد يكون ممّن لا يجوز الاستنقاذ منه إلّا بالأسباب الشرعيّة كالذمّي. ويمكن حملهما على صورة قصد البائع المسلم أجزائها التي لا تحلّها الحياة من الصوف والشعر والعظم ونحوها ، وتخصيص المشتري بالمستحلّ ، لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا ، ولا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه» انتهى كلامه رفع مقامه.

وأمّا خبر القرعة فمورده وإن كان من محلّ النزاع ، إلّا أنّه يكفي في الإعراض عنه إعراض الأصحاب عنه. ويمكن الاعتذار عن صاحب الحدائق في تمسّكه بما تقدّم من الأخبار التي ادّعى الاستقراء بملاحظتها ، بأنّ ما أوردناه عليها مبنيّ على المداقّة في المسألة ، وإلّا فالمشهور لم يفرّقوا هنا بين الحرمة الذاتيّة والتشريعيّة وبين وجود أصل موضوعي هنا وعدمه. وحكم صاحب المدارك أو غيره بوجوب الاحتياط في الإناءين المشتبهين والثوبين المشتبهين ، مع اختياره للتخيير في مسألة الشبهة المحصورة ، ليس من جهة عدم كونهما من محلّ النزاع عندهم في الشبهة المحصورة ، بل لأجل ما ورد به فيهما من الأخبار على خلاف القاعدة التي هي التخيير عنده ، فما استقرأه من الأخبار منطبق [على](*) محلّ النزاع على ظاهر المشهور ، وحينئذ يبقى الكلام معه في صحّة دعوى حصول الظنّ بالكلّية من الأخبار المذكورة ، على ما قدّمناه.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أضفناه ليستقيم المعني.

٤١٥

منها : ما ورد في الماءين المشتبهين ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بلا خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا. ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين. ومنها : ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلا بقوله عليه‌السلام : «حتّى يكون على يقين من طهارته». فإنّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة ـ على ما يستفاد من التعليل ـ يدلّ على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة ، وهو الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ ؛ فإنّه لو جرت أصالة الطهارة وأصالة حلّ الطهارة والصلاة في بعض المشتبهين ، لم يكن للأحكام المذكورة وجه ، ولا للتعليل في الحكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة.

ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح (١٤٩٩) المختلط ميتتها بمذكّاها من أهل الكتاب ؛ بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة (*) بأن يقصد بيع المذكّى خاصّة أو مع ما لا تحلّه الحياة من الميتة.

وقد يستأنس له (١٥٠٠) بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه‌السلام لسؤال

______________________________________________________

١٤٩٩. بتقريب أنّه لو لم يجب الاحتياط في الشبهة المحصورة لجاز بيع الميتة المشتبهة بالمذكّى ممّن لا يستحلّ الميتة أيضا ، لأنّ المانع منه ـ كما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في الحاشية السابقة ـ هو عدم جواز الانتفاع بها ، وهو حاصل على القول بالتخيير.

١٥٠٠. أي : لما يستفاد من أخبار كثيرة. ووجه الاستئناس ما سيشير إليه بقوله : «نعم هي دالّة ...». ووجه الدلالة : أنّه لو لم يجب الاحتياط ، وجاز التخيير فيما نحن فيه مع قطع النظر عن القرعة ، لم يحتج إلى إخراج مقدار الحرام بالقرعة التي هي طريق لتشخيص الحرام عن الحلال.

__________________

(*) في بعض النسخ : المشتبه.

٤١٦

يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثمّ أرسلها في الغنم؟ حيث قال عليه‌السلام : «يقسّم الغنم نصفين ثمّ يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين ، وهكذا حتّى يبقى واحد ونجا الباقي» (٦). وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لا تنهض (١٥٠١) لإثبات حكم مخالف للاصول. نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شىء منها قبل القرعة ؛ فإنّ التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب بالاجتناب عن الكلّ حتّى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ.

______________________________________________________

١٥٠١. لإعراض الأصحاب عنها ، لعدم القول بالقرعة هنا سوى ما حكي عن ابن طاوس ، مع أنّها لا تكافئ ما تقدّم من الأدلّة على المختار. نعم ، هي تدلّ على ما اخترناه ، كما عرفته في الحاشية السابقة. لكنّ الإنصاف أنّ دلالتها على مطلب الخصم أتمّ من الدلالة على ما اخترناه ، إذ على المختار لا بدّ من طرحها أو العمل بها في موردها ، وأمّا على القول بالتخيير فلا بدّ من حملها على الاستحباب ، فتدلّ حينئذ على مرجوحيّة الاحتياط.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على القول بالقرعة بعموماتها.

ويردّ عليه أوّلا : أنّ هذه العمومات لكثرة ورود التخصيص عليها قد سقطت عن الظهور في العموم ، ما لم ينضمّ إليها عمل الأصحاب المفقود في المقام.

وثانيا : أنّ موردها الامور المشكلة المشتبهة ، ولا إشكال في موارد الاصول.

ولا ريب في كون الشبهة المحصورة إمّا موردا لقاعدة الاشتغال على المختار ، أو لأصالة البراءة على ما اختاره جماعة ، فيختصّ موردها بما لم يكن مجرى للاصول ، أعني : موارد التخيير التي يدور الأمر فيها بين المحذورين. هكذا قيل. وفيه نظر ، لوضوح حكومة عمومات القرعة على الاصول ، فدعوى العكس ضعيفة جدّا.

وثالثا : أنّ النسبة بين أدلّة الاصول وعمومات القرعة عموم وخصوص مطلقا ، لعدم اعتبار شيء في موارد الثانية ممّا يعتبر في موارد الاولى ، من اعتبار الشكّ في التكليف في مورد البراءة والعلم به ، ثمّ الشكّ في الخروج من عهدة

٤١٧

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب ؛ إذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه الحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ؛ لعموم ما تقدّم من الأدلّة. ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ؛ فإنّه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد (١٥٠٢) ما قوّاه من عدم وجوب الاجتناب عن (*) المشتبهين ، وهو : أنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرناه.

قال مجيبا عن ذلك :

______________________________________________________

التكليف في موارد قاعدة الاشتغال ، واعتبار الحالة السابقة في موارد الاستصحاب ، فلا بدّ من تخصيصها بها ، فلا يشمل ما نحن فيه وغيره من موارد الاصول.

فإن قلت : إنّ الشبهة في التكليف خارجة من عمومات القرعة إجماعا ، وهي مشمولة لأدلّة الاصول ، فتكون النسبة بينهما عموما من وجه.

قلت : هذا الإجماع في عرض أدلّة الاصول مخصّص لتلك العمومات ، فلا وجه لفرض التخصيص به أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بينهما ، بل لا بدّ من التخصيص بكلّ واحد منهما في مرتبة واحدة ، كما سيجيء في مبحث التعادل والترجيح.

وفيه : أنّ النسبة إنّما تلاحظ في التقديم والترجيح في غير موارد الحكومة ، وقد عرفت حكومة تلك العمومات على أدلّة الاصول.

١٥٠٢. ظرف مستقرّ صفة لكلام صاحب المدارك ، يعني : ذكر الكلام الذي ذكره صاحب المدارك في مقام تأييد ما اختاره.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : كلا.

٤١٨

أوّلا : أنّه (*) من باب الشبهة الغير المحصورة. وثانيا : أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة والجزئيّات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنته تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (٧) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ـ بعد منع (١٥٠٣) كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ، بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الإناء أو ظهر الإناء ، فظاهرهم الحكم بطهارة الماء أيضا ، كما يدلّ عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر (١٥٠٤) الواردة في الدم الغير المستبين في الماء بذلك ـ : أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة. أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة خصوصا عمدتها وهي أدلّة الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعيّة ـ كالنجس والخمر ومال الغير وغير ذلك ـ بضميمة حكم

______________________________________________________

١٥٠٣. لأنّ ما نقله صاحب المدارك عن الأصحاب يشمل صورة كون الشبهة محصورة أيضا ، فلا وجه لإطلاق القول بكونه من غير المحصورة. ولعلّ الوجه في عدم حكم الأصحاب بوجوب الاجتناب في مثال الإناء وخارجه مطلقا ـ مع ما علم من مذهبهم في مسألة الشبهة المحصورة ـ هو ما سيجيء من المصنّف رحمه‌الله من اشتراط وجوب الاحتياط فيها بكون جميع أطراف الشبهة محلّ ابتلاء للمكلّف ، والمقام ليس كذلك ، كما سيجيء في التنبيه الثالث.

١٥٠٤. عن أخيه عليه‌السلام : «عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس». واستدلّ بها الشيخ على طهارة ما لا يدركه الطرف من النجاسة في المبسوط ، ومن الدم خاصّة في الاستبصار. وأجيب عنها في المشهور بعدم الدلالة على إصابة الماء ، ويراد بعدم الاستبانة في الجواب عدم العلم بإصابته لا عدم إدراك الطرف. وقد عرفت في الحاشية السابقة الجواب أيضا عن صيرورة الشبهة حينئذ محصورة.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «أنّه» ، بأنّه.

٤١٩

العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة (١٥٠٥) لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النجس بين ظاهر الإناء وباطنه أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومائع آخر ، أو بين ما يعين مختلفي الحقيقة ، وبين تردّده بين ماءين أو ثوبين أو ما يعين متّحدي الحقيقة.

نعم ، هنا شيء آخر (١٥٠٦) وهو أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي أو النجس الواقعي المردّد بين المشتبهين أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا لحكم واحد أم

______________________________________________________

١٥٠٥. ربّما يقال : لو فرض وجود الدليل على عدم وجوب الاجتناب ، مع عدم اندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة ، لا يضرّ عدم وجود الضابط في ذلك شرعا ، لأنّا لو قلنا بكون وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة لأجل قاعدة الاشتغال ، وجب الحكم بوجوب الاجتناب إلّا فيما علم بعدم الاندراج ، وإن قلنا بكونه من باب التعبّد ، وجب الحكم بعدم وجوب الاجتناب إلّا في ما علم فيه الاندراج وبالجملة ، إنّ الموارد المشكوكة الاندراج ـ نظير الأفراد الخفيّة للمطلقات ـ يعمل فيها بما تقتضيه القواعد.

ولكنّ الظاهر أنّ مقصود المصنّف رحمه‌الله أنّ اشتراط الاندراج في وجوب الاجتناب لا بدّ أن يكون عن دليل شرعي ، ومن البعيد تعليق الشارع للحكم بأمر غير منضبط أصلا. وقياسه على المطلقات قياس مع وجود الفارق ، لعدم كون العمل بها شرعيا وإن أمضى الشارع ، مع أنّ ظهور اللفظ في مقدار ما يتناوله أمر مضبوط كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بعدم الضابط لما ذكره هو عدم الضابط له من حيث إنّ المدار في اندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة ، هل هو على دخولهما تحت صنف أو نوع أو جنس قريب أو بعيد أو أبعد؟ لعدم ورود نصّ في ذلك ليؤخذ بمقتضاه.

١٥٠٦. لا يبعد أن يكون هذا هو مراد صاحب الحدائق ، بأن يقال في توجيه كلامه : إنّ المراد باندراج المشتبهين تحت حقيقة واحدة اندراج كلّ واحد

٤٢٠