فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

المسألة الرابعة : دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب مع كون الشكّ في الواقعة الجزئيّة لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة ، كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع وإباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ، وفي حرمة لحم للتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب. والظاهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل فيه الإباحة ؛ للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» و «كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال».

واستدلّ العلّامة رحمه‌الله في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة (١٢٨٠): «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» (١). وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين (٢).

______________________________________________________

١٢٨٠. النسخ فيها مختلفة ففي بعضها كما في المتن ، وفي بعض آخر «هو لك» بزيادة ضمير الفصل. ومبنى الاستدلال على النسختين على أخذ قوله «لك» خبرا عن قوله «حلال» وهو غير متعيّن. أمّا على نسخة «هو لك» فلاحتمال أن يكون قوله «هو لك» صفة للشيء. ولعلّ هذا هو الظاهر من العبارة. والمعنى حينئذ : إنّ كلّ شيء هو لك ، ولك استيلاء عليه ، هو محكوم بالحلّ لك ما

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

لم ينكشف خلافه أو لم تقم البيّنة فتكون الرواية واردة لبيان قاعدة اليد وتؤيّده الأمثلة المذكورة فيها ، لعدم كون الحلّ في شيء منها مستندا إلى أصالة الحلّ ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. فالسّبب المحلّل فيها هو استيلاء اليد لا أصالة البراءة ، ولذا يحكم بإباحة التصرّف لمالك الدار فيما وجده فيها ولم يعلم بكونه من أمواله أو غيرها.

نعم ، في الفروج أصل آخر مستفاد من قوله سبحانه بعد عدّ أصناف النساء المحرّمة : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأنّ مقتضى حصر المحرّمات وتحليل ما سواها يفيد أصالة الحلّ في الفروج ، فيجوز نكاح كلّ النساء إلّا من علم دخولها في المحرّمات. فلا يرد حينئذ أنّ النساء على صنفين : محلّلة ومحرّمة ، فلا يمكن تعيين إحداهما بالأصل.

وأمّا على ما في المتن من دون زيادة ضمير الفصل فكذلك أيضا ، لاحتمال كون قوله «لك» ظرفا مستقرّا صفة للشيء. ويؤيّده الأمثلة المذكورة أيضا ، بتقريب ما عرفت. وإن قيل : إنّ المراد بالرواية بيان قاعدة اليد والبراءة وإن كانت الأمثلة من قبيل الاولى. قلنا : يلزم منه استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ الحكم بالإباحة في مورد أصالة البراءة لأجل كون الواقعة مجهولة الحكم بحسب الواقع ، وفي مورد قاعدة اليد لأجل استيلاء اليد مع قطع النظر عن كونها مجهولة الحكم وعدمه.

ومن هنا يظهر وجه النظر في قوله : «مع أنّ صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى» لأنّه إن أراد ظهورهما في بيان خصوص أصالة الإباحة فالأمثلة تأباه. وإن أراد ظهورهما في الأعمّ منها ومن قاعدة اليد ، فقد عرفت استلزامه استعمال اللفظ في معنيين. ويدفع ما ذكرناه أيضا عدم استناد الحلّ في مثال المرأة إلى قاعدة اليد ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا دعوى أنّ المراد بالرواية بيان حلّية ما قامت على حلّيته أمارة كاليد في مثال الثوب والعبد ، أو أصل كأصالة عدم تحقّق الرضاع والنسب كما في مثال

٢٠٢

ولا إشكال في ظهور صدرها في المدّعى ، إلّا أنّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّية ؛ فإنّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرّف ؛ لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيته ، وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقّق النسب (١٢٨١) أو الرضاع فالحلّية مستندة إليه ، وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها ؛ فيحرم وطؤها. وبالجملة : فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّلي محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانوي ، فالحلّ غير مستند إلى أصالة الإباحة في شيء منها. هذا ، ولكن في (*) الأخبار المتقدّمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهران في المدّعى.

وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ، نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلا ، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدّمة العلميّة ؛ فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام. مدفوع : بأنّ

______________________________________________________

الزوجة ، ما لم ينكشف الخلاف أو تقوم به البيّنة ، فبعيدة جدّا ، لعدم الحاجة في ذلك إلى بيان من الشارع بعد ثبوت اعتبار الأمارة والأصل. والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو من إجمال وإغلاق ، فلا تصلح للاستدلال بها على المقام.

١٢٨١. فيه نظر ، لأنّه إن أراد بها استصحاب عدم تحقّق النسب بينه وبين المرأة الخاصّة ، ففيه : أنّه لا علم بتحقّق هذا العدم في السابق حتّى يستصحب. وإن اريد بها استصحاب عدمه مطلقا حتّى يثبت عدم تحقّقه بينه وبين هذه المرأة ، ففيه : أنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة التي لا نقول بها ، لأنّ تطبيق الكلّيات الثابتة بالاصول على جزئيّاتها إنّما هو بالملازمة العقليّة. وهذا نظير استصحاب عدم الكرّية في ماء لم يعلم كونه مسبوقا بعدمها ، فتدبّر.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : باقى.

٢٠٣

النهي (١٢٨٢) عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردّدة بين محصورين ، والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة ، والثاني يتوقّف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير ، وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه ، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه.

فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقّف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه.

وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضا ؛ لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش و (ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) تدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون

______________________________________________________

١٢٨٢. حاصل الدفع : أنّ المناط في حكم العقل بأصالة البراءة هو قبح تنجّز التكليف في الواقع مع جهل المكلّف ، إمّا بنفس التكليف ومتعلّقاته كما في الشبهات الحكميّة ، أو مصاديقه الخارجة كما في الشبهات الموضوعيّة. والتعبير بقبح التكليف بلا بيان في الشبهات الحكميّة إنّما هو لأجل كون القبح فيها ناشئا من عدم البيان ، لا أنّ مجرّد البيان يصحّح التكليف ويرفع قبحه مطلقا ، حتّى يقال بعدم جريان دليل البراءة في المقام لأجل وصول البيان فيه. وبيان المصاديق الخارجة وإن لم يكن من وظيفة الشارع ، إلّا أنّ مجرّد ذلك كما عرفت لا يصحّح التكليف بالمجهول ـ بمعنى تنجّزه ـ مع اشتباه مصاديقه الخارجة ، لأنّ المحرّك للعقل إلى الاجتناب عن الموضوع المشتبه إمّا هو العلم التفصيلي باندراجه تحت المكلّف به ، أو كونه مقدّمة علميّة لما علم بتعلّق التكليف به إجمالا ، وشيء منهما غير متحقّق في المقام.

ولك أن تقول : يكون ما نحن فيه أيضا من موارد قبح التكليف بلا بيان ، لأنّ تشخيص أنّ هذا المائع خمر أو خلّ وإن لم يكن من وظيفة الشارع ، إلّا أنّ

٢٠٤

شرب التتن منها. ومنشأ التوهّم المذكور ملاحظة تعلّق الحكم بكلّي مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف ، فيجب الاحتياط. ونظير هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة ، حيث تخيّل بعض أنّ دوران ما فات من الصلوات (*) بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة. وقد عرفت وسيأتي اندفاعه.

فإن قلت : إنّ الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه لاحتمال كونه محرّما ، فيجب دفعه. قلنا : إن اريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخرويّة ، فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

وإن اريد ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ـ كما في المضارّ الدنيويّة ـ فوجوب دفعه عقلا لو سلّم كما تقدّم من الشيخ وجماعة ، لم يسلّم وجوبه شرعا (١٢٨٣) ؛ لأنّ الشارع صرّح بحلّية ما لم يعلم حرمته ، فلا عقاب عليه ؛ كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعي الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام!

______________________________________________________

بيان أنّ الحكم الظاهري في الموضوع المشتبه هو البراءة أو الاحتياط من وظيفته لا محالة ، ولا بدّ أن يتلقّى ذلك منه. ومع عدم البيان فالعقل يحكم بالبراءة ، لقبح التكليف بلا بيان لو كان المكلّف به في الظاهر هو الاحتياط عند الشارع. فما يظهر من المصنّف رحمه‌الله من عدم كون المقام من موارد هذه القاعدة ، إنّما هو لأجل المماشاة مع الخصم وإرخاء عنان المجادلة معه ، وإلّا فقد عرفت أنّ التحقيق كون ما نحن فيه أيضا من جملة مواردها.

١٢٨٣. ليس المقصود منه بيان معارضة حكم العقل والشرع وتقديمه على الأوّل ، لوضوح فساده ، إذ لا ريب في تطابقهما بحكم الملازمة ، بل المقصود أنّه مع فرض حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فلا ريب أنّ ترخيص الشارع في

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «الصلوات» ، الصلاة.

٢٠٥

فإن قيل : نختار أوّلا احتمال الضرر المتعلّق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ؛ لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الإباحة من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها. وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٤) ، كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة على دفع أصالة الإباحة ، وهذا الدليل ومثله رافع للحلّية (١٢٨٤) الثابتة بقولهم عليهم‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام».

قلت : لو سلّمنا (١٢٨٥) احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخروي ، إلّا أنّ قولهم عليهم‌السلام : «كلّ شىء لك حلال» بيان لعدم الضرر الاخروي. وأمّا الضرر الغير الاخروي ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ، وآية «التهلكة» مختصّة بمظنّة

______________________________________________________

الارتكاب يكشف عن وجود مصلحة فيه متداركة للمفسدة المحتملة ، والعقل لا يحكم بوجوب دفع مثل هذا الضرر ، لأنّ حكمه بوجوب الدفع إنّما هو مع عدم التدارك لا معه.

١٢٨٤. يعني : بحسب الشرع ، فتكون الآية حاكمة على الرواية ، لا بحسب الواقع حتّى تكون واردة عليها.

١٢٨٥. فيه إشارة إلى إمكان دعوى القطع بعدم المصلحة في عدم البيان. ولعلّ الوجه فيه عدم صلوح سائر المصالح لجبر الضرر الاخروي ـ أعني : العقاب ـ لو صادفه المكلّف بجهالة.

ويمكن أن يقال : إنّه مع تسليم حكم العقل بوجوب بيان الضرر الاخروي من حيث هو ، فلا وجه لمنع ذلك بمجرّد احتمال المصلحة في عدم البيان ، لعدم اقتناع العقل في ذلك بمجرّد احتمال المانع ، لعدم اعتناء العقلاء بمجرّد احتماله مع فرض وجود المقتضي كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند الاستدلال على حجيّة مطلق الظنّ بوجوب دفع الضرر المظنون.

٢٠٦

الهلاك (١٢٨٦) ، وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصية دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك. وكذا في باب التيمّم والإفطار لم يرخّصوا إلّا مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ.

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين انسحاب حكم الإفطار والتيمّم مع الشكّ ايضا ، لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر بل لدعوى تعلّق (١٢٨٧) الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق مع الشكّ ، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا. لكنّ الإنصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه (١٢٨٨) كالحكم بدفع الضرر المتيقّن ، كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمّية إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.

______________________________________________________

١٢٨٦. لعلّ الوجه فيه هو فهم العلماء لما قيل ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله هنا أيضا ـ من استقرار بنائهم على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وإلّا فتعليق الحكم بالهلكة الواقعيّة يقتضي وجوب الاجتناب عن الهلكة المحتملة أيضا.

١٢٨٧. الفرق بين تعلّق الحكم بالضرر المحتمل أو المشكوك وبخوفه واضح ، لأنّ نسبة خوف الضرر بالنسبة إلى احتماله أعمّ من وجه وأخصّ من وجه آخر ، لصدقه مع الظنّ بالضرر والشكّ فيه أيضا ، وعدم صدقه مع احتماله في بعض الموارد. وأمّا بالنسبة إلى الشكّ فيه فهو أعمّ منه مطلقا ، كما هو واضح.

وحاصل : ما ذكره هو عدم ظهور قول بوجوب دفع الضرر المحتمل أو المشكوك من حيث كونه محتملا أو مشكوكا فيه ، فلا تدلّ الآية على وجوب دفع الضرر المحتمل أو المشكوك على قول القليل من المتأخّرين أيضا. فمع احتمال الضرر الذي يصدق معه الخوف ، فمقتضى الاحتياط في باب التيمّم والإفطار هو الجمع بين التيمّم والوضوء ، وكذا بين الصوم في الوقت والقضاء في خارجه ، بناء على التردّد في كون موضوع الحكم هو الضرر غير الصادق إلّا مع الظنّ به ، أو خوفه الذي يصدق مع احتماله على وجه يعتني به العقلاء.

١٢٨٨. المراد بالضرر المشكوك فيه ما كان معتنى به عند العقلاء على تقدير

٢٠٧

لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الضرر الاخروي كذلك ، إلّا أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيوي عنوان يترتّب عليه نفع اخروي ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه ؛ ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص ، وتعريضها له في الجهاد والإكراه على القتل أو على الارتداد. وحينئذ فالضرر الدنيوي المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ، فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص (١٢٨٩) على العباد أو لغيرها من المصالح أولى بالجواز (*).

فإن قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة ، فيظنّ الضرر ، فيجب دفعه مع انعقاد الإجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر. قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخروي ، فلأنّ المفروض عدم البيان ، فيقبح. وأمّا الدنيوي ، فلأنّ الحرمة لا تلازم الضرر الدنيوي ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ؛ لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلّق بالامور الاخرويّة. ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيوي فلا محيص عن التزام حرمته كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسكنات.

وينبغي التنبيه على امور : الأوّل : أنّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة ؛ فمثل المرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ أصالة عدم علاقة الزوجيّة المقتضية

______________________________________________________

القطع به ، وإلّا فمطلق الضرر الدنيوي لا يحكم العقل بوجوب دفع المقطوع منه فضلا عن المشكوك فيه.

١٢٨٩. يعني : مصلحة تسهيل الأمر على العباد في إباحة محتمل الحرمة ، وإلّا فنفس الترخيص ليس بمصلحة في إباحة الارتكاب.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : هذا تمام الكلام فى هذا المقام ، وقد تقدّم الاستدلال على حجيّة ظنّ بلزوم دفع الضرر المظنون ما يمنع نقضا وإبراما ، فراجع.

٢٠٨

للحرمة بل استصحاب الحرمة (١٢٩٠) حاكمة على أصالة الإباحة. ونحوها المال المردّد (١٢٩١) بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له ، وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الإشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقّق الماليّة.

______________________________________________________

١٢٩٠. يعني : مع قطع النظر عن استصحاب عدم علاقة الزوجيّة ، لوضوح عدم جريانه مع ملاحظته ، لحكومته عليه. ويمكن منع جريان استصحاب الحرمة في المقام مع قطع النظر عنه أيضا ، لكون الحرمة في الزمان السابق قائمة بالمرأة بوصف عدم كونها منكوحة ، والموضوع بهذا الوصف مشكوك البقاء في الزمان اللاحق. اللهمّ إلّا أن يقال بكون زوال هذا الوصف من قبيل تغيّر حالات الموضوع في نظر أهل العرف لا من قبيل تغيّر نفسه.

١٢٩١. لا يخفى أنّ صور الاشتباه في المقام على وجوه :

أحدها : أن يشكّ في انتقال مال إليه قهرا أو اختيارا ، كالإرث أو النقل بأحد الأسباب الشرعيّة بعد علمه بكونه لغيره. والإشكال حينئذ في حرمة التصرّف فيه على أنحائه ، لأصالة عدم حصول أحد أسباب النقل والانتقال ، ولا مسرح لأصالة البراءة فيه أصلا.

وثانيها : أن يعلم بكون شيء من المباحات الأصليّة ، وشكّ في حيازة مسلم له ، فيدور الأمر حينئذ بين كونه من المباحات وكونه مالا لغيره ، ولا ريب أنّ أصالة الإباحة حينئذ بضميمة أصالة عدم ثبوت يد عليه تقتضي جواز التصرّف فيه على أنحائه أيضا.

وثالثها : أن يعلم سبق ملك له في الجملة ، ولكن تردّد بينه وبين غيره. ولا إشكال حينئذ في عدم جواز التصرّف بما يتوقّف على ثبوت كونه ملكا له ، كالبيع والهبة وجعله ثمن المبيع أو وجه مصالحة أو نحو ذلك ، لأصالة عدم الملكيّة في هذه كلّها. وأمّا التصرّف بما لا يتوقّف على ذلك ، بل يكفي فيه عدم كونه

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ملكا لغيره ، كالشرب والأكل ونحوهما ممّا لا يتوقّف على إثبات كونه ملكا له ، فأصالة عدم تملّك الغير له تكفي في إثبات جواز التصرّف بهذا النحو من التصرّفات. وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الأدلّة ، وكون هذه التصرّفات فيها محمولة على مجرّد عدم كون المتصرّف فيه ملكا لغيره ، أو على كونه ملكا له. ومقتضى الاستقراء ـ كما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله ـ وقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» هو الثاني ، لأنّ ظاهره عدم جواز التصرّف إلّا بسبب شرعيّ. نعم ، هو بظاهره لا يشمل الوجه الثاني ، لأنّ ظاهره هو عدم الحلّ إلّا بعد إحراز الماليّة ، والفرض هناك عدمه ، لفرض دورانه بين كونه من المباحات أو من الأموال ، فهو قبل إثبات يده عليه لم يعلم كونه مالا لأحد وإن كان قابلا لذلك ، لأنّ الماليّة من الامور الإضافيّة التي لا تتحقّق بدون المالك.

ورابعها : أن يجد شيئا في دار الحرب ، وشكّ في كونه مالا لمسلم أو كافر حربيّ الذي ماله فيء للمسلمين. وأصالة البراءة بضميمة أصالة عدم كونه مالا لمسلم تقتضي جواز التصرف فيه بأنحائه. ولا تعارضها أصالة عدم كونه ملكا للكافر أيضا ، لأنّ حرمة التصرّف في مال الغير وعدمها مرتّبتان بمقتضى قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» على كونه مالا لمسلم وعدمه ، فلا يحتاج إثبات جواز التصرّف على إثبات كونه مالا للكافر حتّى تتّجه المعارضة المذكورة. وقد تقرّر في محلّه عدم الاعتداد بالعلم الإجمالي إذا لم يترتّب على أحد الاستصحابين أثر شرعيّ. وممّن صرّح بجريان أصالة البراءة في المقام هو الشهيد الثاني في مسالكه.

هذا إن وجد المال في دار الحرب. وإن وجده في دار الإسلام فيغلب عليه جانب الإسلام ، لقوله عليه‌السلام : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فترتّب عليه أحكام اللقطة ، ولذا ترتّب أحكامها أيضا على الكنز الذي عليه أثر الإسلام. ولا يذهب عليك أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله» لا يمنع من التصرّف

٢١٠

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه ، فيمكن القول بها للأصل. ويمكن عدمه ؛ لأنّ الحلّية في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ولقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال إلّا من حيث أحلّه الله».

ومبنى الوجهين أنّ إباحة التصرّف هي المحتاجة إلى السبب ، فيحرم مع عدمه ولو بالأصل ، وأنّ حرمة التصرّف محمولة في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك

______________________________________________________

هنا ، لحصول الماليّة للمتصرّف بالتصرّف ، بضميمة أصالة عدم تملّك مسلم آخر له.

وإذا عرفت هذا فاعلم : أنّ قوله : «ونحوه المال المردّد ...» ظاهر الانطباق على الوجه الأوّل ، وهو واضح. وأمّا قوله : «وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه» يعني : مع عدم العلم بسبقه ، فلا ريب في عدم انطباقه على الوجهين الأوّلين ، لعدم تأتّي الوجهين اللذين ذكرهما فيه فيهما كما عرفت. وكذلك على الثالث ، لأنّ المفروض فيه سبق ملك في الجملة. نعم ، يمكن أن يريد به عدم العلم تفصيلا بسبق ملك أحد عليه ، وإن علم إجمالا بكونه له أو غيره.

وأمّا ما يظهر من بعض مشايخنا من حمله على الوجه الرابع ، نظرا إلى تأتّي الوجهين اللذين ذكرهما فيه ، لأنّه بناء على كون جواز التصرّف مرتّبا في الأدلّة على وجود سبب محلّل لا يجوز التصرّف حينئذ ، وبناء على كونه مرتّبا على عدم كونه ملكا للغير ـ يعني : لغيره من المسلمين ومن بحكمه من أهل الذمّة ـ يثبت الجواز بأصالة البراءة بضميمة أصالة عدم كونه ملكا لمسلم آخر ، فبعيد جدّا.

لا يقال : إنّ ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله عدم ثبوت الملكيّة له ولا لغيره من المسلمين والكفّار ، فلا مقتضى للحمل على الوجه الثالث ولا على الرابع.

لأنّا نقول : نعم ، لكن إن فرض ذلك على وجه يحتمل كونه من المباحات أيضا ، فيدخل في الوجه الثاني الذي عرفت عدم تأتّي الوجهين فيه. وإن فرض على وجه لا يسري فيه هذا الاحتمال ، فيدخل في الوجه الثالث ، وليس هنا شقّ آخر يمكن حمله عليه ، فتدبّر.

٢١١

الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة. ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة : اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ؛ فإنّ أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة. وربّما يتخيّل (١٢٩٢) خلاف ذلك تارة لعدم حجيّة (١٢٩٣) استصحاب عدم التذكية ، واخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة.

والأوّل مبنيّ على عدم حجيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة. والثاني مدفوع (١٢٩٤) أوّلا بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ،

______________________________________________________

١٢٩٢. المتخيّل جماعة كصاحب المدارك والذخيرة والفاضل التوني والسيّد الصدر ، حيث تمسّكوا بأصالة البراءة في باب الجلود واللحوم تضعيفا للاستصحاب ، إمّا لعدم حجّيته أو كونه معارضا بالمثل كما ستعرفه. ولا أعلم في ذلك من سبق على صاحب المدارك.

١٢٩٣. قد يقال أيضا : إنّ المقصود من استصحاب عدم التذكية إثبات كون اللحم المردّد ميتة ، لكون الحرمة والنجاسة مترتّبتين عليها ، وإثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة. والجواب عنه أيضا يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

١٢٩٤. منع حجيّة الاستصحاب ـ سيّما في العدميّات ، كما زعمه صاحب المدارك ـ لمّا كان في غاية الضعف تعرّض المصنّف رحمه‌الله لدفع الوجه الثاني أوّلا بما حاصله : أنّ التذكية والموت وإن سلّمنا كونهما من الامور الوجوديّة ، إلّا أنّ تعارض الاستصحابين إنّما يتمّ لو كانت الطهارة والحلّ في الأدلّة محمولين على عنوان المذكّى ، والحرمة والنجاسة أيضا على عنوان الميتة ، وليس كذلك ، إذ الأخيرتان مرتّبتان في الأدلّة على عدم التذكية دون الموت ، لأنّ مقتضى منطوق قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ...) تعلّق الحلّ بعنوان التذكية ، ومقتضى المفهوم المخالف للحصر فيه تعلّق الحرمة بعدم التذكية دون الموت. وما يتراءى من خلاف

٢١٢

ولا يتوقّف على ثبوت الموت حتّى ينتفي بانتفائه ولو بحكم الأصل. والدليل عليه : استثناء (ما ذَكَّيْتُمْ) من قوله (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) (٥) فلم يبح الشارع إلّا ما ذكّي ، وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فإذا انتفى بعضها ـ ولو بحكم الأصل ـ انتفت الإباحة. وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ؛ إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا. وتمام الكلام في الفقه.

______________________________________________________

ذلك ، من قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وكذا من عدّ الفقهاء للميتة من أقسام النجاسات ، مندفع بأنّ مقتضى الجمع بين مفهوم الآية الاولى ومنطوق الثانية هو حمل الميتة في الثانية على إرادة غير المذكّى منها ، وحينئذ لا بدّ من حمل كلمات الفقهاء على ذلك أيضا ، كما هو واضح.

وإذا ثبت كون المناط في الحكم بالحلّ والطهارة أو الحرمة والنجاسة هو عنوان التذكية وعدمها ، فلا بدّ في محلّ الفرض من الحكم بالحرمة والنجاسة ، لأصالة عدم التذكية من دون معارضة شيء ، لفرض عدم ترتّب شيء على أصالة عدم الموت حتّى تكون معارضة لها ، كما عرفت نظيره عند شرح قوله : «ونحوه المال المردّد ...». ومع تسليم ظهور الآية الثانية في تعلّق الحرمة بعنوان الميتة ، فلا ريب أنّه لا دلالة فيها على الحصر. وحينئذ يثبت للحرمة عنوانان ، أحدهما : موت الحيوان بحتف الأنف ، والآخر : كون الحيوان غير مذكّى ، كما هو مقتضى الحصر في الاولى ، فلا يحتاج إثبات الحرمة والنجاسة حينئذ أيضا إلى إثبات الموت بحتف الأنف ، لفرض كفاية إثبات عدم التذكية أيضا في ذلك ولو بالأصل ، فتدبّر.

وثانيا : بما حاصله أيضا ـ مع تسليم كون الحرمة والنجاسة مترتّبتين على عنوان الميتة ـ أنّ الميتة هو غير المذكّى على نحو ما أفاده ، فليس هنا أمران وجوديّان قد ترتّب على كلّ منهما حكم مخالف للآخر ، حتّى يكون نفي أحدهما بالأصل معارضا لنفي الآخر كذلك.

٢١٣

الثاني : أنّ الشيخ الحرّ قدس‌سره أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الأخباريّين ، وحاصله أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه حيث أوجبتم الاحتياط في الأوّل دون الثاني؟ وأجاب بما لفظه : أنّ حدّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ أعني الإباحة والتحريم ، كمن شكّ في أكل الميتة أنّه حلال أو حرام ، وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه فيه موضوع الحكم مع كون محموله معلوما ، كما في اشتباه اللحم الذي يشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام. ويستفاد هذا التقسيم (١٢٩٥) من أحاديث الأئمة عليهم‌السلام ومن وجوه عقليّة مؤيّدة لتلك الأحاديث ويأتي بعضها.

وقسم متردّد (١٢٩٦) بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شىء من الامور الدّنيوية كاختلاط الحلال بالحرام بل اشتباهها بسبب أمر ذاتيّ أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض

______________________________________________________

١٢٩٥. يعني : حكمه.

١٢٩٦. المراد بهذا القسم ما كانت الشبهة ناشئة من الإجمال في مفهوم متعلّق التكليف ، لدورانه بين الأقلّ المعلوم الاندراج والأكثر المشكوك فيه. وإنّما جعله واسطة بين القسمين لأنّ الشبهة الحكميّة عنده ما اشتبه حكمه التكليفي ، أعني : الحرمة والإباحة ، والحكم فيما نحن فيه متبيّن بالفرض ، والشبهة في طريقه عبارة عمّا كانت الشبهة فيه ناشئة من اختلاط الامور الخارجة ، والفرض في المقام خلافه أيضا.

هذا بناء على ما يظهر من عبارة الشيخ الحرّ. وأمّا على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله فالشبهة في متعلّق التكليف إذا لم تكن ناشئة من اختلاط الامور الخارجة مندرجة في الشبهة الحكميّة ، سواء دار الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر أم بين المتباينين ، وسواء كان منشأ الشبهة فقدان النصّ أم إجماله أم تعارضه ، كما أوضحناه عند بيان ما يتعلّق بحجيّة القطع ، فراجع.

٢١٤

أفراد الغناء (١٢٩٧) الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة ، وبعض أفراد الخبائث الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض أفراده حتّى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن (١٢٩٨). وهذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي (١٢٩٩) ورد الأمر باجتنابها.

وهذه التفاصيل تستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها : منها قوله عليه‌السلام : «كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ، فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم. إلى أن قال : وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالا وحراما.

أقول : كأنّ مطلبه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقّف والاحتياط في مطلق الشبهة ؛ وإلّا فجريان أصالة الإباحة (١٣٠٠) في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.

______________________________________________________

١٢٩٧. المراد بالفرد هنا هو الفرد الإضافي ، ولذا جعل شرب التتن من أفراد الخبائث ، وبقوله : «واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة» هو اشتباه أصناف الغناء في أفراد إضافيّة يسيرة ، بمعنى عدم العلم بكون هذه الأفراد الإضافيّة من الصوت من أصناف الغناء وعدمه. وعلى هذا يكون المراد بالفرد والصنف وكذا النوع في قوله : «واشتبه أنواعه» أمرا واحدا. نعم ، الظاهر أنّ المراد بالنوع في قوله : «تحريم نوعه» معناه الظاهر منه.

١٢٩٨. يعني : من الأفراد المشتبهة للخبائث.

١٢٩٩. كالشبهة الحكميّة التحريميّة.

١٣٠٠. حاصله : أنّ مراده من الاستدلال بالأخبار المذكورة على البراءة في الشبهات الموضوعيّة هو توهّم اختصاصها بها ، وكونها مخصّصة لأخبار التوقّف والاحتياط ، وإلّا فلا يتمّ التفصيل بالقول بالاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة والبراءة في الشبهة الموضوعيّة ، لأنّ شمول الأخبار المذكورة للثانية لا ينفي شمولها للاولى أيضا ، فلو لا ما ذكرناه من دعوى الاختصاص والتخصيص لم يكن وجه

٢١٥

مع أنّ سياق أخبار التوقّف (١٣٠١) والاحتياط يأبى عن التخصيص (١٣٠٢) من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقّف والاحتياط ـ أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة ـ فحملها على الاستحباب أولى (١٣٠٣).

______________________________________________________

لتخصيص القول بالبراءة بالشبهات الموضوعيّة.

هذا ، ويمكن أن يقال : إنّ مراد المحدّث المذكور منع شمول أخبار التوقّف والاحتياط للشبهات الموضوعيّة ، وكذا منع شمول أخبار الإباحة للشبهات الحكميّة ، لا دعوى العموم للاولى وتخصيصها بالثانية ، كما يظهر بالتأمّل في الوجوه الآتية التي ذكرها بعد ذلك.

١٣٠١. يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده ـ أنّ أخبار التوقّف والاحتياط كما أنّها معارضة لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» كذلك معارضة لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». ومقتضى الجمع تخصيصها بكلّ منهما ، وهو غير صحيح ، لبقاء الأخبار المذكورة حينئذ بلا مورد ، لخروج الشبهات الحكميّة التحريميّة والموضوعيّة كذلك منها بما عرفت ، وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة مطلقا باتّفاق من الأخباريّين ، فلا بدّ من حمل تلك الأخبار على الاستحباب لتسلم من التخصيص الباطل.

١٣٠٢. لأنّ تعليل الحكم بعلّة عقليّة جارية في جميع الأفراد يأبى عن تخصيصه ببعضها ، لمنافاته لمقتضى العلّة.

١٣٠٣. هذا مناف لما تقدّم ، ويأتي من اختيار حملها على الطلب الراجح الشامل للوجوب والاستحباب ، إمّا على وجه الإرشاد كما صرّح به فيما تقدّم ، أو على وجه الأولويّة. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الحمل على الاستحباب أولى من ارتكاب التخصيص ، وإن كان الحمل على مطلق الطلب الراجح أولى منه.

فإن قلت : إنّ الحمل على الاستحباب أيضا محوج إلى ارتكاب التخصيص ، بإخراج ما يجب فيه الاحتياط من موارد العلم الإجمالي ، وجميع موارد الشبهات

٢١٦

ثمّ قال : ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات» ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس الحكم ؛ وإلّا لم يكن (١٣٠٤) الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر إلّا علّام الغيوب ، وهذا ظاهر واضح.

أقول : فيه ـ مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص (١٣٠٥) ـ أنّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلّتهم ظاهرة في حصر ما يبتلي به المكلّف من الأفعال في ثلاثة ، فإن كانت عامّة للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجي المردّد بين الحلال والحرام قسما رابعا ؛ لأنّه ليس حلالا بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم.

ولو استشهد بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه‌السلام : " إنّما الامور ثلاثة" ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ؛ إذ المحصور في هذه الفقرة الامور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.

وأمّا ما ذكره من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلّا علّام الغيوب ، ففيه :

______________________________________________________

الحكميّة قبل الفحص عنها ، لوجوب الاحتياط فيها حينئذ باتّفاق من الاصوليّين ، فكيف يكون الحمل على الاستحباب أولى؟

قلت : إنّ علّة الاستحباب ـ وهي التحرّز عن الحرام الواقعي ـ لا تنافي وجوب الاحتياط لعارض من جهة العلم الإجمالي أو عدم الفحص ، بخلاف الحكم بالرخصة وجواز الارتكاب ، وهو واضح.

١٣٠٤. يعني : أنّ المراد بخبر التثليث لو كان بيان حال الموضوعات لم يصحّ تثليث الامور ، لعدم علم أحد بالحلال البيّن والحرام البيّن. وهذا من مثله عجيب ، لأنّا لو سلّمنا عدم وجود الحلال البيّن في الخارج ، فكيف ينكر وجود الحرام البيّن كذلك؟

١٣٠٥. يعني : تخصيص الشبهات الموضوعيّة من العموم لأجل الأخبار المتقدّمة.

٢١٧

أنّه إن اريد (١٣٠٦) عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى. وإن اريد ندرتهما ففيه : أنّ الندرة (١٣٠٧) تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله (١٣٠٨) له مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلة للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّية المعلوم تحريمها.

ثمّ قال : ومنها ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والإباحة بسبب تعارض الأدلة وعدم النصّ ، وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ.

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الإباحة مع عدم ورود النهي وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقف والاحتياط ، إلّا أنّ الإنصاف أنّ دلالتها على الإباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب.

ثمّ قال : ومنها أنّ ذلك وجه للجمع بين الأخبار (١٣٠٩) لا يكاد يوجد وجه أقرب منه.

______________________________________________________

١٣٠٦. مضافا إلى أنّ ما ذكره إنّما يرد على تقدير دعوى اختصاص النبوىّ بالشبهات الموضوعيّة ، لا على تقدير دعوى عمومه لها وللحكميّة.

١٣٠٧. مضافا إلى أنّه إن اريد بالحلال البيّن ما علمت حلّيته في الواقع ، ففيه : أنّ مثله نادر في الأحكام أيضا في أمثال زماننا وإن اريد ما يعمّ ما قام عليه دليل الحلّية في الظّاهر ، ففيه : أنّ أمارات الحلّية ـ من اليد والسوق والبيّنة ونحوها ـ كثيرة أيضا في الشبهات الموضوعيّة.

١٣٠٨. لا يخفى أنّ الندرة إنّما لا تمنع من الشمول في العمومات دون المطلقات ، وكون ما نحن فيه من قبيل الأوّل ممنوع ، بل قد يقال بعدم شمول العموم أيضا للأفراد إلّا ندرة.

١٣٠٩. هذا ربّما ينافي ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله في بعض أجوبة أخبار التوقّف من منع الأظهريّة وقوّة دلالة أخبار البراءة.

٢١٨

أقول : مقتضى الإنصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب ممّا ذكره (١٣١٠).

ثمّ قال ما حاصله : ومنها : أنّ الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام بخلاف الشبهة في طريق الحكم ؛ لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ؛ لأنّه من علم الغيب فلا يعلمه إلّا الله ، وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه ، انتهى.

أقول ما ذكره من الفرق لا مدخل له (١٣١١) ؛ فإنّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه‌السلام ولا من غيره من الطرق المتمكّن منها ، والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام إنّما يجب فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر (*) الجاهل المتمكّن من العلم.

______________________________________________________

١٣١٠. لما أسلفه من إباء أخبار التوقّف والاحتياط عن التخصيص. مضافا إلى استلزام ما ذكره ارتكاب خلاف الظاهر في كلّ منها ومن أخبار البراءة ، كما هو واضح. مع أنّ حمل قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» على الشبهة الموضوعيّة فاسد جدّا ، وإن زعمه المحدّث المذكور.

١٣١١. الظاهر أنّ وجوب الاحتياط والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام إنّما هو فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع ، وعدم وجوب ذلك في الشبهات الموضوعيّة الابتدائيّة إنّما هو لعدم تعلّق التكليف فيها بالواقع ، ولذا لا يجب فيها الرجوع إلى الأمارات الممكنة أيضا. وهذا أيضا هو المعيار في الشبهات الحكميّة ، فإن ثبت التكليف فيها بالواقع وجب فيها الاحتياط والرجوع إلى الإمام عليه‌السلام وإلّا فلا.

ويمكن أن يقال : إنّ المقصود ممّا ذكره المحدّث المذكور ليس بيان الفرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة من حيث وجوب الاحتياط في الاولى دون الثانية ، بل مقصوده بيان أنّه قد ورد الأمر في غير واحد من أخبار التوقّف والاحتياط

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فيه.

٢١٩

وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه‌السلام (١٣١٢) من حيث العموم والخصوص ،

______________________________________________________

بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام في إزالة الشبهة ، وهذا دليل على اختصاصها بالشبهات الحكميّة ، وعدم شمولها للشبهات الموضوعيّة ، لعدم وجوب السؤال عنها.

لكن يرد عليه حينئذ : أنّ هذا الوجه وإن كان متّجها ، إلّا أنّ الأمر المذكور كما أنّه قرينة لما ذكر ، كذلك قرينة لاختصاص الأمر بالاحتياط فيها بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ونحوه ، فلا تشمل صورة عدم التمكّن منه ، كما هو الفرض فيما نحن فيه.

١٣١٢. في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ذكر الحاكم أبو سعيد الخثعمي في تفسيره أنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة إنّ الأئمّة يعلمون الغيب. وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحدا منهم ـ بل أحدا من أهل الإسلام ـ يصف أحدا من الناس بعلم الغيب ، ومن وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإماميّة براء من هذا القول ، فمن نسبهم إلى ذلك فالله بينه وبينهم» انتهى.

وقد أورد المرتضى في تنزيه الأنبياء سؤالا في خروج الحسين عليه‌السلام من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة ، مع استيلاء أعدائه عليها ، وكون يزيد لعنه الله منبسط الأمر والنهي. وأجاب عن ذلك بما حاصله : غلبة ظنّه بوصوله إلى حقّه والقيام بما فوّض إليه ، وإن كان فيه ضرب من المشقّة ، لأجل ما وصل إليه من أهل الكوفة من العهود والمواثيق والمكاتبات.

أقول : هذا الوجه وإن كان مخالفا لأخبار كثيرة ظاهرة أو صريحة في علمه عليه‌السلام بما يرد عليه من أهل الكوفة بإخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، إلّا أنّ فيه اعترافا بعدم علم الإمام بجميع ما يرد عليه. وقد أسلفنا شطرا من الكلام في مقصد حجيّة القطع فيما يتعلّق بسهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولا ريب أنّ التوقّف ـ كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ

٢٢٠