فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه في أنّ العقاب فيه على تقدير المخالفة على السفر خاصّة ، وفيما نحن فيه على تقدير وجوب الاحتياط شرعا لو خالفه على كلّ من ترك الاحتياط والواقع لو فرضت مخالفة عمله له ، فيعاقب عقابين ، أحدهما لترك الاحتياط ، والآخر لمخالفة الواقع.

ثمّ إنّا لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب شرعا بواسطة حكم العقل لا نقول به فيما نحن فيه ، لوضوح الفرق بين المقدّمات الوجوديّة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، والمقدّمات العلميّة كالإتيان بجميع أطراف الشبهة لتحصيل العلم بالواقع ، لكون الاولى مقدّمة لنفس الواجب ، فلا يبعد إلزام العقل بملاحظة خطاب الشارع بالإتيان بها ، بخلاف الثانية ، لفرض كونها مقدّمة للعلم بحصول الواجب في الخارج لا لنفسه ، لإمكان حصوله بدونه كما لا يخفى ، فحكم العقل بالإتيان بها إنّما هو لمجرّد الإرشاد إلى التحرّز عن احتمال ترك الواجب الواقعي الموعود بالعقاب عليه كما أسلفناه. وأمّا الاستصحاب فمن وجهين :

أحدهما : أنّ الظاهر المتبادر من حكم العقل حيث يطلق هو حكمه على سبيل القطع والجزم ، ولا ريب في عدم حكمه ببقاء الحالة السابقة كذلك في الاستصحاب ، لكون حكمه فيه ظنيّا كما هو واضح ، فلا ينطبق عليه ما تقدّم من تعريف الدليل العقلي.

وثانيهما : ـ مع تسليم كونه أعمّ من القطعي والظنّي ـ أنّ المعتبر في حكم العقل حصوله من مقدّمتين ، إحداهما عقليّة أو عاديّة ، وهي الصغرى ، والاخرى : عقليّة محضة ، وهي الكبرى ، فيقال : هذا ظلم ، وكلّ ظلم قبيح ، بخلاف الاستصحاب ، فإنّ الصغرى فيه ـ أعني قولنا : إنّ هذا الحكم كان محقّقا سابقا ـ مستفادة من الشرع ، وإن كانت كبراها ـ أعني قولنا : كلّ ما هو كذلك فهو مظنون البقاء ـ مستندة إلى العقل ، والنتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها ، فإذا كانت إحداهما شرعيّة لا تكون النتيجة عقليّة ، كما أنّه لو كانت إحداهما ظنّية لا تكون النتيجة قطعيّة ،

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ لا ينطبق عليه تعريف الحكم العقلي. ولأجل ذلك قد ذكر الأكثر المفاهيم في مباحث الألفاظ دون الأدلّة العقليّة ، لكون الصغرى فيها مستندة إلى اللفظ ، لأنّه يقال فيها : إنّ هذا الحكم لازم لمنطوق هذا اللفظ بالدلالة الالتزاميّة ، وكلّ ما هو كذلك فهو مقصود للمتكلّم. وكذلك مقدّمة الواجب ، لكون الصغرى فيها أيضا مستندة إلى الخطاب الشرعيّ ، لأنّه يقال فيها : إنّ هذا ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب ، وكلّ ما هو كذلك فهو واجب.

والحاصل : أنّ ذكرهم المفاهيم ، وكذا مقدّمة الواجب ، وكذلك اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، في مباحث الألفاظ إنّما هو من جهة عدم كون الصغرى فيها مستندة إلى العقل ، فلا ينطبق عليها تعريف الدليل العقلي بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ. وما نحن فيه أيضا كذلك ، فلا وجه لإدراجه في الأدلّة العقليّة.

وأمّا التخيير فلأنّه في حكم الاحتياط ، من حيث كونه من قبيل امتثال التكليف المعلوم إجمالا ، فلا يتعلّق به خطاب شرعيّ كما تقدّم ، لرجوعه إلى الاقتناع ببعض محتملات الواقع المعلوم إجمالا فيما لا يمكن فيه الاحتياط ، أو هو راجع إلى البراءة ، لأنّ مرجعه إلى نفي احتمال تعيين أحد الطرفين كما قدّمناه ، فيأتي فيه ما قدّمناه في أصالة البراءة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه حقّية ما أسلفناه من فساد إدراج الاصول الأربعة في الأدلّة العقليّة. اللهمّ إلّا أن يحمل ذلك منهم على التسامح ، بأن يقال في أصالة البراءة : إنّ العقل في مشتبه الحكم الواقعي وإن لم يحكم بشيء من الأحكام الخمسة ، إلّا أنّ إدراجها في الأدلّة العقليّة لأجل المسامحة في إطلاق الحكم المأخوذ في تعريف الدليل العقلي بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، بأخذه في الموضعين أعمّ من إثبات حكم ونفيه ، ولا ريب في حكم العقل بنفي التكليف في مقام الظاهر في موارد الشبهة التكليفيّة ، فبهذا الاعتبار يصحّ إدراجها في الأدلّة

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العقليّة.

وأمّا الاحتياط فإدراجه فيها لوجهين :

أحدهما : أخذ الحكم العقلي وكذا الشرعيّ في تعريف الدليل العقلي أعمّ من الإرشادي والمولوي ، ولا ريب أنّ العقل إذا حكم بوجوب الاحتياط إرشادا يحكم به الشرع أيضا كذلك ، إذ قد عرفت أنّ الممنوع منه فيه حكم الشارع بأمر مولوي لا إرشادي.

وثانيهما : كون وجوب الاحتياط شرعيّا ، كما هو ظاهر المشهور ، حيث لا يفرّقون في رسائلهم العمليّة بين ما ثبت وجوبه بقاعدة الاشتغال وغيره.

وأمّا الاستصحاب فإدراجه فيها إمّا بملاحظة قلّة الأحكام العقليّة ، لأنّ الأحكام الشرعيّة لمّا كانت كثيرة بالنسبة إليها فأدرجوا الاستصحاب في العقليّات ، نظرا إلى كونه مستندا إلى العقل في الجملة. وإمّا لأنّ العمدة في تحصيل النتيجة هي الكبرى ، وكانت الكبرى في الحكم الثابت بالاستصحاب عقليّة كما تقدّم ، فأدرجوه فيها. وأمّا التخيير فيظهر الوجه فيه ممّا قدّمناه في الاحتياط.

الأمر الثاني : في بيان المراد بأصالة البراءة. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «الأصل يطلق في مصطلحهم على معان كثيرة مرجعها إلى أربعة : الدليل ، والقاعدة ، والاستصحاب ، والراجح. وهو هنا ـ يعني : في أصالة البراءة ـ قابل لثلاثة منها. الأوّل : استصحاب البراءة السابقة في حال الصغر أو الجنون ، أو حال علم فيها عدم اشتغال الذمّة بشيء ، مثل البراءة عن المهر قبل النكاح. والثاني : القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلّا بعد البيان. الثالث : أنّ الراجح عند العقل براءة الذمّة إن جعلنا الراجح من معاني الأصل أعمّ من المتيقّن والمظنون» انتهى ملخّصا.

وقال في الفصول : «الأصل يطلق في عرفهم غالبا على معان أربعة : القاعدة ، والدليل ، والاستصحاب ، والراجح. والمراد به هنا ـ يعني : أصالة البراءة ـ هو المعنى الأوّل ، أعني : القاعدة. فالمعنى : القاعدة المحرّرة في البراءة أو للبراءة ، دون

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الدليل ، لعدم ملائمته للمقام ، فإنّ البحث هنا عن مدلوله لا عن نفسه. ودون الاستصحاب وإن كان من جملة أدلّته ، لاختلاف مدارك المسألتين وأقوالهم فيهما. ودون الراجح ، لأنّ المراد به المظنون ، إذ المقطوع به لا يسمّى أصلا في اصطلاحهم. ولا خفاء في أنّ البراءة إن قيست إلى الواقع فقد لا يكون ظنّ بها ، وإن قيست إلى الظاهر فهي مقطوع بها. ولئن سلّم أنّ معناه الأعمّ فإنّما يصحّ على الظاهر اعتباره في التركيب الحملي كما ذكره الشهيد الثاني ، دون الإضافي كما زعمه الفاضل المعاصر» انتهى.

وقال في موضع آخر : «الثاني ـ يعني من أدلّة البراءة ـ استصحاب البراءة الثابتة في حال الصغر وشبهه ، فإنّ قضيّة عموم أدلّته كما سيأتي عدم اختصاص مورده بغير البراءة. ولا يخفى أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ بين مورد الاستصحاب وبين مورد أصل البراءة عموم من وجه ، لجريان الاستصحاب في غير البراءة ، وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدّم براءة ، كمن علم بوقوع جنابة وغسل عمّا في الذمّة منه وشكّ في المتأخّر ، فإنّ قضيّة أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين واللبث في المساجد وقراءة العزائم عليه ، مع أنّه لا مسرح للاستصحاب فيها» انتهى.

وممّا ذكره يظهر ضعف ما تقدّم من المحقّق القمّي رحمه‌الله من صحّة إرادة معنى الاستصحاب من الأصل في المقام مطلقا.

وقال في الضوابط في مقام بيان مادّة الافتراق من جانب البراءة : «إنّا نرى تمسّكهم بأصل البراءة فيما لا يصلح فيه الاستصحاب ، كما في مسألة تبعيّة القضاء للأمر الأوّل أو للفرض الجديد ، فالمعظم على الثاني ، لأصالة البراءة ، مع أنّه لا معنى لاستصحاب البراءة هنا لو لم نقل إنّ الاستصحاب يقتضي الخلاف» انتهى. ويظهر هذا أيضا من المحقّق القمّي رحمه‌الله في مسألة تبعيّة القضاء للأمر الأوّل وعدمها.

هذا ، ويرد على ما ذكره في الفصول أنّه إن أراد عدم صلاحيّة المثال المذكور

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

للاستصحاب أصلا ، ففيه : أنّه لا وجه لمنع جريان استصحاب الجنابة والطهارة معا ، غاية الأمر أن يكون هنا أصلان متعارضان ، لا عدم كونه موردا للاستصحاب أصلا. وإن أراد عدم تحقّق استصحاب مثمر في مقام العمل ، ففيه : أنّ الشبهة في المثال موضوعيّة ، لأنّ مرجعها إلى الشكّ في كون المكلّف على الجنابة أو الطهارة. وحينئذ إن أراد عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات المشتبهة مطلقا فهو متّضح الفساد ، إذ لا ريب في جواز استصحاب حياة زيد عند الشكّ في موته ، وبقاء الخلّ على حالته الاولى عند الشكّ في انقلابه خمرا.

وإن أراد عدم جريانه في خصوص المثال كما هو ظاهر كلامه ، ففيه : أنّه لا شكّ في عدم تعلّق الخطابات الشرعيّة ـ التي منها عدم جواز الجواز من المسجدين واللبث في المساجد للجنب ـ بالمكلّف في حال الصغر والجنون ، والمتيقّن من انقطاع هذه الحالة بعد البلوغ والإفاقة هي صورة العلم بالجنابة تفصيلا لا مع الشكّ فيها ، وإن علم إجمالا بوقوع أحد الأمرين منها ومن الطهارة. وحينئذ يصحّ استصحاب العدم السابق إلى زمان الشكّ ، وإن لم يصحّ استصحاب خصوص إحداهما لأجل المعارضة.

وأمّا ما ذكره في الضوابط فيرد عليه : منع عدم صحّة استصحاب العدم فيما شكّ في كون القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد ، لأنّا لو قلنا بكونه بالأمر الأوّل فالأداء والقضاء تكليفان متغايران ، ودلالة الأمر الأوّل عليهما من قبيل تعدّد الدالّ والمدلول ، لأنّ مطلوبيّة إيجاد الطبيعية في خارج الوقت على تقدير الإخلال بها في الوقت مستفادة من الخارج ، ومع الشكّ في التكليف الثاني يستصحب العدم السابق الثابت في حال الصغر. ولا وجه لاستصحاب التكليف الثابت في الوقت كما زعمه ، لاحتمال كون الإتيان به في الوقت مأخوذا في موضوعه ، فلا يكون الموضوع حينئذ محرزا حتّى يصحّ التمسّك بالاستصحاب.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الحقّ اتّحاد أصالة البراءة واستصحابها بحسب الموارد و

٢٥

لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ ، والأوّل هو مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة. وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ موارد الاصول قد تتداخل ؛ لأنّ المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقّنة ، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

______________________________________________________

إن اختلفا بحسب المفهوم ، إذ المناط في حكم العقل بالبراءة هو مجرّد الشكّ في التكليف مع قطع النظر عن الحالة السابقة ، وفي الاستصحاب هو اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها ، فهما مختلفان مفهوما وإن اتّحدا موردا. وإن كان هذا خلاف المشهور ، إذ المعروف بين العلماء كون البراءة قسما من الاستصحاب ، فلاحظ المحقّق حيث قسّم في الفصل الثالث من مقدّمات المعتبر الاستصحاب إلى ثلاثة أقسام : استصحاب حال العقل ، وفسّره بالبراءة الأصليّة ، واستصحاب حال الشرع ، وهو أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب انتفائه.

وذكر الشهيد في الذكرى أصل البراءة في الأدلّة النقليّة وقال : ويسمّى استصحاب حال العقل. وقال الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : استصحاب الحال هو أربعة أقسام ، أحدها : استصحاب النفي في الحكم الشرعيّ إلى أن يرد دليل ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة. وقريب منه في قواعد الشهيد.

وفي المعارج : أطبق العلماء على أنّ مع عدم الدلالة الشرعيّة يجب إبقاء الحكم على ما يقتضيه البراءة الأصليّة ، ولا معنى للاستصحاب إلّا هذا. فإن قال : ليس هذا استصحابا ، بل هو إبقاء الحكم على ما كان ، لا حكما بالاستصحاب. قلنا : نحن نريد بالاستصحاب هذا القدر.

وقال في المعتبر : وأمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة ، استصحاب حال العقل ، و

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

هو التمسّك بالبراءة الأصليّة. وقد اقتنع في المعالم عن عنوان مسألة البراءة بمبحث الاستصحاب ، إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة أو الظاهرة في كون أصالة البراءة قسما من الاستصحاب.

وكيف كان ، فقد ظهر لك عدم صحّة أخذ أصالة البراءة بمعنى الاستصحاب كما توهّمه المحقّق القمي رحمه‌الله. وأمّا أخذها بمعنى الراجح ـ أعني : الظنّ ـ فهو أيضا غير صحيح ، لأنّ أصالة البراءة المبنيّة على قبح العقاب بلا بيان إن قيست إلى الواقع فهي لا تفيد الظنّ ، وإن قيست إلى الظاهر فهي تفيد القطع دون الظنّ. ومن هنا جاز العمل بها مع الظنّ غير المعتبر على خلافها.

وأمّا أخذها بمعنى الدليل فهو أيضا غير صحيح كما تقدّم في كلام صاحب الفصول. وحينئذ لا بدّ أن يؤخذ بمعنى القاعدة ، وهي حكم العقل على سبيل القطع بعدم التكليف ظاهرا عند الشكّ فيه بحسب الواقع ، لاستقلاله بقبح التكليف بلا بيان وهذه القاعدة مطّردة في جميع موارد استصحاب النفي وإن تغايرا مفهوما ، فتأمّل ، لأنّ كلمات القوم غير محرّرة في المقام.

ثمّ اعلم أنّ هاهنا اصولا أخر سوى الاصول الأربعة العمليّة ، قد تداولت بينهم ، واستعملوها في كتبهم ، مثل كون عدم الدليل دليل العدم ، والبناء على الأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، وعلى الأخفّ عند دوران الأمر بينه وبين الأثقل ، وغيرها. وهي إن رجعت إلى أحد الأربعة المذكورة فهو ، وإلّا فلا دليل عليها. نعم ، أصالة الإباحة معتبرة في نفسها ، ومغايرة للأربعة المذكورة. وقد ذكروا في التفصّي عن الإشكال الوارد على البحث عنها بعنوان مستقلّ في الكتب الاصوليّة ، بكون البحث عن أصالة البراءة مغنيا عنها من حيث كونها أعمّ منها ، وجوها كثيرة. وأرى ترك التعرّض لها وتمييز صحيحها عن سقيمها أولى ، لأنّ الاشتغال بالأهمّ فالأهمّ هو الأهمّ ، وإن كان التعرّض لها ، بل بسط الكلام في تحقيق ما هو الأحقّ بالقبول منها في مسألة أصالة الإباحة مناسبا للمقام ، وفّقنا الله

٢٧

ثمّ إنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين : أحدهما : حكم الشكّ (١٠٩٧) في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع إلى الاصول الثلاثة. الثاني : حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل (١٠٩٨)

______________________________________________________

لما هو الأوفق بالمرام.

١٠٩٧. الوجه في إدراج مسألتي أصالة التخيير والاشتغال في مسألة البراءة وإفراد مقام آخر للاستصحاب : أنّ أصالة التخيير راجعة إلى أصالة البراءة ، لكون مرجعها إلى أصالة البراءة عن التعيين ، وأنّ حكم أصالة الاشتغال معلوم من حكم أصالة البراءة بالمقابلة ، نظرا إلى أنّ كلّ مورد لم يكن موردا للبراءة فهو مورد للاشتغال.

١٠٩٨. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد ذكر أقسام موارد الشكّ البدوي هنا ، مع إدراج بعضها في بعض تقليلا للأقسام ، وأقسام الشكّ المشوب بالعلم الإجمالي في الموضع الثاني. ونحن نذكر جميعها هنا مع إضافة بعض آخر إليها ، ليكون الشروع في المقصد على زيادة بصيرة ، وإن احتجنا إلى حذف بعض الأقسام أيضا خوفا من الإطالة المخلّة ، فنقول مستمدّا من الله تعالى : إنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول إمّا أن يكون متعلّقا بالموضوع أو الحكم. وبعبارة اخرى : إمّا بالمصداق أو المراد.

والمراد بالأوّل ما كان منشأ الشبهة فيه اختلاط امور خارجة بحيث لو تبدّل الشكّ فيه بالعلم لا يحتاج في معرفة حكمه إلى بيان الشارع ، مثل المائع المردّد بين الخمر والخلّ ، لأنّا لو علمنا بكونه أحدهما علمنا حكمه من الحلّ أو الحرمة. وبالجملة ، إنّ المراد به الشكّ المتعلّق بالموضوعات الصرفة.

والمراد بالثاني ما كان الشكّ فيه في مراد الشارع ، إمّا من جهة الموضوع مثل حرمة الغناء المردّد مفهومه بين الصوت المطرب والصوت مع الترجيع ، وإمّا من

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة المحمول كالشكّ في حرمة شرب التتن ، وإمّا من الجهتين كالمثال الأوّل إذا فرض الشكّ فيه في الحكم أيضا.

وعلى كلّ من القسمين ، إمّا أن يكون الشكّ مشوبا بالعلم الإجمالي ، وإمّا أن يكون بدويّا. والمراد بالأوّل ما علم فيه سنخ التكليف وحصل الشكّ في متعلّقه ، كالظهر والجمعة اللتين علم وجوب أحدهما ، إجمالا والإنائين اللذين علمت حرمة شرب أحدهما كذلك ، لا ما علم جنس التكليف الإلزامي فيه وتردّد بين نوعيه من الوجوب والحرمة. والمراد بالثاني ما حصل الشكّ فيه في سنخ التكليف الإلزامي وإن علم جنسه ، كما يظهر بالمقايسة. وبضرب هذين القسمين في السابقين ترتقي الأقسام إلى أربعة ، أعني : الشبهة الموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كما في الشبهة المحصورة. وكذا البدويّة ، مثل المائع المردّد بين الخمر والخلّ. والشبهة الحكميّة المشوبة بالعلم الإجمالي ، كالواجب المردّد بين الظهر والجمعة. وكذا البدويّة ، مثل شرب التتن المردّد حكمه بين الحرمة والإباحة.

ثمّ إنّه مع العلم الإجمالي بالتكليف إمّا أن يدور الأمر بين المتباينين ، أو بين الأقلّ والأكثر. والمراد بالتباين أعمّ من الحقيقي والحكمي. والأوّل مع كون الشبهة في الموضوع مثل الشبهة المحصورة ، ومع كونها في الحكم مثل الظهر والجمعة على ما عرفت. والمراد بالتباين الحكمي ما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير. والمراد بالتخيير أعمّ من الشرعيّ والعقلي. والأوّل مثل ما لو ثبت من الشرع وجوب عتق رقبة ، ودار الأمر فيه بين تخيير الشارع بين أفرادها وإرادة فرد خاصّ منها كالمؤمنة. والثاني مثل ما لو ثبت شرعا وجوب عتق رقبة ، ودار الأمر بين إرادة الطبيعة ـ التي لازمها تخيّر المكلّف عقلا بين أفرادها ـ وبين إرادة فرد خاصّ منها. وهذان المثالان من قبيل الشكّ في الحكم ، من جهة الشكّ في موضوعه ، مع العلم الإجمالي بالتكليف ، مع دوران الأمر بين المتباينين حكما ، وكون التخيير شرعيّا على الأوّل وعقليّا على الثاني.

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا ما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، فاعلم أنّهما إمّا ارتباطيّان أو غيره. والثاني خارج من هذا التقسيم المختصّ بما كان الشكّ فيه مشوبا بالعلم الإجمالي الذي مرجعه إلى الشكّ في المكلّف به ، لانحلال العلم الإجمالي فيه إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فيدخل في قسم الشكّ في التكليف دون المكلّف به.

والمراد بالارتباطي عدم إجزاء الأقلّ ولو بقدره على تقدير كون المطلوب في الواقع هو الأكثر ، وبغير الارتباطي ما كان على عكسه. والأوّل مثل الشكّ في بعض أجزاء الصلاة وشرائطها ، والشكّ في حرمة تصوير أعضاء الحيوان مع العلم بحرمة تمام الصورة. والثاني مثل دوران الأمر في الفائتة بين الأربع والخمس ، وفي الدين بين درهم ودرهمين ، وفي ولوغ الكلب بين ثلاث غسلات وسبع ، وفي بعض صور منزوحات البئر بين ثلاثين وأربعين والأوّلان من قبيل الشبهة الموضوعيّة ، والأخيران من قبيل الحكميّة. والجميع من قبيل الشكّ في التكليف دون المكلّف به ، لكون وجوب الأقلّ معلوما تفصيلا ، ووجوب الأكثر مشكوكا من رأس ، ولذا أخرجنا هذا القسم من أقسام الشكّ في المكلّف به. ومثله الأقلّ والأكثر الارتباطيّان مع كون الشبهة تحريميّة ، مثل ما عرفت من مثال حرمة تصوير الصورة ، لكون حرمة الأكثر فيه معلومة ، وحرمة الأقلّ مشكوكة من رأس. ولا فرق فيه بين الأقسام الثلاثة الآتية للشبهة الحكميّة ، أعني : ما كانت الشبهة فيه ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه ، وبين الشبهة الموضوعيّة ، بخلاف ما لو كانت الشبهة فيه وجوبيّة ، لعدم وجود قدر متيقّن حينئذ كما لا يخفى.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الباقي من أقسام الشكّ في المكلّف به أربعة ، وهي الشبهة الحكميّة والموضوعيّة مع دوران الأمر فيهما بين المتباينين ، أو الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، مع كون الشبهة فيهما وجوبيّة ، وبضمّها إلى قسمي الشكّ في التكليف ترتقي الأقسام إلى ستّة.

٣٠

فيقع الكلام فيه في موضعين : لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف وهو النوع الخاصّ من الإلزام وإن علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم. وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ، كما إذا علم وجوب شيء وشكّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتة وتردّدت بين الظهر والمغرب.

والموضع الأوّل يقع الكلام فيه في مطالب ؛ لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه

______________________________________________________

ثمّ إنّ صور الشكّ كثيرة ، لأنّه تارة يكون ثنائيّا ، واخرى ثلاثيّا ، وثالثة رباعيّا ، ورابعة خماسيّا ، لأنّه مع الشكّ في التكليف أو المكلّف به ربّما يدور الأمر بين حكمين من الأحكام الخمسة ، وتارة بين ثلاثة منها ، وهكذا. ولكنا اقتصرنا منها على بيان بعض الصور الثنائيّة كما ستعرفه ، تقليلا للأقسام ، مع كون الأحكام الباقية معلومة ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله من أحكامها.

ثمّ إنّه على جميع التقادير : إمّا أن يكون الأمر دائرا بين الوجوب وغير الحرمة ، أو الحرمة وغير الوجوب ، أو يدور الأمر بينهما. وبضرب الثلاثة في الستّة ترتقي الأقسام إلى ثمانية عشر قسما ، ستّة منها للشكّ في التكليف ، والباقي للشكّ في المكلّف به.

ثمّ إنّ هنا تقسيما آخر مختصّا بأقسام الشبهة الحكميّة ، وهي تسعة من الثمانيّة عشر ، وهو أنّ الشبهة في الحكم إمّا أن تكون لأجل فقدان النص في المسألة كشرب التتن ، أو لأجل تعارض النصّين مثل الظهر والجمعة ، أو لأجل إجماله كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) بناء على كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح. وبضرب هذه في التسعة المذكورة تحصل سبعة وعشرون قسما. وبضمّ أقسام الشبهة الموضوعيّة ـ وهي التسعة الباقية ـ ترتقي الأقسام إلى ستّة وثلاثين قسما. والمراد بفقدان النصّ أعمّ من عدم وجود دليل في المسألة أصلا ، ومن وجود أمارة غير معتبرة ، كالشهرة وقول الفقيه ونحوهما.

٣١

بالوجوب ، وصور الاشتباه كثيرة. وهذا مبنيّ على اختصاص (١٠٩٩) التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ، ولو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ؛ فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثمّ إنّ متعلّق التكليف المشكوك إمّا أن يكون فعلا كلّيا متعلّقا للحكم الشرعيّ الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه ، وإمّا أن يكون فعلا جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئي ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.

______________________________________________________

١٠٩٩. يعني : حصر موارد الاشتباه في الثلاثة. قال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «وهذا الإطلاق ـ يعني : إطلاق أصالة البراءة بمعنى استصحابها ـ إنّما يناسب بالنسبة إلى ما شكّ في تحريمه أو وجوبه ، لأنّ اشتغال الذمّة لا يكون إلّا بالتكليف ، والتكليف منحصر فيهما» انتهى.

وقال بعض الأفاضل بعد نقله عنه : «ولعلّه ناظر إلى ما قيل من أنّ التكليف مأخوذ من الكلفة ، ومعناه الإلقاء في المشقّة ، ولا يصدق على غيرهما. وضعفه ظاهر ، لأنّ ذلك معنى التكليف لغة ، وأمّا في الاصطلاح فهو أعمّ من ذلك قطعا ، لأنّه يتناول الوجوب والحرمة بأنواعهما قولا واحدا ، ومن الواضح أنّه لا يكون كلفة فيهما. وكان المتداول في كلامهم استعمال أصل البراءة في نفي الوجوب وأصل الإباحة في نفي التحريم والكراهة ، والتعميم أولى بالمقام ، لصلوح اللفظ له بالمعنى الذي ذكرناه ، مع اشتراك الجميع في الأدلّة» انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره وإن كان متّجها بحسب استعمال أصالة البراءة في مواردها في كلمات العلماء ، إلّا أنّه لم يقم دليل على اعتبارها بهذا الإطلاق ، لأنّ غاية ما دلّ عليه الدليل العقلي المستدلّ به عليها والمنساق من الأدلّة اللفظيّة ـ كما سيجيء في محلّه ـ هو مجرّد نفي العقاب على مخالفة التكليف المحتمل مع عدم وصول البيان من الشارع ، لا نفي التكليف المحتمل في الواقع حتّى يقال : إنّه أعمّ من

٣٢

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني : اشتباه الامور الخارجيّة. ومنشؤه في الأوّل : إمّا أن يكون عدم النصّ (١١٠٠) في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمال النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (٣) بين التشديد والتخفيف مثلا ، وإمّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات (١١٠١).

وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب : الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية. الثاني : دورانه بين الوجوب وغير التحريم. الثالث : دورانه بين الوجوب والتحريم.

فالمطلب الأوّل فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب وقد عرفت : أنّ متعلّق الشكّ تارة الواقعة الكلّية كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه ، واخرى الواقعة الجزئيّة. فهنا أربع مسائل : الاولى ما لا نصّ فيه.

وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين (١١٠٢):

______________________________________________________

الوجوب والحرمة وغيرهما.

١١٠٠. لعلّ المراد بالنصّ هو مطلق الدليل الشامل للإجماع وغيره أيضا ، وإلّا فلا اختصاص لموارد البراءة بموارد فقدان النصّ فقط ، ولعلّ تخصيصه بالذكر لأجل كون بيان الأحكام به غالبا.

١١٠١. كذلك بناء على عدم تواترها مع ثبوت جواز الاستدلال بكلّ قراءة من السبعة ، كما أشار إليه في مبحث حجّية الظنّ ، فراجع.

١١٠٢. لعلّ التعبير بهذه العبارة إشارة إلى ضعف ما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث نسب القول بالتفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ـ بالقول بالبراءة في الأوّل دون الثاني ـ إلى المحقّق في المعتبر.

ووجه الضعف : أنّ المحقّق إنّما فصّل بذلك بالنسبة إلى كون عدم الدليل دليل العدم ، وقد تقدّم في الحواشي السابقة ـ عند بيان الفرق بين أصالة البراءة و

٣٣

أحدهما : إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك. والثاني : وجوب الترك ، ويعبّر عنه بالاحتياط. والأوّل منسوب إلى المجتهدين ، والثاني إلى معظم الأخباريّين. وربّما نسب إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقّف ، والاحتياط. ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان ، ويحتمل الفرق بينها أو بين بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلّة الأخباريّين.

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة : فمن الكتاب آيات : منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (٤) (١١٠٣). قيل : دلالتها واضحة (٥). وفيه : أنّها غير ظاهرة ؛ فإنّ حقيقة الإيتاء : الإعطاء ، فإمّا أن يراد بالموصول المال ـ بقرينة قوله تعالى

______________________________________________________

سائر الاصول ـ مغايرة هذا الأصل عندهم لأصالة البراءة. مع أنّ المقصود في المقام بيان حكم ما اشتبه حكمه الواقعي ـ أعني : الحرمة ـ في مقام الظاهر ، وأنّه هي البراءة أو الاحتياط. والأصل المذكور وإن سلّمنا اندراجه في أصالة البراءة ، إلّا أنّه يفيد نفي الحكم فيما يعمّ به البلوى بحسب الواقع دون الظاهر ، فلا دخل له فيما نحن فيه. فالأولى حصر القول في المقام في البراءة والاحتياط.

١١٠٣. هذه الآية في سورة الطلاق. وتقريب الدلالة : أنّ المراد بالإيتاء إمّا هو الإعلام ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم» وإمّا الإقرار ، كما هو صريح الطبرسي. فهي تدلّ على الأوّل على نفي التكليف قبل وصول الإعلام والبيان من الله سبحانه ، وعلى الثاني على نفي التكليف عن غير المقدور ، لأنّ المعنى حينئذ : لا يكلّف الله نفسا إلّا ما أقدرها عليه ، والتكليف بالمجهول تكليف بغير المقدور ، فيكون منفيّا بحكم الآية.

وأمّا ما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله بأنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، فيرد عليه : أنّه إن أراد ذلك عقلا فمسلّم إلّا أنّه غير مجد ، لأنّ الخطابات الشرعيّة واردة على متفاهم العرف ، فيكفي في الاستدلال بها كون الفعل غير مقدور في نظر

٣٤

قبل ذلك : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٦) ـ فالمعنى : أنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد إلّا دفع ما اعطي من المال. وإمّا أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه بقرينة إيقاع التكليف عليه ، فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه ، فتدلّ على نفي التكليف بغير المقدور كما ذكره الطبرسي (٧) قدس‌سره ، وهذا المعنى أظهر وأشمل ؛ لأنّ الإنفاق من الميسور داخل في «(مِمَّا آتاهُ اللهُ)». وكيف كان : فمن المعلوم أنّ ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ؛ وإلّا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين ، وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه. نعم ، لو اريد من الموصول نفس الحكم والتكليف ، كان إيتائه عبارة عن الإعلام به ، لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية ، وإرادة الأعمّ

______________________________________________________

عامّة الناس ، وما نحن فيه كذلك كما ستعرفه. وإن أراد ذلك في نظر العامّة فهو ممنوع.

وتوضيح المقام : أنّ خروج الفعل من قدرة المكلّف تارة يكون عقليّا ، واخرى عرفيّا ، بمعنى كونه كذلك في نظر أهل العرف وإن لم يكن كذلك عقلا. ومن هذا القبيل أمر الموالي عبيدهم بما لم يكن لهم طريق إلى امتثاله ، إذ لا ريب في عدّ مثل ذلك عندهم من قبيل التكليف بغير المقدور. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ لو تنجّز التكليف بالواقع فيما يحتمل التحريم عدّ ذلك أيضا تكليفا بغير مقدور ، إذ الفرض عدم ثبوت وجوب الاحتياط حتّى يقال إنّه طريق ظاهري في الشبهات. ومجرّد حسن الاحتياط عقلا وشرعا لا يصلح أن يكون طريقا لامتثال التكليف المفروض تنجّزه في الواقع ، إذ غايته جواز الاحتياط ، وهو لا يصلح طريقا لذلك.

وبالجملة ، إنّ وجه الاستدلال أنّ المراد بالموصولة إمّا هو الحكم ، والمراد بإيتائه إعلامه ، كما ترشد إليه الرواية المتقدّمة ، إلّا أنّه يشكل بعدم شمول الآية حينئذ لموردها ، كما أفاده المصنّف رحمه‌الله. وإمّا نفس الفعل والترك ، والإيتاء وإن كان حقيقة في الإعطاء إلّا أن إيتاءهما كناية عن الإقدام عليهما. والمعنى : لا يكلّف الله نفسا إلّا بفعل أقدرها عليه ، فما هو غير مقدور للمكلّف لا يكلّف به ، وهو

٣٥

منه ومن المورد تستلزم استعمال الموصول في معنيين ؛ إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل (*) المحكوم عليه ، فافهم.

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قلت له : هل كلّف النّاس بالمعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان ؛ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ

______________________________________________________

أعمّ ممّا كان غير مقدور بالذات كالطيران إلى السماء ، أو بالعرض كما فيما نحن فيه على ما عرفت. وعليه ، تكون الآية عامّة لمواردها أيضا ، وهو خصوص المال ، كما يرشد إليه قوله سبحانه قبلها : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) لأنّ المعنى حينئذ بالنسبة إلى موردها : لا يكلّف الله نفسا إلّا بدفع مال أقدرها عليه ، وبالنسبة إلى الأحكام المعلومة : لا يكلّف الله نفسا إلّا بفعل واجب أو ترك حرام أقدرها عليه.

ولا يرد عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله على إرادة المعنى الأعمّ من استلزامه لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لكون الموصولة على ما ذكرناه عبارة عن نفس الفعل أو الترك ، وهو إن اعتبر بالنسبة إلى مورد الآية ـ وهو المال ـ فهو عبارة عن دفعه ، وإن اعتبر بالنسبة إلى الأحكام فهو عبارة عن الإتيان بها وامتثالها.

وممّا ذكرناه يظهر تقريب الاستدلال بقوله تعالى في آخر سورة البقرة : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) نظرا إلى كون الفعل المجهول الحكم خارجا عن وسع المكلّف في نظر العامّة كما تقدّم. وكذا يندفع ما أورد عليه بأنّه إنّما يتمّ على تقدير انسداد باب العلم في أغلب الأحكام ، نظرا إلى كون التكليف بالأفعال المجهولة الحكم في الواقع مع تعذّر الاحتياط لكثرة الشبهات تكليفا بما هو خارج من الوسع ، بخلاف ما لو كان باب العلم مفتوحا عقلا أو شرعا كما هو الفرض ، لأنّ الكلام مع الأخباريّين القائلين بالانفتاح ، بل على مذهب القائلين بالظنون الخاصّة من الاصوليّين ، إذ لا ريب في تيسّر الاحتياط حينئذ ، لقلّة موارد الشبهة ،

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «بالفعل» ، والفعل.

٣٦

نَفْساً إِلَّا ما آتاها)» (٨) ، لكنّها لا ينفع في المطلب ، لأنّ نفس المعرفة بالله غير مقدور (١١٠٤) قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من الإيتاء ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله تعالى. وممّا ذكرنا يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٩).

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٠) (١١٠٥) بناء على أنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف ؛ لأنّه يكون به غالبا ، كما في قولك : «لا أبرح من هذا المكان حتّى يؤذّن المؤذّن (*)» كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان النقلي ، ويخصّص العموم بغير المستقلّات ، أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلّا مع اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناء على أنّ منع

______________________________________________________

فالتكليف بالأفعال المجهولة الحكم لا يستلزم المحذور. ووجه الاندفاع واضح ، لأنّ ما ذكرناه مبنيّ على كون الفعل المجهول الحكم خارجا من الوسع مطلقا ، من دون فرق بين قلّة الشبهات وكثرتها.

١١٠٤. لعلّ الوجه فيه هو كون المراد بالمعرفة هي المعرفة الكاملة التي لا يهتدي إليها العباد بعقولهم القاصرة ، أو المراد بها مطلقها إلّا أنّ المراد بالبيان أعمّ من البيان الشرعيّ والعقلي. والقرينة على التأويل بهذين الوجهين هو تعرّض السائل لهذا السؤال ، إذ من البعيد حصول الشبهة في وجوب أصل المعرفة. مضافا إلى نفي الإمام عليه‌السلام للتكليف من دون بيان من الله تعالى ، للقطع بثبوت التكليف بأصل المعرفة ولو مع عدم بيان من الله سبحانه. وحاصل ما ذكره : انطباق الرواية على الآية على تقدير كون المراد بالموصولة هو الفعل والترك ، وبالإيتاء الإقدار عليهما.

١١٠٥. الآية في أوائل سورة بني إسرائيل. ولا يذهب عليك أنّ جريان أصالة البراءة لمّا كان موقوفا على عدم الدليل العقلي والشرعيّ في موردها ، لأنّ

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فإنّه.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المستدلّين بالآية هم الاصوليّون القائلون بالملازمة بين حكم العقل والشرع ، وكان ظاهر الآية نفي التكليف مع عدم البيان النقلي مطلقا ، سواء كان هنا دليل عقلي أم لا ، احتاج المصنّف رحمه‌الله في الاستدلال بها إلى إثبات احدى مقدّمات. الاولى : أن يكون بعث الرسول كناية عن بيان التكليف مطلقا ، سواء كان بالنقل أم العقل. الثانية : أن تبقى الآية على ظاهرها ، ويقال بكونها من قبيل المخصّص بالمخصّص المنفصل ، وهو ما دلّ على اعتبار العقل. الثالثة : أن تبقى الآية على ظاهرها من إرادة البيان النقلي من دون التزام استثناء أصلا. ويدّعى عدم منافاتها لملازمة حكم العقل لحكم الشرع بأن يقال : إنّ الملازمة بينهما إنّما هي في الحكم بحسن فعل أو قبحه ، بمعنى : أنّ العقل إذا حكم بحسنه أو قبحه فالشرع أيضا يحكم بذلك وبكون فاعله مستحقّا للعقاب ، إلّا أنّه لا ينافي عدم ترتّب العقاب الفعلي على ارتكاب فعل حكم العقل بقبحه ولم يرد النهي عنه شرعا ، كما هو مقتضى الآية.

وبالجملة ، إنّ الملازمة في الحكم بالقبح والاستحقاق لا تلازمها فعليّة ترتّب العقاب على ارتكاب هذا القبيح ، نظير حرمة الظهار المتعقّبة بالعفو بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) على ما يراه الشهيد الثاني ، وحرمة نيّة السوء التي ورد في الأخبار أنّها لا تكتب. والوجه في عدم ترتّب العقاب على مخالفة ما حكم بقبحه العقل ، مع عدم ورود النهي عنه شرعا ، ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون تأكّد العقل بالشرع لطفا واجبا على الله تعالى.

وعلى كلّ تقدير ، فالآية لا تنافي الملازمة المذكورة. وما أورد عليه المصنّف رحمه‌الله من كون ظاهرها إخبارا عن وقوع التعذيب سابقا في الأمم الماضية والقرون الخالية بعد البعث والبيان ، فلا تشمل نفي العقاب الاخروي من دون بيان ، ضعيف جدّا ، لأنّ ظاهرها أنّها إخبار عن عدم جريان عادته وسجيّته سبحانه ولو في الامم السابقة على التعذيب من دون بيان ، لأنّ معناها : ما كان من شأننا وسجيّتنا التعذيب حتّى نبعث ونبيّن الأحكام للعباد ، فهي بإطلاقها تشمل العقاب

٣٨

اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ، كما صرّح به البعض ، وعلى أيّ تقدير فيدلّ على نفي العقاب قبل البيان. وفيه : أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.

ثمّ إنّه ربّما يورد التناقض (١١) (١١٠٦) على من جمع بين التمسّك بالآية في المقام

______________________________________________________

الدنيوي والاخروي ، كما هو صريح الطبرسي في تفسيره. ولا ريب أنّ مقتضى الحكمة أن لا تتغيّر عادته ولا تتبدّل سجيّته في القرون اللاحقة ، إن لم تكن هذه الأمّة المرحومة أولى بذلك. مع أنّ لفظة «كان» قد تستعمل للدلالة على استمرار خبرها لاسمها ، نحو (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي : لم يزل عليما حكيما في الماضي والحال والاستقبال.

نعم ، يرد على المقدّمة الأخيرة أنّ تسليم كون فاعل ما يستقلّ بقبحه العقل وتارك ما يستقلّ بحسنه مستحقّا للعقاب ومبغوضا عند الشارع وإن لم يكن معاقبا بالفعل ، مناف لما وجب على الله تعالى من اللطف بتأكيد الأحكام العقليّة بالسمعيّة ، لأنّ كون العبد مبغوضا للشارع ومستحقّا لسخطه أشدّ من التعذيب بالنار عند ذوي العقول والأبصار ، فكما أنّ العقاب بلا بيان ينافي اللطف ، كذلك الاستحقاق بلا بيان إن لم يكن أولى.

فإن قلت : إنّ غاية ما تدلّ عليه الآية مع تسليم المقدّمات المتقدّمة هو نفي فعليّة العقاب بلا بيان ، لا نفي الاستحقاق أيضا ، ولا يستلزم كون محتمل الحرمة غير حرام ولو في الظاهر ، لأنّ الحرام ما يستحقّ فاعله العقاب لا ما يعاقب عليه فعلا ، ونفي الفعليّة لا ينفي الاستحقاق أيضا.

قلت : مع أنّ مقتضى البراءة ـ كما سيجيء في محلّه ـ هو مجرّد نفي العقاب لا نفي الحكم الواقعي ، إنّ الخصم يسلّم عدم الاستحقاق على تقدير ثبوت عدم الفعليّة ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، وستعرفه عنه شرح كلامه.

١١٠٦. المورد هو المحقّق القمّي رحمه‌الله ، أورده على الفاضل التوني ، حيث استدلّ

٣٩

وبين ردّ من استدلّ بها لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع : بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ؛ فإنّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني ، وإن لم يدلّ فلا وجه للأوّل. ويمكن دفعه : بأنّ عدم الفعليّة يكفي في هذا المقام ؛ لأنّ الخصم يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلا من حيث لا يعلم ـ كما هو مقتضى رواية التثليث ونحوها التي هي عمدة أدلّتهم ـ ، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعليّة ، بخلاف مقام التكلّم في الملازمة ؛ فإنّ المقصود فيه إثبات الحكم الشرعيّ في مورد حكم العقل ، وعدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته ، كما في الظهار حيث قيل : إنّه محرّم معفوّ عنه ، وكما في العزم على المعصية على احتمال. نعم ، لو فرض هناك أيضا إجماع على أنّه لو انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق ـ كما يظهر من بعض ما فرّعوا على تلك المسألة ـ لجاز التمسّك بها هناك. والإنصاف أنّ الآية لا دلالة لها (١١٠٧) على المطلب في المقامين.

______________________________________________________

في مسألة البراءة بالآية عليها. وفي مسألة الحسن والقبح ردّ على من منع الملازمة بين حكم العقل والشرع ، مستدلا بها عليه بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ، ومنع الملازمة إنّما يتمّ على الثاني دون الأوّل. قال : «والعجب من بعض الأعاظم حيث جمع في كلامه بين الاستدلال بالآية لأصل البراءة ، ودفع الإشكال الوارد على الآية بالأحكام العقليّة الإلزاميّة ، بجواز العفو عن الله تعالى» انتهى.

وحاصل ما أورده من التناقض : أنّ مقتضى الاستدلال بالآية على أصالة البراءة هو نفي الحكم المستتبع لنفي الاستحقاق ، ومقتضى الردّ على المانع بما ذكره نفي فعليّة التعذيب بالعفو عنه مع تسليم أصل الاستحقاق ، والتنافي بينهما واضح.

١١٠٧. أمّا عدم دلالتها على أصالة البراءة فلما أورده على المستدلّ بها عليها. وأمّا عدم دلالتها على عدم الملازمة فلما صرّح به من كون محلّ النزاع هناك هو إثبات الملازمة بين حكم العقل والشرع في الاستحقاق خاصّة ، ومجرّد

٤٠