فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

الحرام الواقعي فيهما ـ هو وجوب الاجتناب ؛ لأنّه اللازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما ؛ لعدم جريان باب المقدّمة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ، فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ووجوبه.

وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي (١٥٢٧) إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ؛ بناء على أنّ الاجتناب عن

______________________________________________________

ما تقدّم من عدم جريان المقدّمة العلميّة في الآثار الوضعيّة وإن كان متّجها ، إلّا أنّه يمكن أن يقال بكون أصالة عدم حدوث سبب الحدّ بشرب أحد الإنائين معارضة بأصالة عدم كون الآخر أيضا سببا له على تقدير شربه. وإن شئت قلت : إنّه كما يصحّ أن يقال قبل شرب أحدهما : إنّ الأصل أن لا يكون شرب هذا الإناء بالخصوص سببا للحدّ ، كذلك يمكن أن يقال : إنّ الأصل أن لا يكون شرب ذاك أيضا كذلك ، ولا ريب أنّ مجرّد ارتكاب أحدهما لا يوجب جريان الأصل فيه دون الآخر ، وبعد تعارض الأصلين وإن لم يبق مقتض لوجوب إقامة الحدّ على شارب أحدهما ، إلّا أنّه لا يبقى دليل أيضا على نفيه عنه ، فلا بدّ من التوقّف فيه ، لا نفيه عنه كما هو المدّعى. وبنحو ذلك أيضا يقال في ما اشتبه المال المغصوب بالحلال بالنسبة إلى ثوب (*) الضمان بارتكاب أحدهما ، وهكذا في ما يضاهيه من الموارد.

١٥٢٧. هذا دليل قول العلّامة ، ومرجعه إلى دعوى الملازمة بين وجوب الاجتناب عن شيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط. واستند فيه المصنّف رحمه‌الله تارة إلى فهم العرف من خطاب وجوب الاجتناب مؤيّدا بفهم بعض العلماء ، واخرى إلى الرواية. ويظهر ضعفهما ممّا قرّره في المتن.

وربّما يستدلّ على هذا القول أيضا بوجوه أخر :

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. وهو تصحيف : ترتّب.

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : أنّ المقتضي لثبوت الحكم التكليفي للمشتبهين ـ وهو العلم الإجمالي ـ موجود بالنسبة إلى الحكم الوضعي أيضا.

وفيه : أنّ ثبوت الحكم التكليفي لهما لأجل كونهما مقدّمة علميّة للتكليف المعلوم إجمالا ، وقضيّة المقدّمة غير آتية في الآثار الوضعيّة ، كما تقدّم في الحاشية السابقة.

وثانيها : ما ذكره في الحدائق ، وحاصله : أنّ استقراء الأخبار الواردة في موارد الشبهة المحصورة يفيد إعطاء الشارع الشبيه بالنجس حكم النجس.

وفيه : أنّ غاية ما يفيده الاستقراء ـ على تقدير تسليمه ـ هو وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة في جميع مواردها لا عن ملاقيها أيضا. نعم ، لو ثبت وجوب الاجتناب عن ملاقي ما ثبت وجوب الاجتناب عنه بدليل آخر ثبت المدّعى بعد إثبات وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة. لكنّك قد عرفت ضعفه.

وثالثها : ما نقله في الجواهر عن بعض المتأخّرين من أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المحصور يعامل معاملة النجس. والفرق بينه وبين ما تقدّم عن صاحب الحدائق : أنّ ظاهر هذا الوجه كون المحصور كالنجس في جميع الآثار ، بخلاف صاحب الحدائق ، لأنّه قال فيها : «إنّ للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة متوسّطة ، فمن بعض الجهات ـ كالأكل والشرب والملاقاة برطوبة ـ حكمه حكم النجس ، ومن بعض الجهات ـ كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرارها فيهما ـ له حالة ثالثة» انتهى.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ هذا الوجه خلاف الإجماع ، كما يومي إليه عبارة المتن. مضافا إلى ما تقدّم من منع دلالة الأدلّة على ذلك.

ورابعها : أنّ العلم الإجمالي في المشتبهين كما أوجب الاجتناب عنهما ، كذلك العلم الإجمالي بتنجّس الملاقي بالكسر أو صاحب الملاقى بالفتح يوجب

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجتناب عنهما. ولعلّ مرجع هذا الدليل إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله على سبيل السؤال. ويمكن أن يقال : إنّ مبنى ما ذكره على اتّحاد العلم الإجمالي بين الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح وصاحبه ، وهذا الدليل على تعدّده.

وعلى كلّ تقدير ، فما أجاب به عمّا أورده على نفسه ـ من كون الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّبا عن الشكّ في المشتبهين ، فإذا تساقط الأصلان في الشكّ السببي لأجل التعارض جرى الأصل في الشكّ المسبّب من دون مانع ـ غير جار هنا ، بل غير تامّ هناك أيضا ، لأنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن الشكّ في الملاقى بالفتح خاصّة دون صاحبه ، فالأصل فيه يعارض كلّا من الأصل الجاري في الملاقى بالفتح والملاقي بالكسر ، وإن لم يكن الأصل في الملاقي بالكسر معارضا للأصل في الملاقى بالفتح ، لما عرفت من حكومة الثاني ـ على تقدير جريانه ـ على الأوّل ، وعدم المانع من جريان الأوّل مع عدم جريان الثاني لأجل المعارضة.

فإن قلت : إنّا نمنع كون الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّبا عن الشكّ في الملاقى بالفتح خاصّة ، لاتّحاد الشكّ في مورد الشبهة المحصورة كما أوضحناه سابقا. ونقول هنا أيضا : إنّ الشكّ هو تساوي احتمالين في مورد ، فإن كان الشكّ في حدوث شيء فالاحتمالان هو حدوثه وعدم حدوثه ، وإن علم حدوثه وشكّ في الحادث فالاحتمالان هو كون الحادث هو هذا الشيء دون ذاك وبالعكس ، فليس في الشبهة المحصورة شكّان قام أحدهما بأحد المشتبهين والآخر بالآخر ، حتّى يقال : إنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن أحدهما دون الآخر.

قلت : نعم ، إلّا أنّ الشكّ في الملاقي بالكسر مسبّب عن احتمال كون النجس الواقعي هو الملاقى بالفتح دون صاحبه ، لا عن احتمال العكس ، فالشكّ فيه ناش من أحد احتمالي الشكّ القائم بالمشتبهين في الشبهة المحصورة ، وهذا القدر كاف فيما ادّعيناه.

وفيه : أنّ الأصل في صاحب الملاقي قد سقط عن الاعتبار قبل حصول الملاقاة ،

٤٤٣

النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ؛ ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٩) ، ويدلّ عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة ب «أنّ الله سبحانه حرّم الميتة» ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه. هذا معنى ما استدلّ به العلّامة قدس‌سره في المنتهى على ذلك : بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ؛ وإلّا فلم يقل أحد (١٥٢٨) : إنّ كلّا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب على العنوان الواقعي من النجاسات نظير وجوب الحدّ للخمر ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة.

والأقوى هو الثاني ، أمّا أوّلا (١٥٢٩) فلما ذكر ، وحاصله منع ما في

______________________________________________________

لأجل المعارضة بالأصل الجاري في الملاقى بالفتح. نعم ، هو إنّما يعارض الأصل الجاري في الملاقي بالكسر مع قطع النظر عن هذه المعارضة لا معها. إلّا أن يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ فيما حصلت الملاقاة بعد العلم الإجمالي ، وأمّا لو حصلت قبله فالأصل في صاحب الملاقي يعارض الأصل الجاري في المتلاقيين معا لا محالة. ومن هنا يمكن التفصيل في المسألة بين حصول الملاقاة بعد العلم الإجمالي وقبله. والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل. وهذا ما يخطر بالبال في العاجل ، لعلّ الله تعالى يوفّقنا لما هو أدقّ وأتقن في الآجل ، وستعرف تتمّة ما يتعلّق بالمقام في الحواشي الآتية.

١٥٢٨. قال في المدارك : «قولهم : إنّ المشتبه بالنجس بحكم النجس ، لا يريدون به من جميع الوجوه ، بل المراد صيرورته بحيث يمنع استعماله في الطهارة خاصّة. ولو صرّحوا بإرادة المساواة من كلّ وجه كانت دعوى خالية من الدليل» انتهى.

١٥٢٩. لا يذهب عليك أنّه ليس في كلامه معادل لذلك. واستدلّ في الجواهر أيضا على هذا القول برجوع الشبهة في الملاقي بالكسر إلى الشبهة في غير المحصور ، فيكون حاله حال محتمل النجاسة.

٤٤٤

الغنية (١٥٣٠) من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجيه حينئذ ليس إلّا لمجرّد تعبّد خاصّ ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر ما يلاقيه. نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه من جهة استظهار أنّ

______________________________________________________

قال : «فإنّه لا إشكال في عدم وجوب اجتنابه وإن كان التكليف بالنجس لا يتمّ إلّا به ، لكن لمّا كانت أفراد النجس غير محصورة لم يجب اجتناب المحتمل ، وهذا كذلك أيضا ، فإنّ إصابة المشتبه له صيّرته محتمل النجاسة. وكون هذا الاحتمال إنّما نشأ من إصابة متنجّس يجب اجتنابه للمقدّمة لا يصيّر الملاقي كذلك ، وكيف مع أنّه لو تعذّر الاحتمال من وجوب المجتنب على اليقين لما وجب الاجتناب ، فهذا أولى. مثلا : لو كان الإناءان النجس منهما معلوما ، ووقعت قطرة لا نعلمها من أيّ الإنائين ، فلا شكّ في عدم نجاسة الثوب بها. وهو معنى قوله عليه‌السلام : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء؟ إذا كنت لا أدري». وما يقال : من أنّ اجتناب النجس لا يتمّ إلّا بذلك ، فيه أنّه جار في محتمل (*) التنجّس بنجاسة خاصّة معلومة كالبول المخصوص ونحوه ، فتأمّل» انتهى.

وفيه : أنّ الفرق بين محتمل النجاسة ـ سواء كانت الشبهة فيه بدويّة ، أو مشوبة بالعلم الإجمالي مع كونها غير محصورة ـ وبين ما نحن فيه واضح ، لدخول الملاقي بالكسر بالملاقاة في أطراف العلم الإجمالي ، ولذا لو أريق الملاقى بالفتح بقي العلم الإجمالي بين الملاقي بالكسر وصاحب الملاقى بالفتح بحاله ، فلا يقاس ذلك على الشبهات البدويّة. ولا معنى أيضا لدعوى كونه من أطراف غير المحصورة.

١٥٣٠. مضافا إلى أنّ الشيخ الطريحي قال في تفسير الآية : «الرجز بكسر الراء وضمّها إمّا العذاب كما هو قول الأكثرين ، فيكون الأمر بهجرانه أمرا

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «والحال أنّه لا يجب الاجتناب عنه. منه».

٤٤٥

الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون الخارج بولا ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه. وبه يندفع تعجّب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل مع كون كلّ منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

وأمّا الرواية ، فهي رواية عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (١٠). وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

لكنّ الرواية ضعيفة سندا (١٥٣١) ،

______________________________________________________

بهجران أسبابه الموجبة له ، أو النجاسة ، فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النجاسة في الصلاة» إلى أن قال : «وفسّره البعض بالأوثان ، وسميّت رجزا لأنّها سبب الرجز الذي هو العذاب» انتهى. ولا ريب أنّه مع تعدّد الاحتمال ـ سيّما مع موافقة الأوّل لقول الأكثرين ـ سقط بها الاستدلال. ومع التسليم أنّ دلالته على وجوب هجر ملاقي النجس لعلّه لأجل خصوصيّة المادّة هنا ، لكون النجاسة في نظر أهل العرف من الأوصاف المسرية ، فلا تثبت به الدلالة على وجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ ما يجب الاجتناب عنه ، حتّى يثبت به وجوب الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة ، لأجل حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن أطرافها.

١٥٣١. لأنّ عمرو بن شمر ضعيف. وعن النجاشي والغضائري ثمّ الخلاصة رميه بالكذب والوضع. فإن قلت : إنّ ضعفها منجبر بالإجماع على مضمونها ، لإجماعهم على حرمة ملاقي الميتة. قلت أوّلا : إنّ إجماعهم على ذلك إنّما هو لأجل نجاسة الميتة لا لأجل حرمتها مطلقا. وثانيا : إنّه لم يظهر منهم الاستناد في ذلك

٤٤٦

مع أنّ الظاهر من الحرمة (١٥٣٢) فيها النجاسة ؛ لأنّ مجرّد التحريم لا يدلّ على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ؛ فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

______________________________________________________

إليها ، ومثله لا يصلح للجبر كما هو واضح.

١٥٣٢. يعني : مع أنّ الظاهر من حرمة الميتة في الرواية حرمتها من حيث النجاسة لا مطلقا ، وإلّا لم يحسن استدلال الإمام عليه‌السلام بحرمتها على حرمة السمن والزيت ، لوضوح عدم دلالتها على النجاسة فضلا عن تنجّس الملاقي ، ولذا لم يقل أحد بحرمة الملاقي في ما عدا النجاسات. ودعوى أنّ ظاهر الرواية استلزام حرمة شيء مطلقا لحرمة ملاقيه ، غاية الأمر أنّه خرج منها ما عدا النجاسات بالإجماع وبقيت هي تحتها ، ضعيفة جدّا ، لاستلزامه تخصيص الأكثر. فالثابت بالرواية هي الملازمة بين نجاسة شيء وتنجّس ملاقيه ، لا الملازمة بين حرمة شيء وحرمة ملاقيه. والأوّل مسلّم ، إلّا أنّه غير مفيد في المقام. والثاني هو المطلوب ، إلّا أنّ الرواية لا تدلّ عليه.

فإن قلت : سلّمنا ولكنّه كاف في المقام ، بناء على ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في محلّه من كون الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام الطلبيّة لا مجعولة للشارع ، لأنّه إذا فرض كون معنى نجاسة الميتة وجوب الاجتناب عنها ووجوب الاجتناب عن ملاقيها أيضا ، ثبت المطلوب من وجوب الاجتناب عن ملاقي ما يجب الاجتناب عنه.

قلت أوّلا : إنّ الظاهر أنّ النجاسة والطهارة من الأوصاف الواقعيّة. ولعلّ استدلال الإمام عليه‌السلام بحرمة الميتة على حرمة ملاقيها لأجل كون النجاسة من الأوصاف المسرية. ومجرّد احتماله كاف في منع التعدّي عن مورد الرواية ، كيف ولو كان مبنى استدلاله على ما ذكرته لزم منه تخصيص الأكثر كما عرفت.

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : مع تسليم استلزام حرمة شيء حرمة ملاقيه ، نمنع ذلك في خصوص المقام ، لأنّ الدليل على حرمة أطراف الشبهة المحصورة إمّا هو العقل أو الشرع ، وشيء منهما لا يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطرافها. أمّا الأوّل فإنّ حكم العقل بوجوب الاجتناب عن جميع أطرافها إنّما هو للتحرّز عن الوقوع في الحرام الواقعي ، وهو إنّما يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيها لو لم يكن الأصل الجاري فيه سليما من معارضة الأصل الجاري في المشتبهين ، وهو خلاف ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله. ومنه يظهر ضعف دلالة الشرع أيضا ، لأنّ ظاهر جلّ أخبار الاحتياط ـ كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في غير موضع ـ إنّما يدلّ عليه لأجل التحرّز عن الهلكة الواقعيّة ، فمؤدّاها عين مؤدّى حكم العقل.

فإن قلت : إنّ مناط وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة موجود في ملاقيها أيضا ، لأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي إنّما هو بعد العلم بتأثّر الملاقي بالملاقاة ، فلا بدّ أن يكون وجوب الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة على القول به أيضا كذلك ، وحينئذ يدخل ملاقيها في أطراف الشبهة لا محالة ، ويمنع جريان أصالة الطهارة فيه ، كما هو واضح.

قلت : إنّ دخول الملاقي بالكسر في أطراف الشبهة إنّما هو لانتقال بعض أجزاء الملاقى بالفتح بالملاقاة إليه ، وحينئذ إن صدق على هذه الأجزاء القائمة بالملاقي بالكسر عنوان الملاقى بالفتح عرفا فهو خارج ممّا نحن فيه ، ولذا منع المصنّف رحمه‌الله دلالة وجوب هجر الرجز على وجوب الاجتناب عن ملاقيه فيما إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز. وإن لم يصدق عليه ذلك نمنع دخوله بذلك في أطراف الشبهة ، لعدم الدليل على نجاسة هذا الأثر على تقدير العلم بنجاسة الملاقى بالفتح ، لاختلاف الأحكام باختلاف عناوينها. وغاية ما ثبت من الأدلّة هو تنجّس ملاقي النجس مع التأثّر ، لا نجاسة نفس الأثر مع عدم صدق عنوان النجس عليه ، لوضوح عدم كون تنجّس الملاقي باعتبار قيام هذا الأثر به ، ولذا يحكم ببقاء تنجّس

٤٤٨

فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلّا أنّه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كلّ منهما أحد طرفي الشبهة ، فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء. قلت : ليس الأمر كذلك (١٥٣٣) ، لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي ـ بالكسر ـ سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى ـ بالفتح ـ فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.

والسرّ في ذلك أنّ الشكّ في الملاقي ـ بالكسر ـ ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ؛ فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي ، والأصل فيه أصل في الشك المسبّبي ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في الشكّ السببي حاكم (*) على الأصل في الشك المسبّبي ـ سواء كان مخالفا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به ، أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على

______________________________________________________

المحلّ مع زوال هذا الأثر عنه بالجفاف أو الإزالة. ومن هنا يظهر عدم توجّه السؤال إلى صورة زوال الأثر ، اللهم إلّا أن يقال بعدم الفصل بينها وبين غيرها ، فتأمّل.

١٥٣٣. حاصله : تسليم دخول الملاقي بالكسر في أطراف الشبهة ، ومنع وجوب الاجتناب عنه ، لسلامة الأصل الجاري فيه عن المعارض. ومنه يظهر ضعف ما استدلّ في الجواهر على وجوبه بقضيّة المقدمة. قال فيما لاقى الثوب أحد الإنائين : «إنّه حينئذ يكون مكلّفا باجتناب النجس ، وهو دائر بين أن يكون هذا الإناء أو الثوب ، أو الإناء الآخر والثوب أو هذا الإناء وحده ، أو الآخر وحده فيجب ترك الجميع من باب المقدّمة ، وبه ينقطع الاستصحاب كما انقطع الاستصحاب في غيره ، إذ لا معنى للقول بخصوص الحكم فيما إذا كان الاشتباه في الإناءات ـ أي : في متّحد النوع ـ دون غيره ، فإنّ من اليقين جريان المقدّمة فيما لو وقعت في الإناء أو الثوب أو البدن» انتهى. ولكن قد تقدّم ما يناقش في هذا

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : ووارد.

٤٤٩

أصالة إباحة الشرب ـ ، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ؛ لأنّ الأوّل رافع شرعيّ للشكّ المسبّب بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع من جريان الأصل في الشكّ المسبّب ووجب الرجوع إليه ؛ لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين.

ألا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة ـ عند تتميم الماء النجس كرّا بطاهر وعند غسل المحلّ النجس بماءين مشتبهين بالنجس ـ إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟ نعم ، ربما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها بزعم كونهما في مرتبة واحدة.

لكنّه توهّم فاسد ؛ ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ.

فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتّحاد مرتبتهما (١٥٣٤) لاتّحاد الشبهة (١٥٣٥) الموجبة لهما : الرجوع إلى ما وراءهما من الاصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين ، فافهم واغتنم. وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى. نعم ، لو حصل للأصل في هذا الملاقي ـ بالكسر ـ أصل آخر في مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ، كانا من الشبهة المحصورة.

ولو كان ملاقاة شىء (١٥٣٦) لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه

______________________________________________________

الجواب ، فراجع.

١٥٣٤. بأن لم يكن أحدهما حاكما أو واردا على الآخر.

١٥٣٥. قد تقدّم توضيح اتّحاد الشبهة في الشبهة المحصورة عند شرح قوله : «إنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء ...».

١٥٣٦. لا يخفى أنّه إذا لاقى شيء أحد الإنائين ، إمّا أن تحصل الملاقاة قبل العلم الإجمالي أو بعده أو معه. وعلى التقادير : إمّا أن يفقد الملاقى بالفتح بعدها أو

٤٥٠

مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر ؛ لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ؛ لما أشرنا إليه في الأمر الثالث من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلي

______________________________________________________

لا. وعلى الأوّل : إمّا أن يعود المفقود أو لا. فهنا صور :

إحداها : أن تحصل الملاقاة قبل العلم الإجمالي أو بعده أو معه مع وجود الملاقى بالفتح. وقد ظهر حكمها ممّا حقّقه المصنّف رحمه‌الله في أصل المسألة.

الثانية : أن يكون كلّ من حصول الملاقاة وفقد الملاقى بالفتح قبل العلم الإجمالي. وحكمها كما ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا.

الثالثة : أن يحصل العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد. والظاهر حينئذ هو الحكم بطهارة الملاقي بالكسر ، ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقي كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ المفروض أنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين كان ثابتا قبل فقد الملاقى بالفتح ، لأجل تنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس الواقعي المشتبه بينهما ، فمجرّد فقد أحدهما لا يوجب ارتفاع هذا الحكم العقلي عن الباقي المحتمل كونه هو النجس الواقعي ، لأنّ تنجّز التكليف بالواقع في آن ثمّ الشكّ في بقائه علّة تامّة لحكم العقل بتحصيل اليقين بالبراءة بالاجتناب عن الباقي ، ولذا يجب الاجتناب عن الباقي أيضا فيما ارتكب أحدهما عصيانا. وأمّا طهارة الملاقي بالكسر فلقاعدتها ، إذ المانع من جريانها فيه هو العلم الإجمالي بتنجّسه أو نجاسة الباقي ، وبعد ثبوت وجوب الاجتناب عن الباقي ، بقاعدة الاشتغال ينحلّ العلم الإجمالي على علم تفصيلي ظاهري وشكّ بدوي ، نظير ما لو قامت البيّنة على نجاسة أحد الإنائين أو تنجّس أحدهما المعيّن بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله أشار بالأمر بالتأمّل الجيّد إلى الوجه في حكم المسألة.

الرابعة : أن يقارن العلم الإجمالي بالملاقاة ففقد. والظاهر أنّ حكمها كالصورة الثالثة في وجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى بالفتح ، وطهارة الملاقي بالكسر.

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الخامسة : هي الصورة الثانية مع عود المفقود قبل العلم الإجمالي أو بعده. أمّا الأوّل فالظاهر أنّه لا أثر للفقد فيه. وأمّا الثاني ففيه وجوه :

أحدها : وهو الأوفق بالقواعد أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الباقي والملاقي ، وبطهارة العائد. أمّا الأوّل فلكون الباقي والملاقي قبل عود المفقود محكومين بوجوب الاجتناب عنهما ، لأجل تعارض الأصلين. ومجرّد عود المفقود لا يوجب الشكّ في هذا الحكم الثابت بقاعدة الاشتغال. وأمّا الثاني فلأصالة الطهارة. ومجرّد العلم الإجمالي بنجاسته أو صاحبه الباقي لا يوجب رفع اليد عنها ، لأجل تعارض الأصلين فيهما بعد الحكم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بالخصوص ، وهو الباقي كما تقدّم.

وثانيها : أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الجميع أمّا الباقي والملاقي فلما مرّ. وأمّا العائد فلدخوله بعد عوده في أطراف العلم الإجمالي.

وثالثها : أن يحكم بوجوب الاجتناب عن الفاقد وصاحبه ، للعلم الإجمالي الموجب لتعارض الأصلين فيهما ، وبطهارة الملاقي بالكسر ، لسلامة أصالة الطهارة فيه بعد تعارض الأصلين في الأوّلين وتساقطهما.

السادسة : هي الصورة الثالثة مع عود المفقود. فيظهر حكمها من سابقتها.

فرعان : الأوّل : الظاهر أنّ ملاقي الملاقي بالكسر بحكمه ، فيجري على ملاقي أحد الملاقيين حكم الملاقي الواحد ، وعلى ملاقييهما حكم الملاقيين ، ما لم ينته إلى أحد غير المحصورة.

الثاني : أنّ جميع ما قدّمناه إنّما هو على القول بوجوب الموافقة القطعيّة. وأمّا على القول بجواز المخالفة القطعيّة ، فلا إشكال في جواز ارتكاب ملاقي أحد المشتبهين وملاقييهما. وأمّا على القول بحرمة المخالفة القطعيّة ، وعدم وجوب الموافقة كذلك ، فكذلك بالنسبة إلى ملاقي أحدهما ، ويثبت التخيير بين ملاقييهما كأصليهما. وحيث كان هذا القول ضعيفا فلا يهمّنا التعرض لما يتفرّع عليه ، وكذا

٤٥٢

به المكلّف ولا أثر له بالنسبة إليه. فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة.

ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه ، فتأمّل جيّدا.

الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض (١٥٣٧) المحتملات : فإن كان بعضا معيّنا ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ؛ لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ؛ لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم. وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر ؛ لأنّ الإذن في ترك بعض (١٥٣٨) المقدّمات العلميّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات.

______________________________________________________

على القول بالقرعة.

١٥٣٧. في حكم الاضطرار ما لو تلف بعض أطراف الشبهة. وأمّا لو قامت أمارة شرعيّة ـ من بيّنة ونحوها ـ على نجاسة بعضها أو طهارته فهو أيضا كذلك في الجملة. وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في الجواب عن الدليل العقلي للأخباريّين على وجوب الاحتياط في الشبهة البدويّة التحريميّة.

١٥٣٨. لا يخفى أنّ اكتفاء الشارع عن امتثال التكليف الواقعي ببعض محتملاته الذي مرجعه إلى دعوى بدليّة بعض محتملاته عنه ، إنّما يحسن فيما علم وجود التكليف الواقعي فعلا ، كما في الاكتفاء بأربع جهات عند اشتباه القبلة ، وكذا فيما لو فرض وجود دليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين فيما نحن فيه مع فرض كون كلّ منهما محلّ ابتلاء للمكلّف ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال بكون أحد المشتبهين بدلا شرعيّا عن الواقع المعلوم إجمالا ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد فرض الاضطرار إلى أحد المشتبهين معيّنا يحتمل أن يكون الحرام الواقعي هو المضطرّ إليه ، فلا يبقى العلم حينئذ بوجود التكليف الواقعي حتّى يدّعى كون المشتبه الآخر

٤٥٣

ولو كان المضطرّ إليه بعضا غير معيّن ، وجب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من امور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه ، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي. قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ، واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا ، وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ـ بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ـ ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسّط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه.

______________________________________________________

بدلا عنه. ومجرّد احتمال كونه هو الحرام الواقعي لا يقتضي وجوب الاجتناب. فالأولى في المقام هو التمسّك بقاعدة الاشتغال ، بأن يقال : إنّ التكليف قبل الاضطرار كان منجّزا بالواقع ، فبعد الاضطرار إلى أحد المحتملين لا يحصل القطع بالفراغ إلّا بالاجتناب عن الآخر.

لا يقال : لعلّ مراد المصنّف رحمه‌الله أيضا دعوى اكتفاء الشارع بالمشتبه الآخر عن التكليف الواقعي المحتمل لا المعلوم ، بأن يقال : إنّ رخصة الشارع في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد العلم الحاصل قبل الاضطرار بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف المحتمل بعد الاضطرار بالاجتناب عن المشتبه الآخر.

لأنّا نقول : ـ مع ما فيه من التكلّف في تنزيل عبارة المصنّف رحمه‌الله عليه ـ إنّ وجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر حينئذ عقلي لا شرعيّ ، كما يظهر ممّا قدّمناه.

٤٥٤

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ، وهو ترك باقي المحتملات. وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه إلى القناعة (١٥٣٩) عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا كما في موارد التخيير.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعيّة وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط ـ لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه ـ : أن يرجع فيما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط ، مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط (١٥٤٠) ووجوب العمل بالظنّ مطلقا أو في الجملة ـ على الخلاف بينهم ـ على الرجوع في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط دليل عقلي أو إجماع على وجوب كون الظنّ ـ مطلقا أو في الجملة ـ حجّة وطريقا في الأحكام الشرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشكّ في المكلّف به ، صحّ ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الاصول الجارية في مواردها. لكنّك خبير بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلّا بطلان الاحتياط ، مع اعتراف أكثرهم بأنّه الأصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح ، ومن المعلوم أنّ هذا

______________________________________________________

١٥٣٩. فيه نوع مسامحة ، لأنّ مرجع اعتبار الظنون الخاصّة إلى تنزيل مؤدّياتها منزلة نفس الواقع ، لا إلى القناعة في مواردها على بعض محتملات الواقع. والفرق بينهما واضح ، ولذا لا يجب الاحتياط في الموارد الخالية منها عند انفتاح باب العلم.

١٥٤٠. يعني : إبطال وجوبه والمراد بوجوب العمل بالظنّ هو مقابل عدم جواز العمل بالشكّ والوهم ، وإلّا فلا ريب في عدم وجوبه ، وجواز الاحتياط في موارده ـ طابقه أو خالفه ـ لكون العمل بالظنّ بعد الانسداد رخصة لا عزيمة.

٤٥٥

لا يفيد إلّا جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

السادس : لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ، فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر (١٥٤١) ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟

______________________________________________________

١٥٤١. الوجهان ينشآن من توجّه الخطاب التفصيلي بالاجتناب ، فمع اشتباه مصداق متعلّقه يجب الاجتناب عن كلا المشتبهين أو المشتبهات ليحصل اليقين بالبراءة عن التكليف المتيقّن. ومجرّد تدرّج المشتبهات الموجودة في الخارج لا يصلح فارقا بينها وبين الموجودة منها فعلا ، لوجود المناط ـ وهو حكم العقل ـ في كلا القسمين. ومن عدم العلم بالتكليف المنجّز عند كلّ واقعة ، فترجع الشبهة عند كلّ واحدة منها إلى الشبهة البدويّة ، لأنّ مجيء زمان التكليف لمّا كان شرطا في تنجّزه ، فعند الواقعة الاولى يحتمل أن يكون المكلّف به هي الواقعة الثانية ، فلا يحصل العلم بالتكليف المنجّز عندها ، وعند الثانية يحتمل أن يكون المكلّف به هي الأولى ، فلا يحصل العلم أيضا بالتكليف المنجّز ، بل المعلّق أيضا عندها.

وفيه : أنّ اشتراط تنجّز التكليف بمجيء زمانه إنّما هو لأجل عدم تحقّق الابتلاء قبله ، وإذا عدّت الواقعة الثانية مبتلى بها عرفا عند الواقعة الاولى ، ارتفع المانع من تنجّز التكليف بالواقع المشتبه على كلّ تقدير ، فحينئذ لا بدّ من الاحتياط لتحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المنجّز اليقيني. ومن هنا جعل المصنّف رحمه‌الله مدار تحقيق المقام على تحقّق الابتلاء بالواقعتين عرفا عند أولاهما.

نعم ، لو تغاير زمان التكليف وزمان الفعل المكلّف به ، بأن قال : حرّمت عليك اليوم الإتيان بفعل كذا في غد ، واشتبه زمان الفعل فلا إشكال حينئذ في وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين من دون تعليق على تحقّق الابتلاء وعدمه ،

٤٥٦

وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟

التحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينها إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ؛ لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب. نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيّات ، كما في مثال الحيض ؛ فإنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ؛ فإنّ قول الشارع : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١١) ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ؛ إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب ، فهذا الخطاب كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلّا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

______________________________________________________

لفرض تنجّز التكليف حينئذ بالواقع على كلّ تقدير ، وإن لم تعدّ الواقعة الثانية مبتلى بها للمكلّف عند الاولى.

وضابط المقام : أنّ الخطاب الصادر عن الشارع إمّا أن يتأخّر فيه زمان الفعل عن زمان التكليف ، بأن قال في يوم الخميس : أوجبت اليوم عليك الغسل في يوم الجمعة مثلا ، وإمّا أن يتّحد زمانهما. وعليه إمّا أن يتّحد زمانهما مع زمان صدور الخطاب وتوجّهه إلى المخاطب ، بأن قال : اجتنب عن النجس ، وكان النجس موجودا ومحلّ ابتلاء له حين الخطاب ، وإمّا أن يتأخّر زمانهما عن زمانه ، بأن قال : إذا كان يوم الجمعة اغتسل فيه ، بأن كان الزمان شرطا للوجوب أيضا لا ظرفا للواجب خاصّة.

والأوّلان من أقسام الواجب المطلق. وخصّ صاحب الفصول أوّلهما باسم المعلّق ، وثانيهما باسم المطلق. والثالث هو المشروط. وقد بسطنا الكلام في تحقيق ما يتعلّق بذلك في كتابنا المسمّى بغاية المأمول. وحينئذ إذا اشتبه متعلّق التكليف بين أمرين فلا إشكال في وجوب الاحتياط في الأوّلين. وكذا في وجوبه في الثالث

٤٥٧

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصّة ، ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكنّ الأظهر (١٥٤٢) هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين.

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة ، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما.

______________________________________________________

مع العلم بتحقّق الشرط. وكذلك في عدم وجوبه مع العلم بعدم تحقّقه ، بل ومع الشكّ فيه أيضا ، لعدم العلم بوجود المقتضي له ، وهو العلم بتوجّه الخطاب المنجّز الذي يعاقب على مخالفته على كلّ تقدير.

وممّا ذكرناه يظهر وجه النظر في ما أطلقه المصنّف رحمه‌الله من عدم وجوب الاحتياط ، بل جواز المخالفة القطعيّة في ما لا تعدّ الواقعة الثانية محلّ ابتلاء للمكلّف عند الواقعة الاولى ، لما عرفت من عدم تماميّة ذلك في التكليف المعلّق على ما اصطلح عليه صاحب الفصول ، إلّا أنّ الظاهر أنّ إطلاق المصنّف رحمه‌الله مبنيّ على ظاهر الخطابات الشرعيّة المتعارفة ، فإنّها لا تخرج من القسمين الأخيرين ، سواء وقع التعبير فيها في ما ذكر الزمان فيه قيدا للكلام بقولنا : إن كان وقت كذا فافعل كذا ، أو بقولنا : افعل كذا في وقت كذا ، كما أوضحناه في مبحث المقدّمة في كتابنا المذكور ، فراجع حتّى تطّلع على حقيقة الحال.

١٥٤٢. لتحقّق الابتلاء لكلّ من طرفي الشبهة بحسب العرف في المثالين ، بخلاف مثال الحيض. نعم ، لو فرض تردّد الأمر فيه أيضا بين أوّل الشهر والرابع والسابع كان كالأوّلين أيضا. وبالجملة ، إنّ المدار في الابتلاء وعدمه على حكم العرف ، ولطول الزمان وقصره مدخل في حكمهم بالنسبة إلى الأفعال المتدرّجة في الوجود. ومن هنا يمكن التأمّل في إطلاق وجوب الاجتناب في المثال الثاني ، لأنّ المسلّم منه فيه إنّما هو في ما علم بابتلائه في يومه بمعاملة ربويّة ، وأمّا في ما علم

٤٥٨

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه (١٥٤٣) إلى أصالة الإباحة ؛ لعدم جريان استصحاب الطهر. وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد (١٥٤٤) ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها ؛ لأنّ فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم (١٥٤٥) التكليفي ، ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجه (١٥٤٦).

______________________________________________________

بذلك في شهره ففي الفرق حينئذ بينه وبين مثال الحيض تأمّل ، فتدبّر.

١٥٤٣. أي : في مقدار الحيض. أمّا عدم جواز الرجوع فيه إلى الاستصحاب ، فللعلم بارتفاع الحالة السابقة فيه. وأمّا جواز الرجوع إلى أصالة الإباحة ، فلفرض عدم الاعتداد بالعلم الإجمالي في المقام. وأنت خبير بأنّه إذا بقي من الشهر مقدار الحيض كثلاثة أيّام ، فإذا مضى جزء من هذا المقدار يحصل للمرأة القطع بكونها حائضا إمّا في هذا الزمان أو في سابقه ، فيتعيّن عليها استصحاب الحيض ، فلا وجه معه لأصالة الإباحة كما لا يخفى.

١٥٤٤. لا يخفى أنّ حرمة المعاملة تارة تنشأ من ذاتها ، واخرى من كون إيقاعها بقصد ترتيب الآثار تشريعا ، وفسادها ملازم لإحدى الحرمتين لا محالة ، إذ المقصود من إثبات الفساد بالأصل إنّما هو في صورة قصد ترتيب الآثار ، وإلّا فالفساد مع عدم قصده ثابت بالقطع لا بالأصل ، وحينئذ يشكل الجمع بين الأصلين ، لمنافاة مؤدّاهما. والقول بأنّ أصالة الإباحة إنّما تنفي الحرمة الذاتيّة ، وأصالة الفساد إنّما تلازم الحرمة التشريعيّة ، غير مفيد بعد ثبوت الحرمة ولو تشريعا بعد الفساد ، لعدم ترتّب أثر على الإباحة الذاتيّة من حيث هي ، كما هو واضح.

١٥٤٥. خلافا لصاحب الحدائق. وقد تقدّم سابقا شطر من الكلام في ذلك ، فراجع.

١٥٤٦. يعني : بناء على صحّة معاملات الصبيّ المميّز ، إذ على القول بفسادها يكون الفساد مستندا إلى عدم البلوغ لا إلى كون المعاملة ربويّة.

٤٥٩

وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود (*) ؛ للعلم بخروج بعض المشتبهات التدريجيّة عن العموم ؛ لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إليها ، ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في إجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في إجراء الاصول اللفظيّة ، فيمكن التمسّك فيما نحن فيه لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق (١٥٤٧) بين الاصول اللفظيّة والعمليّة ، فتأمّل.

______________________________________________________

١٥٤٧. بالقول باعتبار الاصول العمليّة مع العلم الإجمالي بخلافها ، وبعدم اعتبار الاصول اللفظيّة معه. ووجه الفرق : أنّ اعتبار الاولى إنّما هو من باب التعبّد الشرعيّ ، والفرض أنّ العلم الإجمالي بخلافها إنّما يؤثّر في سقوطها مع تنجّز التكليف بالواقع ، لسلامة الأصل في كلّ من المشتبهين عن المعارض بدونه ، بخلاف الثانية ، لأنّ اعتبارها من باب الظهور النوعي المرتفع مع العلم ـ ولو إجمالا ـ بخلافها ، بل وكذلك لو قلنا باعتبارها من باب التعبّد العقلائي ، لظهور عدم تعبّدهم بالظواهر مع العلم الإجمالي بخلافها.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع تأثير العلم الإجمالي في العمل بالظواهر أيضا فيما احتمل كون الفرد الخارج من الأفراد التي لا يبتلي بها المكلّف ، كما إذا أمر المولى بإكرام العلماء ، وثبتت حرمة إكرام عالم مردّد بين أحد علماء البلد إجمالا وبين عالم في بلد ناء لا يبتلي به المكلّف عادة ، إذ لا ريب أنّ العقلاء لا يعذّرون العبد حينئذ في ترك إكرام علماء البلد لأجل كون العامّ عنده مخصّصا بمجمل. والسرّ فيه عدم ظهور العامّ في الشمول للأفراد التي لا يبتلي بها المكلّف عادة إلّا على وجه التعليق بالابتلاء ، وإذا تردّد الخارج بين الأفراد التي يبتلي بها المكلّف فعلا وبين غيرها ، رجع الشكّ في تخصيصه بالنسبة إلى الأفراد التي له ظهور في الشمول لها فعلا إلى الشكّ البدوي الذي يدفع بعموم العامّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : وإن قلنا بالرجوع إلى العامّ عند الشكّ فى مصداق ما خرج عنه.

٤٦٠