فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

ولا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه (١٢٥٤) من حيث إنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الإطاعة الحقيقيّة والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر.

هذا ، ولكنّ الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة مثل قوله عليه‌السلام : «من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات» ، وقوله : «من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك» ، وقوله : «من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» : هو كون الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه (١٢٥٥) ارتكاب المحرّمات المعلومة ولازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الخاصيّة المترتّبة على نفسه.

______________________________________________________

١٢٥٤. أي : على نفس الاحتياط والاجتناب مع قطع النظر عمّا ورد في الأخبار من الأمر به. وسيجيء في حواشي التنبيه الآتي ما يشكل في ذلك وما يدفعه.

١٢٥٥. توضيحه : أنّ رجحان الاحتياط تارة يكون لأجل إحراز الواقع ومصلحته به ، فيكون حينئذ مقدّمة علميّة للمجهولات الواقعيّة ، ولا ريب في كون الأمر بمثله للإرشاد ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. واخرى يكون لأجل حصول التحرّز به عن المحرّمات المعلومة ، لأنّه مع ارتكاب الشبهات يكون المكلّف قريبا من المحرّمات المعلومة ومشرفا عليها ، ويهون عليه ارتكابها ، لضعف سلطان العقل حينئذ ، وقوّة جنود الجهل ، فربّما تغلب عليه فلا يتمالك من نفسه ، فيقع فيها مقهورا ومغلولا للنفس ، فتحصيل ترك الشبهات حينئذ حسن ذاتيّ ومطلوبيّة نفسيّة وإن لم يبلغ مرتبة اللزوم ، فيكون تركها مستحبّا ، ويستحقّ التارك الممتثل للأمر المتعلّق به للثواب والجزاء. ومن هنا قد حمل المصنّف رحمه‌الله الأخبار الظاهرة الانطباق للأوّل على الإرشاد ، والأخبار الظاهرة الانطباق للثاني على الاستحباب.

١٨١

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة (١٢٥٦) حتّى مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناء على أنّ دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة ، وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا.

ولا يتوهم أنّه يلزم من ذلك (١٢٥٧) عدم حسن الاحتياط (١٢٥٨) فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه ؛ إذ لا ينفكّ ذلك عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ؛ لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحقّقه ، ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقّق موضوع التشريع ؛ ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

الرابع : نسب الوحيد البهبهاني قدس‌سره (١٢٥٩) إلى الأخباريّين مذاهب أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقّف والاحتياط والحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة (٤١) ، فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد وكون اختلافهم في التعبير لأجل اختلاف (١٢٦٠) ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة. فبعضهم ركن إلى أخبار التوقّف ،

______________________________________________________

١٢٥٦. لأنّ محلّ الكلام في المقام ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب مطلقا ، سواء كان هذا الغير هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو اثنان منها أو ثلاثة ، فالأقسام سبعة. وما ذكره تمهيد لدفع توهّم عدم رجحان الاحتياط فيما دار الأمر بين الحرمة والاستحباب مثلا ، لدوران الأمر بين المحذورين ، لرجحان الترك حينئذ لاحتمال حرمة الفعل ، ورجحان الفعل لاحتمال استحبابه. ووجه الرفع واضح ممّا ذكره.

١٢٥٧. أي : من عدم الفرق بين أفراد المسألة في حسن الاحتياط بالترك.

١٢٥٨. بالإتيان بالفعل ، لاحتمال استحبابه.

١٢٥٩. سيجيء نقل كلامه عند شرح ما يتعلّق بأقوال المطلب الثاني ، فانتظره.

١٢٦٠. يحتمل أن يكون الاختلاف في التعبير لا من جهة اختلاف ما ركنوا إليه من الأدلّة ، بل من جهة مجرّد الاختلاف في تأدية المراد ، بأن كان التعبير

١٨٢

وآخر إلى أخبار الاحتياط ، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنّب المحرّمات كحديث التثليث ، ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث إنّها مشتبهات ؛ فإنّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعي الحرمة.

والأظهر أنّ التوقّف (١٢٦١) أعمّ بحسب المورد من الاحتياط ؛ لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ممّا يجب فيها الصلح أو القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقّف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ ، والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة أو وجوب الجزاء المردّد بين نصف الصيد وكلّه.

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة ، فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالاولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي ، فالحرمة ظاهريّة. والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة. إذ بملاحظة أنّه إذا منع الشارع المكلّف ـ من

______________________________________________________

بالتوقّف باعتبار التوقّف عن الحكم الواقعي ، وبالاحتياط باعتبار كون ذلك مقتضى الأخذ بالأوثق في مقام العمل ، وهو الترك هنا ، وبالحرمة الظاهريّة باعتبار كون حكم الواقعة المجهولة الحكم بحسب الواقع هو ذلك ، وبالحرمة الواقعيّة باعتبار كون الواقعة المشتبهة الحكم موضوعا حكمها في الواقع هو ذلك.

ويحتمل رجوع الأقوال إلى ثلاثة ، بإرجاع القول بالتوقّف إلى الحرمة الواقعيّة أو الظاهريّة ، لأنّه مع التوقّف عن حكم الواقعة بحسب الواقع يمكن القول بالحرمة الواقعيّة لأجل حرمة التصرّف في مال الغير ، وبالحرمة الظاهريّة لأجل أخبار التثليث. ويحتمل رجوعها إلى قولين ، بإرجاع القول بالتوقّف والاحتياط إلى أحد القولين الآخرين.

١٢٦١. حاصل الفرق بين الأقوال : أنّ القول بالتوقّف أعمّ من القول بالاحتياط ، وهو أعمّ من القولين الأخيرين ، وهما يتفارقان بأحد الوجوه التي احتملها.

١٨٣

حيث إنّه جاهل بالحكم ـ من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ؛ لأنّ معنى الإباحة الإذن والترخيص ، فتأمّل (١٢٦٢).

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة ، إلّا أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرّف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع ، والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلا ، فإن كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلّا فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا بل معناه أنّه ليس فيه إلّا الحرمة الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فإنّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة على ما ذكره العلّامة الوحيد المتقدّم في موضع آخر ، حيث قال ـ بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم : بأنّه لا يدلّ على الحظر أو وجوب التوقّف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتّفق كونها حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ـ : ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريّين من يقول بهذا المعنى (٤٢) ، انتهى.

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا من أنّ الأمر العقلي والنقلي بالاحتياط للإرشاد من قبيل أوامر الطبيب لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتّب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر. نعم ، الإرشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ـ كما في بعض أوامر الطبيب ـ لا للأولويّة

______________________________________________________

١٢٦٢. وجه التأمّل واضح ، لأنّ منع الشارع المكلّف من الفعل من حيث كونه جاهلا بحكمه وإن كان منافيا لرخصته في الفعل من هذه الحيثيّة ، إلّا أنّ هذا بمجرّده لا يوجب تسمية مثل هذا حكما واقعيّا ، لأنّ الظاهر من الحكم الواقعي ما يعرض الفعل من حيث نفسه في الواقع ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ، لأنّه مرحلة الظاهر ، ففرض مجهول الحكم موضوعا واقعيّا بمعنى كونه أمرا ثابتا في الواقع لا يوجب تسمية ما يعرضه حكما واقعيّا.

١٨٤

كما اختاره القائلون بالبراءة. وأمّا ما يترتّب على نفس الاحتياط فليس إلّا التخلّص عن الهلاك المحتمل في الفعل.

نعم ، فاعله يستحقّ المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوع من الانقياد ويستحقّ عليه المدح والثواب. وأمّا تركه فليس فيه إلّا التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه ، بل عرفت في مسألة حجّية العلم : المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظم من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب ، ولا يلزم من تسليم استحقاق (١٢٦٣) الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالإقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا. وسيأتي تتمّة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

١٢٦٣. ربّما يمنع عدم الملازمة ، نظرا إلى أنّ استحقاق الثواب إن كان لأجل كون الترك لاحتمال الحرمة عنوانا حسنا ، فلا بدّ أن يكون الفعل مع احتمال الحرمة عنوانا قبيحا ، فاحتمالها إن كان محسّنا للترك فلا بدّ أن يكون مقبّحا للفعل أيضا. وكما أنّ المصنّف رحمه‌الله يقول بكون الذمّ في التجرّي على الصفة في الفاعل لا على الفعل ، فكذا لا بدّ أن يقول بكون المدح في المقام أيضا كذلك. لأنّ الإقدام على المخالفة كما يكشف عن خبث السريرة ، كذلك الإقدام على الطاعة يكشف عن حسنها.

ويدفعه : أنّ استحقاق الثواب على الترك إنّما يلازم استحقاق العقاب على الفعل على تقدير كون حسن الترك على حدّ الإلزام ، وهو خلاف الفرض. مع إمكان أن يقال : إنّ الترك مقدّمة علميّة للاحتراز عن الحرام الواقعي ، ولا ريب في حسن الاحتراز عنه ، فتحسن مقدّمته أيضا ، بخلاف الفعل ، لأنّ غايته أن يكون مقدّمة علميّة لفعل الحرام الواقعي ، ومقدّمات الحرام إنّما تتّصف بالحرمة إذا كان الإتيان بها بقصد التوصّل بها إليه ، كما قرّر في مبحث المقدّمة. ونقول فيما نحن فيه

١٨٥

الخامس : أنّ أصالة الإباحة في مشتبه الحكم (١٢٦٤) إنّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها ، فلو شكّ في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى

______________________________________________________

أيضا : إنّ الإتيان بمحتمل الحرمة إنّما يكون مرجوحا إذا كان الإتيان به بقصد التوصّل به إلى الحرام الواقعي لا مطلقا. ومن هنا قد صرّح المصنّف في مسألة الشبهة المحصورة بكون الإتيان بأطراف الشبهة بقصد التوصّل بها إلى الحرام الواقعي خارجا من محلّ النزاع ، وحراما حتّى عند من لم يوجب الاحتياط فيها.

١٢٦٤. توضيح المقام على وجه تنكشف عنه غواشي الأوهام : أنّ جريان أصل البراءة التي تنشعب منها أصالة الإباحة في مشتبه الحكم أو الموضوع ـ سواء كانت الشبهة على التقديرين تحريميّة أم وجوبيّة ـ مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده حاكم عليه ، كما في الفروج والأموال واللحوم ونحوها ، لكون حلّية الفروج مشروطة بالسبب المحلّل لها ، وحلّية الأموال بالملكيّة أو إذن المالك ، واللحوم بقابليّة المحلّ للتذكية ، فإذا شكّ في تحقّق شيء من هذه الشروط في مورد فالأصل يقتضي عدمه.

فنقول : إذا وجد حيوان وعلمت قابليّته للتذكية فأصالة الإباحة تقتضي حلّيته. وإذا شكّ في قابليّته لها فأصالة الإباحة لا تقتضي كونه قابلا لذلك ، لفرض كون حلّية لحمه بمقتضى قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) مشروطة بقابليّته للتذكية ، فلا بدّ في الحكم بها من إحراز شرطها ، والأصل يقتضي عدمه ، فيحكم بحرمته حينئذ لا محالة.

نعم ، هذا إنّما هو فيما لم يكن هنا أصل لفظي يقتضي الحلّية ، مثل قوله عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله في كتابه» أو كان وكان مجملا ، وإلّا فمقتضى الأصل الثانوي كون كلّ حيوان قابلا للتذكية ، بل لا بدّ أن يفرض الكلام أيضا على تقدير عدم كون التذكية أمرا عرفيّا ، كما حكي عن القاضي ، حيث ادّعى كفاية الذبح العرفي في الحلّية ، مدّعيا عدم ثبوت حقيقة شرعيّة في لفظها ، كما ادّعى عدم ثبوتها في

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ألفاظ العبادات ، وإلّا فأصالة الإباحة بعد إبانة الرأس بحيث يصدق عليه كونه مذبوحا تقتضي جواز الأكل منه.

وقال الشهيد والمحقّق الثانيان ـ وقيل : لم يسبقهما ولم يلحقهما أحد في ذلك ـ في مقام عدّ أقسام النجاسات : «الكلب والخنزير البرّيان ، وأجزائهما وإن لم تحلّها الحياة ، وما تولّد منهما وإن باينهما في الاسم. وأمّا المتولّد من أحدهما وطاهر ، فإنّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته ، وإن حرم لحمه ، للأصل فيهما» انتهى كلام الشهيد.

وأقول : كلامهما مشتبه المقصود ، فيحتمل أن يكون لخصوص المتولّد منهما مدخليّة في الحكم. ويحتمل أن يكون ذكر المتولّد من نجس العين وطاهرها من باب المثال ، فيعمّ الحكم كلّ حيوان مشتبه الحلّية والطهارة. وعلى التقديرين يمكن أن يحتجّ لهما بوجوه :

أمّا على الأوّل ، فأوّلا : بفحوى ما ورد في أخبار كثيرة من حرمة أكل لحم حمل قد رضع من خنزيرة حتّى زادت قوّته ، واشتدّ عظمه ، ونبت لحمه بسببه. والمرويّ عن الصادق عليه‌السلام حرمة نسله أيضا. وفي مرفوعة عبد الله بن سنان : «لا تأكل من لحم حمل رضع من لبن خنزيرة». فإذا كان الرضاع مؤثّرا في حرمة المرتضع فالنطفة أولى بذلك. ويتعدّى من المتولّد من خنزير وغنم إلى كلّ متولّد من نجس العين وطاهرها ، أو من نجس العينين ، فتكون الحرمة أصلا في المتولّد من نجس العين. هذا بالنسبة إلى الحلّية والحرمة. وأمّا بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ، فتدلّ على الطهارة فيما نحن فيه الأصل المأخوذ من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر».

وثانيا : بالإجماع ، لأنّ ظاهر كاشف الغطاء وجود مدّع له ، لأنّه قال في حكم المسألة بعد بيان حكم الطهارة والنجاسة : «وأمّا حكم الإباحة والتحريم ، فإن ثبت إجماع على حرمة كلّ متفرع عن الحرام تبع الفرع أصله ، وإلّا فحكمه

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كالسابق» انتهى. ولعلّهما قد استندا إلى هذا الإجماع ، لأنّ المستفاد منه قاعدة كلّية ، وهي تبعيّة الفرع للأصل في الحرمة.

وثالثا : بكون الشبهة في المتولّد من نجس العين وطاهرها موضوعيّة ، بناء على لحوقه بأحدهما في الواقع ، وعدم كونه طبيعة ثالثة ، نظير الخنثى ، بناء على كون توريثها نصف نصيب الذكر والأنثى خارجا بالدليل لا لأجل كونها طبيعة ثالثة ، لأنّ أصالة عدم تحقّق التذكية الشرعيّة في الخارج بفري الأوداج الأربعة تقتضي حرمته لا محالة.

لكن يرد على هذا الوجه : منع عدم كونه طبيعة ثالثة ، لعدم الدليل عليه بعد فرض عدم تحقّق التبعيّة في الاسم. مع أنّ أصالة عدم تحقّق التذكية كما تقتضي التحريم كذلك النجاسة ، قضيّة للتلازم بينهما ، وإن قلنا بجريان كلّ من أصالة عدم التذكية وعدم النجاسة فيما اختلف فيه موضوعهما ، كالصيد المرميّ الذي وجد ميّتا في الماء ، ولم يعلم استناد موته إلى الرمي أو إلى الغرق في الماء ، لأنّ الحكم بحرمة الصيد لأصالة عدم حصول التذكية ، وطهارة الماء للاستصحاب ، لا يقتضي الحكم بالتحريم والطهارة فيما نحن فيه أيضا ، لما عرفت من تغاير موضوعهما هنا ، بخلاف ما نحن فيه.

وأمّا على الاحتمال الثاني ـ كما فهمه جماعة من كلامهما ـ فيمكن الاحتجاج لما ذكراه أيضا بوجوه :

أحدها : ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من استصحاب الطهارة وعدم التذكية المقتضي للتحريم.

ويرد عليه ـ مضافا إلى أنّ أصالة عدم التذكية كما تقتضي التحريم كذلك تقتضي النجاسة ، للملازمة بينهما ، لكون الطهارة مرتّبة شرعا على عنوان المذكّى ـ ما أشار إليه بقوله : «فإنّما يحسن مع الشكّ». وحاصله : حكومة قاعدة الإباحة المستفادة من الكتاب والسنّة المسلّمة عندهم على أصالة عدم التذكية. وقد قال

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.) وقال عليه‌السلام : «الحرام ما حرّم الله في كتابه» لاقتضاء هذه القاعدة أصالة قابليّة المحلّ للتذكية في محلّ الشكّ لا محالة.

فإن قلت : إنّ القاعدة مسلّمة فيما شكّ في الحلّية والحرمة بعد العلم بقابليّة المحلّ للتذكية ، لأنّ الحيوانات على أقسام ، منها ما هو قابل لها ومحلّل كالأنعام الثلاثة ، ومنها ما هو قابل لها ومحرّم كالسباع ، ومنها ما هو غير قابل لها ومحرّم الأكل كالكلب والخنزير. ومورد القاعدة ما كان قابلا لها وشكّ في حلّيته ، فهي لا تنافي أصالة عدم التذكية فيما نحن فيه أو غيره ممّا شكّ في قابليّته للتذكية.

قلت : هذا الوجه وإن كان جامعا بين الأصلين إلّا أنّ إطلاق الأدلّة ممّا تقدّم وغيره يدفعه. فأصالة الحلّية كما تثبت الحلّية فيما علمت قابليّته وشكّ في حلّيته ، كذلك أصالة الحلّية فيما شكّ في أصل القابليّة ، لملازمتها لها بحسب الشرع ، لأنّ العمومات من الأدلّة الاجتهاديّة ، فهي تثبت اللوازم مطلقا. ولا فرق فيه بين أن نقول بكون التذكية أمرا شرعيّا أو عرفيّا ، بخلاف ما لو قلنا بالإباحة لأجل أصالة الإباحة ، لأنّها إنّما تجدي في المقام لو قلنا بكون التذكية أمرا عرفيّا ، لثبوت الإباحة حينئذ بالأصل ، والتذكية التي هي عبارة عن الذبح عرفا بالوجدان. وأمّا لو قلنا بكونها أمرا شرعيّا ، فهي إنّما تثبت القابليّة على القول بالاصول المثبتة ، كما هو واضح.

وثانيها : ـ مع تسليم قابليّته للتذكية الثابتة بالعمومات ـ ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا من استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين قبل الذبح ، لوضوح عدم منافاة قابليّته للتذكية للحرمة كالسباع وقد ذكر هذا الوجه بعض محشّي الروضة.

ويرد عليه أوّلا : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من أنّ الطهارة والحرمة قبل التذكية قائمتان بالميتة ، يعني : بغير المذكّى ، لأنّها عبارة عن غير المذكّى ، وبعدها بالمذكّى ، فانسحابهما إلى ما بعدها انسحاب لحكم موضوع إلى موضوع آخر. و

١٨٩

أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ؛ لأصالة عدم التذكية ؛ لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة.

______________________________________________________

بعبارة اخرى : أنّ موضوع المستصحب في الحالة السابقة هي الميتة ، وفي زمان إثبات الحكم هو المذكّى ، والعلم ببقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب ، فهو لا يجري مع الشكّ فيه فضلا عن العلم بتغيّره.

وثانيا : أنّه مع استصحاب الطهارة لا بدّ من الحكم بالحلّية أيضا ، لأنّها لا تثبت إلّا بعد قابليّة المحل للتذكية ، وحينئذ لا بدّ من الحكم بحلّيته أيضا ، لعموم ما دلّ على حلّية المذكّى إلّا ما أخرجه الدليل كالسباع ، لأنّها مع حرمتها قابلة للتذكية.

وثالثها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن شارح الروضة ـ يعني : الفاضل الهندي في المناهج السوية ـ من كون النجاسات معنونة ومحصورة في الشرع في عشرة أصناف أو أزيد ، وكذا المحلّل من الحيوانات مثل الأنعام الثلاثة وغيرها ، ولا ريب أنّ مقتضى الحصر كون ما يخالفه على مقتضى الأصل ، فيكون مشكوك الطهارة والحلّية محكوما عليه بهما.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره من الحصر متّجه بالنسبة إلى النجاسات ، وأمّا بالنسبة إلى المحلّل من الحيوانات فيمكن منع الحصر ، لأنّ غاية الأمر أنّ بعض الحيوانات لمّا كان محلّ ابتلاء للناس سألوا الأئمّة عليهم‌السلام عنها ، فأجابوهم بالحلّية في بعض والحرمة في بعض آخر. وأمّا دعوى الحصر فلا شاهد لها ، بل تمكن دعوى الحصر في المحرّم منها ، لأنّ المحرّم من غير أصناف الطيور ثلاثة أصناف : الحشرات والمسوخ والخبائث ، ومن الطيور أربعة أصناف : ما كان صفيفه أكثر من دفيفه ، وما لا قانصة له ، وما لا حوصلة له ، وما لا صيصية له. فمقتضى الحصر هو الحكم بحلّية المشكوك فيه. وأمّا تعليق الحلّية في الآية الشريفة بالطيّبات فيظهر تقرير السؤال والجواب عنه ممّا ذكره المصنّف قدس‌سره.

١٩٠

ويظهر من المحقّق والشهيد الثانيين (٤٣) قدس‌سرهما فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل : أنّ الأصل فيه الطهارة والحرمة. فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فإنّما يحسن مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلّا ما خرج ، كما ادّعاه بعض (٤٤).

وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية ، ففيه أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر. ولو شكّ في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق ، وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والإباحة.

نعم ، ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر ونقله بعض محشّيها عن الشهيد في تمهيد القواعد. قال شارح الروضة : إنّ كلّا من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر ، انتهى. ويمكن منع حصر المحلّلات بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ؛ ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

ولو قيل إنّ الحلّ إنّما علّق بالطيّبات في قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (٤٥) (١٢٦٥) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ، فكلّ ما شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا إنّ التحريم محمول في القرآن على «الخبائث» و «الفواحش» ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة وعموم قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) (٤٦) وقوله عليه‌السلام : «ليس الحرام إلّا ما حرّم

______________________________________________________

١٢٦٥. تتمّة الآية : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (*) الآية.

__________________

(*) هذا غفلة من المحشّي قدس‌سره ، والعصمة لله وحده ، فالآية المذكورة في المتن هي الآية الرابعة من سورة المائدة ، وتتمّتها : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...). والآية التي أشار إليها المحشّي هي الآية (١٥٧) من سورة الأعراف ، وهي : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.) لا : حرّم لكم الخبائث.

١٩١

الله» ، مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا بل الطيّب ما لا يستقذر (١٢٦٦) ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشكّ ، فتدبّر.

السادس : حكي عن بعض الأخباريّين (١٢٦٧) كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو أنّه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما يثبت من

______________________________________________________

١٢٦٦. يعني : أنّ الحكم بتعارض الأصلين إنّما يتمّ فيما لو كان عنوان كلّ من الطيّب والخبيث أمرا وجوديّا ، وليس كذلك ، إذ الظاهر أنّ الطيب عبارة عن عدم الخباثة ، كما يشهد به معناها اللغوي ، وهو عدم الاستقذار ، فتعليق الحلّ عليه إنّما هو من هذه الجهة لا من جهة كونها أمرا وجوديّا حتّى يكون عدمها موردا للأصل. وبالجملة إنّ موضوع الحرمة والحلّ هي الخباثة وعدمها ، فمع الشكّ في اتّصاف شيء بأحدهما يمكن إثبات عدمها بالأصل ، فيثبت به إباحته من دون معارضة شيء.

ولكنّك خبير بأنّه إن اريد باستصحاب عدم الخباثة استصحاب عدم خباثة الحيوان المشكوك الحلّ ، ففيه : أنّه لم يثبت عدم خباثته في زمان حتّى يستصحب. وإن اريد به استصحاب عدم الخباثة المطلقة المستلزم لعدم خباثة هذا الحيوان أيضا ، فهو إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، لأنّ استصحاب الكلّي وتطبيقه على بعض أفراده الخارجة لا يتمّ إلّا بذلك. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وأمّا الاصول العدميّة فهي ثابتة ببناء العقلاء ، فتأمّل.

١٢٦٧. قيل : هو السيّد نعمة الله الجزائري. وقد اشتبه عليه محل النزاع في مسألة البراءة والاحتياط ، لأنّ ما طعن به على السلف من علمائنا الاصوليّين إنّما يناسب المقام لو كانوا قائلين بحرمة الاحتياط عند الشبهة ، ولا يلتزم به ذو مسكة ، إذ لا ريب في رجحانه وكونه سبيل النجاة. فخلافهم إنّما هو في جواز

١٩٢

العلوم ، فإن اشتبه عليّ شيء عملت بالاحتياط ، أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالإهانة والإحباط ، فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار؟ هيهات هيهات! أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنّة خالدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين (٤٧) ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلا عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة. وأمّا الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط لاحتمال حرمته ، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة ، وإلّا فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه ، كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كلّ تقدير فلا ينفع قول الأخباريّين له : إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصولي له : إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه. وبالجملة فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقّن من الأمرين في البين ، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لا يخفى ، فما ذكره هذا الأخباري من الإنكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، والله العالم وهو الحاكم.

المسألة الثانية : ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ : إمّا بأن يكون اللفظ (١٢٦٨) الدالّ على الحكم مجملا ، كالنهي

______________________________________________________

الإفتاء بوجوب الاحتياط وحرمة العمل بالبراءة وفي عدم جوازه ، وكون مقتضى الأصل هو جواز العمل بالبراءة. وشيء منهما كما أفاده المصنّف رحمه‌الله ـ ليس بمتيقّن حتّى يؤخذ به ويطعن على من أخذ بخلافه.

١٢٦٨. حاصله : أنّ إجمال النصّ تارة يكون من جهة إجمال ما دلّ على

١٩٣

المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة ، وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلّق الحكم كذلك ، سواء كان الإجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله ، فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة أم كان الإجمال في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به. والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

وربّما يتوهّم أنّ الإجمال إذا كان في متعلّق الحكم ـ كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ـ كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسد.

المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط ؛ لعدم الدليل عليه عدا ما تقدّم من الوجوه المذكورة التي عرفت حالها وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين مثل ما في عوالي اللآلي من مرفوعة

______________________________________________________

الحكم التكليفي ، واخرى من جهة الإجمال في متعلّقاته. وعلى الثاني : تارة يكون الإجمال ناشئا من الجهل بالوضع ، واخرى من الشكّ في شمول إطلاق اللفظ لبعض أفراده الخفيّة بعد العلم بالوضع ، كالشكّ في دخول قطرة من الخمر في المراد بقولنا : الخمر حرام. وهذه الأقسام كلّها من قبيل الشبهة الحكميّة ، فهي داخلة في محلّ النزاع ، لأنّ المراد بها ما كانت الشبهة فيه ناشئة من فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه ، ولا ريب في تحقّق الإجمال في جميع الأقسام المذكورة. فما توهّمه بعضهم من خروج ما كانت الشبهة فيه ناشئة من الإجمال في متعلّق التكليف بقسميه من محلّ النزاع ، بزعم كون ذلك من قبيل الشبهة الموضوعيّة التي اتّفق الاصوليّون والأخباريّون على البراءة فيها ، ضعيف جدّا ، لأنّ المراد بالشبهة الموضوعيّة ما كانت الشبهة فيه في مصاديق مفاهيم ألفاظ الخطاب بعد العلم بوضعها والمراد منها ، ومنشأ الشبهة فيها اختلاط الامور الخارجة ، ومزيلها الأمارات المعتبرة في تشخيص الموضوعات الخارجة دون الأدلّة. وقد أوضحنا جميع ذلك في مقصد حجّية القطع ، فراجع ولا تغفل.

١٩٤

العلّامة رحمه‌الله (١٢٦٩) إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال عليه‌السلام : خذ بما يقوله أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي. فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ؛ فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف نصنع؟ قال : فخذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : إنّهما معا موافقان (١٢٧٠) للاحتياط أو مخالفان (١٢٧١) ، فكيف أصنع؟ قال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر ...» (٤٨).

وهذه الرواية وإن كانت أخصّ من أخبار التخيير (١٢٧٢) إلّا أنّها ضعيفة

______________________________________________________

١٢٦٩. قال الشهيد الثاني في شرح الدراية المرفوع هو ما أضيف إلى المعصوم من قول ، بأن يقول في الرواية : إنّه قال كذا ، أو فعل بأن يقول : فعل كذا أو تقرير بأن يقول فلان فعل بحضرته كذا ولم ينكره عليه ، فإنّه يكون قد أقرّه عليه. وأولى منه ما لو صرّح بالتقرير ، سواء كان إسناده متّصلا بالمعصوم بالمعنى السابق أو منقطعا ، بترك بعض الرواة ، أو إبهامه ، أو رواية بعض رجال سنده عمّن لم يلقه» انتهى. والظاهر أنّ المراد بالرفع هنا غير معناه المصطلح عليه ، كما هو واضح.

١٢٧٠. كما إذا أخبر أحدهما عن وجوب الظهر ، والآخر عن وجوب الجمعة.

١٢٧١. كما إذا أخبر أحدهما عن استحباب فعل ، والآخر عن إباحته ، مع احتمال الوجوب في المسألة.

١٢٧٢. لاختصاص الحكم بالتخيير في المرفوعة ـ مع اعتبار فقد المرجّحات ـ بصورة موافقة الخبرين للاحتياط أو مخالفتهما له ، بخلاف أخبار التخيير ، لكونها أعمّ من هذه الجهة.

١٩٥

السند ، وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي وصاحبه ، فقال : إنّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي ، مع ما هي عليها من الإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (٤٩) ، انتهى.

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه أو كون الحكم الوقف أو التساقط (١٢٧٣) والرجوع إلى الأصل أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر أو دائما ، وجوه ليس هنا محلّ ذكرها ؛ فإنّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، والله العالم.

بقي هنا شيء (١٢٧٤) وهو أنّ الاصوليّين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف (٥٠) ، ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل إلى أكثر الاصوليّين بل إلى جمهورهم منهم العلّامة قدس‌سره (٥١).

______________________________________________________

١٢٧٣. المراد بالتوقّف هو التوقّف عن الحكم بأحدهما تعيّنا في الواقع أو الظاهر ، وكذا تخييرا ، بأن لا يحكم في مورد الشبهة بحكم واقعي ولا ظاهري ، وإن لم يكن عليه حرج في ارتكاب طرفي الشبهة في مقام العمل ، كما سيجيء في المسألة الاولى من المطلب الثالث. والمراد بالتساقط فرض المورد بلا نصّ ، فكما يجوز العمل بالأصل مع عدمه فكذا مع تعارضه ، وإن كان مقتضاه مخالفا لمقتضاهما.

١٢٧٤. لا يخفى أنّه ـ مع تنافي الخلاف في المسألة الاولى للوفاق على تقديم الحاظر في المسألة الثانية ـ هنا إشكال آخر ، وهو إغناء عنوان المسألة الاولى عن الثانية. مع أنّ تقديم الجمهور للناقل ، والجميع للحاظر في المسألتين ، ينافي ما هو المشهور ـ بل نسبه المصنّف رحمه‌الله في موضع من باب التعادل والترجيح إلى ظاهر الفقهاء ، وفي موضع آخر إلى ما عثر عليه من كتب الاستدلال الفرعيّة ـ من الترجيح بموافقة الأصل ، لأنّ مقتضاه تقديم المقرّر والمبيح على الناقل والحاظر. و

١٩٦

وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الإباحة على (*) الدالّ على الحظر والخلاف فيه (٥٢) ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك. والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق (١٢٧٥) في الثانية.

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير (١٢٧٦) أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلّامة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير.

ويمكن أن يقال (١٢٧٧) : إنّ مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة ، فيفارق مسألة تعارض المبيح والحاظر

______________________________________________________

الجواب عن الأوّل يظهر ممّا أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن الإشكال الذي أورده إن تمّ.

١٢٧٥. على تقديم الحاظر الذي هو المخالف للأصل.

١٢٧٦. هذا هو المشهور ، بل عزاه المصنّف رحمه‌الله في باب التعادل والترجيح إلى جمهور المجتهدين.

١٢٧٧. بهذا الجواب أيضا أجاب عن الإشكال في مبحث التعادل والترجيح ، وزاد المنع من تحقّق الاتّفاق في المسألة الثانية.

وحاصل الجواب المذكور : تخصيص موضوع المسألة الاولى بصورة دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، كما أنّ موضوع الثانية هي صورة دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، فلا تنافي.

واعترضه هناك بإطلاق كلمات العلماء في المسألة الاولى ، فلا شاهد للتخصيص. مع أنّه يأباه أيضا إطلاق دليلهم على تقديم الناقل على المقرّر ، وهو أنّ الغالب فيما صدر عن الشارع هو الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : الخبر.

١٩٧

و (*) إن حكم أصحابنا (١٢٧٨) بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما ، فيفارق المسألتين. لكن هذا الوجه (١٢٧٩) قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل.

______________________________________________________

العقل ، إذ لا ريب أنّ مقتضاه أعمّ من المسألتين.

١٢٧٨. ظاهره بقاء إشكال رجوعهم إلى أصالة البراءة. والوجه فيه واضح ، لعدم ورود خبر في الرجوع إلى مقتضاها عند تعارض الخبرين.

١٢٧٩. لأنّ من جملة أدلّتهم على تقديم الحاظر على المبيح هو كون الحاظر متيقّنا في العمل ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وقوله عليه‌السلام : «ما اجتمع حلال وحرام إلّا غلب الله الحرام على الحلال». كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في آخر مبحث التعادل والترجيح. وهو صريح في عدم كون تقديم الحاظر بملاحظة نفس مدلول الخبرين ، بل بمئونة أدلّة الاحتياط.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

١٩٨

المصادر

(١) آل عمران (٣) : ١٠٢.

(٢) الحج (٢٢) : ٧٨

(٣) التغابن (٦٤) : ١٦.

(٤) البقرة (٢) : ١٩٥.

(٥) النساء (٤) : ٥٩

(٦) الذكرى ج ٢ : ص ٤٤٤.

(٧) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١.

(٨) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٦ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٣٥.

(٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢.

(١٠) الوسائل ج ٣ : ص ١٢٣ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١١.

(١١) الوسائل ج ١٨ ، ص ١١٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٠.

(١٢) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١٤.

(١٣) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٣٢.

(١٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى الحديث ٤٣.

(١٥) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٧.

(١٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢١.

(١٧) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٧ ، الباب ١٢ ، من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٠.

(١٨) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٢.

(١٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى الحديث ٤٠.

(٢٠) الوسائل ج ١٤ : ص ١٩٣ الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث ٢.

(٢١) الفصول الغرويّة : ص ٣٥٦.

(٢٢) ضوابط الاصول : ص ٣٢٣.

(٢٣) القوانين ج ٢ : ص ٢١.

(٢٤) القوانين ج ٢ : ص ٢٢.

(٢٥) مناهج الاصول : ص ٢١٤.

(٢٦) الوسائل ج ١٨ : ص ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١.

(٢٧) الوسائل ج ٣ : ص ١٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، الحديث ١٤.

(٢٨) الأمالى : ج ١ ، ص ١١٠ ، الحديث ١٦٨.

(٢٩) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٥٤.

١٩٩

(٣٠) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٤ و ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٤٧ و ٥٦.

(٣١) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٥٨.

(٣٢) معارج الاصول : ص ٢١٦.

(٣٣) الوسائل ج ١٨ : ص ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٤٧.

(٣٤) الوسائل ج ١٨ : ص ١١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ٢٥.

(٣٥) الحشر (٥٩) : ٧.

(٣٦) عدّة الاصول : ج ٢ : ص ٧٤٢.

(٣٧) المعتبر ج ١ : ص ٣٢.

(٣٨) معارج الاصول : ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٣٩) الفوائد المدنيّة : ص ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤٠) الأنفال (٨) : ٢٠.

(٤١) الفوائد الحائريّة : ص ٢٤٠.

(٤٢) الفوائد الحائريّة : ص ٢٤٢.

(٤٣) الروضة البهيّة ج ١ : ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٤٤) مفاتيح الشرائع ج ١ : ص ٦٩.

(٤٥) المائدة (٥) : ٤.

(٤٦) الأنعام (٦) : ١٤٥.

(٤٧) الرسائل الاصوليّة : ص ٣٧٧.

(٤٨) عوالى اللآلى ج ٤ : ص ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

(٤٩) الحدائق الناضرة : ج ١ : ص ٩٩.

(٥٠) المعالم : ص ٢٥٣.

(٥١) تهذيب الوصول : ص ٩٩.

(٥٢) مفاتيح الاصول : ص ٧٠٨.

٢٠٠