فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد (١٤١٦) على إرادة التخيير الواقعي ، وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال. هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع ، فراجع.

وكيف كان : فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الإجماع إرادتهم ب «طرح قول الإمام عليه‌السلام» الطرح من حيث العمل ، فتأمّل (١٤١٧).

______________________________________________________

١٤١٦. إذ لو كان مراده بالتخيير هو التخيير الظاهري لم يستلزم الاتّفاق بعد الاختلاف إبطال قول الإمام عليه‌السلام ، لكشف ذلك عن كون قول الإمام عليه‌السلام هو المجمع عليه من القولين.

١٤١٧. لعلّه إشارة إلى منع الظهور مع إطلاق كلماتهم. ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ انحصار القول فيما نحن فيه ـ كما صرّح به في المقصد الأوّل عند بيان جواز مخالفة العلم الإجمالي ـ في التخيير وترجيح جانب الحرمة ، إذ لو جازت المخالفة الالتزاميّة لكان القول بالإباحة الظاهريّة فيما نحن فيه أولى بالإذعان ، لموافقتها لأصالة البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة ، لعدم تأثير العلم الإجمالي حينئذ في الفرق بينه وبين الشبهات المجرّدة عنه.

وتؤيّده أيضا ملاحظة كلمات الشيخ ، مثل تعليله لعدم جواز إحداث قول ثالث أو رابع في المسألة بموافقة قول الإمام عليه‌السلام لأحد القولين ، وبعدم جواز إجماع الامّة على المسألتين مخطئة فيهما على مذهبنا ومذهب العامّة ، وغير ذلك ممّا هو ظاهر كالصريح في كون مخالفة قول الإمام عليه‌السلام من حيث هي ممنوعة عندهم ، كيف ولو كانت المخالفة الالتزاميّة جائزة عندهم لأشاروا إليها لا محالة ، مع أنّها مستلزمة للمخالفة العمليّة بتعدّد الواقعة ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في المقصد الأوّل.

فإن قلت : كيف تأبى عن نسبة تجويز المخالفة الالتزاميّة إليهم ، والشيخ قد عزى جواز الرجوع إلى مقتضى الأصل في مسألة الإجماع المركّب إلى بعض أصحابنا ، كما حكاه عنه المصنّف رحمه‌الله؟ والأصل قد يكون مخالفا للقولين. وقول

٣٤١

ولكنّ الإنصاف (١٤١٨) : أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ، وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد

______________________________________________________

الشيخ أيضا بالتخيير الواقعي مستلزم لطرح قول الإمام عليه‌السلام ، كما أورده عليه المحقّق وقرّره صاحب المعالم. ولا ريب أنّ تعميم كلامهما لصورة لزوم المخالفة العمليّة بعيد جدّا ، لقبحها عقلا ، ومنافاتها لاعتبار قول الحجّة ولكلماتهم في حجيّة الإجماع على مذهب الخاصّة ، فلا مناص من حمل كلامهما على صورة لزوم المخالفة بحسب الالتزام دون العمل.

قلت : ما حكاه الشيخ مجهول القائل وإن عزاه إلى بعض أصحابنا ، ولعلّه قد غفل عن استلزام الرجوع إلى الأصل مخالفة قول الإمام عليه‌السلام في بعض الأحيان التزاما أو عملا ، أو جوّز المخالفة مطلقا مع موافقة الأصل ، أو أراد به الأصل الموافق لأحد القولين.

وأمّا قول الشيخ بالتخيير فلا دلالة فيه على جواز مخالفة قول الإمام عليه‌السلام أصلا ، لأنّ قوله بذلك إنّما هو من أجل قوله باعتبار الإجماع من باب اللطف ، لأنّه مع اختلاف الأمّة على قولين إذا لم يظهر الإمام عليه‌السلام ولم يظهر الحقّ كشف ذلك عن كون الحقّ في كلا القولين ، وإلّا وجب عليه الظهور وردع إحدى الطائفتين عن الباطل. فقوله بالتخيير إنّما هو لأجل كون ذلك قول الإمام عليه‌السلام لا مخالفا له. وعليه يتفرّع أيضا ما ذكره من عدم جواز الوفاق بعد الخلاف. وبالجملة ، إنّي لم أجد مدعيا من العلماء لجواز خصوص المخالفة الالتزاميّة تصريحا أو تلويحا بل مطلقا ، كما هو واضح ، مضافا إلى مخالفته لطريقة العقلاء كما ستعرفه.

١٤١٨. هذا اعتراض على جميع ما تقدّم بمنع نهوض أدلّة البراءة لإثبات الإباحة الظاهريّة. وحاصله : أنّ ما هو ظاهر في إثبات الإباحة الظاهريّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» منصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب. وما دلّ على نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف فيه ، مثل

٣٤٢

إلّا عدم المؤاخذة على الترك أو الفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ، وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه. نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ؛ فاللازم هو التوقّف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع ، ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» وقوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» وفي حكمه دليل العقل ، ظاهر في مجرّد نفي العقاب على الفعل أو الترك ، وعدم تعيّن خصوص أحدهما عليه ، وهو أعمّ من الإباحة الظاهريّة ، وغير مناف لوجوب الأخذ بأحدهما. نعم ، هذا الوجوب أيضا لا دليل عليه ، فالمتيقّن من الأدلّة هو التوقّف عن الحكم الواقعي ، والالتزام به على ما هو عليه في الواقع ، وعدم الالتزام بشيء في مقام الظاهر ، وإن لم يكن حرج في الفعل أو الترك في مقام العمل. ومن هنا يظهر قوّة القول الثاني ودليله.

فإن قلت : كيف لا تلتزم في مقام الظاهر بحكم ظاهري ، وقد تواترت الأخبار على عدم خلوّ واقعة من حكم حتّى أرش الخدش؟

قلت : المسلّم عدم خلوّ الواقعة من حكم واقعي لا من حكم ظاهري أيضا ، لعدم الدليل عليه ، إذا لم يحتج إليه في مقام العمل ، ولذا نقول بعدم الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فيما دار الأمر بينهما ، نظرا إلى عدم كون نفي الوجوب بالأصل مثبتا للاستحباب. وقد يمنع عدم الدليل على الوجوب المذكور ، نظرا إلى بناء العقلاء على الالتزام بأحد الاحتمالين فيما دار الأمر فيه بين المحذورين كما فيما نحن فيه ، لكون ذلك نحو امتثال للحكم المعلوم إجمالا عندهم ، ولا ريب في كون طريق امتثال الأحكام وكيفيّة امتثالها موكولة إليهم. وهو غير بعيد بعد ما عرفت في الحاشية السابقة من عدم ظهور قول بجواز المخالفة الالتزاميّة ، سيّما في هذه المسألة التي قد تقدّم غير مرّة انحصار القول فيها في تقديم جانب الحرمة و

٣٤٣

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذ بالحرمة أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان ، بل قولان : يستدلّ على الأوّل (١٤١٩) ـ بعد قاعدة الاحتياط ؛ حيث يدور الأمر (١٤٢٠) بين التخيير والتعيين ـ : بظاهر ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ؛ فإنّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في الشبهة ، وبأنّ دفع المفسدة (١٤٢١) أولى من جلب المنفعة ؛ لما عن النهاية من : أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ.

ويشهد له ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أنّ «اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيّئات». ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ؛ لأنّ مقصود الحرمة يتأتّى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة ، بخلاف فعل الواجب ، انتهى.

______________________________________________________

التخيير ، فتدبّر. والله العالم بأحكامه.

١٤١٩. ربّما يستدلّ عليه بالإجماع المحكيّ عن النهاية. وفيه : أنّه لا اعتداد به بعد العلم بمستند المجمعين ، وهو الوجوه الاعتباريّة المضعّفة في المتن ، لأنّ غايته الظنّ ، ولا اعتداد به. لا يقال : إنّ العمل بالظنّ في باب الترجيح إجماعي. لأنّا نقول : إنّ الإجماع إنّما هو في تعارض الأخبار ، لا في تعارض الاحتمالين كما فيما نحن فيه. اللهمّ إلّا أن يتمسّك بقبح ترجيح المرجوح بعد عدم إمكان الاحتياط ، وحينئذ لا بدّ من منع إفادته للظنّ.

١٤٢٠. قد مرّ غير مرّة انحصار القول في هذه المسألة في ترجيح جانب الحرمة والتخيير ، فيكون الأوّل متيقّنا.

١٤٢١. لا يقال : لو وجب دفع المفسدة وجب ترجيح جانب الحرمة ابتداء ، ولم يحتج إلى إثبات وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين. لأنّا نقول : لعلّ المستدلّ قد اعتبر وجوب الدفع في مقام الترجيح دون الإثبات ، وقد يعتبر في مقام الترجيح ما لا يعتبر في غيره ، فتأمّل.

٣٤٤

وبالاستقراء ؛ بناء على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّل له بأيّام الاستظهار وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس.

ويضعّف الأخير بمنع الغلبة (١٤٢٢). وما ذكر من الأمثلة ـ مع عدم ثبوت الغلبة بها ـ خارج عن محلّ الكلام ؛ فإنّ ترك العبادة في أيام الاستظهار (١٤٢٣) ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، ولو قيل بالوجوب فلعلّه لمراعاة أصالة بقاء

______________________________________________________

١٤٢٢. هذا إن اريد بها الاستقراء التامّ ، وإلّا يمكن منع اعتبار الظنّ الحاصل منها أوّلا ، ومنع حصول الظنّ منها في خصوص المقام ثانيا ، لوضوح عدم حصول الظنّ في مورد الشكّ بوجدان مثالين كما هو واضح. ولعلّ هذا هو مراد المحقّق القمّي رحمه‌الله في مبحث اجتماع الأمر والنهي من منع حجيّة هذا الاستقراء ، وإلّا فلا وجه له على مذهبه من اعتبار الظنّ المطلق على تقدير تسليم إفادته للظنّ. ومنع مطابقة المثالين للمراد ثالثا ، كما أوضحه المصنف رحمه‌الله.

١٤٢٣. توضيح المقام : أنّ استظهار الحائض إمّا في آخر أيّام دمها ، أو في أوّلها. أمّا الأوّل فإنّ المعتادة عددا دون العشرة إذا انقطع دمها ظاهرا لدون العشرة استبرأت بما هو المقرّر في الفقه ، فإذا خرجت القطنة ملطّخة بالدم ـ بأيّ لون اتّفق ـ استظهرت بترك العبادة بيومين أو ثلاثة ، أو مخيّرة بين يوم ويومين كما حكي عن المشهور ، أو بغير ذلك من الأقوال المختلفة الناشئ اختلافها من اختلاف الأخبار أو من الاختلاف في الجمع بينها. ولا كلام لنا في ذلك ، وقد استفاض نقل الاتّفاق الذي لا يقصر عن نقل الإجماع ـ كما اعترف به المصنّف قدس‌سره في بعض كلماته ـ على أصل مشروعيّته.

وإنّما الإشكال في كونه على وجه الاستحباب أو الوجوب. والأوّل هو المشهور بين المتأخّرين ، بل عزي إلى عامّتهم ، بحمل الأخبار الآمرة بظاهرها بالاستظهار على اختلافها على الاستحباب ، والمانعة منه بظاهرها الدالّة على

٣٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ترتيب أحكام الاستحاضة على بيان عدم الوجوب. والمصنّف قدس‌سره بعد أن نقل في كتاب الطهارة هذا الوجه مع وجوه أخر للجمع بين الأخبار وضعّفها قال : وهنا جمع آخر لا يخلو عن قرب. ثمّ ذكر ما حاصله : إبقاء أخبار الاستظهار على ظاهرها من الوجوب ، وجعلها مختصّة بصورة رجاء المرأة الانقطاع لدون العشرة ، وحمل أخبار الاغتسال بعد العادة على اليائسة عن الانقطاع.

هذا في المعتادة. وأمّا المبتدئة ، أعني : من لم تستقرّ لها عادة عدديّة ، فإنّها عند رؤية الدم على القطنة المستدخلة تصبر حتّى تنقى يقينا أو بحكم استبراء آخر أو يمضي من أوّل حيضها عشرة أيّام ، فإن انقطعت اغتسلت ، وإلّا رجعت إلى المتميز على وجه مقرّر في محلّه. وحكي عليه الإجماع عن جماعة.

وأمّا الثاني ، فالمعتادة وقتا وعددا ، وكذا وقتا خاصّة ، أو عددا كذلك ، تتحيّض الاولى منهنّ بمجرّد الرؤية إذا اتّفقت في أوّل أيّام العادة إجماعا ، وكذا إذا تقدّمت عليها بزمان يصدق معه تعجيل العادة للأخبار ، لا بمثل عشرين يوما. وكذا الثانية في وجه قويّ. ويشمله إطلاق إجماع المحقّق في الشرائع ، وقيل : وكذا إجماع الفاضل في المنتهى. وكذلك الثالثة في وجه لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا. وأمّا المبتدئة فتتحيّض بالرؤية عند المصنّف رحمه‌الله وجماعة من المتأخّرين ، بشرط اتّصاف الدم بصفات الحيض ، وبدونه يستظهر إلى مضيّ ثلاثة أيّام. والكلام في هذه المراتب مقرّر في الفقه.

أمّا الأوّل فربّما يقال : إنّ مقتضى الأصل فيه بقاء دم الحيض. وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله في كتاب الطهارة بمعارضة أصالة بقاء الدم إلى ما بعد العشرة المستلزم لعدم كونه (*) حيضا شرعا. ثمّ قال : «لكنّ المرجع بعد تسليم المعارضة إلى استصحاب أحكام الحيض لا نفس الموضوع».

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «يعني : الزائد على العادة. منه».

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : إنّ قوله : «مع تسليم المعارضة» إشارة إلى حكومة أصالة البقاء إلى ما بعد العشرة على أصالة بقاء دم الحيض ، لأنّ الشكّ في كون الدم بعد أيّام العادة وقبل العشرة دم حيض مسبّبا عن الشكّ في تجاوز الدم عن العشرة. نعم ، يرد عليه أنّ جريان الاستصحاب مشروط ببقاء الموضوع ، فمع تعارض الأصلين يشكّ في بقاء الموضوع ، فلا يصحّ استصحاب أحكام الحيض حينئذ.

ثمّ قال : «نعم ، لو قلنا بأنّ الأصل لا يجري في مثل المقام من الامور التدريجيّة ، كما نبّهنا عليه مرارا ، كان الأصل عدم حدوث دم الحيض زائدا على ما حدث ، فيزول به استصحاب بقاء أحكام الحائض» انتهى. وقد صرّح بعدم جريان هذا الأصل في المبتدئة.

وفيه : أنّ مبنى الاستصحاب على التسامح وإلّا لم يجر استصحاب الأزمان ، وهو اتّفاقي ، بل ادّعى عليه بعضهم الضرورة. ومن هنا تبيّن عدم كون الحكم بالتحيّض مبنيّا على الاستصحاب ، وإن كان جريانه متّجها في المقام.

وربّما يقال بابتنائه على قاعدة الإمكان. وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله أيضا : «بأنّها إنّما استفيدت من الإجماعات المحكيّة دون الأخبار ، لعدم نهوضها لإثباتها كما قرّر في الفقه ، والمفروض أنّ المشهور بين المتأخّرين عدم الحكم بالحيضيّة في المقام ، وجعل الاستظهار مستحبّا. مع أنّ قاعدة الإمكان ـ كما تقدّم في محلّه ـ لا تجدي في التحيّض بدم متزلزل يحتمل ظهور كونها المستحاضة ، لعدم استقرار الإمكان ، فتأمّل. فالأولى إثبات وجوب الاستظهار بالأخبار» انتهى. ولعلّ هذا هو الوجه في عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله لقاعدة الإمكان هنا ، مع تعرّضه لها في حكم المبتدئة.

وأمّا الثاني فأصالة الطهارة وعدم الحيض هنا متّجهة. وصرّح المصنّف رحمه‌الله في الطهارة هنا أيضا بعدم ابتناء وجوب التحيّض على قاعدة الإمكان ، معلّلا بما تقدّم من عدم استقرار الإمكان.

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكرناه قد ظهر ما في كلام المصنّف رحمه‌الله من مواقع النظر :

أمّا أوّلا : فإنّ شهرة الحكم بين المتأخّرين باستحباب الاستظهار لا يضرّ بعد اختياره للوجوب ولو في الجملة.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من عدم كون الوجوب مبنيّا على الاستصحاب. مضافا إلى عدم صحّة الجمع بين استصحاب الموضوع والحكم في قوله : «لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة» كما هو واضح.

وأمّا ثالثا : فإنّ كون الحكم في المبتدئة مستفادا من الإطلاقات مشكل بل غير صحيح ، لأنّ اتّصاف الدم بكونه دم حيض مشروط بعدم نقصانه عن ثلاثة أيّام ، فمع الشكّ في أوائل زمان الرؤية في أنّه يتجاوز عن الثلاثة أم لا تصير الشبهة موضوعيّة ، لا يصحّ فيها التمسّك بالإطلاقات عند المصنّف رحمه‌الله ، خلافا للمحقّق الثاني ، كما سيجيء في مبحث الاستصحاب.

وأمّا رابعا : فلما عرفت من عدم كون الحكم بوجوب تحيّض المبتدئة مبنيّا على قاعدة الإمكان. نعم ، قال المصنّف رحمه‌الله في المعتادة : «إنّ تحيّضها برؤية الدم مع أصالة عدم حدوث الزائد من جهة أنّ العادة سبب شرعيّ للحكم ، وليس من جهة الإمكان حتّى يعتبر فيه الاستقرار».

وكيف كان ، فقد يورد على المثال أيضا بكون حرمة عبادة الحائض تشريعيّة ، وقد تقدّم عند تحرير محلّ النزاع خروج ذلك من محلّ النزاع.

وفيه : أنّه خلاف ظاهر الأوامر. نعم ، قال المصنّف رحمه‌الله : «لا إشكال في تحريم الصلاة ـ يعني : على الحائض ـ من حيث التشريع ، وهل هي محرّمة ذاتا كقراءة العزائم ، أو لا حرمة فيها إلّا من جهة التشريع بفعل الصلاة الغير المأمور بها؟

وجهان ، من التصريح بعدم الجواز ، والأمر بالترك في النصوص وأكثر معاقد الإجماعات ، ففي صحيحة زرارة إذا كانت المرأة طامثا لا تجوز لها الصلاة». وفي صحيحة اخرى : «لا تحلّ لها الصلاة». وفي اخرى : «إذا دفقته ـ يعني : الدم ـ

٣٤٨

الحيض (١٤٢٤) وحرمة العبادة. وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد الرؤية ، فهو للإطلاقات وقاعدة «كلّ ما أمكن» ؛ وإلّا فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع.

______________________________________________________

حرمت عليها الصلاة» ونحوها غيرها. وفي المنتهى : «يحرم على الحائض الصلاة والصوم ، وهو مذهب عامّة أهل الإسلام». ومن أنّ الظاهر توجّه التحريم والأمر بالترك في الأدلّة على فعل الصلاة على وجه التعبّد والمشروعيّة كما كانت تفعلها قبل الحيض ، ولا ريب في حرمة ذلك ، لأنّه تشريع وتعبّد بما لم يأمر به الشارع. وإنّما تظهر الثمرة في حسن الاحتياط بها بفعل الصوم والصلاة الواجبين أو المندوبين عند الشكّ في الحيض ، مع فرض عدم أصل أو عموم يرجع إليه ، فإن قلنا بالتحريم الذاتي لم يحسن له الاحتياط ، سيّما بفعل المندوبة. والأقوى عدمه ، للأصل ، وظهور النواهي فيما ذكرنا. مع أنّ أوامر الترك واردة في مقام رفع الوجوب ، ولذا أبدل التحريم في المعتبر والنافع بعدم الانعقاد ، فقال في المعتبر : لا ينعقد للحائض صوم ولا صلاة ، وعليه الإجماع. وقال المصنّف رحمه‌الله هنا : ولا يصحّ منها الصوم» انتهى.

وأنت خبير بأنّه يمكن منعه ، لمخالفته لظواهر الأخبار. ولا مانع من اجتماع الجهتين مع قصد التعبّد كما في قراءة العزائم. وقد سمعت من بعض مشايخنا وجود خبر دالّ على حرمة صلاة المحدث ولو مع عدم قصد التعبّد ، بأن أتى بصورتها من دون قصد التقرّب. ومع التسليم كان عليه الإشارة إلى الإيراد المذكور في المثال الأوّل أيضا ، كما أشار إليه في المثال الثاني ، فلا تغفل. والله أعلم.

١٤٢٤. فيكون المثال خارجا من محلّ النزاع ، لأنّ مقتضى الاستصحاب كون الدم الخارج بعد أيّام العادة حيضا ، فيخرج من مورد دوران الأمر بين الحرمة والوجوب. وبعبارة اخرى : أنّ الحكم بوجوب الاستظهار إنّما ينفع المستدلّ لو حكم على الدم بأحكام الحيض مع فرض تردّده بين كونه حيضا أو استحاضة ،

٣٤٩

وأمّا ترك الإنائين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ لأنّ الظاهر ـ كما ثبت في محلّه (١٤٢٥) ـ أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس

______________________________________________________

نظير الحكم بالنجاسة في الشبهة المحصورة ، ومقتضى الاستصحاب في المعتادة والإطلاقات في المبتدئة كون الدم الخارج حيضا ، لا إجراء أحكام الحيض على المردّد بينه وبين الاستحاضة. نعم ، قد تقدّم الإشكال في التمسّك بهما في المقام ، فتدبّر.

١٤٢٥. قال المصنّف قدس‌سره في شرح قول الفاضل في الإرشاد : «وإذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة» أمّا الحرمة فلأنّ المفروض فعله بقصد ترتّب الأثر عليه ، وإلّا لم يكن مستعملا للماء في الطهارة ، ولذا قال كاشف اللثام : إنّ استعماله في صورة الطهارة والإزالة مع اعتقاد عدم حصولهما لا إثم فيه ، وليس استعمالا فيهما» انتهى.

وعن النهاية : أنّ المراد بالحرمة عدم ترتّب الأثر. ولعلّه لأنّه المستفاد من النهي الوارد في مقام بيان الموانع ، كاستفادة الحكم الوضعي من الأمر الوارد في مقام بيان الشروط. وهذه غير الحرمة الناشئة من ذات الفعل ، ولذا صحّ جعل الحكم مطلقا غير مختصّ بصورة العلم والاختيار ، فإنّ الحرمة الذاتيّة لا تجري فيهما ، كمن تطهّر معتقدا لطهارة الماء أو مكرها عليه.

وربّما يستظهر في المقام تحقّق الحرمة الذاتيّة أيضا من ظواهر النهي عن التوضّؤ بالماء النجس ونحوه ، وحكمهم بوجوب الاجتناب عن الإنائين المشتبهين في الطهارة عن الخبث في ظاهر كلامهم ، فإنّ الحرمة التشريعيّة لا تمنع عن الاحتياط بالجمع بين الواجب وغيره المحرّم تشريعا ، كما في اشتباه المطلق بالمضاف ، واشتباه القبلة والفائتة وغير ذلك ، لعدم عنوان التشريع مع الاحتياط.

ويضعّف الاستظهار من ظاهر النواهي بأنّ النهي فيها وارد في مقام رفع اعتقاد الإجزاء الحاصل من إطلاق أوامر الطهارة ، فإنّ الأمر المطلق ـ كقول الشارع : توضّأ وصلّ ، وقول الموكّل : اشتر لي رقبة ـ يدلّ على الرخصة في الوضوء

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بالماء النجس والصلاة في الثوب النجس وشراء الرقبة الغير المؤمنة ، وهذه الرخصة رخصة وضعيّة حاصلة من تخيير العقل في امتثال المطلق في ضمن أيّ فرد كان ، فإذا ورد بعد ذلك قوله : لا تتوضّأ بالماء النجس ، ولا تصلّ في الثوب النجس ، ولا تشتر رقبة غير مؤمنة ، لم يرد بذلك إلّا رفع تلك الرخصة ، أعني : رفع الإذن عن امتثال المطلق في ضمن الفرد المنهي عنه ، وأنّ الامتثال في ضمن هذا الفرد غير مأذون فيه ، ومعلوم أنّ هذا لا يوجب تحريما أصلا فضلا عن أن يكون ذاتيّا. نعم ، التعرّض للامتثال فيما لم يأذن الشارع في الامتثال به تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، ولا يجوز أن تكون حرمة هذا التشريع بتلك النواهي ، لأنّها محصّلة ومحقّقة لموضوع التشريع ، فلا يصحّ أن يكون منهيّا عنه بها.

وأمّا حكمهم بوجوب اجتناب المشتبهين فلأجل النص الوارد بوجوب التيمّم معهما ، فيقتصر على مورد النص. وما يفهم منه التعدّي إليه ، كأزيد من الإنائين ، واشتباه نجس العين بالطاهر ، وغير ذلك ، انتهى.

وإذا فرض كون تحريم الاستعمال تشريعيّا خرج المثال من محلّ النزاع ، كما تقدّم عند تحرير محلّه ، لعدم منافاته للاحتياط كما عرفت. وحينئذ يجوز أن يتوضّأ بأحد الإنائين ، ثمّ يغسل أعضاء الوضوء بالآخر ثمّ يتوضّأ به ، للقطع حينئذ بحصول الطهارة اليقينيّة. ويدفع احتمال تنجّس بدنه بقاعدة الطهارة ، إذ كما يحتمل عروض النجاسة عقيب التطهير بالماء الطاهر ، كذلك يحتمل تعقّب التطهير بالماء الطاهر بالتطهير بالمتنجّس. مع أنّه يمكن تكرير الصلاة بالإتيان بها عقيب كلّ من الطهارتين. فالنهي عن استعمال الإنائين المشتبهين ، كما في موثّقتي سماعة وعمّار عن رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر ، ولا يدري أيّهما هو ، ولا يقدر على ماء غيرهما ، قال : «يهريقهما ويتيمّم». وعن المعتبر والمنتهى عمل الأصحاب بهما وقبولهم لهما ، مضافا إلى الاتّفاقات المستفيضة ـ لا بدّ أن يكون من باب التعبّد لمصلحة راعاها الشارع ، لا لأجل تقديم جانب الحرمة المحتملة.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال المصنّف قدس‌سره : «ويمكن تنزيل النصّ ـ لأجل تطبيقه على القاعدة ـ على ما إذا لم يتمكّن من إزالة النجاسة المتيقّنة عن بدنه. وتكرار الصلاة مع كلّ وضوء وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه قد لا يتمكّن من إزالتها للصلاة الآتية ولسائر استعمالاته المتوقّفة على طهارة يده ووجهه». وقال : «وبالجملة ، فترك الاستفصال لا يفيد العموم في هذا المورد بالنسبة إلى صورة غير صورة لزوم وقوعه في المحذور ، من استعمال النجس في الصلاة والأكل والشرب ، ونجاسة ما يتضرّر من نجاسته من المأكول والمشروب» انتهى.

ويؤيّده عدم كون الأمر بالإراقة للوجوب يقينا ، فلا بدّ أن يكون الوجه فيه معارضة التوضّؤ بالإناءين لفوات واجب آخر ، من طهارة البدن في الصلاة أو الأكل والشرب ونحوها ، وحينئذ تكون الإراقة قريبا من الاحتياط ، لانتقال التكليف حينئذ إلى التيمّم ، وفيه نوع جمع بين ترك الحرام وفعل الواجب. ولعلّه من هنا قد أفتى بعض مشايخنا بجواز التوضّؤ بهما على نحو ما تقدّم. وحينئذ تكون الموثّقتان واردتين على طبق القاعدة.

ثمّ إنّ حرمة التوضّؤ بالماء النجس أو المحتمل له تشريعا ـ لأجل قصد التعبّد به مع فقد شرطه ، أو احتمال ذلك فيه ـ لا ينافي تحريم استعماله في الأكل والشرب ذاتا ، كما هو واضح. ومع تسليم الحرمة الذاتية في المقام نقول : إنّ وجه ترك الواجب ـ وهو الوضوء ـ ثبوت البدل له دون الحرام وهو التيمّم ، لا كون ذلك لأجل تقديم جانب الحرمة. وفي التيمّم نوع جمع بين الواجب وترك الحرام.

قال المصنّف قدس‌سره في كتاب الطهارة : «وكأنّه لذلك يجب التيمّم في كلّ مورد يلزم من الطهارة المائيّة فوات واجب لا بدل له ، ولا يختصّ بما يلزم منه فعل محرّم. والسرّ أنّه فهم من أدلّة التيمّم عند العذر في استعمال الماء الشمول لمورد مزاحمة واجب أو استلزام محرّم. وعلّل في بعض الأخبار تقديم مراعاة سائر الواجبات والمحرّمات بأنّ الله جعل للماء بدلا ، فتأمّل» انتهى.

٣٥٢

تشريعيّة لا ذاتيّة (*) ، وإنّما منع عن الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ ، مع أنّها لو كانت ذاتيّة ، فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ثبوت البدل له وهو التيمّم ، كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين ، وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما.

مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ؛ لأنّ العلماء والعقلاء متّفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام (**) ، فهذا المثال (***) أجنبيّ عمّا نحن فيه قطعا. ويضعّف ما قبله (١٤٢٦) بأنّه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي

______________________________________________________

ومع التسليم نقول : إنّ تقديم جانب الحرمة فيما نحن فيه إنّما هو للتحرّز عن الحرمة المحتملة ، ولا يمكن إثبات ذلك بوجوب ترك استعمال الإنائين المشتبهين ، لأنّه للاحتراز عن الحرمة المعلومة إجمالا.

لا يقال : إذا ثبت جواز المخالفة القطعيّة للواجب لأجل تحصيل الموافقة اليقينيّة للحرام ، ثبت جواز المخالفة للوجوب المحتمل لأجل تحصيل الموافقة للحرمة المحتملة ، لاتّحاد طريقهما. وبهذا الاعتبار عدّ هذا المثال من الأفراد المستقرأ فيها.

لأنّا نقول : إنّه قياس مع وجود الفارق باعتراف الخصم ، لكون الأوّل خلاف طريقة العلماء والعقلاء ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : «مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة ...». فلا بدّ حينئذ من حمل الأمر بترك الإنائين المشتبهين على إرادة التعبّد المحض ، أو على إرادة ثبوت البدل للواجب ، أو على غير ذلك ممّا تقدّم ، لا على إرادة تقديم جانب الحرام.

١٤٢٦. يعني : كون إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ.

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فالأمر دائر بين الواجب وغير الحرام.

(**) في بعض النسخ زيادة : بل اللازم إجماعا فى مثل ذلك ارتكاب أحدهما وترك الآخر.

(***) في بعض النسخ زيادة : المفروض فيه وجوب المخالفة القطعيّة فى الواجب.

٣٥٣

التخيير.

وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة (١٤٢٧) ، لكنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة ؛ وإلّا لم يصلح للإلزام ؛ إذ مجرّد فوات (*) المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت (**) ، لا يصلح وجها لإلزام شىء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ؛ وإلّا لكان أصغر المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر.

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ؛ فإنّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا. وأمّا

______________________________________________________

١٤٢٧. حاصله : تسليم استقلال العقل بوجوب دفع المفسدة وأولويّته بالنسبة إلى جلب المنفعة عند التعارض. ولكنّه إنّما هو فيما لم تكن في فوت المنفعة مفسدة مساوية للمفسدة المحتملة أو أقوى منها ، وإلّا يمنع استقلاله بوجوب دفعها ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع كون المصالح والمفاسد الواقعيّة من قبيل العلل للأحكام ، لاحتمال كونها من قبيل المقتضيات المشروط تأثيرها بشرط مفقود ، ولو كان هو علم المكلّف بسنخ التكليف تفصيلا أو إجمالا ، ولا ريب في عدم استقلال العقل بوجوب دفعها ولو مع عدم المعارضة. ومع التسليم ربّما تمنع كلّية الكبرى ، إذ ربّ منفعة تقدّم عند العقلاء على المفسدة ، كما إذا كانت المنفعة كثيرة في الغاية ، والمفسدة قليلة في النهاية.

وفيه : أنّ المصلحة وإن بلغت ـ ما بلغت ما لم تبلغ مرتبة الإلزام التي يتضمّن فوتها المفسدة ـ لا تعارض المفسدة التي يستقلّ العقل بوجوب دفعها ، ومع بلوغها إليها تكون من جملة أفراد ما نحن فيه. وأمّا ما ترى من اقتحام كثير من

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «فوات» ، فوت.

(**) في بعض النسخ : بدل «الفوت» ، الواجب عليه.

٣٥٤

الأخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما لا يحتمل الضرر (١٤٢٨) في تركه ، كما لا يخفى. وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية : جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ، وهو بعيد (١٤٢٩).

وأمّا قاعدة «الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين» فغير جار في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل (١٤٣٠) ؛ فإنّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير وإمّا

______________________________________________________

الناس في المضارّ لجلب المنافع ، فهو إمّا لعدم المبالاة بحكم العقل كعدم مبالاتهم بحكم الشرع في كثير من الموارد ، أو لعدم بلوغ المفسدة إلى حدّ الإلزام.

١٤٢٨. يعني : فيما يحتمل الحرمة وغير الوجوب. ووجه الظهور : تعليله عليه‌السلام الأمر بالوقوف عند الشبهة بقوله : «فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة». وهو ظاهر كالصريح في كون الأمر بالوقوف فيما كانت المفسدة فيه في الفعل دون الترك. ويمكن أن يقال أيضا : إنّ ظاهر هذه الأخبار هو التوقّف حتّى بحسب الفتوى ، لأنّ ظاهر التوقّف المطلق هو السكوت من حيث الفتوى ، وعدم المضيّ من حيث العمل ، ولا يقول به من يقدّم جانب الحرمة.

١٤٢٩. لأنّ الاحتياط فيما نحن فيه وإن فرض إمكانه لأجل دوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، إلّا أنّ هذا احتياط في المسألة الاصوليّة ، وظاهر الأخبار هو الاحتياط في المسألة الفقهيّة ، وهو متعذّر فيما نحن فيه بالفرض.

١٤٣٠. سيجيء توضيح ذلك في مبحث الاستصحاب عند بيان عدم جريانه في الأحكام العقليّة. ومحصّله : عدم تعقّل الشكّ في حكم العقل حتّى يحكم فيه بحكم ظاهري من الاحتياط أو غيره ، لأنّ العقل لا يحكم بشيء نفيا أو إثباتا إلّا بعد إحراز جميع قيود موضوعه ، فلا يعقل الإجمال في موضوع حكمه كي يتردّد في الحكم عليه بشيء ، حتّى يحكم عليه في مقام الشكّ والجهل بحكمه بحكم ظاهري. وفيما نحن فيه أيضا ، حيث فرض كون الحكم بتقديم جانب الحرمة أو التخيير بين الأخذ بأحد الاحتمالين عقليّا ـ لأنّه بعد إبطال القول بالإباحة الظاهريّة ، وكذا

٣٥٥

أن يستقلّ بالتعيين ، فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الأحكام التوقيفيّة التي لا يدركها العقل ، إلّا أن يقال (١٤٣١) : إنّ احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفيّ في ترجيح جانب الحرمة ـ ولو لاحتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه ـ كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة.

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار أو مستمرّ فله العدول مطلقا أو بشرط البناء على الاستمرار (١٤٣٢)؟ وجوه. يستدل

______________________________________________________

القول بالتوقّف عن تعيين الواقع والظاهر ـ فمع فرض عدم إمكان الاحتياط وعدم تعقّل التوقّف في مقام العمل ، فإن استقلّ العقل بأولويّة دفع المفسدة عن جلب المنفعة استقلّ بتقديم جانب الحرمة ، وإن لم يستقلّ بذلك ، نظرا إلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من كون المقام من موارد تعارض المفسدتين ، استقلّ بالحكم بالتخيير لا محالة ، لعدم الواسطة بينهما ، وحينئذ لا يعقل التردّد في حكمه ليحكم في مقام الظاهر بالاحتياط.

١٤٣١. لكون احتمال التعيين حينئذ شرعيّا ، فتخرج المسألة من كونها عقليّة ، وإن كان الحاكم بالاحتياط حينئذ أيضا هو العقل. وأنت خبير بأنّ احتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فيه لا يزيد في المقام شيئا ، لأنّ هذه الأخبار في عرض حكم العقل ، فإن توافقا فهي تؤكّد حكمه ، وإن اختلفا فلا ريب أنّ مجرّد احتمال شمولها لما نحن فيه لا يمنع من حكم العقل بقبح العقاب على مجهول الحرمة والوجوب ، نظير عدم قدح احتمال تضمّن الكذب للمصلحة في مورد في حكم العقل بقبحه. وبالجملة ، إنّ العقل إن كان حاكما بوجوب الاحتياط فلا يحتاج إلى احتمال شمول أخبار التوقّف للمقام ، وإلّا فهو بمجرّده لا يوجب حكمه به كما عرفت. نعم ، لو دار الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيّين ، فالعقل يستقلّ بوجوب الأخذ بمحتمل التعيين ، بتقريب ما تقدّم في تنبيهات الشبهة الوجوبيّة.

١٤٣٢. أي : على العدول.

٣٥٦

للأوّل : بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ، واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع إلى الإباحة من أوّل الأمر.

ويضعّف الأخير (١٤٣٣) بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ، كما لو بدا للمجتهد في رأيه ، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر من موت أو جنون

______________________________________________________

١٤٣٣. يمكن الفرق بين ما نحن فيه والمثالين ، بأن يقال ، إنّ المناط في حرمة المخالفة العمليّة هو قبح ذلك عقلا ، لكونها مخالفة ومعصية للمولى. وهذا المناط موجود فيما نحن فيه إذا فرض تخيّر المكلّف ابتداء في الأخذ بأحد الاحتمالين ، واستدامة في العدول عمّا أخذ به أوّلا ، من دون فرق في قبح المخالفة بينه والقول بإباحة الفعل أوّلا وبالذات ، سيّما إذا كان بانيا على العدول من أوّل الأمر.

وأمّا المثال الأوّل فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه ، لأنّ المجتهد عند رأيه الأوّل ملتزم به ومعتقد بحرمة العمل بخلافه ، وعند رأيه الثاني معتقد ببطلان رأيه الأوّل ، ولذا يجب عليه تجديد معاملاته التي أوقعها على طبق رأيه الأوّل ، وإعادة عباداته كذلك في الوقت ، وقضائها في خارجه إن قلنا بكونه بالأمر الأوّل لا بأمر جديد. ولا دليل على قبح المخالفة بمثلها ، لكونها ناشئة من الخطأ في الاجتهاد.

وأمّا المثال الثاني ، فإن كان العدول عن عذر ، مع عدم القول بجوازه عن اختيار ، فالكلام فيه كسابقه. وإن كان عن اختيار فالأقوى فيه ـ وفاقا للفاضل في النهاية ، والشهيد في الذكرى ناسبا له إلى الأكثر ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة ـ هو عدم الجواز كما قرّر في محلّه. مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي إنّما يجب إذا كان كلّ من طرفيه محلّ ابتلاء للمكلّف ، وكلّ من الواقعتين فيما ذكر من المثال خارج من محلّ الابتلاء عند الابتلاء بالأخرى ، فتأمّل ، بخلاف ما نحن فيه ، لكون كلّ من الفعل والترك محلّ ابتلاء عند الابتلاء بالآخر. هذا كلّه مع اعتراف المصنّف رحمه‌الله في فروع العلم الإجمالي بالفرق بينه وبين ما نحن فيه ، فراجع.

٣٥٧

أو فسق أو اختيارا على القول بجوازه. ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير (١٤٣٤) الحاكم عليه. ويضعّف قاعدة الاحتياط (١٤٣٥) بما تقدّم ، من أنّ حكم العقل بالتخيير عقلي لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط.

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ؛ إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني. فالأقوى هو التخيير الاستمراري (١٤٣٦) ، لا للاستصحاب بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأوّل.

______________________________________________________

١٤٣٤. فيه مسامحة ، إذ لا معارضة مع الحكومة. وكيف كان ، يرد عليه أنّ الشكّ في المقام إنّما هو في كون الأخذ بأحد الاحتمالين معيّنا للأخذ به وعدم جواز العدول عنه وعدمه. وحينئذ إن اريد استصحاب حكم التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما فالموضوع غير محرز ، لاحتمال تقيّده بعدم الأخذ بأحدهما. وإن اريد استصحاب ما ثبت بعد الأخذ بأحدهما ، فهو غير متيقّن في السابق ، فالمتّجه حينئذ هو استصحاب الحكم المختار ، للزومه عليه ما لم يرد العدول. اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ لزومه أيضا يحتمل أن يكون مقيّدا بعدم العدول. هذا إن بني على المداقّة في أمر الاستصحاب ، وإلّا فهو جار في المقامين بناء على المسامحة فيه. اللهمّ إلّا أن يفرّق بينهما فيها ، فتدبّر.

١٤٣٥. يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بالتخيير قبل الأخذ بأحد الاحتمالين إنّما كان من جهة عدم الترجيح ، وعدم المناص من العمل ، وبطلان القول بالإباحة ، وبعد احتمال تعيّن المأخوذ بالأخذ يدور الأمر بين التعيين والتخيير ، فيجب الأخذ بمحتمل التعيين لقاعدة الاحتياط ، فالتمسّك بها لأجل منع حكم العقل بالتخيير بعد احتمال تعيّن المأخوذ بالأخذ ، وكون مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو الأخذ بمحتمل التعيين ، لا لأجل الشكّ في حكم العقل بالتخيير بعد الأخذ بأحدهما حتّى يمنع ذلك فيه.

١٤٣٦. قد يقال : إنّ مرجعه إلى القول بالإباحة ، فلا وجه للقول به لأجل

٣٥٨

المسألة الثانية : إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل إمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد أو موضوعا ، كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد (١٤٣٧) بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

المسألة الثالثة : لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة فالحكم هنا : التخيير ؛ لإطلاق ادلّته ، وخصوص بعض منها الوارد في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي ، خلافا للعلامة رحمه‌الله في النهاية وشارح المختصر (٢) والآمدي ، فرجّحوا ما دلّ على النهي لما ذكرنا (١٤٣٨) سابقا ، ولما هو أضعف منه. وفي كون التخيير هنا بدويّا أو استمراريّا مطلقا أو مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار؟ وجوه تقدّمت ، إلّا أنّه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار.

ويشكل بأنّها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أوّل الأمر ، فلا تعرّض لها لحكمه

______________________________________________________

الفرار منها ، لعدم ترتّب ثمرة على الالتزام بأحد الاحتمالين مع جواز الالتزام بالآخر حين الالتزام به ، بخلاف التخيير بين خبرين أحدهما موجب والآخر حاظر ، لأنّ ثمرته تظهر في قصد امتثال الأمر أو النهي الملتزم به ، مع أنّ التخيير فيه شرعيّ ، ولعلّ الشارع قد لاحظ فيه مصلحة وإن لم نعلمها تفصيلا.

وأنت خبير بأنّ هذا الإيراد غير وارد على المصنّف رحمه‌الله ، لأنّه إنّما قال بالتخيير على تقدير قيام دليل على وجوب الأخذ بأحدهما في الجملة. وحاصله : أنّه بعد فرض بطلان القول بالإباحة الظاهريّة ، والقول بالتوقّف ، وفرض وجود دليل على وجوب الأخذ بأحدهما ، فمقتضى القاعدة هو التخيير الاستمراري ، لعدم الدليل على التخيير البدوي. نعم ، يرد عليه ذلك لو قال بكون ذلك مقتضى القاعدة أوّلا وبالذات فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والتحريم ، وليس كذلك كما عرفت.

١٤٣٧. كاللفظ الموضوع لفعل وتركه.

١٤٣٨. من الوجوه الخمسة.

٣٥٩

بعد الأخذ بأحدهما. نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ؛ حيث إنّه ثبت (*) بحكم الشارع القابل للاستمرار ، إلّا أن يدّعى أنّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمّل (١٤٣٩).

______________________________________________________

١٤٣٩. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى منع زوال التحيّر بمجرّد الأخذ بأحدهما إلّا بعد ثبوت كونه بعد الأخذ به حكما ظاهريّا متعيّنا عليه ، وهو أوّل الكلام. أو إشارة إلى كون الأمر في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب مبنيّا على العرف ، والموضوع عرفا في المقام هو المكلّف ، وزوال التحيّر من قبيل تغيّر حالات الموضوع لا نفسه. أو إلى منع كون الموضوع هو المتحيّر ، بل هو المكلّف ، وإن سلّم كون التحيّر سببا لعروض الحكم ، إذ لا ريب في انتفائه بعد ثبوت التخيير بالأخبار وقبل الأخذ بأحد المتعارضين. وبعبارة اخرى : أنّ التحيّر على تقدير تسليم كونه جزءا من موضوع التخيير ، فهو إنّما هو في عروض الحكم وحدوثه لا في بقائه ، والشكّ أيضا إنّما هو في كون الأخذ بأحدهما معيّنا للمأخوذ وعدمه ، لا في كون التحيّر جزءا منه وعدمه. وحينئذ يصحّ استصحاب الحكم من دون غائلة فيه. نعم ، قد تقدّم في المسألة الاولى ما يناقش فيه ويدفعه ، فراجع.

وبقي في المقام شيء ، وهو أنّه حيث حكمنا بالتخيير في مسائل الشبهة الحكميّة ، هل يجب على المجتهد أن يفتي المقلّد بما اختاره ، أو يجوز له الفتوى بالتخيير؟ فيه وجهان ، من كون المجتهد نائبا عن المقلّد في استنباط الأحكام واستفادتها من الأدلّة ، ولذا لا يعتدّ بشكّه في موارد الاصول التي يتفرّع عليها الأحكام الكلّية ، فما ترجّح في نظره فهو حكمه ، ولا بدّ له من الإفتاء به. ومن أنّ القدر الثابت من الأدلّة رجوع المقلّد إلى المجتهد وتقليده له في ما ثبت له بالأدلّة ، ولا ريب أنّ تخيّر المجتهد عقلا أو شرعا في الأخذ بأحد الاحتمالين أو الخبرين ليس حكما شرعيّا له من قبل الشارع ، بل هو توسعة له من قبل الشارع في اختياره

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «ثبت» ، يثبت.

٣٦٠