فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ (١٣٦٣) في الوجوب الكفائي ـ كوجوب ردّ السلام على

______________________________________________________

١٣٦٣. اعلم أنّه قد بقي في المقام أمران :

أحدهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من كون الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائي نظير الكلام في الشكّ في الوجوب التخييري ، فنقول : إذا شكّ في وجوب فعل كفاية أو كونه مباحا لا يمكن نفي وجوبه بأصالة البراءة ، لما تقدّم سابقا ـ وسيجيء أيضا ـ من كون مقتضاها مجرّد نفي العقاب لا نفي الخطاب الواقعي ، ولا عقاب على ترك الواجب الكفائي مع قيام الغير به. نعم ، لو احتمل تعيّنه ، لأجل عدم وجود من تقوم به الكفاية ، أو لعدم قيامه به مع وجوده ، أمكن نفي وجوبه العيني العرضي المحتمل حينئذ بها. وأمّا أصالة العدم فهي جارية هنا بلا إشكال. وعليه لا يجوز للمصلّي ردّ السلام إلّا بقصد القرآن أو الدعاء ، بناء على جوازه فيها. وأمّا أصالة عدم اللازم الوضعي فهي غير جارية بالنسبة إلى المصلّي الشاكّ. نعم ، هي جارية بالنسبة إلى غيره ممّن قطع بتوجّه خطاب إليه وشكّ في كون مفاده الوجوب العيني أو الكفائي ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الأصل عدم سقوطه عنه بفعل المصلّي.

وثانيهما : أنّ الأصحّ عدم جريان أصالة البراءة في الواجبات التي لا يترتّب على مخالفتها عقاب ، مثل الوجوب التبعي للمقدّمة إن قلنا بعدم ترتّبه عليه ، فلا يمكن نفي وجوبها بالأصل عند الشكّ فيه ، كما زعمه جماعة. ولا ينافي ذلك ما اخترناه من إجراء البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، لوضوح الفرق بينهما ، لأنّ الشكّ في وجوب المقدّمة إنّما هو بعد إحراز كونها مقدّمة لواجب ، فلا أثر لنفي وجوبها حينئذ ، إذ مقدّمات الواجب لا بدّ من الإتيان بها ، سواء قلنا بوجوبها أم لا ، لفرض توقّف الواجب عليها ، بخلاف ما لو شكّ في أصل الجزئيّة والشرطيّة ، إذ هذا المعنى قابل لنفيه بالبراءة ، وإن لم تكن نفس الجزء والشرط ممّا يترتّب عليه عقاب ، لأن محتمل الجزئيّة إن كان جزءا في الواقع ترتّب على تركه ترك الواجب

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

في الواقع ، فعند تركه يحتمل ترتّب العقاب على تركه ولو من جهة إفضائه إلى ترك الواجب ، وحينئذ يصحّ أن يقال : الأصل عدم ترتّب عقاب على تركه وإن كان من جهة إفضائه إلى ترك الواجب ، وسيجيء توضيحه في محلّه إن شاء الله تعالى ، بخلاف وجوب المقدّمة على ما عرفت.

نعم ، لو قلنا بكون مقتضى البراءة رفع التكليف مطلقا ، سواء كان إلزاميّا مثل الوجوب والحرمة ، أم غيره كالاستحباب والكراهة ، أمكن نفي الوجوب التبعي أيضا بالأصل ، ولكنّه خلاف التحقيق.

وإن شئت تحقيق المقام وإن كان خارجا من المقصود نقول : إنّهم قد اختلفوا في جواز التمسّك بأصالة البراءة في غير التكاليف الإلزاميّة على قولين ، فقيل ب «لما» ، وهو المحكيّ عن المشهور ، وقيل ب «نعم» ، وهو المحكيّ عن بعض كتب العلّامة ، وتبعهما صاحبا الهداية والفصول. والحقّ هو الأوّل ، لأنّ البراءة تارة تفرض بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة ، واخرى بالنسبة إلى الأحكام الظاهريّة.

أمّا الأوّل ، فكما في زمن الحضور مع فرض فقد الموانع من قبل المكلّف والمكلّف من تبليغ الأحكام وإيصالها إلى المكلّفين ، لاستقلال العقل حينئذ مع عدم بيان الشارع بعدم الحكم في الواقع وإن كان هو الاستحباب أو الكراهة ، لأنّ عدم بيانه له لو فرض وجوده في الواقع ينافي الغرض المقصود من جعل الأحكام وأمر السفراء بتبليغها.

وأمّا الثاني ، فكما في أمثال زماننا الذي منعت الحوادث من وصول الأحكام إلينا ، إذ لا ريب في تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما يجب عليه تبليغه من الأحكام إلى أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام ، وهم أيضا لم يقصّروا في تبليغها إلى المكلّفين ، إنّما منعهم من ذلك تغلّب الظالمين ، ونحن نعلم أنّه لو ارتفعت الموانع لظهرت الحجّة ، وبيّن الأحكام على ما هي عليه في كلّ ما تحتاج إليه الأمّة. ولا ريب أنّه مع وجود المانع وعدم وصول البيان من الشارع ، فالعقل إنّما يستقلّ بقبح العقاب على مخالفة

٣٠٢

المصلّي إذا سلّم على جماعة وهو منهم ـ يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم.

المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ كما إذا قلنا باشتراك لفظ «الأمر» بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة. والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط ، وقد تقدّم عن المحدّث العاملي في الوسائل : أنّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج (١٤).

______________________________________________________

الواقع لو كان فيه ما يوجبه ، وأمّا دلالته على قبح التكليف بما لم يوعد العقاب على فعله أو تركه فلا. وحينئذ لو فرض في الواقع واجب لا يترتّب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب ، مثل الواجبات التبعيّة المستفاد خطابها من خطاب ذي المقدّمة على القول بها ، لا يستقلّ العقل بنفيها عند الشكّ فيها. وكذا الكلام في الاستحباب والكراهة. والتمسّك في ذلك بقبح خطاب الجاهل يدفعه حسن الاحتياط يقينا ، فيجوز للشارع أن يكتفي من بيان ما لم يوعد عليه بما هو معلوم عند الجاهل من حسن الاحتياط. هذا إذا لم يكن الأمر فيه دائرا بين المحذورين ، كالاستحباب والكراهة. وسيجيء حكم الدوران بينهما في محلّه إن شاء الله تعالى.

وإذا حقّقت ذلك فاعلم : أنّ الصورة الأصليّة ـ أعني : صورة إجراء البراءة بالنسبة إلى زمن الحضور ـ خارجة من محلّ كلام المنازعين في أصالة البراءة ، لأنّ مبناها حينئذ على قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولم يتمسّك به أحد في إثبات اعتباره سوى المحقّق القمّي رحمه‌الله في بعض كلماته ، وقد خطّأه المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته الآتية.

فمقصودهم منها إنّما هو إجرائها بالنسبة إلى أمثال زماننا التي قد صدر عن الشارع فيها بيان جميع الأحكام حتّى أرش الخدش ، إلّا أنّه منعت الحوادث من وصولها إلينا ، وقد عرفت أنّ غاية ما يستقلّ العقل بنفيه فيها هو مجرّد نفي العقاب. وحينئذ نقول : إنّ القائل بالبراءة مطلقا ، سواء كانت في مورد الحكم الإلزامي أم غيره ، إن أراد إجرائها بالنسبة إلى زمن الحضور فقد عرفت خروجه من محلّ الكلام. وإن أراد إجرائها بالنسبة إلى أمثال هذا الزمان ، فقد عرفت عدم نهوضها حينئذ لنفي الاستحباب والكراهة.

٣٠٣

لكن تقدّم من المعارج ـ أيضا ـ عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا ، وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الأسترآبادي بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقّف : إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب.

وفيه أوّلا : منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة. وثانيا : أنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة. ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ؛ فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب (١٥) ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ القائل بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم الله هو الاستحباب ، فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة. وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ فحديث تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ـ كما عليه الأشاعرة ـ ، أجنبيّ عن ذلك ؛ إذ الواجب عليه إقامة الدليل على اعتبار هذا الظنّ المتعلّق بحكم الله الواقعي ، الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف.

وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما اجمل فيه النصّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ، حتّى لو جعل مناط الظنّ عموم البلوى ؛ فإنّ عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور ؛ وإلّا لنقل مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب لعدم توفّر الدواعي على نقله.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم. نعم ، الأخبار المتقدّمة فيمن بلغه الثواب لا يجري هنا ؛ لأنّ الأمر لو دار بين الوجوب والإباحة لم يدخل في مواردها ؛ لأنّ المفروض احتمال الإباحة فلا يعلم بلوغ الثواب. وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة. ولو دار بين الوجوب والاستحباب

٣٠٤

لم يحتج إليها (١٣٦٤) ، والله العالم.

المسألة الثالثة : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين وهنا مقامات (١٣٦٥) ، لكنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف والاحتياط. والمعروف عدم وجوبه هنا ، وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آت هنا.

وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان بوجوب التوقّف والاحتياط هنا ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقّف التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه (١٣٦٦) ، مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة (١٣٦٧) والتخيير. وما دلّ على التوقّف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد منهما مختصّ أيضا بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام.

وأمّا رواية عوالي اللآلي المتقدّمة الآمرة بالاحتياط وإن كانت أخصّ منها (١٣٦٨) ، إلّا أنّك قد عرفت ما فيها مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام. ومنه يظهر عدم جواز (١٣٦٩) التمسّك هنا بصحيحة ابن الحجّاج

______________________________________________________

١٣٦٤. لفرض ثبوت أصل الرجحان الشرعيّ ، فيصحّ به قصد القربة في العبادات ، وإن لم يعلم أنّ رجحانه من جهة وجوبه أو استحبابه في الواقع.

١٣٦٥. من أنّ مقتضى القاعدة فيما تعارض فيه نصّان ، هل هو التخيير ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التوقّف ، أو الاحتياط؟ على ما ذكره مستوفى في باب التعادل والترجيح.

١٣٦٦. من الشكّ في التكليف.

١٣٦٧. فيما تعارض فيه نصّان.

١٣٦٨. لاختصاص دلالتها على التوسعة والتخيير بصورة عدم إمكان الاحتياط ، بخلاف أخبار التخيير.

١٣٦٩. يستفاد منه اشتراط جواز الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين من باب الأخبار بالفحص عن الأدلّة ، كالحكم بالتخيير من باب العقل فيما دار الأمر

٣٠٥

المتقدّمة الواردة في جزاء الصيد ، بناء على استظهار شمولها باعتبار المناط لما نحن فيه.

وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة : التوقيع المرويّ (١٣٧٠) في الاحتجاج عن الحميريّ ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل الله فرجه : «يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ، ويجوز أن يقول بحول الله وقوّته أقوم وأقعد. الجواب : في ذلك حديثان ، أمّا أحدهما ، فإنّه إذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الحديث الآخر ، فإنّه روي : أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهّد الأوّل يجري هذا المجرى (١٣٧١) ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ...» (١٦).

______________________________________________________

فيه بين محذورين من دون نصّ. وهو كذلك ، لوجوب الفحص المعتبر عن المعارض في العمل بالأخبار ، وعدم كفاية وجدان المعارض في الجملة.

ثمّ إنّ التمسّك بالصحيحة مبنيّ على كون موردها من قبيل الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، ليرجع إلى الشكّ في التكليف ، لا الارتباطيّين ، وإلّا كان أجنبيّا عمّا نحن فيه. اللهمّ إلّا أن يريد بالمناط ما يشمل ذلك. لكنّ الظاهر أنّ المقصود منه تعدية حكم ما لا نصّ فيه إلى صورة تعارض النصّين ، نظرا إلى كون المناط في الأوّل هو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فتدبّر.

١٣٧٠. لا يذهب عليك أنّه لم يحك عن أحد الفتوى بمضمون التوقيع سوى المفيد ، حيث حكى عنه في الجواهر القول بمشروعيّة التكبير عند القيام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة. ثمّ قال : وفي الذكرى لا نعلم له مأخذا. وحينئذ يكون التوقيع مطروحا يشكل التمسّك به في المقام. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ طرحه من جهة ما ذكرناه لا يستلزم طرحه من جهة دلالته على التخيير في تعارض الخبرين ، بناء على جواز التبعيض في السند ، كما سيجيء في باب التعادل والترجيح ، فتدبّر.

١٣٧١. يعني : أنّ القيام من التشهّد أيضا قيام بعد الجلوس من السجدة الثانية ،

٣٠٦

فإنّ الحديث الثاني وإن كان أخصّ من الأوّل وكان اللازم تخصيص الأوّل به والحكم بعدم وجوب التكبير ، إلّا أنّ جوابه صلوات الله وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلّ على أنّ الحديث الأوّل نقله الإمام عليه‌السلام بالمعنى وأراد شموله (١٣٧٢) لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن (*) إرادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب عليه‌السلام بالتخيير. ثمّ إنّ وظيفة الإمام عليه‌السلام وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعي ، إلّا أنّ هذا الجواب لعلّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع ، وليس فيه الإغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب فيما ليس بواجب من جهة (**) كفاية قصد القربة (١٣٧٣) في العمل.

وكيف كان : فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئيّة وعدمه ، ثبت فيما نحن فيه ـ من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ ـ بالإجماع والأولوية القطعيّة (١٣٧٤).

ثمّ إنّ جماعة من الاصوليّين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل أو المقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل. وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب و

______________________________________________________

فتشمله الرواية الثانية.

١٣٧٢. بأن كان نصّا في هذا الفرد ، مثل أن يقع التصريح فيه بجميع حالات الانتقال على وجه لا يقبل التقليد أو التخصيص.

١٣٧٣. لا يخفى أنّ الإغراء إنّما هو من جهة قصد الوجوب فيما ليس بواجب إذا أخذ بالرواية الاولى ، وهو لا يندفع بالقول بكفاية قصد القربة في العمل ، إذ اللازم في المقام هو قصد الخلاف ، وهو غير جائز على هذا القول أيضا.

١٣٧٤. لأنّه إذا ثبت التخيير وعدم وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في المكلّف به ، ففي مورد الشكّ في التكليف أولى.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لا يمكن» ، لا يتمكّن.

(**) في بعض النسخ : بدل «من جهة» ، لأجل.

٣٠٧

المفيد للإباحة ، وذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل وذكروا تعارض الخبر المفيد للإباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر بل الكلّ تقديم الحاظر ، ولعلّ هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار (١٣٧٥).

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الوجوب وغيره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم والحكم فيه البراءة ؛ ويدلّ عليه جميع (١٣٧٦) ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكليف. وتقدّم فيها أيضا اندفاع توهّم أنّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم وجب مقدّمة لامتثال التكليف في جميع أفراده موافقته في كلّ ما يحتمل أن يكون فردا له.

______________________________________________________

١٣٧٥. فلا ينافي المشهور ـ بل المنقول عليه الاتّفاق ـ من القول بالتخيير هنا. ولكن قد تقدّم في المسألة الاولى تضعيفه لهذا الوجه ، فراجع. مع أنّ الكلام في المسألتين لو كان مع قطع النظر عن الأخبار صارت المسألة فرضيّة ، وهو بعيد ، مضافا إلى أنّ لازمه القول بالتخيير مع ملاحظتها ، وهو مخالف لما يشاهد من عملهم في الفقه كما قيل.

فالأولى أن يقال : إنّ مرجع نزاعهم في تقديم الناقل أو الحاظر إلى النزاع في كون النقل أو الحظر مرجّحا في تعارض الخبرين وعدمه ، إذ اللازم أوّلا في تعارض الخبرين على مذهب المجتهدين هو استعمال الجهد في الفحص عن المرجّحات ، ثمّ الترجيح بها إن وجدت ، وإلّا فالتخيير. فمن قال بتقديم الناقل أو الحاظر فقد زعم كون ذلك مرجّحا عند التعارض ، وهو لا ينافي القول بالتخيير عند فقد المرجّحات ، كما إذا كان الخبران معا مخالفين للأصل.

١٣٧٦. لا يذهب عليك أنّ المصنّف رحمه‌الله قد استدلّ في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة أوّلا بالأخبار الخاصّة بها ، وثانيا بالكتاب والسنّة المتقدّمين في الشبهة التحريميّة الحكميّة.

ولا ريب في عدم شمول الأخبار للمقام ، وهو واضح. وأمّا الكتاب فكذلك أيضا ،

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لظهور اختصاص الآيات المستدلّ بها على أصالة البراءة بالشبهات الحكميّة.

وأمّا السنّة فغاية ما يمكن أن يستدلّ به منها عليه هو حديث الرفع ، وقوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» لظهور اختصاص غيرها بالشبهات الحكميّة أيضا. والعمدة في المقام هو الإجماع حتّى من الأخباريّين. وأمّا العقل ، فقد تقدّم تقريب الدلالة فيه في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، فراجع.

وقد يتوهّم الخلاف في المسألة من صاحب الرياض ، قال فيما شكّ في بلوغ الذهب والفضّة نصابهما : «إنّ مقتضى الأدلّة وجوب الزكاة في النصاب ، وهو اسم لما كان نصابا في نفس الأمر من غير مدخليّة للعلم به في مفهومه ، وحينئذ فيجب تحصيل العلم والفحص عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر ولو من باب المقدّمة. لكن ظاهر كلمة من وقفت عليه من الأصحاب الإطباق على عدم الوجوب هنا ، فإن تمّ إجماعا وإلّا فالأحوط الاستعلام أو إخراج ما يتيقّن معه بعدم اشتغال الذمّة ، كما صرّح به بعض متأخّري المتأخّرين» انتهى.

وفيه : أنّه قد صرّح بلا فصل بقوله : «وإن كان ما ذكروه لا يخلو عن قوّة ، لإمكان دفع المناقشة بما هنا ليس محلّه» انتهى. نعم ، قد فصّل هو بين ما شكّ في بلوغه النصاب ، وما علم بلوغه إليه وشكّ في الزائد ، بالقول بالبراءة في الأوّل ، وبالاحتياط تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا علم اشتغال الذمّة به إجمالا في الثاني ، حاكيا له عن الشيخ ومنتهى العلّامة وجماعة. نعم ، ما نقله عن بعض متأخّري المتأخّرين صريح في المخالفة ، بل ما اختاره في المسألة الثانية أيضا كذلك ، لكونها من جملة موارد المسألة ، نظير مثال قضاء الفوائت الذي ذكره المصنّف قدس‌سره.

وكيف كان ، فقد يجاب عمّا استدلّ به لبعض متأخّري المتأخّرين بانصراف الألفاظ مطلقا أو الواردة منها في مقام بيان الأحكام ـ كما قيل ـ إلى المعاني المعلومة.

وفيه : ـ مع منع الانصراف وإن ادّعاه المحقّق القمّي رحمه‌الله في غير المقام ـ أنّ مقتضاه انحصار تعلّق الأحكام الواقعيّة بالموضوعات المعلومة ، فلا معنى للتمسّك

٣٠٩

ومن ذلك يعلم (١٣٧٧) أنّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا تردّدت الفائتة بين الأقلّ والأكثر ـ كصلاتين وصلاة واحدة ـ بناء على أنّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر من باب المقدّمة.

توضيح ذلك مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريميّة أنّ قوله : «اقض ما فات» يوجب العلم التفصيلي بوجوب قضاء ما علم فوته وهو الأقل ، ولا يدلّ أصلا على وجوب ما شكّ في فوته وليس فعله مقدّمة لواجب حتّى يجب من باب المقدّمة ، فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلّا وجوب المعلوم فواته ، لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم حتّى يقال : إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ، بل من جهة أنّ الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعدّ دليلا إلّا على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج إلى مقدّمة ، ولا يعلم منه وجوب شىء آخر يحتاج إلى المقدّمة العلميّة.

والحاصل أنّ المقدّمة العلميّة المتّصفة بالوجوب لا تكون إلّا مع العلم الإجمالي. نعم ، لو اجري في المقام أصالة عدم الإتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه ، فله وجه (١٣٧٨) وسيجيء الكلام عليه.

______________________________________________________

حينئذ بالبراءة في الموضوعات المشتبهة ، للعلم بعدم تعلّقها بها حينئذ بحسب نفس الأمر ، وهو خلاف طريقة المحقّق المذكور وغيره مع أنّ مقتضاه نفي حسن الاحتياط ، وهو بديهي الفساد. فالأولى في الجواب : منع كون وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة مقتضيا لوجوب الاحتياط ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ، مضافا إلى الإجماع وبعض الأخبار كما قدّمناه.

١٣٧٧. هذا بيان لعدم الفرق في موارد المسألة بين الشبهة البدويّة والمشوبة بالعلم الإجمالي إذا كانت الشبهة فيها راجعة إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، مع تضعيف قول المشهور في مسألة قضاء الفوائت.

١٣٧٨. لحكومة الاستصحاب الموضوعي على أصالة البراءة عن الزائد المشكوك فيه.

٣١٠

هذا ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم بل المقطوع به من المفيد قدس‌سره إلى الشهيد الثاني أنّه لو لم يعلم كميّة ما فات قضى حتّى يظنّ الفراغ منها.

وظاهر ذلك ـ خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظنّ رخصة ، وأنّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ـ كون الحكم على القاعدة.

قال في التذكرة : لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد ، صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء ؛ لاشتغال الذمّة بالفائت ، فلا يحصل البراءة قطعا إلّا بذلك. ولو كانت واحدة ولم يعلم العدد (١٣٧٩) ، صلّى تلك الصلاة مكرّرا حتّى يظنّ الوفاء. ثمّ احتمل في المسألة احتمالين آخرين : أحدهما : تحصيل العلم ؛ لعدم البراءة إلّا باليقين ، والثاني : الأخذ بالقدر المعلوم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يفوّت الصلاة ، ثمّ نسب كلا الوجهين إلى الشافعيّة (١٧) ، انتهى.

وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ، وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الإمكان ، وصرّح في الرياض بأنّ مقتضى الأصل القضاء حتّى يحصل العلم بالوفاء تحصيلا للبراءة اليقينيّة. وقد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس‌سره في التهذيب ، حيث قال : أمّا ما يدلّ على أنّه يجب أن يكثر منها ، فهو ما ثبت أنّ قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك إلّا بأن يستكثر منها ، وجب (١٨) ، انتهى.

وقد عرفت أنّ المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، كما لو شكّ في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه ، أو في أنّ الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، فإنّ الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر ، وكذا ما لو تردّد فيما فات عن أبويه أو فيما تحمّله بالإجارة بين الأقلّ والأكثر.

______________________________________________________

١٣٧٩. كما إذا فاتت الظهر من أيّام لم يعلم عددها.

٣١١

وربّما يظهر عن بعض المحقّقين (١٣٨٠):

______________________________________________________

١٣٨٠. هو شيخنا (*) البهائي في حاشية المدارك على ما حكي عنه. وحاصل الفرق : أنّه إذا علم في الزمان السابق بفوات مقدار معيّن ولو بالعلم بفوات كلّ فائتة حين فوتها ، ثمّ نسي ذلك المقدار ، فمقتضى القاعدة هو القضاء حتّى يحصل العلم بالفراغ. وأمّا إذا شكّ في مقدار ما فات من غير سبق علم ونسيان منه ، كما إذا علم إجمالا باشتمال عدّة من صلواته السابقة على خلل موجب للبطلان ، ولم يعلم كميّتها وإن لم يعلم بذلك حين العمل ، فالحكم هنا البراءة من الزائد على القدر المتيقّن. وجعل الأمثلة المذكورة من قبيل الثاني دون الأوّل.

وحاصل ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله هو منع الفارق بين الصورتين ، نظرا إلى أنّ كلّ علم إجمالي منحلّ على علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فهو ليس موردا للاحتياط والاشتغال. وهذا محصّل ما ذكره سابقا.

وتوضيح المقام : أنّ المكلّف وإن علم بفوات كلّ صلاة فاتت منه حين فوتها ، ولم يكن النسيان أيضا مسقطا للقضاء ، لكنّ الشكّ بعده في عدد الفوائت يسري إلى الزائد على المتيقّن ، فيكون الزائد عليه مشكوكا من أصله ، فلا وجه للاستناد إلى الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال. ولا فرق فيما ذكرناه بين ما لو علم بفوات صلاة الظهر بخصوصها وشكّ في فوات العصر معها وعدمه ، وما لو علم بفوات عدد مجهول مردّد ابتداء بين الأقلّ والأكثر ، وما لو علم فوات فرائض متعدّدة ، وعلم بفوات كلّ واحدة عند فواتها ، ولم يضبطها في عدد بعد فوتها ، و

__________________

(*) هذا غفلة من المحشّي قدس‌سره ، والعصمة لله وحده ، لأنّ الشيخ الأعظم قدس‌سره صرّح في المتن بأنّ كلام بعض المحقّقين في ردّ صاحب الذخيرة ، وصاحب الذخيرة كما في الذريعة ج ١٠ / رقم ٩٦ هو المحقّق السبزواري قدس‌سره ، ولد عام ١٠١٧ وتوفّى ١٠٩٠ ، وفرغ من تأليف المجلّة الأوّل من ذخيرة المعاد عام ١٠٥٠ ، بينما أنّ الشيخ البهائي قدس‌سره توفّى عام ١٠٣٠ أو ١٠٣١ ، فكيف يمكن أن يكون الردّ من الشيخ البهائي وقد توفّى قبل الفراغ من تأليف المردود عليه بعشرين سنة؟!!

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ما لو علم بفوات عدد معيّن كالعشرة مثلا ثمّ نسي هذا العدد ، فدار أمره بين الأقلّ والأكثر ، لرجوع العلم الإجمالي في الجميع إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي. وإن شئت توضيحه فقسه على مسألة الدين ، إذ لا ريب أنّ من علم أنّه كان عليه دين ونسي مقداره فلا ريب في كون شكّه في الزمان الثاني ساريا إلى الزائد على المتيقّن ، وسيجيء في مبحث الاستصحاب عدم الاعتداد بهذا الشكّ ، وعدم كونه موردا للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال ، فما يحكى عن بعضهم من التمسّك بهما في القسم الرابع لا وجه له.

ثمّ إنّ ما استظهره المصنّف رحمه‌الله من كلام المحقّق المذكور من الفرق بين ما نحن فيه وما ذكره من الأمثلة لا يخلو من إشكال. وتوضيحه : أنّ من فاته بعض صلواته ودار الأمر بين الأقلّ والأكثر لا يخلو : إمّا أن تكون المعلومة الفوت صلاة واحدة ويشكّ في الزائدة عليها ، وإمّا أن تكون صلوات متعدّدة ويشكّ في الزائدة عليها. وعلى التقديرين : إمّا أن يعلم بكلّ فائتة حين فوتها ، ثمّ يتردّد الأمر بين الأقلّ والأكثر لأجل النسيان ، من دون سبق علم بعدد مخصوص قبله وإمّا أن يعلم بعد الفوت عدد ما فاته ثمّ يعرض له النسيان وإمّا أن يحصل له العلم الإجمالي بفوات بعض صلواته الدائرة بين الأقلّ والأكثر ، من دون سبق علم بما فاته لا حين الفوت ولا بعده ، كما إذا وجد على ثوبه منيّا وعلم بإتيانه ببعض صلواته مع الجنابة ، إمّا بأن علم بإتيانه بصلاة واحدة معها وشكّ في الزائدة ، وإمّا بأن علم بإتيانه بصلوات متعدّدة معها وشكّ في الزائدة عليها. فالأقسام ستّة. وهذه الأقسام آتية أيضا في مسألة الدين ، وأكثرها في ما تحمّله عن أبويه أو بالإجارة ، وهو واضح.

وإذا تحقّق هذا نقول : إنّ ظاهر المحقّق المذكور هو التفصيل بين أقسام سبق العلم التفصيلي ثمّ عروض النسيان ، وقسمي عروض العلم الإجمالي ابتداء. وحينئذ إن أراد المصنّف رحمه‌الله بما نحن فيه ما علم المكلّف بفوات صلوات متعدّدة مع العلم

٣١٣

الفرق بين هذه الأمثلة وبين ما نحن فيه ؛ حيث حكي عنه ـ في ردّ صاحب الذخيرة القائل بأنّ مقتضى القاعدة في المقام الرجوع إلى البراءة ـ أنّه قال : إنّ المكلّف حين علم بالفوائت صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا ، وكذلك الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا ، ومجرّد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب بل الإجماع أيضا؟ وأيّ شخص يحصل منه التأمّل في أنّه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلّفا ، وبمجرّد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت؟ وإن أنكر حجيّة الاستصحاب فهو يسلّم أنّ الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة إلى أن قال : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجمالي (١٣٨١) باشتغال ذمّته بفوائت متعدّدة يعلم قطعا تعدّدها لكن لا يعلم مقدارها ، فإنّه يمكن حينئذ أن يقال : لا نسلّم

______________________________________________________

بكلّ واحدة منها حين فوتها ، أو مع العلم بعددها المخصوص بعد فوتها ، ثمّ عرض النسيان فدار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، يرد عليه ـ مع عدم الدليل على تخصيص كلمات العلماء بذلك ، لإطلاق حكمهم بوجوب القضاء حتّى يغلب على ظنّه الوفاء ـ أنّ ما ذكره المحقّق المذكور لا يصلح فارقا بين ما ذكر وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الأمثلة ، لما عرفت من أنّ ما ذكره المحقّق المذكور من التفصيل جار في مثال الدين وما تحمّله من أبويه أو بالإجارة ، بل في ما لو علم بفوات صلاة واحدة وشكّ في الزائدة عليها ، مع إطلاق فتوى العلماء بالبراءة فيها.

وإن أراد به ما لو حصل العلم الإجمالي ابتداء بفوات صلوات متعدّدة ، مع دورانها بين الأقلّ والأكثر من دون سبق علم تفصيلي ، يرد عليه ـ مع عدم الشاهد له أيضا ـ أنّه لا معنى حينئذ للفرق الذي استظهره من كلام المحقّق المذكور بين ما نحن فيه وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من الأمثلة ، لأنّ المقصود من استظهار هذا الفرق تصحيح قول المشهور بوجوب الاحتياط فيما نحن فيه ، والمفروض أنّ المحقّق المذكور قد اختار القول بالبراءة في هذا المورد.

١٣٨١. بأن علم إجمالا بعروض خلل في بعض صلواته الماضية من دون علم به حين الإتيان بها.

٣١٤

تحقّق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقّنه. إلى أن قال : والحاصل أنّ المكلّف إذا حصّل له القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس عليه ذلك كمّا ، وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ، وإن لم يحصّل ذلك ، بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث وأمّا أزيد من ذلك فلا ، بل احتمال احتمله ، فالأمر كما ذكره في الذخيرة. ومن هنا : لو لم يعلم أصلا بمتعدد في فائتة وعلم أنّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظنّ فوته أصلا ، فليس عليه إلّا الفريضة الواحدة دون المحتمل ؛ لكونه شكّا بعد خروج الوقت ، والمنصوص أنّه ليس عليه قضاؤها بل لعلّه المفتى به ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ويظهر النظر فيه ممّا ذكرناه سابقا ، ولا يحضرني الآن حكم لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام (١٣٨٢) بل الظاهر منهم إجراء أصل البراءة في أمثال ما نحن فيه ممّا لا يحصى. وربّما يوجّه الحكم (١٣٨٣) فيما نحن فيه : بأنّ الأصل عدم الإتيان بالصلاة الواجبة ، فيترتّب عليه وجوب القضاء إلّا في صلاة علم الإتيان بها في وقتها.

______________________________________________________

١٣٨٢. قد تقدّم عند شرح قوله : «يدلّ عليه جميع ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ...» حكم جماعة في مسألة الزكاة بوجوب الاحتياط في نظير المقام ، فراجع.

١٣٨٣. يعني : حكم المشهور بوجوب القضاء حتّى يعلم أو يظنّ الفراغ. وحاصله : أنّ استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه حاكم على أصالة البراءة عنه ، ولا فرق فيه بين القول بكون القضاء تابعا للأداء أو بأمر جديد ، لثبوت بقاء الأمر ، وكذا توجّه الخطاب بقضاء الفوائت بإثبات عدم الإتيان بالأصل. ومن هنا احتاج إلى دفع دعوى أنّ الحقّ كون القضاء بأمر جديد لا بالأمر الأوّل ، وهو في الأدلّة معلّق على صدق الفوت ، وهو أمر وجودي مسبوق بالعدم ، وإثباته بأصالة عدم الإتيان بالمشكوك فيه لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، ولا نقول بها.

وحاصل الدفع : هو منع كون القضاء مرتّبا على عنوان الفوت في الشرع بحيث يدور الحكم مدار صدق عنوانه ، ولذا يجب قضاء الصوم على الحائض مع

٣١٥

ودعوى : ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل ، لا مجرّد عدم الاتيان الثابت بالأصل ، ممنوعة ؛ لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بيّناه في الفقه.

وأمّا ما دلّ على أنّ الشكّ (١٣٨٤) في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به ، فلا يشمل (١٣٨٥) ما نحن فيه. وإن شئت تطبيق (١٣٨٦) ذلك على قاعدة الاحتياط

______________________________________________________

عدم صدق عنوان الفوت مع وجود المانع. وما ورد من الأمر بقضاء ما فات كما فات مبنيّ على التعبير بالفرد الغالب من حصول ترك المأمور به في وقته مع التمكّن منه ، وإلّا فالمدار على مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به ، لا عليه مع صدق عنوان الفوت عليه ، فتدبّر.

١٣٨٤. هي حسنة زرارة والفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «متى استيقنت أو شككت في وقت صلاة أنّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوائت فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شكّ حتّى تستيقن ، وإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال كنت».

١٣٨٥. ولعلّ الوجه فيه ـ كما صرّح به في الرياض ، وسيجيء ـ ظهور الحسنة في الشكّ البدوي ، فلا تشمل المشوب بالعلم الإجمالي كما في المقام. ولكنّ المصنّف رحمه‌الله سيصرّح بمنع هذا الظهور.

١٣٨٦. الفرق بين هذا التوجيه وسابقه : أنّ هذا التوجيه مبنيّ على منع جريان أصالة البراءة وسابقه على تسليمه ، وحكومة الاستصحاب الموضوعي عليها. وإن شئت قلت : إنّ المستصحب في السابق هو عدم الإتيان بالمأمور به الذي يتفرّع عليه توجّه الخطاب بالقضاء ، وهنا بقاء الأمر بالطبيعة.

وكيف كان ، فحاصل التوجيه هو الاستكشاف بالأمر بالقضاء عن كون المراد بالأمر بالأداء في الوقت أمرين : أحدهما : مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي بإرادة مستقلّة ، والآخر : مطلوبيّة إيجادها في ضمن فرد خاصّ كذلك ، فإذا انتفى الثاني

٣١٦

اللازم ، فتوضيحه أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد إلّا أنّ ذلك الأمر كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف ، غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدّد المطلوب ، بأن يكون الكلّي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا وكون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، كما أنّ أداء الدين وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الإمكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني ، وهكذا.

وحينئذ : فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ، فإذا شكّ في براءة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقيني للبراءة اليقينيّة وجوب الإتيان ، كما لو شكّ في البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شكّ في أداء الدين الفوري ، فلا يقال : إنّ الطلب في الزمان الأوّل قد ارتفع بالعصيان ووجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه ، وكذلك جواب السلام. والحاصل : أنّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد لا ينافي جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق ، فلا يكون المقام مجرى البراءة.

______________________________________________________

بقي الأوّل ، وإذا شكّ في الإتيان بالفرد تستصحب مطلوبيّة الطبيعة. وربّما يعضده أنّه لو لا تعدّد المطلوب في الأوامر الموقّتة أشكل تكليف الكفّار بالقضاء ، لأنّه إن كان بوصف الكفر فهو تكليف بما لا يطاق ، وإن كان بعد الإسلام فهو يجبّ عمّا قبله ، فلا يبقى معنى لتكليفهم بالقضاء. ولا مناص منه إلّا بما ذكرناه من تعدّد المطلوب ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّه إذا كان المطلوب بالأمر الموقّت أمرين : مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي وإيجادها في الوقت ، فمقتضى الأوّل بقاء التكليف في خارج الوقت وإن استلزم التكليف بما لا يطاق ، ولا قبح فيه ، لأنّ الامتناع إنّما جاء من قبلهم لا من قبل المكلّف بالكسر ، لأنّه كان لهم قبول الإسلام في الوقت والإتيان بالطبيعة على وجه الصحة ، فإذا قصّروا في ذلك وتركوا الامتثال بها فالعقل لا يقبّح بقاء التكليف في خارجه ، بخلاف ما لو قلنا بكون التكليف مقيّدا بالوقت وكون القضاء بأمر مستقلّ ، إذ تقصيرهم في التكليف الأوّل حينئذ لا يصحّح بقاء التكليف الثاني ، كما هو واضح.

٣١٧

هذا ، ولكنّ الإنصاف ضعف هذا التوجيه لو سلّم استناد الأصحاب إليه في المقام. أمّا أوّلا (١٣٨٧) : فلأنّ من المحتمل بل الظاهر على القول بكون القضاء بأمر جديد ، كون كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا (١٣٨٨) للآخر ، فهو من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته ـ كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت (١٣٨٩) ، ويؤيّده (١٣٩٠) : بعض ما دلّ على أنّ لكلّ من الفرائض بدلا وهو قضاؤه عدا الولاية ـ لا من باب الأمر

______________________________________________________

والإنصاف أنّ المقام لا يصفوا عن شوب إشكال ، وإن زعم المحقّق القمّي رحمه‌الله كون سوء اختيار المكلّف مصحّحا للتكليف بالمحال ، والكلام في ذلك محرّر في مقام آخر.

١٣٨٧. لا يخفى أنّ هذه الإيرادات الثلاثة مختلفة ، فالأوّل وارد على التوجيه الأخير خاصّة ، والأخيران مشتركا الورود عليه وعلى سابقه.

١٣٨٨. المستند فيه ظهور الأمر بالأداء في اتّحاد التكليف ، والأمر بالقضاء في إرادة التكليف المستقلّ.

١٣٨٩. لا يقال : إنّ هذا بظاهره ينافي ما تقدّم من المصنّف من كون المراد بالفوت في الأخبار مجرّد الترك. لأنّا نقول : يتمّ المطلوب على التقديرين ، كما هو واضح.

١٣٩٠. يؤيّده أيضا وجوه :

أحدها : أنّ القضاء في مصطلح الفقهاء والاصوليّين تدارك ما فات في وقته في خارجه ، إذ المأتيّ به في خارج الوقت على ما ذكر في التوجيه لا يكون تداركا لما فات بل عينه. لا يقال : إنّ هذا اصطلاح متأخّر ، فلا يجوز حمل الأخبار عليه. لأنّا نقول : الظاهر كونه مأخوذا من إطلاقات القضاء في الأخبار.

وثانيها : أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «اقض ما فات» هو الإتيان بالفعل ثانيا بعد ارتفاع الأمر به ، وهو

لا يصدق مع بقاء الأمر الأوّل.

وثالثها : أنّه على ما ذكر في التوجيه يكون الأمر بالقضاء تأكيدا لما يستفاد

٣١٨

بالكلّي والأمر بفرد خاصّ منه كقوله : صم ، وصم يوم الخميس ، أو الأمر بالكلّي والأمر بتعجيله كردّ السلام وقضاء الدين ، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع عموم ما دلّ على أنّ الشكّ في الإتيان بعد خروج الوقت لا يعتدّ به للمقام خال عن السند (١٣٩١).

______________________________________________________

من الأمر الأوّل ، وهو مطلوبيّة الطبيعة من حيث هي ، وعلى ما ذكره المصنّف رحمه‌الله يكون تأسيسا للأمر بالقضاء ، فمع الشكّ في كون إنشاء مطلوبيّة القضاء حين الأمر الأوّل أو حين الأمر الثاني فالأصل يقتضي تأخّره ، فتدبّر.

١٣٩١. لا يخفى أنّه مع تسليم العموم تكون القاعدة حاكمة على كلّ من استصحاب عدم الإتيان في الوقت ، وأصالة بقاء الأمر بالطبيعة وقاعدة الشغل.

ومنع العموم يظهر من الرياض عند شرح قول المحقّق : «ولو فاتته ـ يعني : من الفرائض ـ ما لم يحصه قضى حتّى يغلب على ظنّه الوفاء». قال : «على المشهور بل المقطوع به في كلام الأصحاب كما في المدارك ، وهو مشعر بالإجماع ، فإن تمّ وإلّا كان الرجوع إلى الاصول لازما ، ومقتضاها القضاء حتّى يحصل القطع بالوفاء ، تحصيلا للبراءة اليقينيّة عمّا تيقّن ثبوته في الذمّة مجملا. وبه أفتى شيخنا في الروض في بعض الصور وفاقا للذكرى ، خلافا لسبطه في المدارك ، فاستوجه الاكتفاء بقضاء ما تيقّن فواته خاصّة مطلقا وفاقا لمحتمل التذكرة. قال : لأصالة البراءة من التكليف بالقضاء ، مع عدم تيقّن الفوات. ويؤيّده الحسن : «متى ما استيقنت أو شككت في وقت صلاة أنّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوات فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شيء حتّى تستيقن ، وإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال».

وفيه نظر ، لابتناء الأوّل ـ يعني : عدم وجوب القضاء ، لأصالة البراءة ـ على عدم حجيّة الاستصحاب ، وهو خلاف الصواب. والمتبادر من الثاني هو الشكّ في ثبوت أصل القضاء في الذّمة وعدمه ، ونحن نقول بحكمه الذي فيه. ولكنّه غير ما

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

نحن فيه ، وهو الشكّ في مقدار القضاء بعد القطع بثبوت أصله في الذمة واشتغالها به مجملا ، والفرق بينهما واضح لا يخفى» انتهى.

وأنت خبير بأنّ المتّجه ما ذكره صاحب المدارك ، لكون الشكّ في الزائد على المتيقّن بدويّا مندفعا بأصالة البراءة ، كما حقّقه المصنّف رحمه‌الله ، وأسلفنا توضيحه. ومنه يظهر أيضا فساد دعوى انصراف الرواية إلى صورة الشكّ البدوي.

نعم ، لا يجري الأصل في صورة دوران الأمر بين المتباينين ، كالشكّ في أنّ الفائتة هي الظهر أو العصر ، لعدم القدر المتيقّن في البين حتّى يؤخذ بالمتيقّن وينفى المشكوك فيه بالأصل.

وقال في المدارك : «إذا توضّأ المكلّف وضوءا رافعا للحدث فرضا أو نفلا ، ثمّ جدّد وضوءا آخر بنيّة الندب أو الوجوب ، ثمّ ذكر الإخلال بعضو من إحدى الطهارتين» إلى أن قال : «وإن اعتبرنا الرفع أو الاستباحة وقلنا بعدم رفع المجدّد وجب إعادتها ، يعني : الطهارة والصلاة الواقعة بعد الطهارتين ، لإمكان أن يكون الإخلال من الاولى ، والثانية غير مبيحة. وقوّى العلّامة في المنتهى عدم الالتفات إلى هذا الشكّ مطلقا ، لاندراجه تحت الشكّ في الوضوء بعد الفراغ. ونقله الشهيد في البيان عن السيّد جمال الدين بن طاوس رحمه‌الله واستوجهه. ويمكن الفرق بين الصورتين ، بأنّ اليقين هنا حاصل بالترك ، وإنّما حصل الشكّ في موضوعه ، بخلاف الشكّ بعد الفراغ ، فإنّه لا يقين فيه بوجه ، والمتبادر من الأخبار المتضمّنة لعدم الالتفات إلى الشكّ في الوضوء بعد الفراغ هو الوضوء الذي حصل الشكّ فيه بعد الفراغ منه ، فتأمّل» انتهى.

وهو وإن كان منظورا فيه ، إلّا أنّه أولى ممّا ذكره صاحب الرياض ، لأنّ اليقين ببطلان إحدى الطهارتين حاصل ، وليس هنا قدر متيقّن يؤخذ به ، وينفى الزائد المشكوك فيه بالأصل أو بقاعدة الفراغ من الوضوء ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ القدر المتيقّن فيه حاصل ، والزائد المشكوك فيه منفي بالأصل.

٣٢٠