فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-66-9
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٠

فكذلك.

وأمّا عن الموثّقة : فبأنّ ظاهرها الاستحباب (١٢١٩) ، والظاهر أنّ

______________________________________________________

إلى التوقّف والاحتياط في صورة أيضا ، وقد ذكر ثمّة ما حاصله : «أنّ ما يسقى سيحا أو عذيا أو بعلا ففيه العشر ، وبالنواضح والدوالي ففيه نصف العشر ، ولو اجتمع الأمران حكم للأغلب ، ولو تساويا أخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العشر. واعتبار التساوي بالمدّة والعدد ظاهر. وأمّا بالنفع والنموّ فيرجع فيه إلى أهل الخبرة. وإن اشتبه الحال وأشكل الأغلب ، ففي وجوب الأقلّ للأصل ، أو العشر للاحتياط ، أو الإلحاق بالتساوي ، لتحقّق تساويهما ، والأصل عدم التفاضل أوجه ، أحوطها الأوسط إن لم يكن أجود» انتهى. وفيه ما لا يخفى.

وإمّا أن تكون ارتباطيّة ، بأن كان الإتيان بالأقلّ غير مجز عن التكليف الواقعي على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ، كالشكّ في الأجزاء والشرائط من الصلاة ، فالقول بوجوب الاحتياط حينئذ وإن كان مذهب جماعة من المجتهدين أيضا ، إلّا أنّ القول بذلك إنّما هو لأجل العلم الإجمالي بالتكليف وكون الشكّ في المكلّف به ، بخلاف ما نحن فيه ، لكون الشكّ فيه في أصل التكليف.

وأمّا الثاني فإنّه يحتمل أن يكون المراد منه أنّ ما اشتبه عليكم ولم تدروا حكمه من الوجوب أو الحرمة فعليكم بالاحتياط ، بأن كان المراد إمّا بيان حكم ظاهري في مقام القول والفتوى ، بأن يفتوا بالاحتياط والحرمة الظاهريّة ، وإمّا بيان الاحتياط في الفتوى ، بأن لا يفتوا بالاحتياط والحرمة الظاهريّة أيضا ، بأن يسكتوا عن القول نفيا وإثباتا. وهذا غير مجد للمستدلّ ، لأنّ الأوّل وإن كان مانعا له في الجملة إن ثبت ، إلّا أنّ مورد الصحيحة كما عرفت هي صورة التمكّن من إزالة الشبهة التي عرفت عدم الخلاف في وجوب الاحتياط فيها.

١٢١٩. لأنّه المنساق من نسبة الرواية إلى المخاطب. وأنت خبير بأنّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور ، لأنّ مقتضى الاستصحاب ـ سواء حملت الموثّقة

١٤١

مراده (١٢٢٠) الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية ـ لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها ـ ؛ لأنّ إرادة الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدة عن منصب الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّه لا يقرّر الجاهل بالحكم على جهله ، ولا ريب أنّ الانتظار مع الشكّ في الاستتار واجب ؛ لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة. فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاكّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة ، ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقينا ، لا مطلق الشاكّ ؛ لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجي مع عدم تيقّن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتّفاق من الأخباريّين أيضا.

______________________________________________________

على بيان الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، على ما ستعرفه في الحاشية الآتية ـ وجوب الاحتياط إلّا على الوجه الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله على تقدير حملها على بيان الشبهة الحكميّة ، إلّا أنّه بعيد عن ظاهرها كما اعترف به ، لا أنّه أخذ بظاهرها. مع أنّه لا ظهور في النسبة المذكورة بحيث يصحّ الاستناد إليه ، لأنّ غايتها أن يستشمّ منها الاستحباب كما صرّح به ، فلا وجه لدعوى ظهورها فيه.

١٢٢٠. هذا جواب آخر عن الموثّقة. وحاصله : أنّ ظاهر الموثّقة ـ بقرينة ما صرّح به من عدم كون وظيفة الإمام عليه‌السلام بيان الحكم الظاهري في الشبهات الحكميّة ـ هو بيان الشبهة الموضوعيّة ، بأن كان السائل عالما بالحكم الشرعيّ ، أعني : جواز الإفطار والصلاة عند استتار القرص ، لكن أشكل عليه الأمر لأجل الاشتباه في الاستتار ، لأجل حيلولة الجبل بينهم وبينه ، ولذا قال : يرتفع فوق الجبل حمرة ، بمعنى : أنّه يرى فوقه شيء لا يعلم أنّه من آثار ضوء الشمس أو الحمرة الحادثة بعد الاستتار ، فسأل الإمام عليه‌السلام عن حكم هذا الموضوع المشتبه ، فأمر الإمام بالاحتياط. والموثّقة حينئذ تكون دليلا على مذهب جماعة ممّن اكتفى في الغروب الشرعيّ بمجرّد استتار القرص ، كما هو مذهب العامّة أيضا ، خلافا للمشهور حيث اعتبروا ذهاب الحمرة المشرقيّة.

١٤٢

هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون الحمرة غير الحمرة المشرقيّة ، ويحتمل بعيدا (١٢٢١) أن يراد من الحمرة (١٢٢٢) الحمرة

______________________________________________________

١٢٢١. هذا وجه آخر في الموثّقة ، حاصله حملها على بيان الشبهة الحكميّة ، بأن كانت شبهة السائل في تحقّق الغروب ، وأنّه بأيّ شيء يحصل؟ فسأل الإمام عليه‌السلام عن ذلك بما ذكره في السؤال ، فأمره الإمام عليه‌السلام بالانتظار والأخذ بالاحتياط من دون بيان للحكم الواقعي ، للنكتة التي أشار إليها المصنّف رحمه‌الله من التخلّص من مخالفة العامّة.

هذا إذا كان المراد بالاحتياط المدلول عليه بقوله : «وتأخذ الحائطة» معناه المصطلح عليه ، أعني : الأخذ بما يوافق التكليف من طرفي الشبهة في مقابل البراءة. ويحتمل أن يكون المراد به معناه اللغوي (*) ، أعني : الأخذ بالأوثق ، وهو الانتظار إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة. وحينئذ لا يلزم بيان الحكم الواقعي بلباس الحكم الظاهري ، كما هو واضح. نعم ، ربّما يشعر التعبير بذلك بحصول الوثوق بالطرف الآخر. وهو فيما نحن فيه ليس كذلك ، للعلم بكونه خلاف الواقع ، إذ الفرض على هذا التقدير كون الغروب في الواقع عبارة عن ذهاب الحمرة المشرقيّة لا عن استتار القرص ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون ذلك لأجل حصول الوثوق به في الدين من حصول التقيّة به ، لأنّها أيضا من الدين ، وقد قال عليه‌السلام : «التقيّة ديني ودين آبائي» فيكون هذا موثوقا به ، وإن كان الأوّل أوثق. والموثّقة على تقدير كون المراد بالحمرة فيها الحمرة المشرقيّة تكون دليلا على مذهب المشهور من كون الغروب الشرعيّ عبارة عن ذهابها.

١٢٢٢. ربّما يؤيّده قطعها عن الإضافة إلى الجبل في كلام الإمام عليه‌السلام ، لأنّ المراد بها لو كان هو الباقي فوق الجبل كان الأنسب إضافتها إليه كما في السؤال.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة ، «قد جعل المحقّق القمّي رحمه‌الله المعنى اللغوي معنى اصطلاحيّا للفظ الاحتياط ، وهو كما ترى. منه دام علاه».

١٤٣

المشرقيّة التي لا بدّ من زوالها في تحقّق المغرب. وتعليله حينئذ بالاحتياط وإن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه‌السلام كما لا يخفى ، إلّا أنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقيّة ؛ لإيهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ، لا أنّ المغرب لا يدخل مع تحقّق الاستتار. كما أن قوله عليه‌السلام : «أرى لك» يستشمّ منه رائحة الاستحباب ، فلعلّ التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقيّة ، وحينئذ فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلّا على رجحانه (١٢٢٣).

وأمّا عن رواية الأمالي ، فبعدم دلالتها على الوجوب ؛ للزوم إخراج أكثر (١٢٢٤) موارد الشبهة وهي الشبهة الموضوعية مطلقا والحكميّة الوجوبيّة ، والحمل على الاستحباب أيضا مستلزم لاخراج موارد وجوب الاحتياط ، فتحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ، وحينئذ : فلا ينافي لزومه في بعض الموارد وعدم لزومه في بعض آخر ؛ لأنّ تأكّد الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ؛ لأنّ الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرّة ، فيختلف رضا المرشد بتركه وعدم رضاه بحسب مراتب المضرّة ، كما أنّ الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة الله ورسوله للإرشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات.

______________________________________________________

اللهمّ إلّا أن يقال بكون الألف واللام الداخلة عليها في كلام الإمام عليه‌السلام للعهد الذكري ، فتكون إشارة إلى الحمرة المذكورة في كلام السائل.

١٢٢٣. لأنّ الاحتياط في مورد الموثّقة وإن كان واجبا بمقتضى الاستصحاب ، إلّا أنّ التعبير به لمّا كان لأجل التقيّة لا بدّ أن يراد به الاستحباب ، لعدم اندفاع التقيّة إلّا به.

١٢٢٤. مع تسليم عدم لزومه. لا ريب أنّ ظاهر الرواية آب عن التخصص وإن لم يكن الخارج أكثر الأفراد ، بناء على كون قوله «أخوك» خبرا مقدّما ، وقوله «دينك» مبتدأ مؤخّرا ، لأنّ حصر الأخوّة في الدين ـ كما هو مقتضى تقديم الخبر ـ يقتضي محافظة الدين عن جميع ما يرد عليه من النقص والعيب ، لا محافظته عن

١٤٤

هذا ، والذي يقتضيه دقيق النظر أنّ الأمر المذكور بالاحتياط (١٢٢٥) لخصوص الطلب الغير الإلزامي ؛ لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط ، لا جميع مراتبه (١٢٢٦) ولا المقدار (١٢٢٧) الواجب. والمراد من قوله (١٢٢٨) : «بما شئت» ليس التعميم من حيث القلّة والكثرة والتفويض إلى مشيئة الشخص ؛ لأنّ هذا كلّه (١٢٢٩) مناف لجعله بمنزلة الأخ ، بل المراد أنّ أيّ مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلّها ، وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين ؛ لأنّه

______________________________________________________

بعض دون بعض ، كما هو مقتضى ارتكاب التخصيص فيها.

ومن هنا يظهر أنّ موضع الاستدلال بالرواية فقرتان ، إحداهما : قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك» لأنّ معناه بمقتضى الحصر أنّه لا أخ لك سوى دينك ، والمقصود بيان المبالغة في المحافظة على الدين ، والمعنى : أنّه كما يلزم عليك مراعاة أخيك بدفع جميع ما يتوجّه إليه من المضارّ ، كذلك دينك يجب عليك فيه سدّ جميع ما يحتمل وروده عليه من النقائص بالاحتياط فيه. والاخرى : ظاهر الأمر بالاحتياط في قوله عليه‌السلام : «فاحتط لدينك». والجواب عنهما واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

١٢٢٥. يعني : أنّ المراد به خصوص الطلب الاستحبابي ، لا الإرشادي ، ولا الرجحان المطلق.

١٢٢٦. حتّى يحمل الأمر على الإرشاد ، أو الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب.

١٢٢٧. حتّى يحمل الأمر على خصوص الطلب الإلزامي.

١٢٢٨. هذا تضعيف بما يتوهّم من ظهور قوله : «بما شئت» في كون المراد بالأمر خصوص الطلب الاستحبابي.

١٢٢٩. يعني : كلّ من التعميم والتفويض.

١٤٥

بمنزلة الأخ الذي هو كذلك (*) ، وليس بمنزلة سائر الامور (**) لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط ، كالمال وما عدا الأخ من الرجال ، فهو بمنزلة قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.)

وممّا ذكرنا يظهر الجواب (١٢٣٠) عن سائر الأخبار المتقدّمة مع ضعف السند في الجميع. نعم ، يظهر من المحقّق في المعارج اعتبار إسناد (***) النبويّ : «دع ما يريبك» ؛ حيث اقتصر في ردّه على أنّه خبر واحد لا يعوّل عليه في الاصول ، وأنّ

______________________________________________________

١٢٣٠. بحمل الأمر في باقي الأخبار أيضا إمّا على الإرشاد ، أو على الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب. مضافا في مرسلة الشهيد إلى منع كون الريبة فيها بمعنى الشكّ ، لاحتمال كونها بمعنى التهمة ، والمقصود هو الأمر بترك ما يوجب التهمة إلى ما لا يوجبها ، فمساقها مساق قولهم عليهم‌السلام : «اتّقوا مواضع التهمة». قال الجوهري : الريب : الشكّ ، والريب : ما يريبك من الأمر ، والاسم الريبة بالكسر ، وهي التهمة والشكّ. ولا ريب في عدم وجوب الاجتناب عن التهمة. مع أنّ المرسلة حينئذ لا ترتبط بالمدّعى من إثبات وجوب الاحتياط.

وبالجملة ، إنّه مع احتمال هذا المعنى احتمالا مساويا تعود المرسلة مجملة ، بل تمكن دعوى كون لفظ الريبة موضوعا للجامع بين المعنيين ، وهو مطلق ما يوجب القلق والاضطراب ، فيكون ذكر كلّ من التهمة والشكّ معنى للفظ ، من قبيل ذكر فردي الكلّي الموضوع له. والمعنى : دع ما يوجب القلق والاضطراب إلى ما لا يوجب ذلك. ولا ريب في عدم كون الأمر بالنسبة إلى ما يوجب التهمة للوجوب فكذلك بالنسبة إلى معنى الشكّ ، وإلّا لزم استعماله في الوجوب والاستحباب.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «كذلك» ، لك.

(**) في بعض النسخ زيادة : التى.

(***) في بعض النسخ : بدل «إسناد» ، سند.

١٤٦

إلزام المكلّف بالأثقل (١٢٣١) مظنّة الريبة (٣٢) (١٢٣٢).

وما ذكره قدس‌سره محلّ تأمّل ؛ لمنع كون المسألة اصوليّة ، ثمّ منع كون النبويّ من أخبار الآحاد المجرّدة ؛ لأنّ مضمونه ـ وهو ترك الشبهة ـ يمكن دعوى تواتره ، ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاصوليّة. وما ذكره : من أنّ إلزام المكلّف بالأثقل ... ، فيه : أنّ الإلزام من هذا الأمر (١٢٣٣) ، فلا ريبة فيه.

الرابعة : أخبار التثليث المرويّة عن النبيّ والوصيّ وبعض الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين : ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين ـ بعد الأمر بأخذ المشهور منهما وترك الشاذّ النادر ؛ معلّلا بقوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ـ قوله : «وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».

وجه الدلالة أن الامام عليه‌السلام (١٢٣٤):

______________________________________________________

١٢٣١. أعني : الاحتياط.

١٢٣٢. لأنّ في إيجاب الاحتياط إيقاعا للعباد في المشقّة ، ولعلّ الله تعالى لا يرضى بذلك.

١٢٣٣. حاصله : أنّ إيجاب الاحتياط إنّما يكون ريبة وشكّا إذا لم يدلّ عليه النبويّ أو غيره من الأدلّة ، وأمّا مع الدلالة عليه فيكون معلوما لا مشكوكا. ومن هنا يندفع ما يمكن أن يقال من أنّه لو دلّ النبويّ عليه لزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، لأنّ دلالته عليه إنّما هي من جهة أنّ في ترك الاحتياط ريبة ، فيجب فعله دفعا للرّيبة. مع أنّ في إيجابه أيضا ريبة ، فيلزم أن لا يجب بمقتضى النبويّ ، لأنّ وجود ريب في إيجابه إنّما هو مع الغضّ عن دلالة النبويّ عليه ، وإلّا فمع دلالته عليه فلا ريب فيه أصلا.

١٢٣٤. حاصله : أنّ المراد بالمجمع عليه هو المشهور ، والمراد بنفي الريب عنه

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

نفيه بالإضافة إلى الشاذّ النادر. والمقصود إثبات رجحان للمشهور بالنسبة إلى الشاذ النادر ، مع إثبات ريب في الجملة فيه ، لا نفي الريب عنه رأسا حتّى يكون داخلا في بيّن الرشد ، والشاذ النادر في بيّن الغيّ ، لأجل عدم الريب في بطلانه ، وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة وغيرها ، لأنّ ظاهر ذلك عدم الاعتداد بالشهرة مع وجود أحد المرجّحات المتقدّمة عليها في الرواية ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين كما هو واضح ، ولا للتعليل بتثليث الامور ، إذ يلزم عليه أن يكون ما عدا بيّن الرشد من بيّن الغيّ ، سواء كان معلوم الحرمة أم كان من المشبّهات. وبالجملة ، إنّ الناظر يقطع بكون الشاذّ النادر داخلا في الأمر المشكل الذي يردّ علمه إلى الله ، وفي الشبهات التي من تركها نجا من المحرّمات.

والمراد بالشبهات في النبويّ إمّا هي الشبهات الحكميّة ، أو هي مع الشبهات الموضوعيّة ، لعدم إمكان حملها على بيان الشبهات الموضوعيّة خاصّة ، لمنافاته لمساق الرواية ، لأنّ السؤال فيها إنّما هو عن تعارض الخبرين وعلاجه ، ولا تعلّق له بالشبهة في الموضوع الخارج. ولعلّه لوضوح هذه المقدّمة لم يتعرّض لها المصنّف رحمه‌الله في بيان تقريب الاستدلال.

والمراد بتركها هو تركها على سبيل الوجوب دون الاستحباب ، إذ لا ريب في وجوب العمل بالمرجّحات المذكورة التي منها الشهرة. وعلّل الإمام عليه‌السلام ذلك بتثليث الامور ، بإدخال المشهور في بيّن الرشد ، والشاذّ النادر في الأمر المشكل ، مستشهدا النبويّ بذلك ، فلو لم يكن المراد بترك الشبهات فيه تركها على سبيل الوجوب لم يبق وجه للاستشهاد به ، لوجوب ردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نجا من المحرّمات» وقوله : «هلك من حيث لا يعلم».

وهذا توضيح ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من تقريب الاستدلال ، وهو المستفاد أيضا من كلمات غيره من العلماء.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ويمكن أن يستدلّ على المقام بقول الصادق عليه‌السلام : «وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قطع النظر عن النبويّ ، نظرا إلى كون الشبهة في الحكم من الامور المشكلة التي يجب ردّ علمها إلى الله ورسوله. ومعنى ردّه إليهما هو التوقّف والسكون وعدم المضيّ في الفعل ، وهو معنى الاحتياط.

ولكن يرد عليه : أنّ الظاهر أنّ المراد بردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بيان حكم ظاهري له ، لأنّ الظاهر أنّ المقصود من التعليل بتثليث الامور بيان أنّ منها ما هو بيّن الرشد بحسب الواقع ، مثل الصلاة والزكاة والخمس التي علم وجوبها بحسب الواقع ، ومنها ما هو بيّن الغيّ ، كشرب الخمر الذي علمت حرمته كذلك ، ومنها ما هو مشتبه الحكم بحسب الواقع ، وهو الأمر المشكل الذي يجب ردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان ملحقا بأحد الأوّلين عند قيام أمارة ظاهريّة عليه ، كالشهرة التي ألحقت المشهور في مورد الرواية بما هو بيّن الرشد.

فالمقصود بالأمر المشكل ما أشكل فيه الأمر من جهة حكمه الواقعي ، وإن علمنا (*) فيه بمقتضى الأمارات والاصول ، وبردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو التوقّف من جهة حكمه الواقعي لا إنشاء حكم ظاهري له ، وإلّا فلا يناسبه وقوع خبر التثليث تعليلا للترجيح بالشهرة وطرح الشاذّ النادر ، لكون المشهور حينئذ من باب بيّن الرشد ، والشاذّ النادر من باب بيّن الغيّ. وعلى ما ذكرناه فالمشهور من الأمر المشكل بحسب حكمه الواقعي ، ومن بيّن الرشد بحسب الظاهر وفي مقام العمل. وأمّا الشاذّ النادر فهو من الأمر المشكل مطلقا ، فتدبّر.

ثمّ إنّ صريح المصنّف رحمه‌الله دخول الشاذّ النادر في الأمر المشكل. واستبعده صاحب الفصول ، نظرا إلى أنّ المشهور إذا كان من باب بيّن الرشد ، فمقتضى

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، ولعلّه تصحيف : علمنا.

١٤٩

أوجب طرح الشاذّ معلّلا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، والمراد أنّ الشاذّ فيه ريب ، لا أنّ الشهرة تجعل الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ؛ وإلّا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ، ولا لتثليث الامور ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والحاصل : أنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذّ ممّا فيه الريب فيجب طرحه ، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ردّه إلى الله ورسوله.

فيعلم من ذلك كلّه : أنّ الاستشهاد بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في التثليث لا يستقيم إلّا مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ، مضافا إلى دلالة قوله : «نجا من المحرّمات» ، بناء على أنّ تخليص (*) النفس من المحرّمات واجب ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم».

______________________________________________________

المقابلة أن يكون الشاذّ النادر من باب بيّن الغيّ لا من الامور المشكلة والمشتبهة.

ثمّ قال : «والتحقيق أنّ مراده عليه‌السلام أنّ الحكم المستفاد من الرواية التي يشهد بجواز العمل بها المرجّح المعتبر ـ كالمرجّحات المذكورة في الرواية ـ من باب بيّن الرّشد ولو بحسب الظاهر ، وأنّ العمل بها كذلك. وأنّ الحكم المستفاد من الرواية الفاقدة له مع معارضتها لما اشتمل عليه من باب بيّن الغيّ ولو بحسب الظاهر ، وأنّ العمل بها كذلك.

وأنّ المستفاد من رواية لا علم للعامل بها بأنّها من أيّ النوعين ـ بجهله بحكم المرجّح ـ من المشكلات التي يجب الردّ فيها إلى الشارع ، وأنّ العمل بها كذلك. وعلى هذا ، فالظاهر من الحلال البيّن والحرام البيّن ما تبيّن جواز العمل به وعدم جوازه ، وبالشبهات ما لم يتبيّن فيه شيء منهما. وحينئذ فلا كلام في وجوب التجنّب عن الشبهات بهذا المعنى» انتهى وهو جيّد.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «تخليص» ، تخلّص.

١٥٠

ودون هذا النبويّ في الظهور : النبويّ المرويّ (١٢٣٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقّف وكذا مرسلة الصدوق (١٢٣٦) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والجواب عنه ما ذكرنا سابقا من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشاديّ للتحرّز عن المضرّة المحتملة فيها ، فقد تكون المضرّة عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم ، وقد تكون مضرّة اخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة ، كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتّفاقا ؛ لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضا ، كما تقدّم.

وإذا تبيّن لك أنّ المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوص الإلزام ، فيكفي حينئذ في مناسبة (١٢٣٧) ذكر كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسوق للإرشاد أنّه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا ـ تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام ـ فكذلك طرح الخبر الشاذّ واجب ؛ لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الريب وأقرب إلى الحقّ ؛ إذ لو قصّر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكم به حكما من غير

______________________________________________________

وما قدّمناه من تقريب الاستدلال وغيره مبنيّ على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله. وما استشهده المصنّف رحمه‌الله بدخول الشاذّ النادر في الأمر المشكل دون بيّن الغيّ ، إنّما يرد لو قلنا بدخوله في الثاني حقيقة لا بحسب الظاهر ، إذ لا ريب أنّ دخوله فيه ـ كدخول المشهور في بيّن الرشد بحسب الظاهر ـ لا ينافي تأخّر الترجيح بالشهرة عن سائر المرجّحات بحسب الشرع ، ولا لفرض الشهرة في كلا الخبرين ، لجواز تعارض الأمارات الظاهريّة ، ولا لتثليث الامور ، كما هو واضح ممّا ذكره صاحب الفصول. وسيجيء زيادة توضيح للمقام في بعض الحواشي الآتية.

١٢٣٥. هو خبر جميل عن الصادق عليه‌السلام.

١٢٣٦. يعني : الآتية.

١٢٣٧. سيجيء توضيح ذلك في ذيل بيان ما يتعلّق بالمؤيّد الثاني.

١٥١

الطرق المنصوبة من قبل الشارع ، فتأمّل (١٢٣٨).

ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ النبويّ ليس واردا في مقام الإلزام بترك الشبهات ، امور : أحدها عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة التحريميّة التي اعترف الأخباريّون بعدم وجوب الاجتناب عنها. وتخصيصه بالشبهة الحكميّة ـ مع أنّه إخراج لأكثر الأفراد (١٢٣٩) ـ مناف للسياق ؛ فإنّ سياق الرواية آب عن التخصيص ؛ لأنّه

______________________________________________________

١٢٣٨. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة ـ مضافا إلى بعد ما ذكره من المناسبة عن ظاهر الرواية ـ إلى عدم صحّة حمل الأمر بترك الشبهات هنا على الإرشاد ، وإن قلنا بذلك في أخبار التوقّف. ووجه الفرق : أنّ الأمر بالتوقّف هناك قد علّل في بعض تلك الأخبار بكون ارتكاب الشبهة اقتحاما في الهلكة ، والهلكة عنوان عامّ شامل للعقاب الاخروي وما سواه من المفاسد. وحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالتوقّف إنّما هو للإرشاد إلى التحرّز عن هذه الهلكة المحتملة ، فإن كانت الهلكة المحتملة في مورد الشبهة هو العقاب الاخروي ـ كما في العقائد ، ومورد تنجّز التكليف لأجل العلم الإجمالي ، أو عدم معذوريّة المكلّف لأجل تمكّنه من الفحص وإزالة الشبهة ـ يجب فيه التوقّف ، وإن كانت غيره من المفاسد ـ كما في ارتكاب أموال الظلمة ـ يستحبّ فيه ذلك ، كما تقدّم توضيحه في كلام المصنّف رحمه‌الله فيما أجاب به عن أخبار التوقّف ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيّن في أخبار التثليث وجه الأمر بترك الشبهات ، وهو استلزام ارتكابه للدخول في الحرام ، فإن كان ذلك مقتضيا للوجوب فهو مقتض له مطلقا ، وإن كان مقتضيا للاستحباب فكذلك ، لعدم اختلافه باختلاف المقامات حتّى يقتضي الوجوب في مقام والاستحباب في مقام آخر. هذا ، مضافا إلى ما اعترضنا به على ما أجاب به المصنّف رحمه‌الله عن أخبار التوقّف ، فراجع فلا تغفل ، وبالله التوفيق ومنه الاستعانة.

١٢٣٩. إن قلت : كيف تدّعي لزوم إخراج أكثر الأفراد ، وغاية ما يشمله النبويّ هي الشبهة التحريميّة الحكميّة والموضوعيّة منها خاصّة ، لوضوح عدم شموله

١٥٢

ظاهر في الحصر ، وليس الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن ، ولو بني على كونها منه لأجل أدلّة جواز ارتكابها قلنا بمثله في الشبهة الحكميّة.

الثاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب (١٢٤٠) على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمراد جنس الشبهة لأنّه في مقام بيان ما تردّد بين

______________________________________________________

للشبهة الوجوبيّة مطلقا ، فعلى تقدير اختصاصه بالشبهة الحكميّة يكون الخارج كالباقي فردا واحدا؟

قلت : ما ذكرته من عدم الشمول للشبهة الوجوبيّة مطلقا متّجه ، إلّا أنّ منع لزوم إخراج أكثر الأفراد مبنيّ على كون إخراج الشبهة الموضوعيّة التحريميّة نوعيّا ، وإلّا فلو قلنا بعموم الشبهات في النبويّ لجميع أفراد الشبهة التحريميّة الحكميّة والموضوعيّة ـ كما هو مقتضى عموم جمع المعرّف ـ فلا ريب في كون إخراج الشبهة الموضوعيّة مستلزما للمحذور ، لقلّة وجود الشبهة الحكميّة التحريميّة بحسب الخارج ، ونهاية كثرة وجود الشبهات الموضوعيّة التحريميّة كذلك ، لكون أكثر الأشياء من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مشتبهة بحسب الواقع ، وارتكاب التخصيص بحسب النوع خلاف الظاهر ، كما أسلفناه في بعض الحواشي السابقة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ إخراج الشبهات التحريميّة الموضوعيّة إنّما يوجب تخصيص الأكثر إذا قطع النظر عن الأمارات القائمة عليها المزيلة للشبهة عنها من اليد والسوق والبيّنة ونحوها ، وإلّا يمكن منع أكثريّة الخارج ، لأنّ الباقي حينئذ ـ وهي الشبهات التحريميّة الحكميّة مطلقا ، والموضوعيّة المشوبة بالعلم الإجمالي ـ كثير أيضا ، فتدبّر.

١٢٤٠. توضيح المقام يتوقّف على فهم فقه الحديث ، فنقول : إنّ الألف واللام في الشبهات إمّا للاستغراق والعموم الاصولي حقيقة أو عرفا ، كما هو المتبادر من الجمع المعرّف ، وبنى عليه بعضهم الاستدلال في المقام. وإمّا للجنس ،

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن لا بمعنى الجنس الجمعي ، لكون الجمع المعرّف بعد انسلاخه عن العموم ظاهرا في مطلق الجنس من دون اعتبار الجمعيّة والفرديّة فيه ، وامّا احتمال العموم الجمعي فهو خلاف الظاهر. وعلى التقديرين : إمّا أن يراد من الوقوع في المحرّمات الوقوع فيها فعلا أو شأنا ، بمعنى كونه في شرف الوقوع فيها ، فيكون مجاز مشارفة.

وعلى التقديرين : إمّا أن يراد الوقوع أو الإشراف على محرّم معلوم الحرمة ، كشرب الخمر وأكل الربا ، بأن كان ارتكاب الشبهات مؤدّيا إليه ، أو على محرّم واقعي مجهول بين الشبهات. والمراد بالمحرّمات هو جنسها خاصّة دون العموم ، كما هو واضح. وهذا الذي ذكرناه هو أقرب الاحتمالات التي بنوا عليه الاستدلال ، وهنا احتمالات أخر بعيدة سخيفة.

أمّا حمل الشبهات على العموم الاصولي ـ وظاهر حينئذ كون المراد بالارتكاب هو الارتكاب الفعلي ، وبالمحرّمات هو الحرام الواقعي ، لبعد غيرهما من الاحتمالات ـ فقال المحقّق القمّي رحمه‌الله : «الخبر يدلّ على أنّ من ارتكب جميع الشبهات فلا ينفكّ عن فعل الحرام ، إمّا للعلم العادّي بأنّ من ارتكب جميع الشبهات يرتكب حراما واقعيّا لا محالة ، أو من جهة إخبار المعصوم عليه‌السلام بذلك. وعلى تقدير استلزام ذلك الحرمة إنّما يدلّ على الحرمة إذا استوعب جميع الشبهات ، وهو غير محلّ النزاع ، بل النزاع في مطلق المشتبه وكلّما صدق عليه لا جميعها ، فلا يفيد ذلك أزيد من الكراهة ، كالنهي عن الصرف لخوف الوقوع في الربا ، وعن بيع الأكفان لخوف الوقوع في محبّة موت الناس. والحاصل : أنّ مطلب المستدلّ إثبات المؤاخذة والعقاب الاخروي في ارتكاب ما لا نصّ فيه ، وهذا لا يدلّ عليه» انتهى.

وأنت خبير بأنّ حمل الشبهات على إرادة العموم وإن كان فاسدا من الوجهين الآتيين ، إلّا أنّ منع استلزامه على تقديره لمطلب الخصم لا وجه ، له لأنّ مقصوده من الاستدلال بالخبر هو إثبات وجوب الاحتياط في الشبهات مع تسليم العلم عادة أو بإخبار المعصوم عليه‌السلام باستلزام ارتكاب جميع الشبهات للحرام المتعقّب

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

للعقاب الاخروي ، فيجب الاجتناب عن كلّ واحد منها من باب المقدّمة العلميّة ، نظير الشبهة المحصورة ، وإن زعم المحقّق المذكور جواز الارتكاب فيها أيضا إلى أن يبقى من أطراف الشبهة مقدار يعلم بارتكاب الحرام الواقعي بارتكابه ، إلّا أنّه ضعيف كما قرّر في محلّه. وصيرورة الشبهات الحكميّة حينئذ نظير الشبهة المحصورة في الاشتمال على العلم الإجمالي ، مع كون مفروض الكلام في الشبهات البدويّة لا يصد في إثبات مطلب الخصم ، لأنّ المقصود بيان حكم الشبهات الحكميّة التحريميّة التي منها شرب التتن مثلا ، وإثبات وجوب الاحتياط فيها بهذه الرواية ، سواء فرض العلم الإجمالي بحرمة بعضها في الواقع بحسب العادة أو بإخبار الإمام عليه‌السلام أم لا.

وأمّا عدم جواز حملها على العموم فمن وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في الجملة ، وهو عدم مساعدة قرائن الكلام عليه. أمّا أوّلا : فلعدم مساعدة سياق الكلام عليه ، لأنّ ملاحظة ألفاظ الحديث مع انضمامها وانتظامها الخاصّ تعطي إرادة معنى الجنس لا العموم. ولعلّ الوجه فيه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «لأنّه في مقام بيان ما تردّد بين الحرام والحلال ، لا في مقام التحرّز عن ارتكاب المجموع».

وأمّا ثانيا : فإنّ الألف واللام في المحرّمات للجنس يقينا ، فكذا في الشبهات للمقابلة.

وأمّا ثالثا : فإنّ الصادق عليه‌السلام قد استشهد بالنبويّ في تعارض الخبرين ، وبعد فرض كون المراد بالأمر بترك الشبهات ترك جميعها ، لا يناسبه استشهاده لوجوب طرح الشاذّ النادر ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه‌السلام» لعدم كون الأخذ بالشاذّ أخذا بجميع الشبهات. اللهمّ إلّا أن يقال في وجه المناسبة : إنّ مقصود الإمام عليه‌السلام من الاستشهاد هو بيان كون الخبر المشهور من الحلال البيّن فيجب الأخذ به ، والشاذّ من جملة المشتبهات فيجب طرحه ، لوجوب

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

طرح جميع الشبهات للتحرّز عن الوقوع في الحرام الواقعي بارتكاب الجميع الذي منها الشاذّ من المتعارضين ، فتدبّر.

وأمّا رابعا : فإنّ الشبهات في النبويّ في مقابل الأمر المشكل في كلام الصادق عليه‌السلام ولا ريب في عدم إرادة العموم من الثاني ، فكذا الأوّل.

وثانيهما : أنّ استلزام العموم للعلم بارتكاب حرام واقعي عادة أو بإخبار الإمام عليه‌السلام ـ كما ادّعاه المحقّق المذكور ـ فاسد جدّا. أمّا الأوّل فإنّ الشبهات ليست من الامور الواقعيّة الثابتة التي لا تختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، إذ شيء واحد ربّما يكون راجحا عند شخص ، ومشكوكا فيه عند آخر ، وموهوما عند ثالث ، وحينئذ يمكن فرض شخص لا تكون الشبهات الحاصلة له في الواجبات والمحرّمات المتعلّقة به لأجل قلّتها مستلزمة للعلم الإجمالي المذكور ، إمّا من جهة كونه في بدو الإسلام أو بعيدا عن بلاد الإسلام أو محبوسا في مغمورة أو نحو ذلك ، وظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» هو العموم بالنسبة إلى جميع المكلّفين ، فلا تتمّ دعوى الاستلزام بحسب العادة.

هذا إن أراد الاستلزام بالنسبة إلى غير المجتهدين. وإن أراد بالنسبة إليهم ، فيمكن منع الاستلزام أيضا ، إذ الكلام في المقام هي الشبهات الحكميّة التحريميّة ، وهي لقلّة وجودها في الخارج غير مستلزمة للعلم الإجمالي المذكور ، كما هو واضح.

وأمّا الثاني فإنّ الظاهر أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» وارد في مقام الإخبار عن الملازمة العاديّة التي قد عرفت خلافها على تقدير إرادة العموم ، فلا بدّ من حمله على معنى آخر يصحّ معه ذلك. مضافا إلى أنّ ارتكاب جميع الشبهات غير ممكن أو غير متحقّق في الخارج إلّا في بعض الفروض النادرة ، فيخرج الكلام مع الحمل على العموم مخرج اللغويّة ، إذ النهي عن ارتكاب غير الممكن أو غير المتحقّق في الخارج مع العلم به لا يليق أن ينسب إلى الحكيم فضلا عن الحكيم على الإطلاق.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الحمل على إرادة معنى الجنس ، وقد تقدّم أنّ المراد بارتكاب الحرام حينئذ إمّا هو الارتكاب الفعلي ، أو على وجه المشارفة. وعلى التقديرين : فالمراد بالحرام إمّا الحرام المعلوم الحرمة ، أو الحرام الواقعي المجهول. فأمّا على تقدير إرادة الارتكاب الفعلي مع إرادة الحرام المعلوم الحرمة ، فيرد عليه : منع استلزام ارتكاب جنس الشبهة لارتكاب الحرام المعلوم الحرمة ، مثل شرب الخمر وأكل الربا. وكذا مع إرادة الحرام الواقعي المجهول أيضا. وأمّا على تقدير إرادة الارتكاب على وجه المشارفة مع إرادة الحرام المعلوم الحرمة ، فالظاهر أنّ هذا هو المقصود من الرواية. وحاصله : بيان أنّ ارتكاب الشبهات يوجب الاجتراء على ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ويكون المكلّف معه في شرف ارتكابها.

فإن قلت : إنّ هذا المعنى لا يناسبه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وهلك من حيث لا يعلم» لأنّه مع حمل الارتكاب في النبويّ على إرادة الارتكاب على وجه المشارفة لا بدّ أن يراد بالوقوع في الهلاكة أيضا وقوعه فيها كذلك ، وحينئذ يكون الوقوع فيها عن علم لا من حيث لا يعلم.

قلت : إنّ المكلّف عند ارتكاب الشبهة ربّما يعقد قلبه على الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ، إلّا أنّ ارتكابها من حيث كونه سببا للاجتراء ربّما يؤدّي إلى الوقوع فيها فيما بعد ذلك ، وإن لم يخطر ذلك بباله أو عقد قلبه على خلافه حين الارتكاب ، فيصدق حينئذ كون الوقوع في الهلاكة عن جهل لا عن علم وقصد ، فتدبّر.

وبالجملة ، إنّ ما ذكرناه هو الظاهر من الرواية ، وتؤيّده الأخبار التي نقلها المصنّف رحمه‌الله. وحينئذ يبقى الكلام مع الأخباريّين في أنّ ارتكاب الشبهة إذا أدّى إلى ارتكاب الحرام أحيانا من جهة إيراثه الاجتراء أو قساوة القلب أو غير ذلك ، فهل يوجب ذلك حرمته أو لا؟ وأنّى لهم بإثباته ، لأنّ غايته إثبات استحباب الاحتياط لا وجوبه ، نظير كراهة بيع الأكفان لخوف حبّ موت الناس ، وكراهة بيع الصرف

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لخوف الوقوع في الربا.

وأمّا على تقدير إرادة الارتكاب على وجه المشارفة ، مع كون المراد بالحرام هو الحرام الواقعي للمجهول بين الشبهات ، فظنّي أنّ هذا هو مراد الأخباريّين في مقام الاستدلال بالرواية. ولكنّ الكلام معهم حينئذ في أنّ مجرّد احتمال ارتكاب الحرام الواقعي بارتكاب الشبهة هل يوجب حرمته أو لا؟ وأنّى لهم بإثباته. ومن التأمّل فيما ذكرناه يتّضح ما رامه المصنّف رحمه‌الله من المقام غاية الوضوح.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه عدم صحّة إرادة العموم من الشبهات ، وكذا إرادة معنى الجنس مع إرادة الارتكاب الفعلي للحرام بكلا قسميه. وأمّا إرادة معنى الجنس مع إرادة الارتكاب على وجه المشارفة ، سواء اريد من الحرام الحرام المعلوم الحرمة أو الحرام المجهول في الواقع ، فهو لا يفيد أزيد من الاستحباب. ويؤيّده ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الأخبار.

فإن قلت : كيف نحمله على الاستحباب وقد استشهد الصادق عليه‌السلام بالنّبوي للترجيح بالشهرة ورفض الشاذّ النادر ، والعمل بمقتضى المرجّحات المعتبرة واجب؟

قلت : إنّ المصنّف رحمه‌الله وإن أشار إلى حلّ عقدة هذا الإشكال ، إلّا أنّا نشير إلى زيادة توضيح لذلك ونقول : إنّ الصادق عليه‌السلام بعد أن حكم بالأخذ بالمشهور ورفض الشاذّ النادر علّل ذلك بنفي الريب عن المجمع عليه ، وقد تقدّم في بعض الحواشي السابقة أنّ المراد به نفيه عنه بالإضافة إلى الشاذّ النادر لا مطلقا ، ومقصوده عليه‌السلام الاستدلال على الأخذ بالمشهور بالدليل والبرهان. وحاصل ما استدلّ به يرجع إلى أنّه مع رجحان أحد المتعارضين من جهة الموافقة للشهرة مثلا يجب الأخذ به ، لرجحانه وانتفاء الريب عنه ولو بالإضافة ، إذ لا ريب أنّ رفضه والأخذ بالشاذّ النادر ممّا فيه الريب ، لكونه اختيارا للمرجوح على الراجح.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ علّل ذلك بتثليث الامور ، وأنّها لا تخلو : إمّا أن يكون بيّن الرشد فيجب اتّباعه ، وإمّا أن يكون بيّن الغيّ فيجتنب عنه ، وإمّا أن يكون أمرا مشكلا لا يعلم رشده ولا غيّه ، فيردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والأخذ بالمشهور من قبيل الأوّل ، لما عرفت من أنّ رفضه والأخذ بالشاذّ النادر ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو داخل في بيّن الغيّ. والشاذّ وإن كان من الامور المشكلة التي يجب ردّ علمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث شذوذه واعتباره في نفسه ، واحتمال كون الحكم الواقعي ما تضمّنه خاصّة ، إلّا أنّ الأخذ بالمشهور مستلزم لرفضه ، فالأخذ بالمشهور انّما هو لأجل كونه من البيّن الرشد ولو بالإضافة إلى الشاذّ النادر ، وترك الشاذّ النادر ليس من جهة كونه من البيّن الغيّ الذي أمر الإمام عليه‌السلام بتركه ، بل من جهة كون الأخذ بالمشهور مستلزما لذلك بعد فرض تعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما.

ومن هنا يندفع ما قدّمناه عن صاحب الفصول عند شرح قوله : «وجه الدلالة أنّ الإمام عليه‌السلام ...» واستجودناه أيضا من دخول الشاذّ النادر في بيّن الغيّ بقرينة مقابلته للمشهور.

ثمّ استشهد عليه‌السلام بالنّبوي لوجوب ردّ علم الأمر المشكل إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولمّا أشكل ذلك في الظاهر ـ من حيث عدم وجوب الاحتياط في المشتبه بين الحلال والحرام ، لأنّ غايته الاستحباب بالتقريب الذي قدّمناه ، فلا يصحّ الاستشهاد نظرا إلى وجوب الأخذ بالمشهور وترك الشاذّ ـ تصدّى المصنّف رفع الله في العليّين رتبته لرفع هذا الإشكال بالتوفيق بينهما ، بأنّه إذا استحبّ التوقّف والاحتياط في المشتبه بين الحلال والحرام كما قدّمناه ، أو كان ذلك راجحا مطلقا على ما قرّره المصنّف رحمه‌الله من حمل الأمر على الإرشاد من دون اشتمال أحد طرفي الشبهة على مرجّح معتبر ، تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي ، كان طرح الشاذّ واجبا ، لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين لتحصيل الأقرب إلى الواقع و

١٥٩

الحلال والحرام ، لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ، مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ ارتكاب جنس الشبهة لا يوجب الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلّا على مجاز المشارفة ؛ كما يدلّ عليه بعض ما مضى وما يأتي من الأخبار ، فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى ، وهي : أنّ الإشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرّم ، من دون سبق علم به أصلا.

الثالث : الأخبار الكثيرة المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة في الاستحباب بقرائن مذكورة فيها : منها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقّف. ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في مرسلة الصدوق أنّه خطب وقال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها». ومنها : رواية أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «قال : قال جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا : وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فاتّقوا حمى الله ومحارمه» (٣٣). ومنها : ما ورد من : «أنّ في حلال الدنيا حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشّبهات عتابا». ومنها : رواية فضيل بن عياض : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من الورع من النّاس؟ قال : الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه» (٣٤).

______________________________________________________

الأبعد عن الريب ، إذ لو قصّر في ذلك احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكم به حكما بغير الطرق المقرّرة له من الشارع. وهذا من قبيل الاستدلال بالمساواة لا بالأولويّة كما زعمه المحقّق القمّي رحمه‌الله ، لأنّ استحباب التوقّف في المشتبه بالحلال والحرام مع عدم رجحان أحد الطرفين لا يثبت وجوبه بالأولويّة في المرجوح ، وهو الشاذّ النادر. نعم ، لو ثبت وجوبه في الأوّل ثبت ذلك في الثاني أيضا بطريق أولى ، والفرض خلافه.

١٦٠