دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

مستغلا فى ذلك كل العناصر التوضيحية ، من آيات القرآن الكريم ، ومناسبات نزوله ، ومن الأحاديث النبوية ، وأقوال الصحابة والتابعين ، فكان الموضوع القرآنى بين ذهنه وتفسيره ، وكأنه بحث متناسق متكامل ، يرتبط أوله بآخره ، مشتملا على كل ما يتصل به من جزئيات.

والحقيقة .. إن تفسير الشيخ سيد قطب ، كان وحيد عصره ، على الرغم من وجود بعض المحاولات التفسيرية ، لاستنباط الصور الفنية ، والموضوعات القرآنية ، فإن واحدا من تلك البحوث أو المؤلفات ، لم يبلغ ما بلغه الشيخ سيد قطب فى هذا المضمار ، خاصة وأنه فسّر القرآن الكريم جميعه ، بهذه الطريقة الفنية ، الأدبية والموضوعية.

٢ ـ الشيخ أمين الخولى ، والدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطىء»

وعلى هذا النهج أيضا ، حاول الشيخ أمين الخولى ـ رحمه‌الله ـ أن يفسر القرآن الكريم ، وسارت على نفس الطريق ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن تلميذته ، فى كتابها «التفسير البيانى للقرآن الكريم». والفرق بين مجهود الشيخ سيد قطب ، ومجهودهما ـ أن الأول ـ كما ذكرنا ـ فسّر القرآن جميعه ، على طريقته. أما الشيخ أمين الخولى ، وتلميذته ، فقد فسّرا سورا عدة منه ، فى إطار الدراسات الجامعية.

فقد ألقى الشيخ أمين الخولى ، دروسا ثمينة ـ فى التفسير القرآنى ـ على طلبته بالجامعة ، كما قدم أحاديث إذاعية جيدة ، تدور حول بعض المعانى القرآنية ، والموضوعات القرآنية.

٦١

وقد نصّ ـ رحمه‌الله ـ على أن الغرض الأول من أغراض التفسير ، قبل بيان الأحكام والعقائد والأخلاق «هو النظر فى القرآن ، من حيث هو كتاب العربية الأكبر ، وأثرها الأدبى الأعظم ، فهو الكتاب الذى أخلد العربية ، وحمى كيانها ، وخلد معها فصار فخرها ، وزينة تراثها ، وتلك صفة للقرآن يعرفها العربى مهما يختلف به الدين ، أو يفترق به الهوى ، ما دام شاعرا بعربيته ، مدركا أن العروبة أصله فى الناس ، وجنسه بين الأجناس ، وسواء بعد ذلك أكان العربى مسيحيا أم وثنيا ، أم كان طبيعيا دهريا لا دينيا ، أم كان المسلم المتحنف ، فإنه سيعرف بعروبته منزلة هذا الكتاب ، ومكانته فى اللغة ، دون أن يقوم ذلك على شىء من الإيمان بصفة دينية للكتاب ، أو تصديق خاص بعقيدة فيه» (١)

أما عن منهجه فى التفسير .. فقد أوضحته تلميذته القديرة ، الدكتورة عائشة عبد الرحمن ، حيث تقول فى مقدمة كتابها (٢).

والأصل فى منهج التفسير الأدبى ـ كما تلقيته عن شيخى ـ هو التناول الموضوعى ، الذى يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه ، فيجمع كل ما فى القرآن عنه ، ويهتدى بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب ، بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك ، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة فى تفسير القرآن سورة سورة ، يؤخذ اللفظ ، أو الآية ، مقتطعا من سياقه العام فى القرآن كله ، مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه ، أو استجلاء ظواهره الأسلوبية ، وخصائصه البيانية ، وقد طبق بعض الزملاء هذا المنهج تطبيقا ناجحا فى موضوعات قرآنية ، اختاروها لرسائل الماجستير والدكتوراة ، وأتجه بمحاولتى اليوم ، إلى تطبيق المنهج فى بعض سور قصار ، ملحوظ فيها وحدة الموضوع ،

__________________

(١) مناهج تجديد للأستاذ أمين الخولى ص ٣٣

(٢) التفسير البيانى للقرآن الكريم ص ١٤ طبع دار المعارف

٦٢

فضلا عن كونها من السور المكية ، حيث العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية ، وقصدت بهذا إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة فى التفسر ، وبين منهجنا الحديث ، الذى يتناول النص القرآنى فى جوّه الإعجازى ، ويلتزم فى دقة بالغة ، قولة السلف «القرآن يفسر بعضه بعضا» وقد قالها المفسرون ثم لم يبلغوا منها مبلغا ، ويحرر مفهومه من كل العناصر الدخيلة. والشوائب المقحمة على أصالتها البيانية».

هذا ما ذكرته الدكتورة عائشة عبد الرحمن ، عن منهج شيخها ، وهو المنهج عينه الذى انتهجته فى دراستها القيمة (التفسير البيانى) حيث قدمت تفسيرا رائعا فى التحليل والتطبيق ، لبعض قصار السور.

وهذا المنهج فى التفسير ، هو ما ارتضاه الشيخ محمود شلتوت ـ رحمه‌الله ـ فى تفسيره الفقهى ، حيث يقول عن طريقته :

«فهى أن يعمد المفسر أولا إلى جمع الآيات ، التى وردت فى موضوع واحد ، ثم يضعها أمامه كمواد يحللها ، ويفقه معانيها ، ويعرف النسبة بين بعضها وبعض ، فيتجلى له الحكم ، ويتبيّن المرمى ، الذى ترمى إليه الآيات الواردة فى الموضوع ، وبذلك يضع كل شىء موضعه ، ولا يكره آية على معنى لا تريده ، كما لا يغفل عن مزية من مزايا الصوغ الإلهى الحكيم ، وهذه الطريقة فى نظرنا هى الطريقة المثلى ، وخصوصا فى التفسير الذى يراد إذاعته على الناس ، بقصد إرشادهم إلى ما تضمن القرآن من أنواع الهداية ، وإلى أن موضوعات القرآن ، ليست نظريات بحتة ، يشتغل بها الناس من غير أن يكون لها مثل واقعية ، فيما يحدث للأفراد والجماعات من أقضية ، ويتصل بحياتهم من شئون» (١)

__________________

(١) الإسلام والعلاقات الدولية ص ١٠

٦٣

لقد كانت جهود هؤلاء العلماء ، تتجه إلى تفسير القرآن الكريم ـ وفقا للمنهج الموضوعى ، الذى يجعل من القرآن الكريم كله وحدة واحدة ، يتصل أوله بآخره ، وآياته ببعضها ، رغم اختلاف مواضعها وسورها فى القرآن ، فكان هذا التفسير الموضوعى أوسع وأرحب ، لأن عناصره كثيرة ، تشمل القرآن الكريم من أوله إلى آخره ، المهم وحدة الموضوع المدروس ، الذى يفسّر ، ويحلل ويدرس

من هنا كانت الوحدة الموضوعية شاملة واسعة ، تمد جوانب الموضوعات بالكثير من العناصر ، التى توضح الغرض ، وتفى بالموضوع ، وتسهل فهمه وتناوله.

بيد أن هناك جهودا أخرى بذلت ـ فى إطار التفسير الموضوعى ، ولكنها لم تتخذ من القرآن كله مادة لخدمة الموضوع ، وإنما تناولت السورة القرآنية ، بوصفها لحمة متلاحمة ، يفسر أولها آخرها ، وتوضح آياتها الغرض الأسمى ، الذى من أجله نزلت ، ومن أجله جمعت فى إطار محدّد بين دفتى السورة ، فهنا يكون التفسير الموضوعى محددا بأغراض السورة ، ومناسبات نزول الآيات فيها ، وما جاء فيها من موضوعات ، تفسر فى إطار السورة ، ولا تخرج عنها إلا قليلا ..

ومن أبرز من قام بمثل هذا التفسير الموضوعى فى إطار السورة ، أستاذان جليلان ، وعالمان كبيران هما : الأستاذ الدكتور محمد خلف الله أحمد والأستاذ الدكتور شوقى ضيف وكلاهما أستاذ جامعى ، بذل جهدا مشكورا فى إحياء الدراسات البيانية للقرآن الكريم ، ووجّه طلابه إلى دراسة التطور التاريخى للدراسات القرآنية ، فى ظلال ما حفلت به المكتبة القرآنية من تراث يتطلب التحليل ، كما وجههم إلى دراسة النصوص القرآنية ، فى ظل ما تمخضت عنه العلوم الحديثة من ثمار يانعة فى حقول النقد والبلاغة ، وعلوم النفس

٦٤

والتربية والاجتماع. وهو عمل مبارك يزكيه ما عرف عن الأستاذين الجليلين من دقة تحديد ، وسلامة اتجاه ، وصدق وإيمان.

وللأستاذين الجليلين دراسة تطبيقية موضوعية لسورة كريمة من سور القرآن العظيمة :

فأما الدكتور محمد خلف الله أحمد ، فله تفسير سورة الرعد.

وأما الدكتور شوقى ضيف ، فله تفسير سورة الرحمن ، وقصار السور.

أولا : الأستاذ الدكتور محمد خلف الله أحمد :

تناول الأستاذ الدكتور محمد خلف الله ـ تفسير سورة الرعد ، تفسيرا موضوعيا ، يكشف عن اتجاهه التجديدى فى حقل الدراسات القرآنية ، وهى دراسة جديرة بالاهتمام والتحليل (١) ، والبحث والدراسة.

لقد بدأ باستعراض الآيات الكريمة فى سورة الرعد ، مبينا أغراضها العامة على نحو شامل عام ، ثم انتقل إلى الحديث عن فواصل الآيات ، فوجد أن السورة تضم ثلاثا وأربعين فاصلة ، ختام كل آية منها كلمة ممدودة بالألف ، بعد حرف ـ إلا ستة منها ممدودة بالواو.

وثلث خواتيم هذه السورة على روىّ الباء ، مثل : (العقاب ، الألباب ، الحساب ، مآب)

وأكثر من نصف هذا العدد على روىّ الراء ، مثل : (بمقدار ، النهار ، القهار ، الدار)

__________________

(١) نشرت هذه الدراسة فى صحيفة دار العلوم ، الجزء الثالث من السنة السابعة ، فى ذى الحجة سنة ١٣٥٨ ه

٦٥

ونصف العدد الأول على روىّ اللآم ، مثل : (المتعال ، وال ، الثقال ، ضلال)

وغير ذلك مما أشار إليه.

ثم أعقب ذلك بالإشارة الواضحة إلى وحدة ظاهرة فى موضوع هذه السورة ، وهى إظهار شرف الكتاب المنزّل ، وتسفيه آراء المعاندين فى طلبهم قرآنا غير هذا ، أو آية مادية مثل آيات السابقين من الرسل.

ثم اتبع ذلك بالإشارة إلى طابع الخواتيم ، إذ انتهت الفواصل فيها بحروف متقاربة المخارج.

أما ناحية الجمال الفنى ، فقد ظهرت فى ائتلاف الألفاظ مع المعانى ، وفى تناسب الألفاظ والأصوات ، وفى اشتقاق قاموس السورة من البيئة العربية ذات الرعد ، والبرق ، والسحاب ، وفى المتقابلات المختلفة ، من أمثال : الغيب والشهادة ، والسر والجهر ، لينتهى من ذلك كله إلى انفراد القرآن بطابع خاص ، لا يوجد فى المألوف من النثر والشعر ، والسورة بذلك كلّ متكامل فى منطق الدكتور خلف الله.

والظاهرة الواضحة فى دراسته ، هو الاهتمام بالنواحى الشكلية ، أكثر من اهتمامه بالناحية الموضوعية ، إذ أن الصور البيانية التى حفلت بها سورة الرعد ، كانت فى حاجة إلى وقفات تحليلية ، تظهر ما بها من جمال وتأثير ، كما أن تناسب الآيات وتآخيها ، لم يجد من الإيضاح الشامل ، ما يجعله أمام القارىء أمرا لا مرية فيه.

بيد أن هذا لم يمنع من كون الدراسة شيّقة ، جديدة ، وتشير إلى نمط جديد.

٦٦

ثانيا : الأستاذ الدكتور شوقى ضيف :

أما دراسة أستاذنا الدكتور شوقى ضيف ، فهى دراسة ساقها إليه الدراسات الجامعية ، إذ كان القرآن يدرس بإيجاز ، على أنه لون من ألوان الفن الأدبى فى صدر الإسلام ، وكان قصار الدارس أن يتكلم بوجه عام عن أغراض القرآن ، ومعانيه ، وألفاظه ، ثم يفسح المجال للإستشهاد بنصوص مختارة.

وقد كان سيادته يقوم بتدريس مادة التفسير ـ فى بعض الأعوام ـ لطلاب قسم اللغة العربية ، فى كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، وقد اتسع على يديه مجال الدراسة الأدبية للقرآن ، وأخذ يمتد على نحو حميد ، حيث شمل تحليل النصوص القرآنية ، تحليلا يكشف عن لألائها الساطع ، وموضوعاتها العظيمة ، وكان من نتائج دراساته القرآنية ، تلك الدراسة الجيدة لسورة الرحمن وقصار السور (١) ، التى تعد نموذجا جيدا للتفسير الموضوعى لسور القرآن.

يقول الدكتور شوقى عن الظروف التى دعته إلى تأليف هذه الدراسة الممتعة ، ومنهجه فيها :

«وكان من حسن حظى أن دعتنى صحيفة الأهرام فى سنة ١٣٨٩ للهجرة ، لأشارك فى شهر رمضان المبارك ، ببعض أحاديث دينية ، ورأيت أن أعرض فيها لبعض قصار السور ، ونشرت لى عرضا لسورة الفاتحة ، والتوحيد والعصر ، ووقع هذا العرض موقع استحسان من نفوس كثيرين ، كتبوا إلىّ أن أمضى فى عرض سور أخرى ودراستها ، واستحثنى كثير من الأصدقاء ، وطلب إلىّ عالم جليل أن أبدأ بعرض ودراسة لسورة الرحمن. سورة النعم الدنيوية والأخروية ،

__________________

(١) نشرت هذه الدراسة بعنوان (سورة الرحمن وقصار السور) فى دار المعارف بمصر ، وطبعت طبعات كثيرة.

٦٧

وأضفت إليها عرضا ودراسة لسور قصار ، ضممت إليها سورة الفاتحة والتوحيد ، والعصر ، وجميعها تتناول أصول العقيدة الإسلامية ، وبعض مبادىء الإسلام الخلقية والاجتماعية ، وقد بسطتها جميعا من خلال آيات الذكر الحكيم ، بحيث كنت أتخذ من الآية نورا ، يهدينى إلى مضمونها العام فى القرآن ، وأحاول بقدر ما أستطيع عرضه ، ووصفه ، سواء اتصل ذلك بعظمة الله ، وجلاله ، ورحمته ، وآلائه فى الدنيا والآخرة ، أو بالرسالة والرسل ، أو بالملائكة ، والجن ، والشياطين ، أو بماهية الحياة بعد الموت ، والثواب والعقاب فى الآخرة ، أو بالتهذيب الروحى والخلقى ، أو بالعلاقات العمرانية ، أو بتحرير الإنسان من الهوى ، والخرافات وجملة الآثام ، أو بدفعه إلى استغلال عقله ، وكشف قوانين الكون وأسراره ، أو بإيقاظ وجدانه ومشاعره ، والسمو به إلى الكمال الإنسانى المأمول. (١)

وهكذا نشطت الدراسات الموضوعية والأدبية ، لنصوص الكتاب الكريم ، فى عهدنا الحاضر ، نشاطا حافلا ، نرجو أن يتزايد ويمتد حتى يصبح للمكتبة القرآنية مكانها اللآئق فى دنيا البيان ، إذ تجمعت دواع مختلفة تدعو إلى نشاط هذه الدراسات ، وتؤذن باكتمالها الزاهر فى يوم قريب ـ بعد أن دعت الحاجة إليه ، نظرا لتقدم العلوم والمعارف ، وتغيرت العادات والتقاليد ، وظروف الحياة ، عما كانت عليه من قبل ، وأصبحت الحاجة ماسة إلى النظر فى القرآن ، للكشف عما فيه من تشريعات وقواعد وسلوك حميد ، وللاسترشاد به فى كل حال من أحوالنا ، وشأن من شئوننا ، لاشتمال كتاب رب العالمين على كثير من المباحث والموضوعات ، التى تخدم الفرد والمجتمع ، وتدفع بالجميع إلى معرفة أقوى

__________________

(١) سورة الرحمن وقصار السور ـ المقدمة ص ١١

٦٨

وأرسخ لفهم القرآن ، وإعلاء كلمة الله ، فكان لا بد من الاتجاه إليه ، نستوحيه فى كل شأن من شئوننا ، ونسترشد به فى كل حال من أحوالنا ، فهو الدواء من الأسقام النفسية ، والعلل الجسمية ، وهو العلاج الناجع لكل مشاكلنا السياسية والاجتماعية.

من هنا نقول ـ إننا لسنا فى حاجة ـ إلى التفسير الموضوعى ، فى أى زمان. مثل احتياجنا إليه فى هذا الزمان ، الذى يطالب فيه المسلمون أن نخرج لهم البحوث العلمية الصحيحة ، التى تنظم علاقاتهم بربهم ، وبمجتمعهم الكبير ، وأسرهم وأولادهم ، ومتطلبات أنفسهم. لأنه إذا كانت المباحث القرآنية متجلية للباحث بجميع نواحيها ، متجهة به إلى غايتها ، مبرزة لنواحى الحكمة فى دعوة القرآن إليها ، كان ذلك النهج باعثا للمطلع عليه إلى أن يسلك الطريق الذى رسمه القرآن ، حيث كان واضح الغاية ، محدد النهاية ، بارزا فى تصويره ، جامعا لكل الأهداف فى تحقيقه.

فإذا ما أشبع الإنسان رغبته من موضوع ، وانتقل إلى موضوع آخر ، منتهجا ذلك المنهج ، كان القرآن بيّنا للناس فى جميع نواحيه ، متجها بهم إلى جميع مراميه ، ولا شك أن ذلك المسلك ، وتلك الطريقة تؤدى بالناس إلى أن يفهموا القرآن ، فيتبيّنوا اتصالهم بواقع حياتهم ، حيث يرشدهم إلى الصالح منها ، ويجنبهم ما يكون حذرا لهم ، وعائقا عن طريق إسعادهم ..

وهذه هى أمثل الطرق فى التفسير ، خصوصا الذى يراد إذاعته على الناس ، بغية تفهيمهم ما تضمنه القرآن من أنواع الهداية ، وإبراز أن موضوعات القرآن ليست نظرية بحتة ، يسير الناس على نهجها ، دون أن يكون لها مثل واقعية تتصل بالأفراد والجماعات. فبمثل هذه التفسيرات الموضوعية ، يستشف

٦٩

الإنسان هدى القرآن ، فيما يصحح به علاقاته بربّه ، حيث تكون معرفته معرفة صحيحة ، لا يشوبها من غبار التشبيه ما يحيد به عن الطريق ، وبمعرفته لنفسه يعلم احتياجه إلى تلك القوة القاهرة القادرة.

فإذا وصل إلى هاتين المعرفتين ، وقدّرهما حق قدرهما ، وعلم أن الله خالق قادر ، والإنسان مخلوق ضعيف ، تقلّب فى أطوار خلقه من حال إلى حال ، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، اتجه فى السلوك إلى تلك الذات الخالقة ، سلوكا يرضيها ، وسار إليها سيرا يقربه منها ، ويدنيه إليها ، فيرتسم ما شرعته من أعمال ، ويتحلى بما رسمته من كريم الخلال ، وجميل الأفعال ، حتى تقوى صلته بها ، ثم ينظر بعد ذلك إلى ما أرشد إليه هدى القرآن ، وإلى ما يصلح به الفرد ، وتصلح به الجماعة من معاشرين وجيران ، وأهل وأوطان ، ومنتهجا فى ذلك ما يكون من الوسائل الصحيحة فى البيع والشراء والأخذ والعطاء.

وهكذا حتى يكون منهجه فى حياته منهجا قرآنيا ، وسلوكه إليها سلوكا شرعيا ، وهو بعد ذلك يقدر نهايته إذا ما حاد عن طريق القرآن ، بأن يشقى فى حياته الدنيا ، ويشقى فى حياته الأخرى.

مناهج البحث فى التفسير الموضوعى :

من خلال دراستنا للمصنفات التى صنفت فى التفسير الموضوعى ، نستطيع أن نقول ، إن المفسر الذى يفسر بهذه الطريقة ، ينهج أحد منهجين اثنين :

أولهما : أن يجعل السورة القرآنية هى وحدته الموضوعية ، فينظر إليها نظرة شمول وإحاطة ، مهما تعددت موضوعاتها ، وتباينت مناسبات نزولها.

فالعملية التفسيرية تشمل السورة كلها ، لا تتعداها فى معظم الأحيان ، وتدور حول غرض محدد ، سواء كان عاما ، أو خاصا.

٧٠

* فنقول ـ على سبيل المثال ـ أن سورة البقرة ، تهدف إلى تنظيم المجتمع الإسلامى فى صورته المثالية ، لأنها من السور المدنيّة الطويلة ، التى تعنى أساسا بجوانب التشريع الإسلامى ، وتعالج النّظم والقوانين التشريعية ، التى يحتاج إليها المسلمون فى حياتهم الاجتماعية ، فهى تشتمل عليها معظم الأحكام التشريعية ، التى تتصل بالعقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والأخلاق ، وأمور الأسرة ، من زواج وطلاق ، ورضاع وعدّة. وإن كانت تتحدث أيضا ـ عن بدء الخليقة ، كما تتناول الحديث بإسهاب عن اليهود وخبثهم ، وما تنطوى عليه نفوسهم من اللؤم والغدر ، ونقض العهود والمواثيق.

* ونقول ـ عن سورة آل عمران ، أنها تهدف إلى ترسيخ العقيدة ، وتحديد الشريعة ، لأنها من السور المدنيّة الطويلة ، التى اشتملت على إبراز هذين الركنين الهامّين ، من أركان الدين :

ركن العقيدة ، وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله تعالى ، وإثبات صدق النبوّة ، وصدق القرآن ، والرد على الشبهات ، التى يثيرها أهل الكتاب ـ النصارى ـ حول الإسلام والقرآن.

وركن التشريع ، بخاصة فيما يتعلّق بالمغازى ، والجهاد فى سبيل الله ، وأمور الربا ، وحكم مانع الزكاة.

* ونقول عن سورة النساء ـ كذلك ـ أنها تنظيم تشريعى يتصل بالأسرة ، وحقوق النساء ، لأنها من السور المدنية الطويلة ، التى تعنى بشئون المرأة ، والبيت ، والأيتام. فهى تتحدث عن الحقوق التى فرضها الله للمرأة ، كالصداق ، والميراث ، وإحسان العشرة.

وهى تتحدث عن المحرمات من النساء بالنسب والرضاع والمصاهرة.

وهى تتحدث عن الحقوق الزوجية للرجل والمرأة ، وترشد إلى الطرق التى ينبغى أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية.

٧١

فمعظم الأحكام التى وردت فيها تدور حول موضوع النساء وحقوقها ، ولهذا سميت «سورة النساء»

وهذا المنهج انتهجه الدكتور محمد خلف الله ـ فى تفسير سورة الرعد.

وانتهجه كذلك الدكتور شوقى ضيف فى تفسير سورة الرحمن وقصار السور.

وانتهجه أيضا الدكتور محمد عبد الله دراز فى تفسير سورة البقرة ، فى كتابه النبأ العظيم.

والمنهج الثانى : هو المنهج التجميعى التكاملى للموضوع الواحد من القرآن ، حيث تجمع الآيات القرآنية ، ذات الهدف المشترك ، ثم ترتب زمنيا حسب نزولها ـ ما أمكن ذلك ، مع الوقوف على أسباب هذا النزول ـ إن وجد ، ثم تناولها تناولا تحليليا بالتفسير والبيان ، وربط أول الآيات بآخرها ، مع التعليق والاستنباط ، والربط بين القرآن والسنة ، مع الإحاطة التامة بكل جوانب وأبعاد الموضوع ، الذى يدرس ، كما ورد فى القرآن الكريم ، والسنة الصحيحة ، وكتب التاريخ والأخبار المعتمدة ، بقصد الوصول إلى الهدف المنشود من وراء هذا البحث القرآنى.

* وهذا المنهج انتهجه الشيخ سيد قطب ـ رحمه‌الله ـ فى تفسيره (فى ظلال القرآن)

* كما التزم به الشيخ أمين الخولى ـ رحمه‌الله ـ وتلميذته الدكتور عائشة عبد الرحمن فى (تفسيرها البيانى)

* والتزم به كذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطى فى تفسيره الكبير (أضواء البيان)

وإذا كان للمنهج الأول قيمته بالنسبة لوحدة السورة ، بكل عناصرها ، وأغراضها ، ومشتملاتها.

٧٢

فإن للمنهج الثانى قيمة علمية كبرى ، خاصة فى مجال البحوث العلمية ، التى تعالج موضوعا واحدا من الموضوعات التى تخدم المجتمع الإسلامى ، سواء من حيث العبادة ، أو العقيدة ، أو التشريع ، أو المعاملات ، فيظهر الموضوع المدروس فى مظهر الشمول والموضوعية ، حاويا كل ما جاء فى القرآن الكريم مرتبطا بهذا الموضوع.

فإن الفكر إذا ما جال فى كل جنب من جنبات الآيات ـ موضوع البحث ، وجدّ النظر فى كل ركن من أركان البحث ، انكشف لنا جميع أبعاده وأغراضه ، واستبان للباحث كل الدواعى والأسباب ، التى تحيط بموضوعه ، وتظهره بصورة أعمق وأوفى.

* وإن الباحث فى مجال التفسير الموضوعى ، إذا أراد أن يكون موضوعه أكمل ، وأوعى وأشمل ، لا بد أن يجتاز طرقا عدة ، يتصل أولها بآخرها.

أولها : جمع المادة العلمية التى تخدم موضوعه ، وهى الآيات القرآنية ، التى تتناول موضوعه ، مستعينا على ذلك بحفظه ، وبالكتب التى عنيت بجمع الآيات ، تحت عنوان واحد ، أو التى تجمع الآيات المتماثلة فى حروف المعجم ، من ذلك :

ـ كتاب المفردات للراغب الأصفهانى

ـ وكتاب إصلاح الوجوه والنظائر فى القرآن الكريم للدامغانى

ـ وكتاب تفصيل آيات القرآن الكريم ـ للمستشرق جول لابوم

ـ والمستدرك ، للمستشرق إدوار مونتيه ، ترجمة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى

ـ ومعجم ألفاظ القرآن ـ لمجمع اللغة العربية

ـ والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى

٧٣

ثانيها : ترتيب هذه الآيات القرآنية ، وما يتصل بها من أحاديث صحيحة ، حسب مناسبات النزول ، كترتيب الآيات المكية أولا ، ثم الآيات المدنيّة ، وما ارتبط بكل منهما من أحداث ، وأخبار ، وأقوال للصحابة والتابعين.

ثالثها : التوفيق بين الآيات ، بعضها مع بعض ، لإزاحة ما قد تتبادر إلى الإذهان مما هو موهم بالتناقض أو الاختلاف.

رابعها : تفسير الآيات أثناء عرضها ، تفسيرا موضوعيا ، يفهم منه الحكمة الإلهية ، فى إيراد الآيات ، والغرض الأسمى فى هذا التشريع الإلهى ، والغاية العظمى من وراء تنفيذ الأوامر ، واجتناب النواهى. مع تدعيم هذا التفسير ـ كما ذكرنا ـ بما أثر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأثر عن صحابته ، وتابعيه ـ رضوان الله عنهم ، وذكر مناسبات النزول ومكانها ، وتوضيح ما يرتبط بذلك من قصص قرآنى ، سواء كان متصلا بالأنبياء ، أو بالأشخاص الوارد ذكرهم فى القرآن. مع مراعاة شروط المفسر أثناء عرض الموضوع.

خامسها : الإلتزام بشروط البحث العلمى ، من حيث إخراج الموضوع فى صورة مترابطة محكمة البناء ، تكون طريقا لفهم الهدف ، الذى توخاه الباحث ، وإرشادا لفهم جوانب موضوعه.

وعلى الباحث أن يلتزم الحيادية التامة فى بحثه ، لا يتأثر بأية مؤثرات خارجية ، قد تطغى على الحقيقة المنشودة من وراء بحثه للآيات القرآنية ، طارحا وراءه العقائد الفاسدة ، جاعلا هدفه الأسمى إبراز محاسن القرآن ، وفضائل تشريعاته لخدمة الأفراد ، والمجتمع الإسلامى.

سادسها : الأخذ بمطلق اللغة ، لأن القرآن نزل بلسان عربى مبين ، ولكن على المفسر أن يحترز من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة ، يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا توجد غالبا إلا فى الشعر ونحوه ، ويكون المتبادر خلافها.

٧٤

روى البيهقى فى الشعب ، عن مالك ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب ، يفسر كتاب الله إلا جعله نكالا.

سابعها : التفسير بالمقتضى من معنى الكلام ، والمقتضب من قوة الشرع

وهذا هو الذى دعا به النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لابن عباس ، حيث قال : «اللهم فقّهه فى الدّين ، وعلّمه التأويل». والذى عناه ـ علىّ ـ رضى الله عنه بقوله ـ حين سئل : هل عندكم عن رسول الله شىء بعد القرآن؟ قال : لا والذى فلق الحبّة ، وبرأ النسمة إلّا فهم يؤتيه الله ـ عزوجل ـ رجلا فى القرآن»

ومن هنا اختلف الصحابة فى فهم بعض آيات القرآن ، فأخذ كل بما وصل إليه عقله ، وأداه إليه نظره (١)

* وعلى المفسر أن يتجنب فى تفسيره :

(أ) ـ التّهجّم على بيان مراد الله من كلامه ، مع الجهالة بقوانين اللغة ، وأصول الشريعة ، وبدون أن يحصل العلوم التى يجوز معها التفسير.

(ب) ـ الخوض فيما استأثر الله بعلمه ، كالمتشابه ، الذى لا يعلمه إلّا الله.

(ج) ـ التهجّم على الغيب ، بعد أن جعله الله سرّا من أسراره ، وحجبه عن عباده.

(د) ـ السير مع الهوى والاستحسان ، فلا يفسر بهواه ، ولا يرجح باستحسانه.

(ه) ـ تجنب التفسير المقرر للمذهب الفاسد ، بأن يجعل المذهب أصلا ، والتفسير تابعا ، فيحتال فى التأويل حتى يصرفه إلى عقيدته.

(و) ـ عدم القطع ـ عند التفسير ـ بأن مراد الله كذا وكذا ، من غير دليل ، فهذا منهىّ عنه شرعا ، لقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٦٩]

__________________

(١) انظر ما ذكره السيوطى نقلا عن الزركشى فى الإتقان ج ٢ / ١٧٨

٧٥

الفصل الأول

أنبياء الله .. ورسله

أرسل الله ـ سبحانه ـ رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأيدهم بالمعجزات الباهرات ، والآيات البينات ، وجمّلهم وكملهم بجميع الكمالات الإنسانية حتى يكونوا الأسوة والقدوة لجميع الناس ، وقد بيّن الحق سبحانه وتعالى ـ حاجة الناس إلى هؤلاء الأنبياء والرسل ، فقال عزوجل :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]

فما معنى النبوة؟ وما معنى الرسالة؟

ما النبوة؟

* النبوة ـ لغة ـ (١) اسم مشتق من نبا الشّىء ينبو نبوّه إذا ارتفع متجاوزا غيره. ومنه قولهم : نبا السيّف ينبو نبوة إذا ارتفع متجاوزا مضرب الفارس.

أو هى اسم مشتق من (أنبأ) فلان غيره ينبئه إنباء ـ إذا أخبره بخبر ذى شأن.

ولهذا تقرأ (النّبوءة) بالهمزة بعد الواو.

ـ وبها قرأ ورش عن نافع ، قوله تعالى : (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)(٢)

ـ وقرأ حفص عن عاصم : (النّبوّة) بواو مشددة.

__________________

(١) انظر المعجم الوسيط مادة (نبا)

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ والآية من سورة الأنعام ـ الآية ٨٩

٧٦

والقراءتان صحيحتان ـ كما يقول ابن كثير ، ويمكن تصريف الأولى إلى الثانية ، وذلك بقلب الهمزة واوا وإدغامها فى الواو ، وهو إعلال معروف عند النحاة.

والنبوة شرعا : إعلام الله تعالى من اجتبى من الناس لرفعته ، وإعلاء شأنه ، بإنبائه بالوحى الذى أراده الله.

والأنبياء : جمع نبىّ ، والنبىّ فرد من بنى آدم ، اختاره الله وفضّله على قومه ، وأوحى إليه بأمر محدّد. فإن كلّفه الله بتبليغ هذا الأمر فهو نبى مرسل ، وإن لم يكلّفه بتبليغه فهو نبى غير مرسل ، أى نبى فقط.

وبهذا يمكن تحديد الفرق بين النبى المختار .. والرسول المرسل :

فالرسول : يكون مرسلا من قبل الله سبحانه وتعالى ـ لقوم ، أو أقوام معيّنين ، لتبليغ تعاليم الله ، وأوامره ونواهيه ، وما أوحى به إليه.

أما النبى : فهو الذى يوحى إليه بأمر ما ، ولم يكلّف أو يؤمر بتبليغه إلى عباد الله لاختصاصه به وحده ، دون غيره من سائر البشر.

فإذا كان ذلك كذلك ـ فكلّ رسول نبى ـ وليس كل نبىّ رسولا.

فالنبوة داخلة فى الرسالة ، والرسالة أعم من جهة نفسها ، وأخص من جهة أهلها. فالأنبياء أعم ، والنبوة نفسها جزء من الرسالة ، والرسالة تتناول النبوة وغيرها ، بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة.

فمن أنبياء الله غير المرسلين «يوشع بن نون» ، صاحب موسى ـ عليهما‌السلام ، فقد نبأه الله سبحانه وتعالى ، واختاره ليكون خليفة لموسى وهارون فى بنى إسرائيل ، وهو الذى مكّنه الله من فتح بيت المقدس.

٧٧

أما الأنبياء المرسلون ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهم المذكورون فى القرآن الكريم ، وهم :

آدم ، ونوح ، وإدريس ، وصالح ، وإبراهيم ، وهود ، ولوط ، ويونس ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، واليسع ، وذو الكفل ، وداود ، وزكريا ، وسليمان ، وإلياس ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والنبوة : هبة إلهية ، لا تأتى إجتهادا أو إكتسابا بانصراف العبد إلى العبادة كلية ، وتخلّيه عن سائر المتع النفسية ، والرغبات والشهوات المشروعة ...

وإنما النبوّة خصيصة مميّزة ، يخصّ بها الله من أهّله واجتباه ليكون من عباده المقربين ، ويهيّئه لها بعناية إلهية ، ورعاية ربانية ، فيحفظ عبده المعدّ للنبوة من الانحراف الفطرى ، والضلال العقلى ، والتلوث النفسى ، والدنس الخلقى ، فيضفى الحق سبحانه على هذا النبى المختار ، كل الكمالات العقلية والنفسية والخلقية ، ما يجعله مؤهلا لحمل أمانة الوحى ، والاضطلاع بشرف هذه النبوّة.

سمات الأنبياء وشمائلهم :

على أن الباحث المتأمل فى صفات من اصطفاهم الله ، وفضّلهم على سائر الناس ، وأهّلهم لحمل الأمانة ، يجدهم جميعا يتفردون بمجموعة عظيمة من الشمائل الكريمة ، والخصال الحميدة.

أولها : الصدق .. الصدق فى الإرادة ، والصدق فى القول ، والصدق فى العمل ، فكل الأنبياء المرسلين كانوا صادقين وصدّيقين معا ، بشهادة القرآن :

من مثل قوله تعالى عن إبراهيم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٤١]

٧٨

وقوله سبحانه عن إدريس : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٥٦]

وقول عز شأنه : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩]

ثانيها : القدرة على حمل الأمانة .. والأمانة هى الرسالة ، وهى الأمر الإلهى ، وهى الحكم ، وهى القضاء ، والقدرة على الحفظ والرواية والنقل ، وهذه الأمور جميعا تعتمد أساسا على شخصية النبى المرسل ، ومقدرته الذاتية ، وحسن تصرفه ، وقدرته على الإقناع.

ثالثها : القدرة على التبليغ .. فيكون النبى صاحب مؤهلات عقلية ، وفطرة إنسانية ، قادرة على استيعاب ثم تبليغ ما يؤمر به ، فلا يخفى منه شيئا ، ولا ينقص منه شيئا ، فلا تعوقه رهبة ، أو يحول بينه وبين تأدية رسالته خوف أو وجل.

وهذه الصفة تتدخل فيها القدرة الإلهية ، لأنها هى التى تؤهلهم لتبليغ وتوصيل ما أراده الله لعباده من الهداية والرشاد.

رابعها : الفطنة .. وهذه السمة تعتمد على صفاء الذهن ، ودقّة الاستيعاب ، وسرعة البديهة ، إلى جانب رهافة الحسّ ، وفصاحة اللسان ، ورقة الشعور.

وفى هذا المعنى يقول «حسان بن ثابت» ـ شاعر الرسول ـ فى صفة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لو لم يكن فيه آيات مبيّنة

كانت بديهته تأتيك بالخبر

٧٩

أضف إلى ذلك أن أنبياء الله ورسله جميعا ، كانوا يحملون مؤهلات خاصة ، ويتّسمون بسمات مميزة ـ فى مقدمة هذه السمات :

١ ـ عراقة النسب : وهذه السمة تتصل بعامل الوراثة ، حيث يتصل شرف النّسب بكل خصائصه ومميزاته من الأصل وهو الوالد .. إلى الفرع المولود ـ ومن هنا كان الأنبياء يبعثون فى أشراف أقوامهم ، ويتسمون بسمات الترفع عن الدنايا ، والتّنزّه عن كل ما يخل بالشرف.

٢ ـ المثالية : وهى الكمال الخلقى فى القول والعمل ، فى السرّ والعلن ، والترفع عن الانحراف الفطرى ، والتحلّى بكل ما هو جدير بتأهيل المرء لمقام النبوة.

٣ ـ حاجة البيئة .. وهذا العنصر يرتبط ارتباطا وثيقا بالزمان والمكان ، وظروف القوم النفسية والدينية ، والعقيدية ، فكل هذه الأمور هى التى تشعر بالحاجة إلى بعث نبىّ ، أو إرسال رسول ، ليخرج الناس من فساد حياتهم الدينى والاجتماعى ، إلى نور الهداية واليقين.

ويمكننا أن نجد فى الفراغ الذى كان قبل إرسال نبى الله موسى وأخيه هارون ، دليلا على ذلك ، وأيضا فى الفراغ الذى كان قبل نبوة عيسى ورسالته دليلا آخر ، وكذلك فى الفراغ الذى كان موجودا قبل البعثة المحمدية دليلا ثالثا.

فإن هذه الأحوال ، وظروف القوم ومتطلباتهم الروحية ، كانت تتضرع إلى السماء ، وتلحّ مطالبة الخالق بنبوّة نبى ، ورسالة رسول ، لإصلاح العباد والبلاد. وقد وضح هذا الأمر جليا ، فى الظروف الدينية والاجتماعية ، التى عاشها الحنفاء قبل البعثة المحمدية ، وكانت كل الدلائل تدل على أن نبياّ سوف

٨٠