دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

عليه بأنه ليس من أهله ، فالإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٢١] وإن جزاء الإيمان الصالح من الأعمال ، يكون فى الدنيا غالبا ، وفى الآخرة حتما.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [هود : ٤٨]

وقد كان ما كان من قصة نوح مع قومه ، التى انتهت بنجاة المؤمنين ، وهلاك الكافرين ، قيل بعد هذا : يا نوح اهبط من السفينة ، أو من على الجبل ، بعد أن كفّت السماء عن المطر ، وابتلعت الأرض الماء ، واستوت السفينة على الجودى .. إهبط مشمولا بسلام منا ، ومتمتعا بأمان وتحية من عند الله مباركة طيبة ، اهبط بسلام وبركات ونماء ، وسعة فى الرزق عليك وعلى أمم ممن معك من الخلق ، إنسانا كان أو حيوانا ، وأمم من ذرية من معك ، سيتمتعون بالخيرات والطيبات فى الدنيا والآخرة ، وأمم من الذرية سنمتعهم فى الدنيا ، ثم نضطرهم إلى عذاب أليم فى الآخرة ، وذلك لكفرهم وعنادهم.

وهكذا كان الخلق أولا من ذرية نوح مؤمنين صالحين ، متمتعين فى الدنيا والآخرة ، ثم خلف من بعدهم خلف ، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيّا ، وسيمسهم منا عذاب أليم.

* إن الباحث المتأمل ـ فى عناصر هذه القصة ، إذا قرأ مجادلة المشركين مع نبى الله نوح ، يحسّ بأنه يشاهد مشهدا مرئيا ، لا أنه يستمع إلى كلام متلو ، فينتقل هو وعقله وجوارحه كلها إلى هذا المشهد العظيم ، الذى يصوّر عقلية الذين يجادلون ، وما يبذله الرسول ، وما يتحمله فى سبيل إقناعهم أو إلزامهم كلمة التقوى.

٢٠١

فلنتأمل معا مجادلة نوح عليه‌السلام لقومه ، وهم يجادلون فى الله ، ونوح يريد أن يهديهم بأمر الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ..) [الآيات ٢٥ ـ ٣٣ من سورة هود]

هذا مشهد من مشاهد القول ، تجد فيه مناقشة قوية بين دعوة الحق ، وجحود أهل الباطل ، وتراه كأنه مصوّر أمام البصيرة ، وترى فيه صاحب الحق يدلى بالبينات ، والحق وحده أبلج ، وترى فيه أهل الباطل يتخذون من الحسّ دليلا على الحق ، وحسهم كاذب ، فيستدلون على أن الدعوة ليست دعوة حق بأن أتباعها هم الفقراء الأرذلون فى أعينهم ، الذين يزدرونهم. ونوح عليه‌السلام يجادلهم بالتى هى أحسن ، وهو يسوق البينات ، ولكنهم يتبرّمون بدعوة الحق.

ولا شك أن العبارات القرآنية ـ لا تدل على المعانى المقصودة فقط. بل وضعت بالألفاظ ومعانيها وأطيافها فى بيان مصّور يسكن به الخيال والنفس ، كأنه واقع محسوس ، لا قصص متلو فقط.

وبعد ذلك بيّن الله لنوح عليه‌السلام ، أنهم لا يؤمنون ، ولم يبق إلّا إنزال العقاب بهم.

ولنتأمل صورة العقاب .. نراه قصصا مجردا ، ولكنه مشهد واضح بيّن يصل إلى درجة المرئى للقارىء المتنبه. اقرأ قوله تعالى :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ..) [الآيات ٣٦ ـ ٤٨ من سورة هود]

ذلك هو بعض قصص نوح عليه‌السلام من وقت أن يئس من إيمانهم ، وأخبره ربه العليم الحكيم ـ أنه بلّغ الحجة ، وحقق الرسالة ، وأنه لن يؤمن أحد من قومه لم يكن قد آمن ، وأن العقاب نازل لا محالة.

٢٠٢

* ونرى كل نصّ من نصوص هذا الجزء من القصة مصورا بيانيا ، لما أنزله الله تعالى :

فنرى جزءا يصور كيف أخذ نوح يبنى سفينته ، والقوم ينظرون إليه ساخرين غير عالمين بالعاقبة التى تنتظرهم ، والغاية التى قدّرها الله تعالى من هذا البناء ..

والخيال يرى الصورة وراء العبارات ، كأنها بين يديه حقيقة بالعيان ، وليس خبرا من الأخبار ، وإن كان يذكر فى أعلى صور القصص المصور.

ثم نرى الإيذان بالابتعاد عن موطن الغرق ، وقد فار التّنّور ، وإننا قد ندرك من هذا أنها كانت تسير بالبخار ، إذ فار التنور فتحركت بعد أن فار ، والله تعالى أعلم بمراده ، وإن كان اللفظ دالا ، بل هو مصوّر لتنور فار فحرك ببخاره ما حرك من آلات تسير السفينة ، وتجرى بهم فى موج كالجبال.

والقارىء يرى فى هذا صورا تثير الخيال ، وتجعل الخبر مرئيا أو كالمرئى ، وإن ذكر الموج فى هذا المقام يصور كيف كان السيل عارما ، وأنه لم يكن غيثا حتى لم يبق إلّا من خرج بالسفينة نجيّا.

* ثم نجد فى ذلك القصص أمرا معنويا كأنه ملموس ، وهو حنان الأب ، ورفقه بولده. فقد رأينا فى نوح المجاهد عاطفة الأبوة تعلو .. فينادى ابنه ، وكأننا نسمع النداء فى مشهد من مشاهد الأبوة. ثم نجد الإبن وقد غرّه غرور الصبا ، والابتعاد عن التصديق ، حتى حسب أنه بمنجاة من الغرق إذا اعتصم بجبل آوى إليه ، وحال بينه وبين أبيه الموج ، فكان من المغرقين ، والأب تنفطر نفسه ، فتغلبه شفقة الأبوة عن رؤية أمارات الموت ...

٢٠٣

ويتجه إلى ربه حزينا باكيا إذ نجا أهله إلا ابنه ، فيقول ـ وكأننا من فرط التصوير نسمع أنين الأب ، بعد أن نجا كلّ من فى السفينة ، وقد استوت فى طريقها ، وهلك الظالمون ، يضرع إلى ربه يقول : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، وكان قد وعده ربه بأن ينجى أهله ، فيقول : إن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين ..

وهنا نجد رب العالمين يبين أنه داخل فى عموم الكافرين ، لأنه كفر ، وأهلك هم الذين آمنوا ، ولم يعارضوك ، ويقول سبحانه :

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

تعارض العطف مع الواجب ، فتحت قوة العاطفة الأبوية ، نطق بما نطق ، فنبّهه الله تعالى إلى الواجب ، ولم ينبه غافلا ، ولكنه نبّه يقظا مؤمنا ضارعا ، وإن كان قد ناجى ربه بصوت البشرية ، فثاب وقال :

(رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)

٢٠٤

الفصل الخامس

خليل الرّحمن .. أبو الأنبياء .. وولده الذّبيح

يتفق أكثر العلماء والباحثين ، القدماء والمحدثين (١) على أن أساس الدين الفطرة ، وأساس الفطرة (التوحيد) وأن التوحيد قديم منذ الأزل ، وهو أساس كل دين ، وأن العرب من عدنان وقحطان ، كانوا قبل ظهور (عمرو بن لحىّ الخزاعى) فيهم ، على بصيرة من أمرهم ، يتعبدون بشريعة خليل الرحمن ، إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم «التوحيد» وقد تلقوها عن ولده نبى الله تعالى (إسماعيل) عليه الصلاة والسلام ، وهى الحنيفية.

كانت دعوة التوحيد التى نادى بها إبراهيم هى الفتح الجديد فى تاريخ العقيدة. فهو لم يبدأ عقيدة التوحيد ، ولم يبدأ عقيدة الفداء ، ولم يبدأ عقيدة البقاء ، ولكنه بدأ «بالدعوة النّبويّة» فاصطبغت العقائد بصبغتها ، حتى كأنها لم تسمع قط قبل ذلك فى عهود الكهانات والهياكل.

كان توحيد إبراهيم عليه‌السلام ـ كما يقول العقاد (٢) : «إيمانا يعلو على ملوك الأرض ، ونجوم السماء ، ويتساوى عنده الخلق جميعا ، لأنه أعلى من كل

__________________

(١) الألوسى : بلوغ الأدب ٢ / ١٩٤ ، والدكتور محمد عبد الله دراز : الدين. طبع دار القلم ، وكارل بروكلمان : العرب والامبراطونية العربية ترجمة الدكتور نبيه فارس ط. بيروت ، ويرى فريق من علماء الغرب ـ أن التوحيد نشأ أولا عن طريق عقيدة الخالق الأكبر ، وأن الوثنيات ما هى إلا عوارض طارئة بجانب هذه العقيدة الخالدة وهذه هى نظرية (فطرية التوحيد) التى انتصر لها علماء الأجناس وعلماء الإنسان ومن أشهرهم الانج وبرو كلمان ـ الذى أثبت وجود عقيدة الإله الأعلى عند الساميين قبل الإسلام.

(٢) أبو الأنبياء ص ٣٠٩.

٢٠٥

عال فى الأرضين ، أو فى السماوات ، ولكنه قريب من كل إنسان ولم يكن (يهوا) إله إبراهيم ، لأن قوم إبراهيم لم يذكروا (يهوا) من بعده قبل خروجهم إلى سيناء ، كما صرحت بذلك التوراة الأولى ، ولكنه كان هو الإله (الإيل) وإليه ينسب ابنه (إسماعيل). وكان هو العلىّ (عليون) وعلى محرابه قدم قربانه إلى ملكى صادق بعد نزوله بكنعان ، فهو إله لا فرق عنده بين وطن قديم ، أو وطن جديد ، ولا فضل لديه لعشيرة ابراهيم على عشيرة ملكى صادق ، ولا على غيرها من عشائر بنى آدم بغير التقوى والإيمان».

كانت دعوة إبراهيم الخليل ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صرخة تسمع وتتجاوب بها الآفاق ، ولم تكن لغزا يخفى وتتحاجى به العقول ، كانت صحبة البيت والطريق ، وصحبة اليقظة والمنام ، وصحبة العزلة والجماعة ، وصحبة الحياة قبل الميلاد وبعد الميلاد ، ولم تزل حتى أصبحت صحبة الخلود الذى لا يعرف الفناء.

ولم يصبح كذلك قبل رسالة النبوة ، حين انبعث بها النبى أبو الأنبياء ، حين بشّر بها إبراهيم ، وما كان لنبوّة واحدة أن تؤدى رسالة التوحيد ، وتفرغ منها فى عمر رجل ، أو عمر جيل ، وإنما هى نبوة بعدها نبوّات فما من عقيدة دينية ظهرت للناس طفرة بغير سابقة ، وما من عهدين من عهود الإيمان إلّا وبينهما تمهيد وتعقيب ، ولكن الأمانة التى اضطلع بها الخليل إبراهيم حادث جديد ، لم تعرف له سابقة فيما وعيناه من تاريخ الأديان ، ذلك الحادث الجديد هو أمانة الرسالة النبوية ، أمانة نفس حيّة تخاطب نفوسا حيّة بإسم الإله ، الذى يتوجه إليه عباده فى كل مكان ، أمانة نفس تخاطب النفوس ، ولا تخاطبهم من وراء المحاريب والهياكل ، ولا بسلطان من نظام الدولة أو الكهانة ، ولكنها نداء ضمير إلى ضمير.

٢٠٦

وهذه الدعوة تستلزم وجود (هداية شخصية) أو تستلزم وجود إبراهيم متصلا بمن بعده ، لأنها سلالة من دعوات لا يتصورها العقل ، على غير مثالها الفريد فى تواريخ الأديان.

هذه الدعوة هى (الحنيفية). قال عنها النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أحبّ الأديان إلى الله الحنيفية السّمحة» [متفق عليه]

ويقول صلوات الله وسلامه عليه : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة ـ أو البيضاء ـ ملّة ابراهيم الخليل ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم» [متفق عليه]

وهذه الحنيفيّة ـ ملّة إبراهيم ـ كان لها شرائع متوارثة ، منها : «الإيمان بالبعث ، والحساب ، والملكين الكاتبين ، وحجّ البيت ، والختان ، والنكاح ، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا ، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر والنّسب ، والغسل من الجنابة ، وديّة النفس مائة من الإبل» (١).

وكان لها أيضا سنن : هذه السنن هى المداومة على طهارات الفطرة ، وهى خمس فى الرأس ، وخمس فى الجسد

ـ فأما التى هى فى الرأس : فهى المضمضة ، والاستنشاق ، وقصّ الشارب ، والفرق ، والسواك.

ـ وأما التى فى الجسد : فهى الاستنجاء ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، والختان (٢).

__________________

(١) ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ص ١١١ ط الأزهرية.

(٢) الشهرستانى : الملل والنحل ٣ / ٩٤ وانظر تاريخ الطبرى ١ / ٤١٤

٢٠٧

وهى أمور جعلها بعض المفسرين من كلمات إبراهيم ، التى ذكرت فى القرآن الكريم فى قوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤]. وقد قرّر الإسلام فيما بعد هذه الأمور جميعا وجعلها من السنن التى يقتدى بها ، ولا يصح التّخلى عنها. خاصة ما يتصل منها بشعائر الحج ومناسكه ، فهذه الشعائر والمناسك ترتبط أكثر ما ترتبط بما هو موروث عن الحنيفية السمحة ، ملّة إبراهيم ، يوم كلّف بها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ، حين سأل ربّه أن يريه مناسك الحج : (وَأَرِنا مَناسِكَنا ، وَتُبْ عَلَيْنا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٢٨] فأمره ربه أن يبنى الكعبة هو وابنه إسماعيل :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧] ثم علّمه ربه كيف يؤدى المناسك ..

يقول أبو الفدا : «ولما أمر الله إبراهيم عليه‌السلام ببناء الكعبة ، وهو بيت الله الحرام ، سار من الشام ، وقدم على ابنه إسماعيل مكة ، وقال : يا إسماعيل : إن الله تعالى أمرنى أن أبنى له بيتا ، فقال إسماعيل : أطع ربك فقال إبراهيم : وقد أمرك أن تعيننى عليه ، قال : إذن أفعل ، فقام إسماعيل معه ، وجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ، وكانا كلما بنيا دعوا فقالا : ربّنا تقبّل منا إنّك أنت السّميع العليم. وكان وقوف إبراهيم على حجر وهو يبنى ، وذلك الموضع هو مقام إبراهيم ، واستمر البيت على ما بناه إبراهيم إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

__________________

(١) انظر تاريخ أبى الفداء ـ قصة إبراهيم وبناء الكعبة. وانظر قصص الأنبياء للنيسابورى الثعلبى ص ٨٥

٢٠٨

وهذه المناسك أبقى عليها الإسلام تماما ، وعلمنا إياها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى حجة البلاغ أو حجة الوداع ـ وقال : «لتأخذوا عنّى مناسككم» [متفق عليه] ، وهى : الطواف ، والسعى ، والوقوف بعرفة ، ورمى الجمار ، وذبح الهدى ... إلخ.

وكانت كل شعيرة من هذه الشعائر ترتبط بموقف كان إبراهيم طرفا فيه ، أو ابنه إسماعيل ، أو زوجته هاجر.

فالسعى : تخليد لذكرى سعى هاجر أم إسماعيل جدّ العرب ، وتردادها بين جبلى الصفا والمروة ، وهى حائرة ملتاعة تبغى إنقاذ وليدها إسماعيل من العطش.

والشرب من زمزم : تخليد لذكرى شربها وهى ظمآنة ، بعد أن أنزل الله جبريل عليه‌السلام ، ليقول لها : لا تخافى الضيعة ، فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله.

وذبح الهدى والأضحية : حيث يتقرب بها المسلم إلى ربه عزوجل لتكون تكفيرا لما جنته يداه من الذنوب والآثام هى فى الوقت نفسه تخليد يحمل فى طياته (ذكرى الفداء) ذكرى إقدام الخليل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ على ذبح ولده ، امتثالا لأمر ربه ، حين أمره بذبح ولده ـ فى المنام ـ اختبارا لقوة إيمانه ، ومقدرته على تحمّل التضحية ، والصبر على البلاء المبين ، حين بشّر بغلام حليم :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟ قالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

[الصافات : ١٠٢ ـ ١١٠]

٢٠٩

وهنا نكون قد وصلنا إلى غايتنا ونقطة إنطلاقنا ..

* فمن هو الذبيح؟ هل هو إسماعيل؟ .. أم إسحاق؟ عليهما الصلاة والسلام.

روى كثير من المفسرين ، منهم ابن جرير الطبرى ، والبغوى ، والسيوطى ، روايات كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين وكعب الأحبار .. أن الذبيح هو إسحاق. ولم يقف الأمر عند الموقوف عن بعض الصحابة والتابعين ، بل رفعوا ذلك إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١ ـ فقد روى ابن جرير ـ بإسناد طويل ـ عن الحسن بن دينار ، عن على بن زيد بن جدعان ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «قال : الذبيح إسحاق».

٢ ـ وأخرج الدّيلمى بسنده عن أبى سعيد الخدرى ، قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن داود سأل ربّه مسألة ، فقال : اجعلنى مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأوحى الله إليه : إنى ابتليت إبراهيم بالنار فصبر ، وابتليت إسحاق بالذّبح فصبر ، وابتليت يعقوب بالعمى فصبر».

٣ ـ وأخرج الدارقطنى والدّيلمىّ ـ فى مسند الفردوس ـ بسندهما ، عن ابن مسعود ، قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذبيح إسحاق».

٤ ـ وأخرج الطبرانى فى الأوسط بإسناد ـ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبى هريرة ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ خيّرنى بين أن يغفر لنصف أمتى أو شفاعتى ، فاخترت شفاعتى ، ورجوت أن تكون أعم لأمتى ، ولو لا أن سبقنى إليه العبد الصالح لعجّلت دعوتى ، إن الله تعالى ـ لمّا فرّج عن (إسحاق) كرب الذبح ، قيل له يا اسحاق : سل تعطه .. قال : أما والله لأتعجّلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات لا يشرك بالله شيئا ، قد أحسن فاغفر له».

٢١٠

* والباحث المدقّق فى كتب الرّجال ، وكتب الصحاح المعتمدة ، يجد أن هذه الأحاديث كلها ضعيفة ، موضوعة ، وسلاسل الإسناد لها مطعون فيها.

فالحديث الأول ـ الذى رواه ابن جرير ـ ضعيف ساقط ولا يصح الاحتجاج به ، فالحسن بن دينار ـ راويه ـ متروك وشيخه على بن زيد بن جدعان منكر الحديث. (١)

والحديث الثانى ـ الذى أخرجه الديلمى ، والحديث الثالث ، الذى أخرجه الدارقطنى والديلمى ، من الأحاديث الضعيفة التى تصح ولا تثبت ، كما أن أحاديث الديلمى ـ فى مسند الفردوس ـ شأنها معروف ، أضف إلى ذلك أن الدارقطنى ربما يخرج فى سننه ما هو موضوع. (٢)

والحديث الرابع : الذى رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف ، وعبد الرحمن نفسه مطعون فى أمانته وعلمه ، لأنه يروى المنكرات والغرائب فلا يحتجّ بمروياته.

وقال ابن كثير عن هذا الحديث : الحديث غريب منكر ، وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهو قوله : (إن الله لما فرّج ..) فالأشبه أنه (إسماعيل) وحرّفوه بإسحاق.

نقول : إن المرويات فى أن الذبيح (إسحاق) واضح فيها أنها من

__________________

(١) تفسير البغوى ج ٧ ص ١٥٤ وانظر تفسير ابن كثير للآيات.

(٢) انظر أعلام المحدثين للمرحوم الشيخ محمد محمد أبى شهبة.

٢١١

الإسرائيليات المدسوسة ، التى تسربت ونقلها من أسلم من اليهود ، ككعب بن الأحبار ، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين ، تحسينا للظن بهم ، يوم أن منحهم الرسول الكريم الرّخصة ، وقال لهم : «لا تكذّبوا أهل الكتاب ولا تصدّقوهم وقولوا ربّنا وربّكم الله» فقد نسب كثير من هذا كذبا إلى الصحابة ، والسلف الصالح ـ كابن عباس ، وابن مسعود وأبىّ بن كعب ـ وغيرهم ، ممن عرفوا بالثقة والعدالة ، واشتهروا بين المسلمين بالتفسير والحديث ، وقد تم دخول هذه الإسرائيليات فى تفسير القرآن الكريم بسهولة ويسر بالغين ، منذ الصدر الأول ، ولم يحل دون ذلك شهادة القرآن على اليهود بتقوّلهم على الله ، وتزييفهم التوراة ، قال الحق سبحانه :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧٨]

ولقد اغترّ كثير من العلماء بما قرأوه من روايات غير صحيحة ، عن الصحابة والتابعين ، فذهبوا إلى أن الذبيح (إسحاق) عليه‌السلام. وما من كتاب من كتب التفسير والتاريخ ـ إلّا ويذكر فيه الخلاف بين السلف فى هذا إلّا أن منهم من يعقّب ببيان وجه الحق فى هذا ، ومنهم من لا يعقّب اقتناعا بها.

* والحقيقة أن هذه المرويات ـ كما قلنا ـ من دسّ ووضع أهل الكتاب ـ خاصة اليهود ـ لعداوتهم المتأصلة من قديم الزمان للنبى الأمىّ العربى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقومه العرب ، ذلك أنهم أرادوا أن لا يكون لإسماعيل ـ الجد الأعلى للنبى ـ وللعرب ، فضل فى أنه الذبيح ، حتى لا ينجرّ ذلك إلى النبى ، وإلى الجنس

٢١٢

العربى .. من أجل ذلك حرفوا كتابهم المقدس ـ التوراة ، إمعانا فى التضليل ، وإضمارا للحقد ، وإبرازا لفضل جدهم (إسحاق) عليه‌السلام على أخيه الأكبر (إسماعيل).

بيد أن عناية الله أبت إلّا أن ينسب الفضل لأهله ، فلم تغفل عن هذا التضليل والتزوير. وحكمة الله ـ أن يترك الجانى دائما من البصمات والآثار ما يدل على جريمته ، وإرادته ـ سبحانه ـ أن يبقى دائما للحق شعاع ـ ولو خافت يرشد إليه ، مهما حاول المضلّلون إخفاء نوره وطمس معالمه ..

وهذا هو الدليل :

١ ـ جاء فى التوراة [الإصحاح الثانى والعشرون ـ فقرة ٢]

«فقال الرب : خذ ابنك وحيدك الذى تحبه : إسحاق ، واذهب به إلى أرض المرايا ، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال ، الذى أقول لك ...» (١)

* وليس أدل على التحريف من كلمة (وحيدك) ، فإسحاق عليه‌السلام ، لم يكن وحيدا لأبيه إبراهيم ، فقد ولد وإسماعيل فى نحو الرابعة عشرة ، كما هو مذكور فى توراتهم ، وقد بقى إسماعيل عليه‌السلام حتى مات أبوه إبراهيم وحضر وفاته ودفنه.

٢ ـ جاء فى سفر التكوين [الإصحاح السادس عشر الفقرة ١٦] ما نصه :

«وكان أبرام (أى إبراهيم بالعبرية) ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام»

__________________

(١) تفسير البغوى ٧ / ١٥٤ ، وتفسير ابن كثير.

٢١٣

٣ ـ وجاء فى سفر التكوين [الإصحاح الحادى والعشرون ـ الفقرة ٥] ما يلى :

«وكان أبرام ابن مائة سنة ، حين ولد له إسحاق ابنه».

٤ ـ وجاء فى سفر التكوين [الإصحاح الحادى والعشرون ـ الفقرة ٩] ما نصه :

(١) ـ ورأت سارة (ابن) هاجر المصرية ، الذى ولدته لإبراهيم يمرح (٢) فقالت لإبراهيم أطرد هذه الجارية وابنها ، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابنى إسحاق (٣) فقبح الكلام جدا فى عينى إبراهيم لسبب ابنه (٤) فقال الله لإبراهيم : لا يقبح فى عينيك من أجل الغلام ، ومن أجل جاريتك ، فى كل ما تقول سارة اسمع لقولها لأن بإسحاق يدعى لك نسل (٥) وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك .. إلى آخر النص.

وكتاب الله الكريم ـ القرآن العظيم ـ خير شاهد على ما جاء فى الكتب السماوية الأخرى ، فهو المهيمن عليها ، وقد صدق على ذلك ، فقال حكاية لمقالة إبراهيم وإسماعيل بعد أن بنيا البيت :

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]

ولو أن اليهود وعوا ما جاء فى القرآن والتوراة ، لعلموا أنه ستكون أمة لها شأنها من نسل إسماعيل. ولما حسدوا العرب على هذا الفضل .. فكيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدا؟

* فإذا كان الذبيح هو إسماعيل .. فما الدليل على ذلك؟

إن القرآن الكريم والسنّة المطهرة فيهما الردّ الكافى الشافى لهذا الموضوع ..

٢١٤

* ففى القرآن الكريم : الدليل على أن الخليل إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أسكن هاجر وابنها الوليد إسماعيل عند مكان البيت المحرّم :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم : ٣٧]

ثم بنى إبراهيم البيت ـ تنفيذا لأمر ربه ، وساعده إسماعيل وهو غلام فى بنائه ، وقامت مكة بجواره :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧]

وأيدت ذلك التوراة ، فقالت : إنهما كانا فى (بريّة فاران) وفاران هى مكة كما يعبّر عنها فى العهد القديم. وهذا هو الصحيح ـ فى أن قصة الذبح كانت بعد ذلك ، وكان مسرحها بمكة ومنى ، وفيها يذبح الحجاج ذبائح الأضحية إلى اليوم.

* والعجيب فى الأمر ـ أن اليهود حرفوا هذا النص وجعلوه (جبل المريا) وهو الذى تقع عليه مدينة أورشليم القديمة ، مدينة القدس العربية اليوم ، ليحققوا هدفهم فى زعمهم أن الذبيح إسحاق. وهذا ما أظهر تحريفهم ، وهذا ما فضحه القرآن :

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [آل عمران : ٦٨ ، ٦٩]

٢١٥

* أما السنة المطهرة : فقد دلّت الأحاديث النبوية الشريفة ، والآثار عن الصحابة والتابعين ، ما يثبت أن الذبيح هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، ومنها ما يلى :

١ ـ ما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا ابن الذّبيحين» (١) يعنى جدّه الأعلى إسماعيل وأباه.

٢ ـ روى عبد الله بن سعيد الصنايجى قال : حضرنا مجلس معاوية ، فتذاكر القوم (إسماعيل وإسحاق) أيهما الذبيح! فقال بعضهم : إسماعيل ، وقال البعض : إسحاق ، فقال معاوية : على الخبير سقطتم. كنا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتاه أعرابى ، فقال : يا رسول الله خلّفت الكلأ يابسا ، والمال عابسا ، هلك العيال ، وضاع المال ، فعد علىّ مما أفاء الله تعالى عليك «يا ابن الذّبيحين».

فتبسمّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم ينكر عليه ، فقال القوم : من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟

فقال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهّل أمرها أن ينحر بعض بنيه ، فلما فرغ أسهم بينهم (أى اقترع) ، فكانوا عشرة ، فخرج السهم على (عبد الله) فأراد أن ينحره ، فمنعه أخواله بنو مخزوم ، وقال : إرض ربّك ، وافد ابنك ، ففداه بمائة ناقة ، قال معاوية : هذا واحد ، والآخر (إسماعيل). (٢)

__________________

(١) رواه الحاكم فى المستدرك وصححه وقال حديث حسن ، وذكره الزمخشرى فى كشافه عند تفسيره الآيات (١٠١ ـ ١٠٧) من سورة الصافات وذكره النسفى أيضا.

(٢) رواه ابن جرير فى تفسيره بسنده عن عبد الله بن سعيد.

٢١٦

٣ ـ وروى ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظى ، أنه ذكر لعمر ابن عبد العزيز ـ وهو خليفة ـ فقال له عمر : إن هذا الشىء ما كنت أنظر فيه ، وإنى لأراه كما قلت. ثم أرسل إلىّ رجلا كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان من علمائهم ، فسأله : أى بنى إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال : إسماعيل ..

والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وهذا هو الحق الذى يجب أن يصار إليه.

قال ابن كثير معلقا : «والذى استدل به محمد بن كعب القرظى ، على أنه إسماعيل أثبت وأصحّ وأقوى والله أعلم» (١)

ويضيف العلامة ابن القيّم : «ولا خلاف بين النسّابين أن عدنان من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، و «إسماعيل» هو القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجها ، وقد نقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية فى هذا الموضوع تحليلا دقيقا ، جاء فيه :

«هذا القول متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : (إن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه (بكره) وفى لفظ (وحيده) ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن (إسماعيل) هو بكر أولاده ـ أى أوّلهم.

والذى غرّ هؤلاء : أنه فى التوراة التى بأيديهم : (إذبح ابنك إسحاق) ، قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله : (اذبح بكرك ووحيدك). ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبّوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختاروه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلّا أن يجعل فضله لأهله.

__________________

(١) تفسير ابن كثير للآيات ، وانظر تفسير البغوى ٧ / ١٠٦

٢١٧

وكيف يسوّغ أن يقال : إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ، وللولد ولد ، ثم يأمر بذبحه.

ويدل عليه أيضا : «أن الله ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى سورة الصافات ، ثم قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الآية : ١١٢] وهذا ظاهر جدا فى أن المبشّر به غير الأول ، بل هو كالنّصّ فيه ، وغير معقول فى أفصح الكلام وأبلغه أن يبشّر بإسحاق ، بعد قصة يكون فيها هو الذّبيح؟ فتعيّن أن يكون الذبيح غيره.

وأيضا ـ فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ـ كما جعل السعى بين الصفا والمروة ، ورمى الجمار ، تذكيرا بشأن إسماعيل وأمه ، وإقامته لذكر الله ، ومعلوم إن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه ، ولو كان الذبح بالشام ـ كما يزعم أهل الكتاب ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.

وأيضا ، فإن الله ـ سبحانه ـ سمّى الذبيح (حليما) ، لأنه لا أحلم ممّن أسلم نفسه للذبح طاعة لربّه ، ولما ذكر (إسحاق) سماه (عليما) : (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذرايات : ٢٨]

وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امراته وهى المبشّرة به ، وأما (إسماعيل) فمن السّريّة ـ أى الجارية.

وأيضا ـ فلأنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد ، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرا بعيدا ، وأما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ..» إلى آخر ما قال. (١)

__________________

(١) انظر زاد المعاد ج ١ ص ٢٨ ـ ٣٠

٢١٨

* ومن الطبيعى أن يؤيد المستشرقون ما جاء عن اليهود ، ويفلسفوه بطريقتهم المعهودة .. وقد بنوا فكرتهم وفلسفتهم على عامل هام ، وهو اعتقادهم بعدم ظهور نبوة عند العرب قبل النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بيد أن هذا الأمر لم يخف على المؤرخين والباحثين المسلمين ، الذين أدركوا ذلك ، وكشفوا آثار الأيدى الدخيلة المضللة ، المزيفة للحياة الدينية للعرب الجاهلين ، إذ نجد فى رواياتهم إشارات عديدة إلى ذلك.

فإلى بعض الأحبار (اليهود) نسبوا انتشار اليهودية فى اليمن ودخول بعض تبابعتها فى هذا الدين.

وإلى افتيموس نسبوا دخول النصرانية إلى اليمن.

وإلى أثر الحيرة فى بعض أهل مكة من قريش عزوا دخول الزندقة فى مكة ، وفى نواحى عديدة من الجزيرة العربية ، بعضهم أرسلهم القياصرة للتبشير ، ولم يكن ذلك التبشير خالصا لوجه الله والدين ، وإنما كان يخفى وراءه غايات سياسية وتجارية هى أهم درجة ، ومنزلة للقياصرة من الدين. (١)

ـ والذى يلوح لنا الآن ، أن هؤلاء المستشرقين قد بنوا رأيهم على فكرة خاطئة وهى ـ كما قلنا ـ عدم ظهور نبوّة عند العرب الجاهليين ، إذ أن المعروف عند الأكثرين منهم أن النبوة كانت احتكارا خاصا ببنى إسرائيل ، وأن العرب لم تعرف نبيّا قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ولكن القرآن الكريم يخالف هذا الرأى ويفنّد مزاعمه :

فسيدنا (هود) عليه‌السلام نبى عربى أرسل إلى قوم عرب من العرب

__________________

(١) د. جواد على : تاريخ العرب قبل الإسلام ٦ / ٣٥٧

٢١٩

العاربة ، جاءهم بلسانهم وحدثهم بلغتهم :

ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

[هود : ٥٠]

(ـ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)

[هود : ٥٨]

و «صالح» عليه‌السلام ، نبى عربى آخر أرسل إلى قوم عرب هم من العاربة الأولى كذلك ، هم قوم ثمود.

ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [هود : ٦١]

ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)

[هود : ٦٦]

* والإشارة فى القرآن إلى نبيين عربيين فى معرض مخاطبة الجاهلين ، فيها دلالة على أن نبوّة هذين النبيين كانت معروفة عند بعض الجاهلين ، إذ لا يعقل مخاطبتهم بشىء لا يعرفونه ، وهم فى جهل من أمره ، ثم إن الموضوع الذى ذكّروا به موضوع يخص قوما عربا ، وهو ليس من قصص الأنبياء الواردة فى التوراة أو الإنجيل ، حتى نقول إنه تذكير لهم بما ورد فى الكتاب المقدس من سير الرسل والأنبياء ، حتى أن قدماء أهل الأخبار ـ ممّن كانوا يلجأون إلى أهل الكتاب للأخذ منهم فى موضوع سير الرسل والأنبياء بشرح ما جاء عنهم مقتضبا فى القرآن الكريم ، لم يجدوا أشياء لسد الفراغ الذى شعروا به فأوردوا قصصهم عن قوم عاد وثمود ، ولم يوردوا شيئا ـ ولو كان محرّفا ـ من هذه الأسماء الواردة عند العبرانيين. (١)

__________________

(١) تاريخ العرب قبل الإسلام ٦ / ٣٥٩

٢٢٠