دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

ولم يكن محمد مشاهدا الأحداث التى جاء القرآن الكريم بقصصها ، وهى صادقة ، وثابتة فى الصادق من أخبار النبيين فى كتبهم التى يتداولها أهل الكتاب ، ولم يتناولها التحريف.

ولم يكن بمكة مدرسة لاهوت ، بل لم يكن بمكة يهود ولا نصارى إلّا خمار ألحدوا بأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ منه كذبا وبهتانا ، فقال الحق عز شأنه ردّا عليهم :

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)

[النحل : ١٠٣]

وكانت مكة بلدا أميا ، ليس به علم ، ولا رياسات إلا مباريات رياسية فى البيان ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، وقد قال رب العزة فيه :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨]

لذلك نقول : إن القصص القرآنى ذاته فيه إعجاز ذكره الكتاب ، جاء على لسان أمى لا يقرأ ولا يكتب ، إذ هو النبى الأمىّ الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل.

من أين جاء محمد بهذا القصص الحق ، وهو لم يشاهد وقائعه ولم يقرأها لأنه لم يكن قارئا؟ إنه من عند العزيز الحكيم .. علام الغيوب ، وبذلك كان القصص الصادق لون من ألوان التحدى.

* وقصة موسى وصاحبه الخضر ـ إحدى ثلاث قصص من روائع قصص القرآن ، تضمنتها سورة الكهف وقد تعرضت فى سبيل تقرير أهدافها الأساسية لتثبيت العقيدة ، والايمان بعظمة الله ذى الجلال.

٢٨١

أما الأولى : فهى قصة أصحاب الكهف ، وهى قصة التضحية بالنفس فى سبيل العقيدة ، وهم الفتية المؤمنون ، الذين خرجوا من ديارهم وبلادهم فرارا بدينهم ، ولجئوا إلى كهف فى الجبل ، ثم مكثوا فيه نياما ثلاثمائة وتسع سنين ، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة الطويلة.

والقصة الثانية : قصة موسى مع الخضر ، وهى قصة التواضع فى سبيل طلب العلم ، وما جرى من الأخبار الغيبية ، التى اطلع عليها ذلك العبد الصالح (الخضر) ولم يعرفها نبى الله موسى حتى أعلمه بها الخضر.

والقصة الثالثة : قصة ذى القرنين ، وهو ملك مكّن الله ـ سبحانه ـ له بالتقوى والعدل ، والعمل الصالح أن يبسط سلطانه على الأرض ، وأن يملك مشارق الأرض ومغاربها ، وما كان من أمره فى بناء السد العظيم ، سد يأجوج ومأجوج.

وكما استخدمت سورة الكهف فى سبيل هدفها ـ هذه القصص الثلاث ، استخدمت أمثلة واقعية ثلاث لبيان أن الحق لا يرتبط بكثرة المال أو السلطان ، وإنما هو مرتبط بالعقيدة والإيمان :

المثل الأول : للغنى المزهو بماله ، والفقير المعتز بعقيدته وإيمانه فى قصة أصحاب الجنتين.

والثانى : للحياة الدنيا وما يلحقها من فناء وزوال.

والثالث : مثل التكبر والغرور مصوّرا فى حادثة امتناع إبليس عن السجود لآدم ، وما ناله من الطرد والحرمان.

وكل هذه القصص والأمثال ساقها القرآن بقصد العظة والاعتبار فى سورة واحدة ، هى سورة الكهف.

٢٨٢

* وقبل أن نبدأ القصة .. نريد أولا أن نتعرف على الخضر .. من هو؟ ولماذا سمى الخضر؟

قال ابن قتيبة : اسمه : بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شامخ بن أرفخشذ ابن سام بن نوح عليه‌السلام. وكان يكنى أبا العباس ، ويلقّب بالخضر.

يقول النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه عنه أبو هريرة ـ «إنما سمى خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هى تهتز من تحته خضراء».

والمراد بالفروة ههنا : الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، وقيل المراد بذلك وجه الأرض.

* أما عن قصته مع موسى : فقد وردت إلينا من طرق عدة ، بعضها يتصل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضها يرجع إلى الصحابة والتابعين ، فهى إحدى القصص التى سئل عنها رسول الله .. قال اليهود لقريش : سلوه عن قصة أصحاب الكهف ، فإن أخبركم بها فهو نبى مرسل ، وإلّا .. فلا. فذكر الله قصة موسى والخضر ، وقصة ذى القرنين ، تنبيها على أن النبى لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار ، وقد يؤخر الفاضل عن المفضول.

روى أبىّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إن موسى قام خطيبا فى بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه ، إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

قال موسى : يا رب .. وكيف لى به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ ـ أى هناك. فأخذ حوته فجعله بمكتل (زنبيل يعمل من الخوص) ثم انطلق ، وانطلق معه فتاه (يوشع بن نون) عليه‌السلام.

وفى رواية لابن جرير باسناد إلى عبد الله بن عباس قال :

قال : (سأل موسى عليه‌السلام ربّه عزوجل ، فقال أى ربّ .. أى

٢٨٣

عبادك أحبّ إليك؟ قال : الذى يذكرنى ولا ينسانى ، قال : فأى عبادك أقضى؟ قال : الذى يقضى بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : أى رب .. أى عبادك أعلم؟ قال : الذى يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو تردّه عن ردى. قال : أى رب .. هل فى أرضك أحد أعلم منى؟ قال : نعم! قال : فمن هو؟ قال الخضر. قال : وأين أطلبه؟ قال : على الساحل ، عند الصخرة التى ينفلت عندها الحوت.

* حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت فى المكتل ، فخرج منه فسقط فى البحر ، فاتخذ سبيله فى البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغداة ، قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أى تعبا ، ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذى أمره الله به.

قال له فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) فجعل الله له الحوت آية ، قيل له : إذا فقدت الحوت فارجع ، فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت فى البحر.

قال : فكان للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فقال : ذلك ما كنا نبغى ، فارتدّا على آثارهما قصصا ، قال : فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجّى بثوب. فسلّم عليه موسى ، فقال الخضر ، وأنّى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى ، فقال : موسى بنى إسرائيل؟ قال : نعم.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ؟) سؤال تلطّف .. لا على وجه الإلزام والإجبار ، وهكذا ينبغى أن يكون سؤال المتعلم من العلم. وقوله (اتَّبَعَكَ) أى أصحبك وأرافقك وألازمك (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع وعمل صالح؟

٢٨٤

فعندها (قال) الخضر لموسى (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أى إنك لا تقدر على مصاحبتى لما ترى منى من الأفعال التى تخالف شريعتك ، لأنى على علم من علم الله ، ما علّمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ما علّمنيه الله ، فكلّ منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتى (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فأنا أعرف أنك ستنكر علىّ ما أنت معذور فيه ، ولكن ما اطلعت على حكمته ، ومصلحته الباطنة ، التى اطلعت أنا عليها دونك.

(قال) موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) على ما أرى من أمورك (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أى .. ولا أخالفك فى شىء.

فعند ذلك شارطه الخضر ـ عليه‌السلام ـ (قالَ : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) ابتداء (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أى حتى أبدأك أنا به قبل أن تسئلنى.

فسار به فى البحر إلى مجمع البحرين ، وليس فى الأرض مكان أكثر ماء منه.

١ ـ * فمرت سفينة ، فكلّموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول ـ أى بغير أجرة ، تكرمة للخضر ، فلما استقلت بهم السفينة فى البحر ولججت ـ أى دخلت فى لجّة الماء ، قام الخضر فخرقها واستخرج لوحا من ألواحها ، فلم يملك موسى عليه‌السلام نفسه أن قال منكرا عليه : «قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أى عجبا أو منكرا ، فعندها قال له الخضر مذكّرا بما تقدم من الشرط (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ـ يعنى ... وهذا الصنيع فعلته قصدا ، وهو من الأمور التى اشترطت معك أن لا تنكر علىّ منها ، لأنك لم تحط بها خبرا ، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت.

٢٨٥

(قال) موسى : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أى لا تضيّق علىّ ولا تشدّد علىّ قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كانت الأولى من موسى نسيانا».

وبعث الله الخطّاف (وهو طائر صغير) فجعل يستقى من البحر بمنقاره ، فقال الخضر لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال : ما أقل ما رزأ ، قال الخضر : يا موسى .. «فإن علمى وعلمك فى علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء».

وفى رواية : «ما علمى وعلمك فى علم الله إلا مثل ما نقّص هذا العصفور من هذا البحر». تبكيتا لموسى. لأن موسى كان قد حدثته نفسه ـ أو تكلم به ـ أنه ليس أحد أعلم منه. فمن ثم أمر أن يأتى الخضر ليتعلم منه.

٢ ـ * ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، لقيا (غلاما) كان يلعب مع الغلمان فى قرية من القرى ، فعمد إليه الخضر من بينهم ـ وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم ـ فقتله ، بأن أخذ رأسه بيده فاقتلعه ، وروى أنه احتزّ رأسه ، وقيل : رضخه بحجر ، والله أعلم بما حدث.

فلما شاهد موسى عليه‌السلام هذا .. أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أى صغيرة ، لم تعمل الحنث ، ولا عملت إثما بعد ، فقتلته (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أى بغير مستند لقتله (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أى ظاهر النكارة.

(قال) الخضر : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فأكد أيضا فى التذكار بالشرط الأول. فلهذا قال له موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أى إن اعترضت عليك بشىء بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أى قد أعذرت إلىّ مرة بعد مرة.

٢٨٦

روى ابن جرير ـ باسناد إلى أبىّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، ولكنه قال : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً).

٣ ـ * فانطلقا بعد المرتين الأولتين .. (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) لئاما بخلاء (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) أى مائلا يريد أن يسقط. وإسناد الإرادة ههنا إلى (الجدار) على سبيل الاستعارة ، فإن الارادة فى المحدثات بمعنى الميل والانقضاض هو السقوط. (فأقامه) الخضر ـ أى ردّه إلى حالة الاستقامة ، ردّه بيده ، ودعمه حتى ردّ ميله ، وهذا خارق. فعند ذلك قال موسى له : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أى لأجل أنهم لم يضّيفونا ـ كان ينبغى أن لا تعمل لهم مجانا.

قال الخضر : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) لأنك شرطت على نفسك عند قتل الغلام إنك إن سألتنى عن شىء بعدها فلا تصاحبنى ، فهو فراق بينى وبينك ، ولكنى (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ) أى تفسير وتعليل وتوضيح (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)

* وهنا بدأ الخضر فى تفهيم موسى المبررات التى من أجلها فعل ما فعل : من خرق للسفينة ، وقتل للغلام ، وإصلاح للجدار ، وتوضيح ما أشكل أمره عليه ، وما كان أنكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنه.

١ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أى أما السفينة التى خرقتها فكانت لأناس ضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظّلمة ، يشتغلون بها فى البحر بقصد التكسب ، (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أى أردت بخرقها أن أجعلها معيبة لئلا يغتصبها الملك الظالم (هدد بن بدد) الذى كان يستولى على كل سفينة جيدة

٢٨٧

صالحة عنوة ، وبذلك ينتفع بها أصحابها المساكين ، الذين لم يكن لهم شىء ينتفعون به غيرها ، وقد قيل أنهم أيتام.

٢ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)

(وأما الغلام الذى قتلته فكان كافرا فاجرا ، وكان أبواه مؤمنين. جاء فى الحديث : «إن الغلام الذى قتله الخضر طبع كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» [رواه مسلم](فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أى فخفنا أن يحملهما حبّه على اتباعه فى الكفر والضلال ، فأردنا بقتله أن يرزقهما الله ولدا صالحا خيرا من ذلك الكافر ، وأقرب برا ورحمة بوالديه.

قال قتادة : «قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقى لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.

يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له».

ويقول الله عزوجل : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)

وقيل : لما قتل الخضر الغلام كانت أمه حاملا بغلام مسلم.

٣ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ـ ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.)

أى وأما (الجدار) الذى بنيته دون أجر ، والذى كان يوشك أن يسقط ، فقد خبّىء تحته كنز لغلامين يتيمين ، (وكان أبوهما صالحا) تقيا ، فحفظ الله لهما الكنز لصلاح الوالد.

٢٨٨

قال المفسرون : إن صلاح الآباء ينفع الأبناء ، وتقوى الأصول تنفع الفروع (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) أى فأراد الله بهذا الصنيع أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما ، من تحت الجدار (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أى رحمة من الله بهما لصلاح أبيهما.

* وفى هذا دليل على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم فى الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة فى الجنة ، لتقر عينه بهم كما جاء فى القرآن ، ووردت به السنة. (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أى ما فعلت ما رأيت من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار عن رأيى واجتهادى ، بل فعلته تنفيذا لأوامر الله وإلهامه.

* وهنا سؤال يطرح نفسه .. ماذا كان فى الكنز؟ .. ولما حرص الخضر على إقامة الجدار وستر ما فيه؟

قال عكرمة وقتادة : «كان تحته مال مدفون» وهو ظاهر سياق الآية.

وقال ابن عباس : «كان تحته كنز علم» وقال مجاهد : «صحف فيها علم».

وروى أبو ذر فى حديث مرفوع : «إن الكنز الذى ذكره الله فى كتابه : لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : «عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ، وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ، وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟

وروى ابن جرير فى تفسيره بإسناد إلى الحسن البصرى ، يقول فى قوله (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال : «لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله»

٢٨٩

وروى عن جعفر بن محمد : أنه كان بالكنز «سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للمؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح ، وقد قال الله : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]

* وسؤال آخر .. هل كان الخضر نبيا؟

قال بعض العلماء : إن كل الأفعال التى قام بها الخضر تدل على أنه يوحى إليه من ربه ، وهى دليل على نبوته ، خاصة وقد قال عنه القرآن : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) فالعلم الذى اكتسبه إنما هو من علم الله ، والأمور التى فعلها إنما كانت تنفيذا لتعاليم الله بوحى الله.

وقال بعض آخر : إنه كان رسولا ، وقيل بل كان ملكا.

وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيّا ، بل كان وليّا ، علمه الله من لدنه ، أى علمه علما خاصا ، لا يعلم إلّا بتوقيف الله ، وهو علم الغيوب.

قال الراسخون فى العلم : هذا العلم الربانى ثمرة الإخلاص والتقوى ويسمى (العلم اللّدنّى) يورثه الله لمن أخلص العبودية له ، ولا ينال بالكسب والمشقة ، وإنما هو هبة الرحمن لمن خصّه الله بالقرب والولاية والكرامة.

إن الخضر عليه‌السلام ليس بنبى ، وإنما هو من عباد الله الصالحين ، وأوليائه المقربين ، وقد أظهر الله على يديه هذه الكرامات والأمور الغيبية تعليما للخلق فضل العبودية.

وكرامات الأولياء ، وعباد الله الصالحين ثابتة ، على ما دلت عليه الأخبار ، والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلّا الجاحد ، أو الفاسق الحائد ، فالآيات ما أخبر

٢٩٠

الله تعالى فى حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية فى الصيف ، والصيفية فى الشتاء ، وما ظهر على يدها حيث هزت النخلة ، وكانت يابسة فأثمرت ، وهى ليست بنبيّة ، ويدل أيضا ما ظهر على يد الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام ، وإقامة الجدار (١).

* ويؤخذ من قصة موسى وصاحبه الخضر مجموعة من الحكم والعبر :

أولها : التواضع وعدم الاغترار بالنفس ـ خاصة فى مجال العلم ، لأن العلم هبة من الله ، يهبه لمن يشاء ، وفوق كل ذى علم عليم.

ثانيها : أن العلم يحتاج إلى الجهد والأسفار برا وبحرا من أجل الوصول إليه.

ثالثها : الإعداد للسفر من مأكل ومشرب ـ كما فعل موسى حين جهز حوتا ـ أى سمكة مشوية ، رغم إتكاله على الله.

رابعها : مشروعية أن يكون للمرء مولى يعينه ورفيق يساعده ويؤازره وقت الشدة وفى الأسفار.

بقى أن نقول : إن القرآن المجيد حين يستخدم القصة باختلاف أنواعها ، وفى المناسبات المتباينة ، والأغراض المتعددة ، فإنه يستخدمها وسيلة فى التوجيه والتربية ، وسبيلا إلى الوعظ والإرشاد.

لذلك يمكن القول : «إن القصة القرآنية سجل حافل لجميع التوجيهات الإلهية»

فإذا عرفنا أن القصة القرآنية ـ برغم قلة الألفاظ المستخدمة فى أدائها ـ حافلة بكل أنواع التعبير والعناصر الفنية .. من حوار .. إلى سرد .. إلى تنغيم إيقاعى .. إلى إحياء للشخوص .. إلى دقة فى رسم الملامح ، أدركنا مدى سحر هذا الإعجاز الفنى الناشىء عن القصة القرآنية.

__________________

(١) تفسير القرطبى ١١ / ٢٨

٢٩١

الفصل العاشر

قارون وكنوزه .. إلى الفناء

تمثل قصة قارون ـ فى القرآن الكريم ـ جانب الطغيان بالمال ، والغرور بالعلم ، وكيف أن مآلهما إلى الفناء ، إذا تسلطت الأهواء ، وسيطرت الأطماع ، وتحوّل الإنسان من مجرد مخلوق من مخلوقات الله إلى متجبّر متكبّر ، يعلو بنفسه فوق الناس ، ويزهو ويتعالى عليهم ، وينظر إليهم بمنظار الاستعلاء والاستكبار ..

وقد وردت هذه القصة فى القرآن على سبيل العظة والعبرة ، لإثبات أن كل شىء مآله إلى زوال ، وأن الباقى هو وجه الله ذو الجلال والإكرام.

ورد الحديث عن قارون ـ فى القرآن ـ فى ثلاثة مواضع :

* الموضع الأول : فى سورة العنكبوت ، حيث الإشارة إلى قارون وأفعاله واستكباره ، وقد اقترن اسمه بإسم فرعون مصر ، وهامان وزيره ، الذين ظلموا فأهلكوا ، نتيجة لاستكبارهم عن عبادة الله ، وطاعة رسوله موسى ـ عليه‌السلام ، وبسبب ما اقترفوه من آثام وذنوب فى حق الله والناس. يقول تعالى :

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَما كانُوا سابِقِينَ. فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

[العنكبوت : ٣٩ ، ٤٠]

٢٩٢

أى وأهلكنا قارون لما طغى ، ولم يمتثل أمر الله ، وأهلكنا فرعون وهامان ، ولقد جاءهم موسى بالبينات من عند ربهم ، فاستكبروا فى الأرض ، ولكنهم ما كانوا سباقين وفائتين ، بل أدركهم أمر الله وبطشه ، إن بطش ربك لشديد.

فكلّا من هؤلاء وهؤلاء أخذنا بذنبه ـ إذ كل نفس بما كسبت رهينة ، فمنهم من أرسلنا عليه ريحا حاصبة أهلكته ، وهم قوم لوط ، إنهم كانوا قوما يعملون الخبائث ، ومنهم من أخذته الصيحة بالعذاب كمدين وثمود ، صيحة ترجف الأرض منها والجبال ، فكانت بحق هى الرجفة ، ومنهم من خسفنا به وبداره الأرض ، وهو قارون ، ليكون عبرة لكل طاغية جبار ، ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون لمّا طغوا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد ، وما كان الله ليظلمهم أبدا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

* والموضع الثانى : الذى ورد فيه الحديث عن قارون .. كان فى سورة غافر ، فى مجال الحديث عن موسى ، وما أتى به من الآيات البينات. قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ، فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [غافر : ٢٣ ، ٢٤]

أى ولقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات ، والدلائل الواضحات ، والبرهان البيّن الظاهر ، وهو معجزة اليد والعصا .. (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) أى إلى فرعون الطاغية الجبار ، ووزيره هامان ، وقارون صاحب الكنوز والأموال.

قال فى البحر : وخصّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما فى الكفر ، ولأنهما أشهر أتباع فرعون (١)

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٤٥٩

٢٩٣

* أما الموضع الثالث ، فهو فى سورة القصص ، حيث سرد لنا قصة قارون نفسها كاملة ، مع قومه ، ومع موسى ، وتكبره وتجبره وخيلائه .. وما حدث نتيجة ذلك كله.

والسؤال الآن :

من هو قارون؟ .. وما حجم ثرائه؟ .. وكيف كان سلوكه مع قومه ومع موسى؟ وماذا حدث يوم الزينة؟ .. وما أسباب هلاكه .. وكيف كان هلاكه؟

قال الحق سبحانه ، فى محكم كتابه ، عن قارون :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) [القصص : ٧٦]

ذكر ابن كثير بإسناد عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما قال : «إن قارون كان ابن عم موسى» ووافقه على ذلك عدد من التابعين منهم قتادة ، ومالك ابن دينار ، وابن جريج ، وغيرهم ..

وزعم محمد بن إسحاق .. أن قارون كان عمّ موسى بن عمران عليه‌السلام.

بيد أن أكثر أهل العلم ـ كما قال ابن جريج ـ على أن قارون كان ابن عمه .. والله تعالى أعلم.

* اسمه :

وقد ذكر ابن جريج اسمه فقال : هو قارون بن يعمر بن قاهث. واسم موسى عليه‌السلام : «موسى بن عمران بن قاهث» وهذا دليل يؤكد أن قارون ابن عم موسى وليس عمه. وكان قارون يلقّب «المنوّر» لحسن صوته بالتوراة.

٢٩٤

وتذكر المصادر القديمة .. أنه على الرغم من صلة الرحم بينه وبين موسى ـ إلّا أنه كفر بالله ورسوله موسى ـ ونافق كما نافق السامرى ، فأهلكه البغى لكثرة ماله ، وطغيانه بهذا المال ، حيث جعله وسيلة لمحاربة الله ورسوله.

أضف إلى ذلك تكبره وترفعه على أهله وقومه ، وتعاليه عليهم ، يذكرون أنه زيادة فى التباهى والتعالى ، زاد ثيابه شبرا طولا ، حتى يخالف مظهره مظهر قومه ومعاصريه. وعاش بينهم ولكنه لم يرع لذلك حرمة أو جوارا ، وبغى عليهم حتى جمع ذلك المال الوفير ، الذى كان سببا فى تكبره وتجبره وطغيانه وظلمه لهم.

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)

[القصص : ٧٦]

أى آتاه الله من الأموال المنقولة والثابتة ما إن علمه والإحاطة به ، والمحافظة عليه لتنوء به العصبة من أولى القوة ..

أو بمعنى آخر : وآتيناه من الكنوز والأموال ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولى القوة ـ أى ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها.

ومنشأ هذا الخلاف فى الرأى ، أن المفاتح قد يراد بها العلوم والمعارف نظرا إلى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩]. وقد يراد بها مفاتيح الخزائن المعروفة.

ذكر ابن كثير فى تفسيره : (١) كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الإصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت على ستين بغلا أغرّ محجّلا.

__________________

(١) جزء ٣ ص ٣٩٩

٢٩٥

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦]

أى وعظوه بما هو فيه صالح قومه ، فقالوا : على سبيل النصح والإرشاد ، لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ـ قال ابن عباس : يعنى المرحين وقال مجاهد : يعنى الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.

* لقد قال له قومه على سبيل الوعظ والإرشاد :

(لا تَفْرَحْ .. إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ..)

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ..)

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ..)

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ..)

(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ .. إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

[القصص : ٧٧]

* وهذه خمسة أصول مهمة ، من تمسّك بها ، وعمل بمقتضاها نجا من الدنيا وما فيها.

١ ـ قالوا له لا تفرح بدنياك فرحا مصحوبا بالبطر والأشر ، والفتنة والغرور ، فالدنيا عرض زائل ، وعارية مستردة ، يربح فيها من عرفها ، ويخسر من اغترّ بها (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣]

٢ ـ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، أى استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل ، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك ، والتقرب إليه بأنواع القربات التى يحصل لك بها ثواب فى الدنيا والآخرة.

٢٩٦

نعم .. فالدنيا طريق الآخرة ، وهى المزرعة الباقية ، من زرع فيها الخير حصد ، ومن أضاع عمره فيما لا يرضى ربه ندم ، والعاقل من طلب بدنياه آخرته ، ومن ابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة ، والله سبحانه لا يطالبك بأن تعطى مالك كله ، بل أن تنفق القليل طلبا لرضا الرب الجليل ، ترجع بالخير الكثير ، والجزاء الجزيل.

٣ ـ ولا تنس نصيبك من الدنيا .. أى مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، ولبدنك عليك حقا ، فآت كل ذى حقّ حقه.

نعم .. فهذا هو الطريق الوسط ، والرأى الرشد ـ كما قال النبى المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وتعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» ، فليس من الزهد فى الدنيا حتى تتركها وتعيش عالة على غيرك ، بل الدين يطالبك بالعمل والجد ، والغنى من طريق حلال ، فإذا جمعت المال فاعط حق الله فيه ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، أى تمتع ببعضه بلا إسراف ولا تقتير ، فهذا هو النظام المحكم الدقيق الذى وضعه الحكيم البصير.

٤ ـ وأحسن كما أحسن الله إليك .. أى أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ، والإحسان هو الإتقان فى العمل ، وهو يقتضى إعطاء كل ذى حق حقه.

٥ ـ ولا تبغ الفساد فى الأرض .. أى لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به فى الأرض ، وتسىء إلى خلق الله بالظلم أو العسف أو الكبر ، أو الإضرار بالناس ، فكل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ، إن الله لا يحب المفسدين بأى شكل.

٢٩٧

* بيد أن قارون أبى أن يقبل هذا النصح ، لأنه غير موفق ، بل زاد عليه ...

(قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨]

يحدثنا القرآن عن جواب قارون لقومه حين نصحوه ، وأرشدوه إلى الخير ، أنه قال : أنا لا أفتقر إلى ما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطانى هذا المال لعلمه بأنى أستحقه ، ولمحبته لى ، فتقديره : إنما أعطيته لعلم الله فىّ أنى أهل له. وهذا كقوله تعالى :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ : إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر : ٤٩] أى على علم من الله بى ، وكقوله تعالى :

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) [فصلت : ٥٠] أى هذا استحقه.

يريد أن يقول : أنه أوتى المال على علم عنده بوجوه الكسب ، وطرق الزيادة وإنماء المال .. أى إنما أوتيت هذا المال لفضل علمى ، وتمام جهدى وتجاربى ، فليس لأحد حق فى هذا المال ، وكأنه ينكر إنعام الله عليه بتلك الأموال لاستحقاقه لها عن جدارة ، فهو حرّ التصرف.

* وقد روى عن بعضهم أنه أراد (بالعلم الذى عنده) أنه كان يمارس علم الكيمياء

يقول ابن كثير : «وعلم الكيمياء فى نفسه علم باطل ، لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلّا الله عزوجل قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣]

٢٩٨

وفى الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة».

وقد ورد فى المصوّرين الذين يشبهون بخلق الله فى مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل ، فكيف بمن يدعى أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ، هذا زور ومحال ، وجهل وضلال. وإنما يقدرون على الصبغ فى الصورة الظاهرة ، وهى كذب وزغل ، وتمويه وترويج ، أنه صحيح فى نفس الأمر ، وليس كذلك قطعا لا محالة ، ولم يثبت بطريق شرعى أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التى يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون.

فأما ما يجريه الله ـ سبحانه ـ من خرق العوائد على يدى بعض الأولياء ، من قلب بعض الأعيان ذهبا أو فضة ـ أو نحو ذلك ـ فهذا أمر لا ينكره مسلم ، ولا يردّه مؤمن.

ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات ، وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسماوات ، واختياره وفعله ـ كما روى عن حيوة بن شريح المصرى ـ رحمه‌الله ـ أنه سأله سائل ، فلم يكن عنده ما يعطيه. ورأى ضرورته ، فأخذ حصاة من الأرض ، فأجالها فى كفّه ، ثم ألقاها إلى ذلك السائل ، فإذا هى ذهب أحمر. والأحاديث والآثار فى هذا كثيرة جدا ، يطول ذكرها.

* وقال بعضهم : إن قارون كان يعرف الإسم الأعظم ، فدعا الله به فتموّل بسببه ، أى أنه استغل علم السحر فى اكتساب الأموال. والصحيح المعنى الأول ..

ولهذا قال الله تعالى رادا عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨]

٢٩٩

أى قد كان من هو أكثر منه مالا ، وما كان ذلك عن محبة منّا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم ، وعدم شكرهم ، ولهذا قال : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أى لكثرة ذنوبهم.

* وقد أجاد فى تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن سلم ، فإنه قال فى قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) قال : لو لا رضا الله عنى ، ومعرفته بفضلى ما أعطانى هذا المال. وقرأ (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً)

وهكذا يقول من قلّ علمه ، إذا رأى من وسّع الله عليه ؛ لو لا أن يستحق ذلك لما أعطى.

* ولقد ردّ الله عليه أبلغ رد ـ حيث قال ما معناه : أعنده مثل هذا العلم الذى افتخر به وتعاظم ، ورأى نفسه مستوجبة كل نعمة ، ولم يعمل به حتى يقى به نفسه مصارع السوء ، التى أهلك الله بها الطغاة المتجبرين ، الذين هم أشد منه قوة وأكثر مالا وعددا ، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون.

إن الإنسان يجب عليه ألا يغتر بماله وأولاده ، وجموعه ، مهما كانت ، فإن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، ولنعلم أن الأيام دول ، وأن الدهر قلّب ، وليعتبر بما حصل فى الماضى ، وليحصن ماله بالإنفاق.

* ويحدثنا القرآن عن حال قارون مع قومه ، ومظاهر العظمة التى كان يحاول أن يضفيها على نفسه للتأثير فيهم وإبهارهم ، وبلبلة آرائهم.

يقول : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا : يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ـ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ)

[القصص : ٧٩ ، ٨٠]

٣٠٠