دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

المعنى .. ولقد أرسلنا إلى قبيلة مدين شعيبا ، نبيّا فيهم ، وهو من أشرفهم ـ فقال : يا قوم اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم من إله غيره ، هو الذى خلقكم ، وخلق كل شىء لكم ، قد جاءتكم بينة من ربكم وآية دالة على صدقى ، فأوفوا الكيل إذا كلتم ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم فى بيع أو شراء ، أو حقّ مادى أو معنوى.

أمرهم شعيب بالوفاء فى الكيل والوزن ، ونهاهم عن نقص الناس شيئا من حقوقهم بعد الأمر بعبادة الله مباشرة ، وذلك لأن هذه الخصلة كانت فاشية فيهم. فقد كانوا من المطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس وأخذوا حقهم يستوفون ، وإذا كالوهم وباعوا إليهم شيئا ينقصون ويبخسون ، وهذا مرض نفسى ، وداء إذا تفشى فى أمة قضى عليها وأزال ملكها وعزّها.

وقال شعيب : يا قوم ـ لا تفسدوا فى الأرض بأى نوع من أنواع الفساد ، كالظلم والرشوة ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وارتكاب الإثم والفواحش ، وإفساد المجتمع لشيوع الانحلال الخلقى. ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها ، وقد أصلحها الله بما فطر الناس على حب الخير ، وبما أودع فيهم من الميل إلى الرشاد ، وبما أرسل فيهم من الرسل والهداة والمرشدين ، فعليكم ألا تفسدوا فيها بالبغى والعدوان على الأنفس والأموال والعقول والأعراض ، ذلكم الذى أتيتكم من أجله ، هو خير لكم فى الدنيا والآخرة ، وهو مجلبة للسعادة فى الدارين ، إن كنتم مؤمنين حقّا بى وبرسالتى.

وهكذا العلم وحده لا ينفع فى قمع النفس وردّها عن البشر بل لا بد معه من إيمان قلبى ، وتصديق روحى خالص ، ومخالفة للنفس والهوى.

وقوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذه دعوة الرسل كلهم ، قد جاءتكم بيّنة من ربكم ، أى قد أقام الله الحج والبينات على صدق

٢٦١

ما جئتكم به. ثم قال تعالى إخبارا عن شعيب : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ـ وَتَبْغُونَها عِوَجاً ، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ٨٦]

ينهاهم شعيب ـ عليه‌السلام ـ عن قطع الطريق الحسى والمعنوى بقوله (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أى تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم .. حيث كان هؤلاء المكذبون يقعدون على الطريق يرصدون الناس الذين يأتون إلى شعيب ليصدوهم عن الدين ، ويمنعوهم عن الإيمان بالله ، ويتوعدون من اتبعه بأنواع التهديد والوعيد ، ولما ألح عليهم شعيب فى الدعوة والموعظة جاهروه بالعداء.

وقوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أى وتودون أن تكون على سبيل الله عوجا مائلة ..

يقول شعيب : ولا تقعدوا يا قوم فى الطرقات تنهون الناس عن الإيمان ، وتخوفونهم عاقبته ، وتتوعدونهم بالشر إن آمنوا ، كما ورد فى حديث ابن عباس : «ولا تصدّوا عن سبيل الله من آمن به من النّاس» ، ولا تطلبوا اعوجاجا لسبيل الله ودينه بما تصفون وبما تكذبون ، وبما تشوهون الحقائق ، وتفترون على الله الكذب.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أى كنتم مستضعفين لقلّتكم فصرتم أعزّة لكثرة عددكم ، فاذكروا نعمة الله عليكم فى ذلك. (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصى الله ، وتكذيب رسله. أى واذكروا نعم الله عليكم وقت أن كنتم قلة من المال والرجال والسطوة ، فبارك فيكم ، وزاد مالكم ونما ، وكثر عددكم وربا ، مع الجاه والقوة ، وانظروا نظرة عبرة وعظة ، كيف كان عاقبة المفسدين الظالمين من قوم عاد وثمود ، وقوم لوط.

٢٦٢

وقوله : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [الأعراف : ٨٧]

أى قد اختلفتم علي (فَاصْبِرُوا) أى انتظروا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) وبينكم أى يفصل (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين.

ويقول : وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وصدقوا ، وكانت هناك طائفة لم يؤمنوا ، وهذا شأن الناس قديما وحديثا ... إن كان هذا فاصبروا أيها المؤمنون حتى يحكم الله ، ويقضى بيننا ، وهو الحكم العدل ، وقد حكم بنصرة عباده المؤمنين ، وهلاك الظالمين المفسدين ، وهو خير الحاكمين.

مناقشة قومه له وردّه عليهم :

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧]

يقولون له على سبيل التهكم ـ قبحهم الله ـ (أَصَلاتُكَ) أى قراءاتك (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أى الأوثان والأصنام (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) فنترك التطفيف عن قولك ، وهى أموالنا نفعل فيها ما نريد.

قال الحسن ، فى قوله (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ :) أى والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم ، وقال الثورى فى قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) يعنون الزكاة.

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال ابن عباس : يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبّحهم الله ولعنهم عن رحمته ، وقد فعل.

٢٦٣

ومضمون الآية : يا شعيب أصلاتك تقضى بتأثيرها فيك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من أصنام نتخذهم قربى إلى الله؟ ولست أنت خيرا منهم حتى نتركهم ونتبعك ..

والاستفهام فى الآية للإنكار والسخرية بشعيب. يقولون : أصلاتك تأمرك أن نترك ما نفعله فى أموالنا من تنمية واستغلال على حسب نشاطنا واجتهادنا ، أليس هذا حجرا على حريتنا ، وحدّا لنشاطنا؟ إنك يا شعيب لأنت الحليم المتأنى فى حكمه ، العاقل ، المتروى ، والرشيد الذى لا يأمر إلّا بما استبان له فيه وجه الخير والرشاد. وهذا التأكيد الكثير فى كلامهم يفيد الاستهزاء والتعريض به.

فماذا كان رد شعيب عليهم؟

(قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ـ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨]

قال لهم : أرأيتم يا قوم إن كنت (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أى على بصيرة فيما أدعو إليه ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ..) قيل : أراد النبوة ، وقيل : أراد الرزق الحلال ، ويحتمل الأمرين.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أى لا أنهاكم عن الشىء وأخالف أنا فى السر فأفعله خفية عنكم ، أى لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أى فيما آمركم وأنهاكم ، إنما أريد إصلاحكم جهدى وطاقتى (وَما تَوْفِيقِي) فى إصابة الحق فيما أريده (إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فى جميع أمورى (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أى أرجع.

٢٦٤

* عن حكيم بن معاوية عن أبيه ـ أن أخاه مالكا قال : يا معاوية .. إن محمدا أخذ جيرانى ، فانطلق إليه ، فإنه قد كلمك وعرفك ، فانطلقت معه فقال : دع لى جيرانى فقد كانوا أسلموا ، فأعرض عنه ، فقام مغضبا فقال : أما والله لئن فعلت .. إن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إلى غيره ، وجعلت أجرّه وهو يتكلم ، فقال رسول الله : ما تقول؟ ، فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره ، قال : فقال : «أو قد قالوها .. أى قائلهم؟ ولئن فعلت ما ذاك إلا علىّ وما عليهم من ذلك من شىء ، أرسلوا له جيرانه» [رواه أحمد]

ومن هذا القبيل .. الحديث الذى رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبى حميد ، وأبى أسيد قالا :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذ سمعتم الحديث عنّى تعرفه قلوبكم ، وتلين أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عنىّ تنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه» [رواه البخارى ومسلم]

* وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لى أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إنى أسألك من فضلك».

ومعناه ـ والله أعلم ـ مهما بلغكم عنى من خير فأنا أولاكم به ، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه.

* وفى قوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ذكر مسروق : جاءت إمرأة إلى ابن مسعود فقالت : تنهى عن الواصلة؟ قال نعم : قالت : فعله بعض نسائك ، فقال : ما حفظت وصية العبد الصالح إذا. وقرأ الآية.

٢٦٥

وقال أبو سليمان الضبى : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز ، فيها الأمر والنهى ، فيكتب فى آخرها «وما كنت من ذلك إلّا كما قال العبد الصالح (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.)

ومضمون الآية : يا قوم أخبرونى ماذا أفعل معكم ومع نفسى؟ إن كنت على يقين تام ، وحجة واضحة من ربى تفيد أن ما آمركم به هو من عند الله ، لا من عند نفسى ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد رزقت من فضله وخيره رزقا حسنا كثيرا ، حصل لى من طريق الكسب الحلال ، فأنا رجل ملىء وخبير بما ينمى المال ، وأخبرونى ماذا أفعل ، وماذا أقول لكم غير الذى قلت؟

وما أريد أن أخالفكم مائلا إلى ما نهيتكم عنه ، بل أنا مستمسك به قبلكم ، لأنى أريد فيه الخير والرشاد فى الدنيا والآخرة ، وأنا ما أريد إلا الإصلاح والخير لى ولكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ليس لى فيما أفعل غرض خاص.

ومن هنا يؤخذ أن العاقل يجب أن يكون عمله مراعيا فى حق الله ورسوله ، وحق نفسه ، وحق الناس عليه ، وما توفيقى وهدايتى إلى الخير إلا بالله وحده ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، إذ هو المرجع والمآب ، والنافع والضار ، لا أرجو منكم خيرا ، ولا أخاف ضرّا.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود : ٨٩ ، ٩٠]

يقول لهم شعيب : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أى لا تحملنكم عداوتى وبغضى على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط من النقمة والعذاب.

٢٦٦

قال السدى : لا يحملنكم عداوتى على أن تمادوا فى الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم.

* عن ابن أبى ليلى الكندى قال : كنت مع مولاى أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا داره ، فقال : (يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ ، أَوْ قَوْمَ هُودٍ ، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ..) يا قوم لا تقتلونى إنكم إن قتلتمونى كنتم هذا ـ وشبك بين أصابعه [ابن كثير ٢ / ٤٥٧]

وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قيل فى الزمان. قال قتادة : يعنى إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس ، وقيل فى المكان ، ويحتمل الأمران. (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من سالف الذنوب ، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) لمن تاب.

* تهديد شعيب بالإخراج من بلده .. وبالرّجم

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا .. قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) [الأعراف : ٨٨]

هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيّه شعيبا ، ومن معه من المؤمنين فى توعدهم إياه ومن معه بالنفى عن القرية ، أو الإكراه على الرجوع فى ملّتهم ، والدخول معهم فيما هم فيه ، وهذا خطاب من الرسول ، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.

وقوله (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟) يقول : أو أنتم فاعلون ذلك. ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه ، فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفرية على الله فى جعل الشركاء معه أندادا. وهذا تنفير منه عن اتباعهم (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩]. وهذا ردّ إلى الله المسبب ، فإنه يعلم كل شىء وقد أحاط بكل شىء (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أى فى أمورنا ما نأتى منها وما نذر.

٢٦٧

وتقدير الكلام : أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده ، والوفاء بالكيل والميزان ، وعدم الفساد فى الأرض ، فما كان من أشراف قومه ، الذين استكبروا عن الإيمان بالله ورسله ، وعاثوا فى الأرض فسادا إلّا أن قالوا : تالله لنخرجنّك يا شعيب ، والذين آمنوا معك من بلادنا حتى تسكن الفتنة ، وتهدأ الثورة التى أثرتموها باتخاذكم دينا غير دين الآباء والأجداد ، ليكوننّ أحد الأمرين : إما إخراجكم من القرية ، وإما عودتكم فى ملّتنا ، ودخولكم فى زمرتنا وجماعتنا.

قال شعيب : عجبا لكم إذ تأمروننا أن نعود فى ملتكم ، أنعود ولو كنا كارهين؟ .. إنكم تجهلون موقفنا ، وتأثير العقيدة فى نفوسنا ، فطلبتم منا هذا الطلب.

وردّ عليهم شعيب فى الأمر الثانى المهم فقال :

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)

[الأعراف : ٨٩]

قال : لقد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم ، ملة الكفر والضلال ، إذ الكافر يختلق على الله الكذب ، حيث يدعى أن له شريكا وولدا ، بل المرتد أعظم جرما ، وأكثر كذبا ، حيث يوهم غيره أنه رجع بعد معرفة الحقيقة والواقع ، أنعود إلى ديانتكم بعد أن نجانا الله منها؟ إن هذا لشىء عجيب.

ما أعظم كذبنا وكفرنا ـ إن عدنا فيها بعد أن نجّى الله أصحابى منها وأنا معهم ، وما ينبغى أن نعود فيها أبدا ، ولا يقدر أحد على تحويلنا إليها فى حال من الأحوال ، إلّا فى حال مشيئة الله ربنا ، إذ هو المتصرف فى أمرنا ، وهذا رفض أبلغ. والله واسع العلم ، كثير الفضل ، أعلم بخلقه ، لا يشاء إلّا الخير لهم ،

٢٦٨

هذا اعتقادهم فى الله على أنهم قوم مؤمنون حقا ، لا يهمهم تهديد ، ولا يخوّفهم وعيد ، ويقولون : على الله توكّلنا ، وإليه أنبنا ، وما عداه .. فشىء لا يعبأ به أبدا.

وهذا رفض آخر بالدليل.

ثم دعا شعيب ربه لما يئس من قولهم ، فقال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أى أحكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أى خير الحاكمين ، فإنّك العادل الذى لا يجور أبدا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الذى مضت به سنّتك فى التنازع بين المرسلين والكافرين ، بل وبين كل محق ومبطل ، وأنت خير الحاكمين عدلا وإحاطة ونزاهة سبحانك أنت الحكم العدل.

وقالوا أيضا ـ فى سورة هود ـ يهددون شعيبا :

(يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١]

قالوا : (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) أى ما نفهم كثيرا من قولك (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لأنه كان ضرير البصر. قال السدى : أنت واحد ، يعنون ذليلا ، لأن عشيرتك ليسوا على دينك.

(وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أى لو لا قومك ، ومعزتهم علينا لرجمناك بالحجارة ، لسببناك (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أى ليس عندنا لك معزّة.

مضمون الآية : قالوا يا شعيب ما نفهم كثيرا مما تقول فهما عميقا ، ولا نفهم له معنى ولا حكمة ، وإنا لنراك فينا ضعيفا لا حول لك ولا قوة ، فكيف يقبل منك هذا الذى يوصلك إلى الرياسة فى الدين والدنيا ، على أنا لو أردنا البطش بك ما منعنا مانع ، ولو لا عشيرتك الأقربون لفتكنا بك فتكا يتناسب مع عملك معنا من ذم آلهتنا ، وطلبك الحجر علينا فى تصرفنا ، أى نقتلك رجما بالحجارة ، وما أنت علينا بعزيز.

٢٦٩

قال شعيب رادا عليهم :

(قالَ يا قَوْمِ .. أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [هود : ٩٢]

* قال : أتتركونى لأجل قومى ، ولا تتركونى إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيّه بمساءة وقد اتخذتم كتاب الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أى نبذتموه خلفكم ، ولا تطيعونه ، ولا تعظمونه (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أى هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم.

* يا قوم .. أرهطى وأسرتى أعز وأكرم عليكم من الله ، الذى أدعوكم إليه ، وأشركتم به ، وجعلتم مراقبته والخوف منه ، وأمره ونهيه وراءكم ظهريّا ، كالأمر الذين يهون على صاحبه فينساه ، ولا يحسب له حسابا ، إن ربى بما تعملون محيط علما ، فسيجازيكم على عملكم.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) [هود : ٩٣]

قال شعيب بعد أن يئس من استجابتهم ـ يا قوم (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أى على طريقتكم ، وهذا تهديد شديد. (إِنِّي عامِلٌ) على طريقتى ، وغدا سوف تعلمون الذى سوف يأتيه عذاب يخزيه ويذلّه فى الدنيا والآخرة ، ومن هو كاذب فى قوله (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) وانتظروا مراقبين من سيقع عليه العقاب ، إنى معكم من المنتظرين.

* وهذا الأمر (اعْمَلُوا) .. و (ارْتَقِبُوا) للتهديد والوعيد ممن وثق بربّه وبوعده.

٢٧٠

* العقاب .. ووقوع العذاب .. وقال الكافرين

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٠]

يخبرنا الحق ـ تعالى ـ عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم ، وما هم فيه من الضلال ، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ، ولهذا أقسموا وقالوا : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) فلهذا عقبه الله بقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ.)

لقد قال الملأ الذين كفروا ـ وهم عيون مدين وأشرافهم ، قالوا للمستضعفين المؤمنين : تالله لئن اتبعتم شعيبا وآمنتم به ، إنكم إذا لخاسرون شرفكم حين تركتم دين آبائكم إلى دين لم تعرفوه ولم تألفوه ، وخاسرون دنياكم حيث تركتم ما به ينمو ما لكم ، ويزيد من التطفيف فى الكيل وأكل أموال الناس.

ولقد كان وصفهم (بالاستكبار) أولا لمناسبة التهديد بالإخراج من الديار.

ووصفهم هنا (بالكفر) يناسب الضلال والصدّ عن سبيل الله.

* وأما جزاؤهم .. فأخذتهم الرجفة ، وعمّتهم الصيحة ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، حتى أصبحوا جثثا هامدة ، جاثمين فى مكانهم لا حراك فيهم.

وفى ذلك يقول الحق سبحانه : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٩١] حيث أخبر سبحانه أنهم أخذتهم الرّجفة ، وذلك كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء.

كما أخبر عنهم الحق فى سورة هود فقال :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود : ٩٤]

٢٧١

والمناسبة هناك .. أنهم لما تهكّموا به فى قولهم (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) الآية ـ فجاءت الصيحة فأسكتتهم

وقال تعالى ـ إخبارا عنهم فى سورة الشعراء : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٨٩] وما ذاك إلا لأنهم قالوا فى سياق القصة (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة .. وقد اجتمع عليهم ذلك كله :

أصابهم (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وهى سحابة أظلتهم ، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجّة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

* وبمعنى آخر :

لقد ذكر الحق سبحانه فى «سورة هود» أنه أتتهم الصيحة ، وفى الأعراف الرجفة ، وفى الشعراء عذاب يوم الظلة ، وهم أمة واحدة ، مدين أصحاب الأيكة ، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النّقم كلها.

وإنما ذكر الله فى كل سياق ما يناسبه :

ففى سورة الأعراف : لما قالوا (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) ناسب أن يذكر الرجفة ، فرجفت بهم الأرض التى ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها.

وفى سورة هود : لما أساءوا الأدب فى مقالتهم على نبيّهم ، ذكر الصّيحة التى استلبثتهم وأخمدتهم وفى سورة الشعراء ـ لما قالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال الحق سبحانه : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

٢٧٢

وهذا من الأسرار الدقيقة فى كتاب رب العالمين ، وهذا ما يطلق عليه «علم المناسبة»

ومضمون القول : ولما جاء أمرنا ، وحانت ساعة التنفيذ ، نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة خاصة بهم ، وما ذلك على الله بعزيز ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة التى أخذت ثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وجوههم منكبة على الأرض كالطير الجاثمة ، وأصبحت ديارهم خاوية على عروشها ، كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات.

ثم قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)

[هود : ٩٥]

أى كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التى أرادوا إجلاء شعيب وصحبه منها ، ثم قال تعالى : مقابلا لقيلهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وكان قوله سبحانه : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً ..) الآية على سبيل الحصر ، ردّا عليهم فى قولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) وحقا الكافرون هم الذين خسروا فى الدنيا والآخرة دون سواهم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) [الأعراف : ٩٣] أى فتولى عنهم شعيب ـ عليه‌السلام ـ بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال ..

وقال مقرّعا لهم وموبّخا : يا قوم : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أى قد أديت إليكم ما أرسلت به ، فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به ، فلهذا قال : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)؟

والمعنى : وأما شعيب فقد تولى عنهم ، وأعرض قائلا يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ، وبلغتكم ما فيه صلاحكم فى المعاش والمعاد ، ونصحت لكم ،

٢٧٣

ومن بشّر وأنذر فقد أعذر ، ومن أعذر فكيف يحزن على قوم عصوه ، ولم يؤمنوا؟ .. وكانوا كافرين؟

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف : ٩٤ ، ٩٥]

يقول الحق سبحانه ، مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية ، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء ـ يعنى بالبأساء ما يصيبهم فى أبدانهم من أمراض وأسقام ، والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ، ونحو ذلك ، لعلهم يضرعون ، أى يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى فى كشف ما نزل بهم. وتقدير الكلام .. أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئا من الذى أراد منهم ، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ، ليختبرهم فيه ، ولهذا قال : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أى حولنا الحال من شدة إلى رخاء ، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ، ومن فقر إلى غنى ، ليشكروا على ذلك ، فما فعلوا.

وقوله : (حَتَّى عَفَوْا) أى كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ، فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله ، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا ، وقالوا قد مسّنا من البأساء والضراء ، ثم بعده من الرخاء ، مثل ما أصاب آباءنا فى قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات ، بل لم يفطنوا لأمر الله فيهم ، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم فى الحالين ، وهذا بخلاف حال المؤمنين ، الذين يشكرون الله على السراء ، ويصبرون على الضراء ، كما ثبت فى الصحيحين :

«عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلّا كان خيرا له ، إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له» [رواه البخارى]

٢٧٤

* فالمؤمن من يتفطّن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، ولهذا جاء فى الحديث النبوى الشريف :

«لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدرى فيم ربطه أهله ، ولا فيم أرسلوه» أو كما قال.

ولهذا عقب هذه الصفة بقوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى أخذناهم بالعقوبة بغتة ، أى على غفلة وعدم شعور منهم .. أى أخذناهم فجأة ـ كما فى الحديث الشريف :

«موت الفجأة رحمة للمؤمن ، وأخذة أسف للكافر»

ومضمون الآية : وما أرسلنا فى قرية من القرى ، ولا مدينة من المدن ، ما أرسلنا فيها رسولا ثم كذب أهلها وعصوا إلّا أخذناهم بالشدة والمكروه ، وما أصابتهم سنين عجاف ، لعلهم بهذا يتضرعون ويلتجئون إلى ربهم ، وهكذا سنة الله فى الخلق ، ولن تجد لسنة تبديلا ، يرسل الشدائد لعلها ترجع الإنسان إلى ربّه ، وترده عن غيّه ، ولكن كثيرا من الناس لا تردعهم الروادع ، فهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى :

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٤٣] ثم أعطينا بدل الشدة سعة ، ومكان الفقر والضيق غنى وفضلا ، حتى عفوا وكثروا فى المال والعدد ، فالله سبحانه يريهم الحالتين ، ويمكّن لهم فى الجهتين ، لعلهم يعتبرون ، ولكن العصاة يقولون : هؤلاء آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء ، وحلّ بهم الضيق والفرج ، والعسر واليسر ، وما نحن إلّا مثلهم.

وهذا قول من لم يعتبر ويتعظ بأحداث الزمن. أليس ما هم فيه ابتلاء واستدراج؟

٢٧٥

ألم يعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ وهم مع ذلك قد أعرضوا ونأوا ، واستكبروا وبغوا ، فكان جزاؤهم ما ذكره الحق سبحانه : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) وحل بهم العذاب فجأة ، وهم فى غيّهم سادرون ، وفى عمايتهم لاهون ، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٩٦]

يخبر المولى ـ جل جلاله ـ عن قلة إيمان أهل القرى ، الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] أى آمنت قرية بتمامها إلّا قوم يونس فإنهم آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب. كما قال سبحانه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات : ١٤٧ ، ١٤٨]

وقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أى آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل ، وصدقت به واتبعوه ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أى قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبُوا ـ فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أى ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

هذا نظام الله فى الكون ، وتلك سنته مع الخلق قديما وحديثا ، فاعتبروا واتعظوا أيها الناس ، خاصة أنتم يا زعماء الشرك .. ولو أن أهل القرى ، التى كذبت رسلها ، ولم تؤمن بربها ، لو أنهم بدل الكفر آمنوا ، ومكان العصيان اتقوا ، لفتح الله عليهم أنواع الخير من السماء والأرض ، كالعلوم والهداية ، والوحى

٢٧٦

والإلهام ، وكذا المطر والسحاب ، وسهل عليهم خير الأرض من نبات ومعادن ، وخصب وكنوز .. لو أنهم آمنوا ليسّر الله لهم كل خير من كل جانب ، ولكن كذبوا وكفروا ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر بما كانوا يكسبون ، فعلوا ما فعلوا فأخذهم الله بغتة.

* أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ، وينزل بهم عذابنا ، وهم بائتون ونائمون .. وفى ذلك يقول رب العزة : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨]

يقول الحق سبحانه مخوفّا ومحذّرا من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) أى الكافرين (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أى عذابنا ونكالنا (بَياتاً) أى ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أى فى حال شغلهم وغفلتهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ـ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.) ولهذا قال الحسن البصرى ـ رحمه‌الله :

«المؤمن يعمل بالطّاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصى وهو آمن»

ومضمون الآيات : أو أمن أهل القرى أن يأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون ، فإن من يأتى من الأعمال مالا فائدة فيه فهو لاعب ولاه ، أى إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر. أفأمنوا مكر الله .. وقد كرر الاستفهام الإنكارى لزيادة التوبيخ ، وهو معطوف على قوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) ولهذا كان (بالفاء). ومكر الله عبارة عن جزائه ، وأخذه العبد إذا طغى من حيث لا يشعر مع استدراجه والإملاء له ، فعلى العاقل ألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه فى الجنة.

٢٧٧

والمعنى : إيأخذهم ربك بغتة فى الليل أو الضحى ، فأمنوا مكر الله؟ ـ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

أجهل هؤلاء الناس ، الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ـ بعد هذا البيان الكامل ، أن سنة الله فى الخلق لا تتغير؟ أكان ما ذكر ولم يتبين لهم أن شأننا معهم كشأننا مع من سبقهم ، فلو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا أمثالهم من قبل بغتة وهم لا يشعرون ، ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع قول وتدبر (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١]

تلك القرى التى مر عليك ذكرها ـ يا محمد ـ نقصّ عليك بعض أنبائها وأخبارها مما فيه عبرة وعظة وتسلية ، ولقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات ، والمعجزات الخارقات ، ولكنهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، أى فى بدء الدعوة ، ولم تنفعهم الآيات الدالة على صدق الرسل ، مثل ذلك الطبع الذى طبعه الله على قلوب الكافرين ، من تلك الأمم يطبع الله على قلوب الكافرين من أمة الدعوة ، فلا تأس عليهم ، ولا تحزن على كفرهم ، وما وجدنا لأكثرهم عهدا وفوا به ، سواء كان عهد فطرة ، أو عهد شرع أو عرف ، وفى التعبير (بأكثرهم) إيماء إلى أن البعض قد آمن ووفى بعهده.

إن قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ مع قومه أصحاب الأيكة ـ لهى قصة الحث على المعاملة الطيبة ابتغاء مرضاة الله.

وإن الباحث المتأمل ـ فى كتاب الله ـ يجد أن مما جاء فى القصص ـ أن دعوة النبيين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ جاءت للخير إلى حسن التعامل ، وإصلاح الأرض ، وأن إصلاح الأعمال والنفوس ، ومنع الفساد فى الأرض من أعظم المقاصد فى الشرائع السماوية بعد عبادة الله تعالى ، والإيمان باليوم الآخر.

٢٧٨

وإذا كان ذلك فى ضمن قصة استمكنت فى النفس ، واتجهت إلى مداخلها من غير تعويق من ملاحاة جديدة ، غير ما كان فى عهد النبى الذى ذكرته القصة.

ونظرة فاحصة فى قصة شعيب ـ كما ذكرها القرآن ـ يتضح منها أنها دعوة صريحة إلى ناحية عملية تتصل بالإصلاح الاجتماعى ، ومنع الفساد فى الأرض ، والقيام بحق الأمانة فى التعامل ..

وفى مواضع عدة ـ من قصة شعيب ـ نجده يكرر الدعوة ، ثم يبين سبحانه كيف تقاوم دعوة الحق بالإصرار على الشر ، وكيف كان الإصرار عليه إلى أن يديل الله تعالى بما ينزل بالعصاة ، وبما يؤدى إلى فساد أخلاق الأمة ، لقد قال الله تعالى ـ حكاية لقول شعيب :

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الآيات : ٨٤ ـ ٨٦ من سورة هود]

ونرى من هذه المجاوبة أنهم يصرون على ما هم عليه ، ويعدون إرشادهم إلى الحق فى المعاملة تدخلا فى شئونهم المالية ، وكأنهم يظنون أن شئون المال لا صلة لها بالتدين ، كما يجرى على ألسنة بعض الذين لا يريدون بالدين الحق وقارا.

ويبين شعيب ، أنه إذ ينهاهم ـ وهو أول من يتمسك بألا يفعل ما نهى عنه إذا يقول : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وفى ذلك إشارة إلى أن من يدعو إلى أمر ، يهدمه إن خالفه فى عمله ، وأن الاستجابة إلى الداعى إلى الخير تقتضى أن يكون الداعى مستجيبا له ، وهكذا. فإن الله تعالى يأخذ على بنى إسرائيل أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، فقد قال تعالى :

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤] صدق الله العظيم

٢٧٩

الفصل التاسع

نبىّ الله موسى ... وصاحبه الخضر

من أبرز سمات القصص القرآنى .. أن فيه العبرة والعظة ، فما من قصة ذكرت فى القرآن المجيد ، إلّا كان معها عبرة أو عبر ، وفيها المثلات لمن عصوا وتركوا أمر ربهم ، وفيها ما نزل بالأقوياء الذين غرّهم الغرور ، والجبابرة الذين طغوا فى البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، والمؤمنين الصابرين الطائعين لتعاليم ربهم ، وأولى العزم من الرسل.

إن القصص القرآنى فيه إيناس للنبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت لقلبه بأخبار إخوانه المصطفين الأخيار ، وإثبات لقوله ، فتلك الأخبار الصادقة ما كانت لتعلم إلّا لمن شاهد ، وما شاهد أحداثها وهو لا يزال فى بطن الغيب ، كما قال سبحانه وتعالى عقب قصة مريم :

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤]

وكما قال فى قصة موسى عليه‌السلام ووقائعها :

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

[القصص : ٤٤ ـ ٤٦]

٢٨٠