دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

٢ ـ التفسير الإجمالى

اللون الثانى من التفسير .. هو الذى يعمد فيه الباحث المفسر ، إلى الآيات القرآنية ، على ترتيب تلاوتها ، أو وضعها فى المصحف ، فيقصد إلى معانى جملها ، متتبعا ما ترمى إليه من مقاصد ، وما تهدف إليه الجمل من أهداف ، ويتوخى المفسر فى عرضه لهذه المعانى ، وضعها فى إطار من العبارات ، التى يصوغها من ألفاظه ، ووضعها فى قوالب تقربها من الأفهام ، وتجعلها مفهومة متداركة من القارئين أو السامعين.

والمفسر ـ فى هذا المنهج الإجمالى ، إذ يسير على نهج القرآن فى ترتيبه ، يجعل المعانى بعضها متصلا ببعض. وهو إذ يلفظ بعبارته التى صاغها من ألفاظه ، يأتى بين الحين والحين بلفظ من ألفاظ القرآن ، حتى يشعر السامع أنه لم يكن بعيدا ـ فى تعبيره ـ عن سياق القرآن ، وحتى يحقق التفسير من جانب ، ويكون رابطا نفسه بنظم القرآن من جانب آخر ، ويكون فى الموضوع الذى يغرب ، أو يصعب فيه لفظ القرآن ، آتيا بلفظ يكون أوضح عند السامعين ، وأيسر فى الفهم عند القارئين ، وفى المواضع التى يعبر فيها بألفاظ القرآن تكون تلك الألفاظ واضحة المعنى ، بيّنة المقصود ، وبذلك يكون فيما جاء به من ألفاظ موضحا للمقصود.

وهذا اللون من التفسير الإجمالى ، أشبه ما يكون بالترجمة المعنوية ، التى لا يتقيد فيها المترجم بالألفاظ والجمل ، وإنما يقصد بها إلى توضيح المعنى ، وإبراز مراميه وتجليتها فى بيان المقصود من جملها وتراكيبها.

٤١

وقد يضيف إلى ذلك تلميحات من إيجاز لحادثة تاريخية ، أو سبب نزول ، أو حديث نبوى ، أو أثر عن السلف ، حتى يحقق بهذه الإضافات الفائدة المرجوّة من تفسيره.

وهذا النوع من التفسير شفهى فى معظمه ، وأكثر المفسرين على هذا النمط هم المحدّثون ، روّاد الإذاعة والتليفزيون ، خاصة فيما يتصل بتقدمة التلاوة. والقصد منه ، إعطاء فكرة إجمالية عما سيتلوه القارىء من القرآن الكريم ، حتى يكون السامع للقرآن مدركا لمعانيه ، واعيا لمقاصده ، ملمّا بأطرافه ، مدركا لمغزاه ، وبذلك لا يكون سماع القرآن مقصورا على جمال المقاطع ، وإيقاع النغم ، وإنما يكون المستمع واعيا بالمقروء ، وإن كان إجمالا ، وهذا التفسير الإجمالى وليد العصر الحاضر. ومن أمثلته فى القديم تفسير الجلالين للسيوطى ، وتفسير محمد فريد وجدى فى الحديث.

٤٢

٣ ـ التفسير الموضوعى

وفى هذا اللون من التفسير ، يعمد الباحث والناظر فى القرآن ، إلى الآيات التى تتصل بموضوع واحد ، فيجمعها ، ويجعلها نصب عينيه ، وموجودة بين يديه ، ثم يقلّب الطرف فى أنحائها ، ويجيل الفكر فى جوانبها ، ويكوّن منها الموضوع الذى تتصل به ، ثم يعمد إلى جوانب ذلك الموضوع ، ويجعله فى إطار متناسب ، وهيكل متناسق ، ملوّنا لنواحيه ، مبرزا لمراميه ، حتى يكون هيكلا تاما ، متكامل الأجزاء ، تام البنيان ، قائم الأركان .. فإن أعوزه كمال ذلك الموضوع إلى حديث ، جاءت به السنة حتى يكمل له هيكله ، ويتم له صرحه ، جاء به.

وعلى ذلك ينجلى للقارىء ـ بوضع الآية بجوار الآية ـ الهدف الذى يقصد القرآن إليه ، والمعنى الذى يعول عليه ، وبهذا يستكشف القارىء للقرآن هدايته ، ويبرز للناس من مواضع القرآن ، ما جاء به لأداء مهمته ورسالته (١).

هذا اللون من التفسير الموضوعى ، وإن نحا نحوه علماء العلوم المختلفة ، كعلم الكلام ، عند الاستدلال على صفات الله ـ تعالى ـ بالدليل النقلى ، من مثل قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [السجدة : ٦] وقوله عز شأنه : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] ، وكذلك فى علم الأخلاق ، والتصوف ، والفقه .. فإن تلك العلوم بوّبت فيها أبوابها ، واستشهد بها ، ودعمت بما يلائم تلك الأبواب من أدلة قرآنية ، وآيات تنزيلية.

__________________

(١) الدكتور أحمد السيد الكومى : التفسير الموضوعى طبع ، دار الهدى بمصر سنة ١٩٨٠ ص ١٣

٤٣

نقول : إن ذلك اللون من التفسير وجد ما يدانيه فى علوم آخرى ، إلا أنه على النحو التفسيرى لم يتم بنيانه ، ولم تقم أركانه ، ولم ينح نحوه أحد من العلماء السابقين ، بل لم يتعرض له من اللآحقين إلا القليل.

وهذا اللون من التفسير ، يتطلب جمع الآيات المتصلة بالموضوع ، وإمعان النظر فيها ، بوصفها وحدة واحدة ، وتحريك النظر فى اتجاهاتها ، لاستكشاف ما يكون فيها من معان ثانية ، وبذلك نقتطف من كل غصن من أغصان ذلك البحث ما يناسبه ، حتى تكون فروع ذلك الموضوع الواحد مستوفاة مستكملة ، ويكون لكل فرع من الآيات ما يناسبه ثم ينتقل إلى موضوع آخر ، وهكذا .. حتى تتحقق الأهداف التى توخاها القرآن ، وتبرز وحدة الموضوع ، التى قصد إليها هذا التفسير الموضوعى ، كموضوعات الرسالة ، والتوحيد ، والبعث والنشور ، والجنة والنار ، وموضوع الخمر ، والزواج والطلاق ، والمعاملات المالية ، والجهاد ، وحقوق الأفراد إلى غير ذلك .. وقد سمى بالتفسير الموضوعى نسبة إلى وحدة الموضوع الذى يعالجه.

ويتصل بهذا اللون من التفسير ، لون آخر ـ يمكن أن نطلق عليه التفسير المقارن أو الموازن.

وفى هذا اللون من التفسير ، القائم على الموازنة ، يعمد المفسر إلى جملة من الآيات القرآنية فى مكان واحد ، ويستطلع آراء المفسرين ، متتبعا ما كتب فى تفسير تلك الجملة من الآيات ، سواء كانوا من السلف ، أم كانوا من الخلف ، وسواء أكان تفسيرهم من التفسير النقلى ، أم كان من التفسير العقلى ، ويوازن بين الاتجاهات المتباينة ، والمشارب المتنوعة ، فيما سلكه كل منهم فى تفسيره ، وما انتهجه فى مسلكه ، فيرى من كان منهم متأثرا بالخلاف المذهبى ، ومن كان منهم معبرا عن آراء فرقة معينة ، أو مذهب من المذاهب.

٤٤

وقد يكون هذا اللون من التفسير المقارن ذا مجال أوسع ، ونشاط أفسح ، فيتجه فيه الباحث المفسر إلى مقارنة النصوص القرآنية المشتركة فى موضوع واحد ، وما جاء فى السنة كذلك من الأحاديث ، ثم يوازن بين النصوص القرآنية بعضها مع بعض ، كما يوازن بين ما جاء فى القرآن الكريم ، وبين ما جاءت به السنة ، وذلك مما يكون ظاهره الاختلاف.

من مثل قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ـ أى احبسوهم ، احبسوا أيها الملائكة هؤلاء المشركين ، إنهم مسئولون عما كانوا يعبدون من دون الله.

وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] ـ أى لا يسأل الملائكة المجرمين عن ذنوبهم ، لأن الله قد حفظها عليهم ، ولا يسأل بعضهم عن ذنوب بعض.

ومثل قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ..) الآية .. [التوبة : ١١١]

وقوله سبحانه : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢] ـ أى أورثكموها الله ـ عزوجل ـ عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم.

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى الحديث الصحيح : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله».

وذلك ما عنيت به العلماء تحت عنوان آخر ، وهو «موهم الاختلاف والتناقض فى علوم القرآن» ومختلف الحديث فى علوم الحديث.

٤٥

وقد يتسع النظر فيما بين القرآن والكتب السماوية الأخرى ـ التوراة والإنجيل ، ليظهر مدى الإتفاق والافتراق بين ما جاء فى القرآن وما جاء فيها.

وقد تكون المقارنة بين النصوص القرآنية ذات القصة الواحدة ، أو الموضوع الواحد. لتظهر المفارقات بين مختلف التعبيرات عن المعنى الواحد ، بعبارات تختلف إيجازا وإطنابا ، وأكثر ما يكون ذلك فى القصص القرآنى ، فتكون مهمة المفسر فى ذلك ، البحث عن الأسباب ، والكشف عن الأسرار والحكم التى من أجلها كانت المخالفة بين التعبيرين ، والمغايرة بين الأسلوبين ، إيجازا تارة ، وإطنابا تارة أخرى ، وتعبيرا بلفظ مرة ، ووضع لفظ آخر بدله مرة أخرى ، وذلك وإن بحث فى مشتبه القرآن إلا أنه نوع آخر من المقارنة والموازنة (١).

__________________

(١) التفسير الموضوعى للقرآن ص ١٦

٤٦

التفسير الموضوعى بين الماضى والحاضر

نزل القرآن الكريم على قلب النبى الأمّى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكد يقرع آذان القوم حتى وصل إلى قلوبهم ، وتملك عليهم حسّهم ومشاعرهم ـ ولم يعرض عنه إلا نفر قليل ، إذ كانت على القلوب منهم أقفالها ، ثم لم يلبث أن دخل الناس فى دين الله أفواجا ، ورفع الإسلام رايته خفاقة فوق ربوع مكة ، وأقام المسلمون صرح الحق ، مشيّدا على أنقاض الباطل.

سعد المسلمون بهذا الكتاب الكريم ، الذى جعل الله فيه الهدى والنور ، ومنه طب الإنسانية ، وشفاء ما فى الصدور ، وأيقنوا بصدق الله ، حيث يصف القرآن ، فيقول :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩]

وبصدق رسول الله ، حيث يصف القرآن ، فيقول :

«فيه نبأ من كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذى لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضى عجائبه ، وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم (١)».

__________________

(١) أخرجه الترمذى ج ٢ / ١٤٩

٤٧

صدق المسلمون هذا ، وأيقنوا أن لا شرف إلا والقرآن سبيل إليه ، ولا خير إلّا وفى آياته دليل عليه ، فراحوا يبحثون عن معانيه ، ليقفوا على ما فيه من مواعظ وعبر ، وأخذوا يتدبرون فى آياته ، ليأخذوا من مضامينها ، ما فيه سعادة الدنيا ، وخير الآخرة.

وكان القوم عربا خلّصا ، يفهمون القرآن ، ويدركون معانيه ، ومضامينه ومراميه ، بمقتضى سليقتهم العربية ، وبما يتمتعون به من صفاء الذهن ، وقوة العارضة ، وكانوا يعرفون من أسراره ما لا يعرفه أحد ، ولكنهم لم يدوّنوها ، لأن القرآن قد ملأ عليهم حياتهم ، فكانوا دائبين على دراسته وفقهه ، ونشره بين المسلمين.

وكانت للقوم وقفات أمام بعض النصوص القرآنية ، التى دقت مراميها ، وخفيت معانيها ، ولكن لم تطل بهم هذه الوقفات ، إذ كانوا يرجعون فى مثل ذلك ، إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فيكشف لهم ما دقّ عن أفهامهم ، ويجلى لهم ما خفى عن إدراكهم ، وهو الذى عليه البيان ، كما عليه البلاغ ، تحقيقا لقول الحق سبحانه :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

[النحل : ٤٤]

كان النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يفسر القرآن ، فيربط بين الآيات والآيات ، وبين الآيات ومناسبات النزول ، ويوازن بين المعانى ..

تذكر لنا المصادر القديمة ، أن بذورا من التفسير الموضوعى ، نبتت على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعهد صحابته. رضوان الله عنهم أجمعين.

٤٨

من ذلك ما جاء فى مناسبة نزول الآية الكريمة :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)

[الطلاق : ٤]

يقول تعالى ، مبينا لعدّة الآيسة ، وهى التى قد انقطع عنها المحيض لكبرها ، أنها ثلاثة أشهر ، عوضا عن الثلاثة قروء فى حق من تحيض ، كما دلت على ذلك آية البقرة ، وكذا الصغار اللآئى لم يبلغن سن المحيض ، أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر.

فقد أشكل على بعض الصحابة هذا الشرط ، وجاء سبب النزول معينا لهم على فهم المراد منه.

فقد أخرج الحاكم ، عن أبى بن كعب ، أنه لما نزلت التى فى سورة البقرة فى عدد النساء وهى :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨]

والآية الأخرى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤]

قالوا : قد بقيت عدد لم تذكر ، وهى عدد الصغار ، والكبار ، فنزل قول الله :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ .. الآية)

٤٩

وقوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فيه قولان :

أحدهما : وهو قول مجاهد والزهرى. أى إن رأين دما وشككتم فى كونه حيضا أو استحاضة ، وارتبتم فيه.

والثانى : وهو قول سعيد بن جبير ـ إن ارتبتم فى حكم عدتهن ، ولم تعرفوه ، فهو ثلاثة أشهر ، وهو أظهر فى المعنى. وقد احتج عليه بقول أبى بن كعب : يا رسول الله : إن عددا من عدد النساء لم تذكر فى الكتاب ، الصغار والكبار وأولات الأحمال ، قال : فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ـ إِنِ ارْتَبْتُمْ ـ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ..) [الآية]

ويضع على بن أبى طالب ، بفكره الثاقب ، ونظره الصائب ـ لبنة أخرى من لبنات التفسير الموضوعى. فقد كان علىّ يجمع الآيات فى الموضوع الواحد ، ليستخلص منها جميعا ، حكما صادقا ، يفسر فيه القرآن بعضه بعضا. من ذلك قصة مراجعته لعمر بن الخطاب فى إقامة حدّ الزّنا على امرأة وضعت بعد زواجها بستة أشهر.

* يقول ابن حزم : أن عليّا ذكّر عمر بن الخطاب بقوله تعالى :

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥]

مع قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)

[البقرة : ٢٣٣]

فرجع عمر عن إقامة الحد عليها (١)

__________________

(١) الإحكام فى أصول الأحكام ٢ / ١٢٥

٥٠

أى أن عمر بن الخطاب ، حكّم العادة الجارية ، من أنه لا تلد المرأة لأقل من سبعة أشهر ، فاعتبر ولادتها قبل ذلك قرينة لإقامة الحد عليها.

لكن عليّا ـ كرم الله وجهه ـ استدرك عليه ، وتدارك الأمر ، حيث حكّم القاعدة التى تدرأ الحدود بالشبهات ، وفهم من الآيتين السابقتين مجتمعتين ، أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر ، وهى المدة التى تكتمل بسنتى الرضاع (٢٤ شهرا) ثلاثين شهرا ، واعتبر ذلك شبهة تحول دون القطع بوقوع الزنا ، ومن ثم فلا يقع الحدّ.

وبمرور الزمن ، تطورت الحياة العلمية تطورا كبيرا ، ونشط التأليف فى معظم العلوم والفنون ، نشاطا ملحوظا ، وشمل هذا النشاط تفسير القرآن الكريم ، والتأليف فى علومه ، ونرى ممن اهتموا بالتأليف فى موضوعات القرآن ، علماء كثيرين ، يختلفون فى عصورهم ، ومذاهبهم ، ونوع اهتماماتهم ..

ـ فقد ألف فى الناسخ والمنسوخ :

قتادة بن دعامة السدوسى ، المتوفى سنة ١١٨ ه

وأبو عبيد القاسم ، المتوفى سنة ٢٢٤ ه

وأبو جعفر النحاس ، المتوفى سنة ٣٣٨ ه

 ـ وألف فى معانى القرآن :

أبو زكريا الفراء ، المتوفى سنة ٢٠٧ ه

 ـ وألف فى غريب القرآن :

أبو بكر السجستانى ، المتوفى سنة ٣٣٠ ه

والراغب الأصفهانى ، المتوفى سنة ٥٠٣ ه

 ـ وألف فى مشكل القرآن :

ابن قتيبة ، المتوفى سنة ٢٧٦ ه

٥١

ـ وألف فى مجاز القرآن :

أبو عبيدة ، المتوفى سنة ٢٠٦ ه

والشريف الرضى ، المتوفى سنة ٤٠٦ ه

 ـ وألف فى إعجاز القرآن :

الجاحظ ، المتوفى سنة ٢٥٥ ه

والرمانى ، المتوفى سنة ٣٨٦ ه

والخطابى ، المتوفى سنة ٣٨٨ ه

والباقلانى ، المتوفى سنة ٤٠٣ ه

والجرجانى ، المتوفى سنة ٤٧١ ه‍ وغيرهم (١)

 ـ وألف فى أقسام القرآن :

ابن قيم الجوزية ، المتوفى سنة ٧٢١ ه

 ـ وألف فى أسباب النزول :

على بن المدينى ، المتوفى سنة ٢٣٤ ه

وأبو الحسن الواحدى ، المتوفى سنة ٤٦٨ ه

 ـ وألف فى تناسب الآيات والسور :

البقاعى ، المتوفى سنة ٨٨٥ ه

* وفيما يتصل بالتفسير ، نجد ابن تيمية ـ فى القرن السابع ـ يحمل حملة شعواء على الإسرائيليات المدسوسة فى التفاسير ، وفى رأيه أن هذا هو الذى دفع الإمام أحمد بن حنبل ، إلى أن يقول : «ثلاثة لا أصل لها : التفسير ، والملاحم ، والمغازى»

__________________

(١) انظر بحثنا (مفهوم الإعجاز القرآنى حتى القرن السادس الهجرى) طبع دار المعارف بمصر سنة ١٩٨٤ م

٥٢

كما حمل ابن تيمية ـ فى تفسيره ـ على المعتزلة والباطنية ، الذين يصرفون ألفاظ القرآن عن معانيها الظاهرة ، إلى معان بعيدة ، تتطابق مع آرائهم ومعتقداتهم ، وحمل أيضا على الصوفية ، ملاحظا أنهم قد يفسرون القرآن بمعان صحيحة ، غير أن القرآن لا يتضمنها ، وقد ينزلقون فيحملون بعض الآيات على ما يؤمنون به من وحدة الوجود ، ووحدة الشهود ، والفناء فى حقيقة الله.

وخلص ابن تيمية ـ فى تفسيره ـ إلى أن خير طرق التفسير ، أن يفسّر القرآن بالقرآن ، فما أجمل فى موضع ، بسط فى موضع آخر ، وما ذكر موجزا فى آية ، جاء مفصّلا فى آية أخرى ، وإن لم يف القرآن أحيانا بالمراد ، رجع المفسر إلى الحديث النبوى ، فإن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فسّر بعض الآيات. ويضم المفسر إلى ذلك أقوال الصحابة ، الذين رافقوا الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفهموا منه التنزيل ، وكذلك أقوال التابعين ، الذين خالطوهم ، ووقفوا منهم على معانى القرآن الكريم.

ويرى ابن تيمية ـ فى منهجه التفسيرى ـ أن يفتح الأبواب أمام المفسر ، ليجتهد ويستنبط ، ولكن بعد أن يكون قد استوفى العدّة لذلك ، باستيعابه للذكر الحكيم ، وآياته ، ومعانيه المتقابلة ، ولأقوال الرسول والصحابة والتابعين فيه ، وبعد أن يتقن العربية ، ويتعمق علوم الشريعة ، وبعد علمه الدقيق بدلالات القرآن ، وتذوقه لخصائصه البيانية الرائعة.

وتلك هى العناصر التى ترتبط فى معظمها بالتفسير الموضوعى بمفهومه الشامل.

ولقد مضى ابن تيمية يطبق منهجه التفسيرى هذا على بعض السور القرآنية ، وفى مقدمتها سورة النور ، وبعض سور قصار من جزء عم ، وخصّ سورتى المعوذتين برسالة مستقلة ، وأفرد كتابا لتفسير سورة الإخلاص ، وتفسير

٥٣

كل آية من آيات هذه السور عنده ، يتحوّل إلى بحث فى مضمونها من خلال القرآن كله.

وسار على نهجه ، تلميذه الأثير ، ابن قيم الجوزيّة (ت ٧٢١ ه‍) فى تفسير أقسام القرآن ، وفى تفسيره للمعوذتين ، إذ كثيرا ما يتوقف إزاء مضمون آية ليشير إلى مضمون مماثل لآية أخرى ، ابتغاء الدقة فى التفسير.

هذا وقد وضع الراغب الأصفهانى ـ فى القرن الخامس الهجرى ـ معجما عظيما لألفاظ القرآن ، عرض فيه كل لفظة من ألفاظه ، وجميع استعمالاتها المبثوثة فيه ، لتكون دائما تحت أعين المفسرين ، فلا يختلط عليهم معنى ، ولا تضطرب عليهم دلالة. فكان هذا المعجم منبعا خصبا يرده كل من تصدى لتفسير القرآن حسب المنهج الموضوعى.

والحقيقة إن العلماء الأول ، خاصة رجال التفسير ـ لم يتركوا للأواخر كبير جهد فى تفسير كتاب الله ، والكشف عن معانيه ومراميه ، إذ أنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم ، الذى جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة ، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية ، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ وتلون بألوان مختلفة.

والباحث المدقق ، الذى يعكف على دراسة بحوث التفسير على اختلاف ألوانها ، لا يدخله شك فى أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة ، قد وفّاه هؤلاء المفسرون الأقدمون حقّه ، من البحث والتحقيق ، والدراسة والتدقيق ، فالناحية اللغوية ، والناحية البلاغية ، والناحية الأدبية ، والناحية النحوية ، والناحية الفقهية ، والناحية المذهبية ، والناحية الكونية والفلسفية.

٥٤

كل هذه النواحى وغيرها ، تناولها المفسّرون الأول بتوسّع ملموس ، لم يترك لمن جاء بعدهم ـ إلى ما قبل العصر الحديث بقليل ـ من عمل جديد ، أو أثر مبتكر ، يقومون به فى تفاسيرهم التى ألفوها ، اللهم إلا عملا ضئيلا ، لا يعدو أن يكون جمعا لأقوال المتقدمين ، أو شرحا لغامضها ، أو نقدا وتفنيدا لما يعتوره الضعف منها ، أو ترجيحا لرأى على رأى ، مما جعل التفسير يقف وقفة مليئة بالركود ، خالية من التجديد والابتكار (١).

وفى العصر الحديث .. ظل الأمر على هذا ، وبقى التفسير واقفا عند هذه المرحلة ، مرحلة الركود والجمود ، لا يتعداها ، ولا يحاول التخلص منها ، حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة ، فاتجهت أنظار العلماء ، الذين لهم عناية بدراسة التفسير ، إلى أن يتحرروا من قيد هذا الركود ، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود ، فنظروا فى كتاب الله نظرة ـ وإن كانت تعتمد على ما دوّنه الأوائل ، إلا أنها أثرت فى الاتجاه التفسيرى للقرآن ، تأثيرا لا يسعنا إنكاره ، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية ، التى حشرت فى التفسير حشرا. ومزجت به على غير ضرورة لازمة ، والعمل على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلى ، الذى كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله ، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة ، أو الموضوعة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو على صحابته ـ عليهم رضوان الله تعالى ، وإلباس التفسير ثوبا أدبيا اجتماعيا ، موضوعيا ، يظهر روعة القرآن ، ويكشف مراميه الدقيقة ، وأهدافه السامية ، والتوفيق بجد بالغ ، وجهد ظاهر ، بين القرآن وما جدّ من نظريات علمية صحيحة. وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون ، وغير المسلمين ، أن القرآن هو كتاب الله الخالد ، الذى يتمشى مع الزمن فى جميع أطواره ومراحله.

__________________

(١) الدكتور محمد حسين الذهبى : التفسير والمفسرون ج ٢ ص ٤٩٥. طبع مصر سنة ١٩٦٨ م

٥٥

وهناك غير هذه الآثار ، آثار أخرى ظهرت فى الاتجاه التفسيرى ـ فى هذا العصر الحديث ـ نشأت عن عوامل مختلفة ، أهمها التوسع العلمى ، وانتشار الثقافة ، واتساع الحضارة (١). فى مقدمتها : التفسير العلمى ، التفسير الأدبى الاجتماعى ، والتفسير الموضوعى.

التفسير الموضوعى :

نشأ التفسير الموضوعى ، فى العصر الحديث ، مقترنا وممتزجا بالتفسير الأدبى ، ذلك التفسير الذى تظهر فيه ذاتية المفسّر ، وشخصيته ، وملكته الأدبية ، وقدرته على بلورة الأفكار ، وتقديم التصورات الممكنة ، والمحتملة ، والجائزة ، فى غلاف شفاف من الأسلوب الأدبى المؤثر ، المحرك لمشاعر القارىء أو السامع ووجدانه ، وهو يعتمد أيضا على التفنن فى استجلاء مكامن علوم البلاغة ، لإظهار ما يؤديه من جمال التصوير ، وروعة التعبير ، فى إطار من حسن العرض ، وكمال التحليل ، وجودة التعليل.

وقد بدأ هذا اللون من التفسير ، فى نهاية القرن التاسع عشر الميلادى تقريبا ، بجهود عالم جليل هو الإمام الشيخ محمد عبده ، فقد رأيناه يحاول ، على هدى قراءاته لابن تيمية ، أن يعرض تفسيرا دقيقا للجزء الثلاثين من القرآن الكريم ، وهو جزء عم ، أخلاه من كل الشوائب العقيدية والإسرائيلية ، ومكّن فيه لرفض البدع والخرافات ، واستخدم الفكر الحر ، فى فهم معانى القرآن ، وما دعا إليه من الرقّى بالروح ، والنهوض بالمجتمع ، فى أسلوب أدبى ناصع ، وبتحليل علمى دقيق.

أما الرقىّ الروحى ، فبما قدّم للإنسان من تهذيب خلقى قويم.

__________________

(١) التفسير والمفسرون ج ٢ ص ٤٩٥

٥٦

وأما النهوض بالمجتمع ، فبما وثق بين أفراده من تعاون وتكافل ، مع تقديم كل الأسباب ، كى يتحقق الكمال الفكرى ، والروحى ، والاجتماعى ، الذى يطمح إليه الإنسان الممتاز.

وقد دعم الشيخ محمد عبده ـ فى تفسيره لهذا الجزء ـ فكرة وحدة السياق فى السورة الواحدة ، وأن المدار على عموم اللفظ ـ لا على خصوص السبب ، ودعا دعوة قوية إلى التسليم بكل ما هو من عالم الغيب ، كعالم الملائكة ، والجن ، والشياطين ، وكالبعث ، وما يتصل به من الثواب والعقاب ، فكل ذلك ينبغى أن نسلّم به لقصور عقولنا عن معرفة كنهه ، والتعمق فى حقائقه ..

فكان هذا التفسير نبراسا هاديا ، لكل من تصدى لتفسير القرآن تفسيرا موضوعيا ، استنادا إلى القرآن جميعه ، واعتمادا على الآيات القرآنية ذاتها ، والأحاديث النبوية الصحيحة ، وأقوال صحابة رسول الله ، وتابعيهم ، وما جاء فى المصادر المختلفة متصلا بمناسبات النزول.

ولقد سار على نفس المنهج علماء كثيرون ، نذكر منهم :

١ ـ الشيخ سيد قطب ـ رحمه‌الله.

٢ ـ الشيخ أمين الخولى ـ رحمه‌الله.

٣ ـ الدكتورة عائشة عبد الرحمن.

٤ ـ الدكتور شوقى ضيف.

٥ ـ الدكتور محمد خلف الله أحمد.

وإن كنا لا نغفل جهود هؤلاء العلماء المحدثين ، الذين كتبوا فى موضوعات عدة تتصل بالقرآن :

فقد ألف مصطفى صادق الرافعى كتابا فى إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.

٥٧

وألف محمد مصطفى المراغى كتابا فى ترجمة القرآن وأحكامها.

وألف محمد فريد وجدى كتابا فى الأدلة العلمية على جواز ترجمة معانى القرآنى إلى اللغات الاجنبية. إلى غير ذلك من الكتب العلمية الرائدة ، التى تتصل بهذا اللون من التفسير.

١ ـ الشيخ سيد قطب :

يعد الشيخ سيد قطب ـ رحمه‌الله ـ من أوائل العلماء ، الذين اهتموا بهذا اللون من التفسير الموضوعى. الذى يقترن بالتفسير الأدبى الفنى ، فله تفسير يدعى (فى ظلال القرآن) ، وله إلى جانب هذا التفسير كتابان ، درس فيهما موضوعين من موضوعات القرآن ، أولهما يتناول (مشاهد القيامة فى القرآن) ، والثانى يحلل الصور الفنية والجمالية فى القرآن ، وهو (التصوير الفنى فى القرآن)

والتفسير (الظلال) و (التصوير) و (المشاهد) ثلاثتهم تنبع من روح واحدة ، وتتجه وجهة واحدة ، هدفها : محاولة تفسير القرآن الكريم تفسيرا أدبيا وموضوعيا ، يبرز جمال الصور الفنية ، ويحللها تحليلا أدبيا جميلا.

يتحدث الشيخ سيد قطب ـ فى مقدمة كتابه التصوير الفنى ، عن الحافز الذى أغراه بانتهاج هذا المنهج ، وسلوك هذه الطريقة من التفسير ، فيقول

«إنه قرأ القرآن وهو طفل صغير ، لا ترقى مداركه إلى آفاق معانيه ، ولا يحيط فهمه بجليل أغراضه ، ولكنه كان يجد فى نفسه منه شيئا ، وكان خياله الساذج

٥٨

الصغير ، يجسّم له بعض الصور من خلال تعبير ، وإنها لصور ساذجة ، ولكنها كانت تشوّق نفسه ، وتلذّ حسّه ، فيظل حقبة غير قصيرة يتملاها ، وهو بها فرح ، ولها نشيط.

وضرب الشيخ سيد قطب ـ على الصور الساذجة ـ أمثلة عدة ، كانت ترتسم فى خياله كلما قرأ شيئا من القرآن. ومن تلك الأمثلة ، قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١]

قال : (كان يشخص فى مخيلتى رجل قائم على حافة مكان مرتفع ـ مصطبة ، فقد كنت فى القرية ، أو قمة تل ضيقة ، فقد رأيت التل المجاور للوادى ، وهو قائم يصلى ، ولكنه لا يملك موقفه ، فهو يتأرجح فى كل حركة ، ويهمّ بالسقوط ، وأنا بإزائه أتتبع حركاته ، فى لذة وشغف عجيبين) (١).

«تلك أيام .. ولقد مضت بذكرياتها الحلوة ، وبخيالاتها الساذجة ، ثم تلتها أيام ، ودخلت المعاهد العلمية ، فقرأت تفسير القرآن فى كتب التفسير ، وسمعت تفسيره من الأساتذة ، ولكننى لم أجد فيما أقرأ ، أو أسمع ، ذلك القرآن اللذيذ الجميل ، الذى كنت أجده فى الطفولة والصبا».

«وا أسفاه ، لقد طمست كل معالم الجمال فيه ، وخلا من اللذة والتشويق ، ترى هل هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب ، الميسّر المشوق ، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزّق؟ .. أم تلك جناية الطريقة المتبعة فى التفسير.

«وعدت إلى القرآن أقرؤه فى المصحف ، لا فى كتب التفسير ، وعدت أجد قرآنى الجميل ، الحبيب ، وأجد صورى المشوقة اللذيذة ، إنها ليست فى

__________________

(١) التصوير الفنى فى القرآن ص ٧ (الطبعة الثانية)

٥٩

سذاجتها ، التى كانت هناك ، لقد تغيّر فهمى لها ، فعدت الآن أجد مراميها وأغراضها ، وأعرف أنها مثل يضرب ، لا حادث يقع ، ولكن سحرها ما يزال ، وجاذبيتها ما يزال ..» (١)

«لقد بدأت البحث ، ومرجعى الأول فيه هو المصحف ، لأجمع الصور الفنية فى القرآن ، وأستعرضها ، وأبين طريقة التصوير فيها ، والتناسق الفنى فى إخراجها ، فبرزت لى حقيقة واحدة هى :

«أن الصور فى القرآن ليست جزءا منه يختلف عن سائره ، إن التصوير هو قاعدة التعبير فى هذا الكتاب الجميل ، القاعدة الأساسية المتبعة فى جميع الأغراض ، فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال ، فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب ، ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز.

وعلى هذا الأساس قام البحث ، وكل ما فيه إنما هو عرض لهذه القاعدة ، وتشريح لظواهرها ، وكشف عن هذه الخاصية فى التعبير القرآنى».

«وحين انتهيت من التحضير للبحث ، وجدتنى أشهد فى نفسى مولد القرآن من جديد ، لقد وجدته كما لم أعهده من قبل أبدا ، لقد كان القرآن جميلا فى نفسى ، نعم.! ، ولكن جماله كان أجزاء وتفاريق ، أما اليوم ، فهو عندى جملة موحدة ، تقوم على قاعدة خاصة ، قاعدة فيها من التناسق العجيب ، ما لم يكن أحلم من قبل به ، وما لا أظن أحدا تصوّره».

إن تفسير الشيخ سيد قطب ، وإن كان قد اهتم اهتماما كبيرا بإبراز الصور الفنية ، والقيم الجمالية ، إلا أنه اهتم أيضا بالموضوعات القرآنية ، فأبرزها من خلال تحليله وتناوله للصور الفنية ، فكان يربط بين الموضوعات ،

__________________

(١) التصوير الفنى ص ٨

٦٠