دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

الفصل السادس

ذو القرنين .. وبناء سدّ يأجوج ومأجوج

لم يعرف العرب من أخبار «ذى القرنين» شيئا ، إلّا بعد أن أوحى الله سبحانه إلى نبيّه الأمىّ بقصته وأخباره ، فى معرض رد القرآن على أسئلة أهل الكتاب ، حول أهل الكهف ، والخضر صاحب موسى ، وذى القرنين ، وهذه الأمور الثلاثة .. هى التى جعلها اليهود الفيصل فى الحكم على صدق محمد ، وكونه نبيّا مرسلا من رب العالمين أم لا ..؟

فردّ القرآن الكريم .. (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) وعبرا وموعظة (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) وجعلنا له قدرة ومكنة على التصرّف فيها ، وآتيناه من أسباب كل شىء أراده فى ملكه سببا وطريقا موصلا إليه ، (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أى متسبب به ، وهو العلم الذى يوصله إليه حتى بلغ منزلا وطريقا ما بين الشرق والغرب. وهنا نقف قليلا لنتعرف عليه :

من هو ذو القرنين؟ .. وفى أى عصر كان؟

وأين كانت مسيرته فى سبيل الله؟ .. وما أهدافها؟

ومن هم قوم يأجوج ومأجوج؟ .. وما صفتهم؟

وكيف بنى ذو القرنين السد؟ وما هى الحكمة فى بنائه؟

١ ـ من هو ذو القرنين؟ .. ولماذا سمى بذلك؟

ذكر بعض المفسرين أن «ذا القرنين» كان ملكا شابا من الروم ، وأنه بنى الاسكندرية ، وقالوا : إنه «الإسكندر الأكبر». واستدرك عليهم ابن كثير ، فقال : إنما الذى كان من الروم : «الإسكندر الثانى» ، وهو ابن «قيليس المقدونى» الذى تؤرخ به الروم.

٢٢١

أما «ذو القرنين» ـ المذكور فى القرآن ، فقد ذكر الأزرقى وغيره ، أنه كان فى عصر موغل فى القدم ، قال : إنه كان قريبا من عصر إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ، وأنه طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه ، وآمن به ، واتّبعه ، وأنه قرب إلى الله قربانا ، واتخذ من الخضر عليه‌السلام وزيرا. (١)

* وأما تسميته ب «ذى القرنين» ، فترجع إلى أسباب ، ذكرها المؤرخون والمفسرون :

قالوا : إن صفحتى رأسه كانتا من نحاس ، ويبدو أن هذا لباس الحرب الذى هو أشبه بالخوذة وكان يرتديه دائما.

وقال بعضهم : كان فى رأسه شبه القرنين.

وقال بعض أهل الكتاب : إنما سمى ذا القرنين لأنه ملك الروم وفارس.

وقال غيرهم : .. لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.

وسئل علىّ ـ رضى الله عنه ـ عن ذى القرنين فقال : كان عبدا ناصحا لله ، فناصحه ، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمى ذا القرنين.

* ويفهم من سيرته ـ كما جاءت فى كتب التفسير والتاريخ ، أن الله سبحانه وتعالى ، قد مكّن له فى الأرض ، وأعطاه ملكا عظيما ، ممكنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين ، والجنود ، وآلات الحرب ، والحصارات ، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ،

__________________

(١) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ٣ / ١٠٠ ، وانظر البداية والنهاية لابن كثير.

٢٢٢

وخدمته الأمم من العرب والعجم ، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمى ذا القرنين لأنه بلغ مجده وملكه قرنى الشمس مشرقها ومغربها يقول الله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [الكهف : ٨٤] قال ابن عباس : علما ، وقال قتادة : منازل الأرض وأعلامها ، وقال عبد الرحمن بن زيد : تعليم الألسنة ، قال : كان لا يغزو قوما إلّا كلمهم بلسانهم.

وهكذا ذو القرنين .. كان ملكا مؤمنا ، مكّن الله له فى الأرض ، فعدل فى حكمه وأصلح ، يسر الله له الأسباب ، أى الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والبلاد والأراضى ، وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل الشرك ، فقد أوتى من كل شىء مما يحتاج إليه مثله سببا.

* روى أن الذين ملكوا الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، أما المؤمنان : فسليمان وذو القرنين ، وأما الكافران : فنمرود وبختنصّر (١).

سئل علىّ ـ كرم الله وجهه ـ عن ذى القرنين ، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال : سبحان الله .. سخّر له السحاب وقدّر له الأسباب ، وبسط له اليد.

وقد ذكر فى أخبار بنى إسرائيل ، أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض ، حتى بلغ المشارق والمغارب. (٢)

يقول تبّع فيما ذكر به ذا القرنين فى تخلقه بالعلم واتباعه إياه :

بلغ المشارق والمغارب يبتغى

أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغار الشّمس عند غروبها

فى عين ذى خلب وثاط حرمد

__________________

(١) أبو حيان : البحر المحيط ٦ / ١٥٧

(٢) تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٢

٢٢٣

٢ ـ مسيرته فى سبيل الله :

* أما عن مسيرة ذى القرنين فى سبيل الله ، فقد استهدفت هدفين اثنين :

أولهما : إعلاء كلمة الله ، ونشر عقيدة التوحيد فى كل مكان.

وثانيهما : حماية الأقليات المؤمنة من طغيان الأكثريات الكافرة.

أما عن الهدف الأول : فيقول القرآن : (فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ : أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) [الكهف : ٨٥ ـ ٨٨]

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) أى سلك طريقه الذى يسره الله له ، ما بين المشرق والمغرب ، أو أتبع طرفى الأرض ، منازلها ومعالمها وآثارها ، فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض ، لأن الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فأمر مستحيل ، وما يذكره أصحاب القصاص والأخبار من أنه سار فى الأرض مدة ، والشمس تغرب من ورائه فشىء لا حقيقة له ، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب ، واختلاق زنادقتهم وكذبهم.

(وَجَدَها) أى الشمس (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أى رأى الشمس فى منظره تغرب فى البحر المحيط ، وهذا شأن كل ما انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب منه ، وهى لا تفارق الفلك الرابع الذى هى مثبتة فيه لا تفارقه.

٢٢٤

قال الإمام الرازى : إن ذا القرنين لما بلغ أقصى المغرب ، ولم يبق شىء من العمارات ، وجد الشمس كأنها تغرب فى عين وهدة مظلمه ، وإن لم تكن كذلك فى الحقيقة ، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب فى البحر ، إذ لم ير الشطّ ، وهى فى الحقيقة تغيب وراء البحر. (١)

وقال ابن عباس : وجدها تغرب فى عين حامية أى حارّة.

قال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان (حمئة وحامية) ولا منافاة بين معنييهما ، إذ قد تكون (حارة) لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، و (حمئة) أى فى ماء وطين أسود.

عن عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الشمس حين غابت فقال : «فى نار الله الحامية لو لا ما يزعمها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض».

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) قال ابن جرير : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لو لا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجبّ. قال هشام ابن يوسف : أمة من الأمم ، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بنى آدم.

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ : إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ـ أى قلنا له بطريق الإلهام : إما أن تقتلهم أو تدعوهم بالحسنى إلى الهداية والإيمان ، معنى هذا أن الله تعالى مكّنه منهم ، وحكّمه فيهم ، وأظفره بهم ، وخيّره إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء منّ أو فدى ، فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه.

قال المفسرون : كانوا كفرة فخيّره الله بين أن يعذبهم بالقتل ، أو يدعوهم إلى الإسلام فيحسن إليهم.

__________________

(١) التفسير الكبير ٢١ / ١٦٦

٢٢٥

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أى استمر على كفره وشركه بربه ، فسوف نعذبه ، قال السّدى : كان يحمى لهم بقر النحاس ، ويضعهم فيها حتى يذوبوا ، وقال وهب بن منبه : كان يسلّط الظّلمة فتدخل أفواههم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم.

(ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أى شديدا بليغا وجيعا أليما فى نار جهنم ، وفى ذلك إثبات المعاد والجزاء.

(أَمَّا مَنْ آمَنَ) أى تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، وقدم الصالحات (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) أى فى الدار الآخرة عند الله عزوجل. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أى معروفا ، فنيسر عليه فى الدنيا فلا نكلفه بما هو شاق ، بل السهل الميسر ، فاختار ذو القرنين دعوتهم بالحسنى ، فمن آمن فله الجنة والمعاملة الطيبة ، والمعونة والتيسير ، ومن بقى على الكفر فله العذاب والنكال فى الدنيا والآخرة.

* وفى سبيل الدعوة إلى الله ، ونشر عقيدة التوحيد ، اتجه ذو القرنين إلى المشرق ، يقول القرآن :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) [الكهف : ٨٩ ـ ٩١]

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أى سلك طريقا بجنده ، فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها ومشرقها ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ، ودعاهم إلى الله عزوجل ، فإن أطاعوه .. وإلّا أذلهم وأرغم آنافهم ، واستباح أموالهم وأمتعتهم ، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أى حتى إذا وصل إلى أقصى المعمورة من جهة الشرق حيث مطلع الشمس فى عين الرائى (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) أى أمة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أى وجد الشمس تشرق على أقوام

٢٢٦

ليس لهم من اللباب والبناء ما يسترهم من حر الشمس ، فإذا طلعت الشمس دخلوا فى أسراب تحت الأرض ، وإذا غربت خرجوا لمكاسبهم ، أى ليس لهم بناء يكنّهم ، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس ، كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران ، أكثرهم يعيشون على السمك ، كانوا فى مكان لا يثبت عليه بنيان ، ويقال إنهم الزنج. (١)

قال ابن جرير : لم يبنوا فيها بناء قط ، ولم يبن عليهم فيها بناء قط ، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس ، أو دخلوا البحر ، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. جاء جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها ، قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس .. ما هذه العظام؟ ، قالوا : هذه جيف طلعت عليهم الشمس هنا فماتوا ، قال : فذهبوا هاربين فى الأرض.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أى كذلك فعل بأهل المشرق ، من آمن تركه ، ومن كفر قتله ، كما فعل بأهل المغرب وقد أحطنا علما بأحواله وأخباره ، وعتاده وجنوده ، فأمره من العظمة وكثرة الرجال بحيث لا يحيط به إلّا علم اللطيف الخبير ، فإنه تعالى : (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.)

أما عن الهدف الثانى من مسيرته فى سبيل الله .. وهو حماية الأقليات المؤمنة من طغيان الأكثريات الكافرة المفسدة المخربة .. فيقول القرآن :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً. قالُوا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) [الكهف : ٩٢ ـ ٩٥]

__________________

(١) تفسير الطبرى ١٦ / ١٤ ، وتفسير ابن كثير ٣ / ١٠٣

٢٢٧

يقول تعالى مخبرا عن ذى القرنين (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أى ثم سلك طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب ، يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة. (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أى حتى إذا وصل إلى منطقة بين حاجزين عظيمين ، بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلى أرمينية وأذربيجان.

قال الطبرى : والسّدّ : الحاجز بين الشيئين ، وهما هنا جبلان سدّ ما بينهما ، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج من ورائهم ليقطع مادة غوائلهم وشرهم عنهم. (١)

وقال ابن كثير : وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة ، يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيها فسادا ، ويهلكون الحرث والنسل. (٢)

* من هم يأجوج ومأجوج؟

جاء فى مسند الإمام أحمد : عن سمرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولد نوح ثلاثة ، سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك». قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبى الترك ، قال : إنما سمى هؤلاء تركا لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة ، وإلا فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان فى أولئك بغى وفساد وجراءة.

وقال السيوطى فى «الدر المنثور» : بإسناد إلى حذيفة قال : سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن يأجوج ومأجوج ، فقال : يأجوج ومأجوج أمة كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه ، كلّ حمل السلاح ، قلت : يا رسول الله : صفهم لنا ، قال : هم ثلاثة أصناف : صنف منهم : أمثال الأرز ، قلت : وما الأرز؟ قال : شجر بالشام ، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع فى السماء. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هؤلاء الذين لا يقوم

__________________

(١) تفسير الطبرى ١٦ / ١٥

(٢) تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٣

٢٢٨

لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ، ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام ، وساقتهم يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية ... (١). وقال المفسرون استنادا إلى ما فى الصحيحين : إن يأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه‌السلام ، وأن الله تعالى يقول : يا آدم .. فيقول : لبيك وسعديك ، فيقول : ابعث بعث النار ، فيقول : وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ، فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فقال : إن فيكم أمتين ما كانتا شىء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج.

* كيف بنى ذو القرنين السّد؟

لما بدا لذى القرنين أن يتجه إلى الشمال ، واتخذ لذلك طريقا حتى وصل إلى بلاد ما بين جبلين ، يقال إنها بين أرمينيا وأذربيجان ، ويسكن تلك البلاد أقوام لا تكاد تعرف لغتهم إلا بصعوبة ، وقد جاوروا يأجوج ومأجوج ـ قبائل من سكان سهول سيبيريا الشمالية ، وهم قوم مفسدون فى الأرض على جانب كبير من الفوضى والبدائية.

فلما رأى أصحاب السد ذا القرنين ، وما هو عليه من جاه وسلطان ، وما معه من جند وعتاد ، توسّلوا إليه ، وقالوا له : ياذا القرنين .. إن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون فى الأرض ، ويسعون فيها بالفساد ، قوم كالوحوش أو أشد! .. فهل نجعل لك (جعلا) أى نفرض لك جزءا من أموالنا كضريبة وخراج (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) يحمينا من شر يأجوج ومأجوج؟ .. وهذا استدعاء منهم لقبول ما يبذلونه على جهة حسن الأدب. (٢)

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢٥٠ ، ٢٥١

(٢) البحر ٦ / ١٦٤

٢٢٩

* ولما كان ذو القرنين رجلا مطبوعا على حب الخير ، مفطورا على الصالح من الأعمال ، قد مكنه الله فى الأرض ، وأعطاه الكثير من المال والثروة ، فقد أجابهم إلى طلبهم ، وردّ عطاءهم قائلا : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أى لا حاجة لى إلى المال ، فأعينونى بالأيدى والرجال (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) ـ أى أجعل بينكم وبينهم سدّا منيعا ، وحاجرا حصينا ، وهذه شهامة منه حيث رفض قبول المال وتطوع ببناء السد ، واكتفى بعون الرجال.

قال : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أى أعطونى قطع الحديد ، واجعلوها لى فى ذلك المكان. فحشدوا له الحديد والنحاس والوقود ، حتى وضعوه مكان السد (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ـ أى حتى إذا ساوى البناء بين جانبى الجبلين إلى القمتين ، (قالَ انْفُخُوا) أى انفخوا بالمنافيخ عليه (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أى جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإحماء. (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أى أعطونى أصب عليه النحاس المذاب.

قال الرازى : لما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى ، فالتصق بعضه ببعض ، وصار جبلا صلدا. فما استطاع يأجوج ومأجوج وقبيلهما أن يعلوه ويظهروا عليه لارتفاعه وملامسته ، وما استطاعوا له نقبا لقوته وسمكه ، وأراح الله منهم شعوبا كانت تتألم منهم كثيرا.

* ما شكل السد؟

قال ابن جرير ـ بإسناد إلى قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا قال :

يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال : انعته لى. قال : كالبرد المحبّر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء. قال : قد رأيته.

٢٣٠

وتقول المصادر القديمة : إن الخليفة الواثق قد بعث فى دولته بعض أمرائه ، وجهز معه جيشا سرية ، لينظروا إلى السد ويعاينوه ، وينعتوه له إذا رجعوا ، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد ، ومن ملك إلى ملك ، حتى وصلوا إليه ، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما ، وعليه أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللّبن والعمل فى برج هناك ، وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له ، وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ، ولا ما حوله من الجبال ، ثم رجعوا إلى بلادهم ، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين ، وشاهدوا أهوالا وعجائب. (١)

يقول الله سبحانه عن هذا السد : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أى فما استطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوّروه لعلوّه وملاسته (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أى وما استطاعوا نقبه من أسفل لصلابته وثخانته.

وبهذا السد المنيع أغلق ذو القرنين الطريق على يأجوج ومأجوج ، لذلك ما أن رآه حتى هتف قائلا : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أى نعمة من الله ورحمة على عباده.

* قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الامام أحمد بإسناد إلى أبى هريرة :

«إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السدّ كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم ارجعوا ، فستفتحونه غدا ولا يستثنى ، فإذا أصبحوا وجدوه قد رجع كما كان ، فإذا أراد الله بخروجهم على الناس ، قال الذى عليهم ارجعوا ، فستفتحونه إن شاء الله ويستثنى ، فيعودون إليه ، وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ، ويخرجون على الناس ، فيستقون المياه ، ويتحصن الناس منهم

__________________

(١) التفسير الكبير ٢١ / ١٧٢

٢٣١

فى حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا من فى الأرض ، وعلونا من فى السماء قسوا وعلوا ، فيبعث الله عليهم نغفا (أى دودا كالذى يكون فى أنوف الإبل) فى أعناقهم ، فيهلكون. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فو الذى نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم» (١).

ومهما يكن من سند مثل هذا الحديث ، فإن كثيرا من العلماء يعتبرونه من الإسرائيليات (٢). المروية عن كعب الأحبار وغيره ، ويرون أن رفعها إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلط وخطأ من بعض الرواة ، أو كيد يكيد به الزنادقة اليهود للإسلام ، وإظهار رسوله بمظهر من يروى ما يخالف القرآن.

فالقرآن قد نصّ بما لا يحتمل الشك ، على أنهم لم يستطيعوا أن يعلو السد ، ولا أن ينقبوه ، قال تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) [الكهف : ٩٧]

* وخير من تناول هذا الحديث بالتحليل والتوضيح الإمام الحافظ ابن كثير ، قال بعد أن ذكر من رواه :

حديث «غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، وإسناده جيد قوى ، ولكن «متنه» فى رفعه إلى النبى نكاره ، لأن ظاهر الآية : يقتضى أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ، ولا من نقبه ، لإحكام بنائه وصلابته وشدته ، ولكن هذا قد روى عن كعب الأحبار ، «أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه ، حتى لا يبقى منه إلا القليل ، فيقولون غدا نفتحه ، فيأتونه من الغد وقد عاد كما كان ، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل ، فيقولون كذلك ، فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ، ويقولون غدا

__________________

(١) السيوطى : الدر المنثور ٤ / ٢٥١

(٢) الشيخ محمد أبو شهبة : الإسرائيليات والموضوعات ص ٣٤٦

٢٣٢

نفتحه ، ويلهمون أن يقولوا : إن شاء الله ، فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه ، وهذا فتحه» .. ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب ، فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه فحدّث به أبو هريرة ، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ، والله أعلم» (١)

والدليل على ضعف هذا الحديث ، وأنه من وضع أهل الكتاب ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جعل من انكسار سد يأجوج ومأجوج من علامات الساعة ، وقيام القيامة.

* روى حذيفة بن أسيد الغفارى قال : اطلع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر ، فقال : ما تذاكرون؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال : إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات ، فذكر الدخان ، والدجّال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (٢).

عندئذ تخرج تلك الأمة المفسدة المدمرة لتعيث فى الأرض فسادا ، وتروع الناس أيما ترويع ، وفى ذلك يقول الحق سبحانه فى سورة الأنبياء : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) [سورة الأنبياء : ٩٦ ، ٩٧]

قال السدى : وهذا كله قبل يوم القيامة ، وبعد الدجال .. لذلك قال الله ههنا (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) [الكهف : ٩٨ ، ٩٩]

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٤

(٢) رواه مسلم ٨ / ١٧٩

٢٣٣

أى إذا اقترب الوعد الحق جعل الله السد (دَكَّاءَ) أى ساواه للأرض ، وجعله طريقا كما كان. (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) أى الناس يومئذ ـ يوم يدك هذا السد ـ يموج فى بعض. ثم نفخ فى الصّور على أثر ذلك (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) يوم القيامة.

قال المفسرون : بل المراد أنه إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة ، يختلط الإنس والجن.

وقيل : إذا ماج الإنس والجن ، قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر ، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب ، فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض ، فيقول : ما من محيص ثم يظعن يمينا وشمالا إلا أقصى الأرض ، فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض ، فيقول : ما من محيص ، فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار فأخرج الله خازنا من خزان النار ، فقال يا إبليس ، ألم تكن لك المنزلة عند ربك؟ ألم تكن فى الجنان؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض علىّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه ، فيقول : إن الله قد فرض عليك فريضة ، فيقول : ما هى؟ فيقول : يأمرك أن تدخل النار ، فيتلكأ عليه ، فيقول به وبذريته بجناحيه ، فيقذفهم فى النار ، فتزفر النار زفرة ، لا يبقى ملك مقرب ، ولا نبى مرسل إلا جثى لركبتيه» (١)

بقى أن نقول :

إن ذا القرنين ليس هو الإسكندر الأكبر ، لأن ما ذكره المؤرخون فى تاريخه لا يتفق وما حكاه القرآن الكريم عنه ، والذى نقطع به .. أنه كان رجلا مؤمنا صالحا ، ملكه الله شرق الأرض وغربها ، وكان من أمره ما قصه الله تعالى فى كتابه ، وهذا ما ينبغى أن نؤمن به ونصدقه ...

__________________

(١) رواه ابن أبى حاتم ـ انظر تفسير ابن كثير ٣ / ١٠٤

٢٣٤

أما معرفة هويته ... وما اسمه .. وأين وفى أى زمان كان ... فليس فى القرآن ولا فى السنة الصحيحة ما يدل عليه ـ على أن الإعتبار بقصته والانتفاع بها لا يتوقف على شىء من ذلك ، وتلك سمة من سمات القصص القرآنى ، وخصيصة من خصائصه ، أنه لا يعنى بالأشخاص والزمان والمكان مثل ما يعنى بانتزاع العبرة منها ، والاستفادة منها فيما سيقت له.

٢٣٥

الفصل السابع

الصّدّيق يوسف ـ ومحنة المراودة

شاء الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن يختص نبيّه «يوسف بن يعقوب» ـ عليهما‌السلام ـ بسورة من القرآن العظيم ، تقص قصته ، وتسجل كل مراحل حياته ، ومالاقاه من أنواع البلاء ، ومن ضروب المحن من إخوته ، ومن الآخرين ، فى بيت عزيز مصر ، وفى تآمر النسوة ، وفى السجن ، حتى نجّاه الله من ذلك الضيق ، وصرف عنه الكرب.

وقصة الصديق يوسف ـ عليه‌السلام ـ أسلوب فذ فريد ، فى ألفاظها ، وتعبيرها ، وأداتها ، وفى سردها وحوارها ، الممتع اللطيف ، تسرى مع النفس سريان الدم فى العروق ، وتجرى برقتها وسلاستها فى القلب ، جريان الروح فى الجسد.

كما جاءت قصة يوسف ، فى القرآن ، طرية ندية ، فى سرد ممتع لطيف ، سلس رقيق ، يحمل جو الأنس والرحمة ، والرأفة والحنان. ولهذا قال خالد بن معدان : «قصة يوسف ومريم مما يتفكّه بهما أهل الجنة فى الجنة». (١)

وقال عطاء : لا يسمع قصة يوسف محزون إلا استراح إليها.

* وهذه القصة ـ كما ذكر القرآن : «أحسن القصص». وقد ورد التنويه إلى ذلك فى أولها قال الحق سبحانه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣]

__________________

(١) حاشية الصاوى على الجلالين ٢ / ٢٣٣

٢٣٦

قال سعد بن أبى وقاص : قالت الصحابة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لو حدّثتنا ، قال : فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) .. الآية [الزمر : ٢٣]

قالوا : يا رسول الله : لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) فدلّهم الحق ـ سبحانه ـ فى هذه الآية ، على أحسن القصص ، وهى قصة يوسف ـ عليه‌السلام

* وقد اختلف العلماء فى سبب تسمية الله تعالى ـ قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ من بين أقاصيص القرآن «أحسن القصص». فقال بعض أهل المعانى :

«معنى الآية : قصة حسنة. لفظه لفظ المبالغة ، وحكمه حكم الصفة ، كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. قال الشاعر :

إنّ الّذى سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

أراد : عزيزة طويلة.

ـ وأجراه الباقون على الظاهر ، فقالوا : «هى أحسن القصص» ثم اختلفوا فى وجهها.

فروى عن سعيد بن جبير ، قال : اجتمع أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى سلمان الفارسى فقالوا : يا سلمان .. حدثنا عن التوراة بأحسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يعنى أن قصص القرآن أحسن مما فى التوراة.

٢٣٧

وقيل : سمى الله هذه القصة «أحسن القصص» لأنها ليست قصة فى القرآن ، تتضمن من العبر والحكم ، والعجائب واللطائف ، ما تضمنت هذه القصة ، ولذلك قال الله تعالى :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [يوسف : ٧]

وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)

[يوسف : ١١١]

وقيل : سماها «أحسن القصص» لحسن مجازاة يوسف إخوته. وصبره على أذاهم ، وإغضائه عند الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه معه ، وكرمه فى العفو عنهم ، حيث قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٩٢]

وقيل : لأن فى قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ذكر الأنبياء والصالحين ، والملائكة والشياطين ، والجن والإنس والأنعام والطير ، وسير الملوك والمماليك ، والعلماء والتجار ، والعقلاء والجهلاء ، وحال الرجال ، والنساء ومكرهن وحيلهن.

وفيها أيضا : ذكر العفة والتوحيد ، وعلم السير ، وتعبير الرؤيا ، وآداب السياسة والمعاشرة وتدبير المعاش ، فصارت أحسن القصص لما فيها من المعانى الجزيلة ، والفوائد الجليلة ، التى تصلح للدين والدنيا ، وتجمع خير الدنيا والعقبى.

قال أهل الإشارة : سماها الله (أحسن القصص) لما فيها من ذكر المحب والمحبوب.

وفى قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ـ أى نحدثك يا محمد ،

٢٣٨

ونروى لك أخبار الأمم السابقة ، بأصدق كلام ، وأحسن بيان (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أى بإيحائنا إليك هذا القرآن المعجز (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أى وإن الحال والشأن .. أنك كنت من قبل أن نوحى إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة ، لم تخطر ببالك ، ولم تقرع سمعك ، لأنك أمى لا تقرأ ولا تكتب.

ـ كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]

ـ وكما قال جل جلاله : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) [طه : ٩٩]

* تشير قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ أنه امتحن بمجموعة من المحن :

المحنة الأولى : محنة إلقائه فى غيابة الجبّ. وقد وردت فى قوله تعالى :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ، وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [يوسف : ٧ ـ ١٠]

بعد أن نبّه الحق تعالى على ما فى هذه القصة من الآيات والحكم ، والدلالات والمواعظ والبينات ، ذكر حسد إخوة يوسف له ، على محبة أبيه له ، ولأخيه (بنيامين) أكثر منهم .. (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ..)

هذه هى المحنة الأولى ليوسف ـ عليه‌السلام ـ يريدون التخلّص منه ،

٢٣٩

أى حين قال إخوته : والله ليوسف. وأخوه (بنيامين) أحب منا عند أبينا أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه وإنما قالوا (وَأَخُوهُ) وهم جميعا إخوة ، لأن أمهما كانت واحدة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أى والحال نحن جماعة ذوو عدد ، نقدر على النفع والضرّ ، بخلاف الصغيرين (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى إنه فى خطأ ، وخروج عن الصواب بيّن واضح ، لإيثاره يوسف وبنيامين علينا بالمحبة.

قال القرطبى : لم يريدوا ضلال الدين ، إذ لو أرادوه لكفروا ، وإنما أرادوا أنه فى خطأ بيّن فى إيثار إثنين على عشرة. (١)

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أى اقتلوا يوسف ، أو ألقوه فى أرض بعيدة مجهولة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أى فعند ذلك يخلص ويصفو لكم حب أبيكم ، فيقبل عليكم.

قال الإمام الرازى : (٢) المعنى إن يوسف شغله عنا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة والميل (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أى وتتوبوا من بعد هذا الذنب وتصبحوا قوما صالحين.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أى قال لهم أخوهم «يهوذا»

ـ كما ذكر ابن عباس ـ وهو أكبر ولد يعقوب : لا تقتلوا يوسف ، بل ألقوه فى قعر الجب وغوره ، (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يأخذه بعض المارّة المسافرين (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أى وإن كان لا بد من الخلاص منه ، فاكتفوا بذلك ، وكان رأيه فيه أهون شرا من رأى غيره.

__________________

(١) تفسير القرطبى ج ٩ ص ١٣١

(٢) تفسير الرازى ١٨ / ٩٤

٢٤٠