دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

أى خرج قارون ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة ، وتحمّل باهر فى مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه ، فلما رآه الناس ، انقسموا إلى فريقين :

١ ـ فريق ينظر نظرة سطحية ، فتعميه الدنيا وزخارفها عن الوضع السليم ، والطريق المستقيم ، وهؤلاء من يريدون الحياة الدنيا ، ويميلون إلى زخارفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذى أعطى قارون .. قالوا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ـ أى ذو حظ وافر من الدنيا ، فتمنوا أن يكونوا مثل قارون فى غناه وأبهته ، ونسوا أن لله فى خلقه شئونا ، وأن السعادة والخير ليس فى المال الكثير ، والجاه العريض ، وإنما الخير والسعادة شىء وراء ذلك كله ، ما دام العبد موصولا برّبه ، راضيا مرضيا.

وهذه النقطة عالجها القرآن علاجا حاسما ، لأن الحق ـ تبارك اسمه ـ يعلم خطرها ، إذ من يمد عينيه إلى مال غيره ويتمناه ، يعود وقد امتلأ قلبه حسدا وحقدا ، وناهيك بهذه الأخطار التى ينشأ عنها معظم الجرائم ، اقرأ قول الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ١٣١]

٢ ـ وفريق آخر ـ قد نوّر الله بصيرته ـ فهو ينظر الدنيا بعين العبرة والعظة ، عين الفاهم للحقائق التى لا تخدعه المظاهر الخلابة ، وهؤلاء هم أهل العلم النافع ، لذلك فهم لما سمعوا مقالتهم ، قالوا لهم : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أى جزاء الله لعباده المؤمنين فى الدار الآخرة خير مما ترون ـ كما جاء فى حديث الصادق المصدوق ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول الله تعالى : «أعددت لعبادى الصّالحين مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» واقرأوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٧]

٣٠١

وقول الفريق الثانى للفريق الأول (وَيْلَكُمْ) فيها زجر وتأثيم ، يقصدون ـ أن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، فالسعادة فيه ، والخير لصاحبه ، إذ هو دائم ، لا تعب معه ولا ضرر فيه ، وهذا المال مصدر تعب وشقاء لصاحبه فى الواقع ، ونفس الأمر.

* (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أى ولا يلقّى هذه الحقائق ، ولا يعمل بها إلا الصّابرون.

ولا شك أن هذه الحقائق هى الإيمان ، والعمل الصالح ، وإدراك ما يوصل إلى خيرى الدنيا والآخرة.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) ـ لما ذكر الحق سبحانه اختيال قارون فى زينته ، وتعاليه على قومه ، وبغيه عليهم ، عقّب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت فى الصحيح عند البخارى ، من حديث الزهرى عن سالم ـ أنا أباه حدثه ، أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «بينما رجل يجرّ إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة».

وفى حديث أبى سعيد : قال النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«بينما رجل ممّن كان قبلكم خرج فى بردين أخضرين يختال فيهما أمر الله الأرض ، فأخذته فإنّه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة».

* أسباب هلاك قارون :

وقد ذكرت المصادر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبى الله عليه (١)

فعن ابن عباس والسدّى .. أن قارون أعطى امرأة بغيّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بنى إسرائيل ، وهو قائم فيهم ، يتلو عليهم كتاب الله تعالى ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ٤٠١

٣٠٢

فتقول يا موسى : إنك فعلت بى كذا وكذا ، فلما قالت ذلك فى الملأ لموسى عليه‌السلام أرعد من الفرق ، وأقبل عليها بعد ما صلى ركعتين ، ثم قال : أنشدك بالله الذى فرّق البحر وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا وكذا ، لما أخبرتنى بالذى حملك على ما قلت؟ فقالت : أما إذا أنشدتنى فإن قارون أعطانى كذا وكذا ـ على أن أقول ذلك لك. وأنا أستغفر الله وأتوب إليه.

فعند ذلك خرّ موسى لله عزوجل ساجدا ، وسأل الله فى قارون ، فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه ، وداره ، فكان كذلك.

وفى رواية أخرى : أن قارون لما خرج على قومه فى زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشهب ، وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة ، فمر فى محفله ذلك على مجلس نبى الله موسى عليه‌السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله ، فلما رأى الناس قارون ، انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه ، فدعاه موسى ـ عليه‌السلام ـ وقال : ما حملك على ما صنعت؟

فقال يا موسى : أما لئن كنت فضّلت علىّ بالنبوّة ، فلقد فضّلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجنّ فلتدعونّ علىّ ، وأدعو عليك.

فخرج موسى ، وخرج قارون فى قومه ، فقال موسى ـ عليه‌السلام ـ تدعو أو أدعو أنا؟ فقال : بل أدعو أنا ، فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى أدع؟ فقال : نعم ، فقال موسى : اللهم مر الأرض أن تطيعنى اليوم .. فأوحى الله إليه أنى قد فعلت ـ فقال موسى : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أقدامهم ، ثم قال خذيهم .. فأخذتهم إلى ركبهم .. ثم إلى مناكبهم .. ثم قال : أقبلى بكنوزهم وأموالهم ، قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها ، ثم أشار موسى بيده ، ثم قال : اذهبوا بنى لاوى ، فاستوت بهم الأرض. قال ابن عباس : خسف بهم إلى الأرض السابعة.

٣٠٣

* وقوله تعالى : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) [القصص : ٨١] أى ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه ولا حشمه ، ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله ، ولا كان هو فى نفسه منتصرا لنفسه ، فلا ناصر له من نفسه ، ولا من غيره.

وهكذا جاءت نهاية قارون الأليمة ، مؤيدة لما ذهب إليه العلم والبصر بالدنيا والآخرة ، فخسف الله بقارون وبداره وبماله وبجموعه الأرض ، فما كان له فئة ينصرونه من دون الله ، ويمنعون عنه بأس الله وبطشه ، حيث لم يعمل عملا صالحا يقربه من الله ، ولم يحصّن ماله بالصدقة والزكاة ، ولم يتقرب إلى الله بترك الكفر ، ولم يتواضع إلى الناس بترك الغرور والغطرسة .. ولهذا كله كانت النتيجة أن ضاعت دنياه ، وخسف الله به الأرض ، والله على كل شىء قدير ، وبعباده خبير بصير ، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) ـ أى الذين لما رأوه فى زينته قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ)

فلما خسف به أصبحوا يقولون (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أى ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطى ويمنع ، ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة ، والحجة البالغة ، وهذا كما فى الحديث المرفوع عن ابن مسعود : «إنّ الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطى المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطى الايمان إلّا من يحب».

نعم الله وحده هو الذى يعطى ويمنع ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقتر ، فلم يعط إنسانا لعقله وعلمه ، ولم يحرم آخر لجهله وسوء رأيه ، بل الأمر كله لله.

وإذا كان ذلك كذلك ـ فالواجب هو امتثال أمر الله ومخالفة النفس الأمارة بالسوء ، وترك الغرور والتكبر ، فإن الأمر بيد الله ، وهو صاحب الأمر ،

٣٠٤

لو لا أن منّ الله علينا لأصابنا ما أصاب قارون. وى (كلمة تفيد معنى التعجب) كأنه لا يفلح الكافرون حقيقة ، وما هم فيه فى الدنيا فهو استدراج لهم ، وفتنة لغيرهم.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [القصص : ٨٣ ، ٨٤]

فهذا إخبار من الحق عز شأنه ، أن الدار الآخرة ، ونعيمها المقيم ، الذى لا يحول ولا يزول ، جعلها الله لعباده المؤمنين ، المتواضعين ، الذين لا يريدون علوّا فى الأرض ، أى ترفعا على خلق الله ، وتعاظما عليهم ، وتجبرا بهم ، ولا فسادا فيهم.

قال المفسرون : العلو فى الأرض التكبر بغير حق ، والفساد أخذ المال بغير حق.

عن على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل فى قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.) وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره ، فإن ذلك مذموم ، كما جاء فى الحديث الصحيح عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إنه أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد».

* وأما إذا أحب المرء ذلك لمجرد التأمل فهذا لا بأس ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله : إنى أحب أن يكون ردائى حسنا ، ونعلى حسنة ، أفمن الكبر ذلك؟ فقال : لا .. «إنّ الله جميل يحبّ الجمال». (رواه مسلم)

وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أى يوم القيامة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أى ثواب الله خير من حسنة العبد ، فكيف والله يضاعفه أضعافا كثيرة ، وهذا مقام الفضل.

٣٠٥

* ثم قال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ كما قال فى الآية الأخرى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٩٠] وهذا مقام الفضل والعدل.

وخلاصة المعنى : تلك الدار الآخرة وما فيها نعيم مقيم دائم ، لا تعب ولا مشقة معه يجعلها ربك للذين لا يريدون علوا فى الأرض على غيرهم ، ولا يريدون فسادا ، والعاقبة للمتقين.

وتأمل قول الحق سبحانه : (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) حيث علّق الوعد بترك إرادة العلو ، والفساد ، وميل القلب إليها ، لا بفعلها مبالغة فى تحذير المؤمنين ، وإبعادهم عن هذه الأمراض الخطيرة ، التى تبيد الأمم ، وتهلك الأفراد والجماعات.

ولا غرابة فى ذلك كله ، فإن هناك قانونا وسنة لا تتخلّف هى : من جاء بالحسنة فله خير منها أى ثواب خير منها وهو عشر أمثالها ، والله يضاعف لمن يشاء. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلّا مثلها فقط ، جزاء عمله ، وربك ذو فضل عظيم ، إذ لا يجزى بالسيئة إلا مثلها ، ويجزى بالحسنة عشرة أمثالها ، إن ربك واسع المغفرة.

٣٠٦

الفصل الحادى عشر

نبى الله داود .. وقضية الإبتلاء

اختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ داود ـ عليه الصلاة والسلام ، ليكون نبيا مرسلا ، وملكا قويا عزيزا ، وسبب له الأسباب ، ويسّر له السبل ، وأعده لكى يضطلع بالدور الكبير ، الذى رسمه له وأراده ربّ العزّة.

قال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه :

«لما قتل داود جالوت ، وكان قتله له ـ فيما ذكر ابن عساكر ـ عند قصر أم حكيم ، بقرب مرج الصفر ، فأحبته بنو إسرائيل ، ومالوا إليه ، وإلى ملكه عليهم ، فكان من أمر طالوت ما كان ، وصار الملك إلى داود ـ عليه‌السلام ، وجمع الله له بين الملك والنبوة ، بين خير الدنيا والآخرة ، وكان الملك فى سبط ، والنبوة فى آخر ، فاجتمعا فى داود هذا» (١)

وهذا كما قال تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ، وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ، وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٢٥١] ـ أى لو لا إقامة الملوك حكاما على الناس ، لأكل قوى النّاس ضعيفهم ، ولهذا جاء فى بعض الآثار : «السلطان ظلّ الله على أرضه».

وقد وضّح ابن جرير ـ فى تاريخه ـ هذا الحادث ، فذكر أن جالوت لما بارز طالوت ، فقال له أخرج إلىّ ، وأخرج إليك ، فندب طالوت الناس ،

__________________

(١) ابن كثير ، قصص الأنبياء ٤٨٨ ط. بيروت.

٣٠٧

فانتدب داود ، فنازل جالوت ، ثم قتله. قال وهب بن منبه : فمال الناس إلى داوود حتى لم يكن لطالوت ذكر ، وخلعوا طالوت ، وولوا عليهم داود.

وروى ابن عساكر ـ بإسناده ـ أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم ، وأن النهر الذى هناك هو المذكور فى الآية : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) .. الآية [البقرة : ٢٤٩]

وفى هذا يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] ويقول عزوجل : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ، وَكُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ٧٩]

وزيادة فى تكريم داود ـ عليه‌السلام ـ وتدعيما لدعوته ، وتصديقا لنبوته ، اختصه الله بأمور لم تكن لغيره من أنبياء الله.

١ ـ اختصه الله بالحكمة وفصل الخطاب.

قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [سورة ص الآية : ٢٠]

قال الراسخون فى العلم : فأما الحكمة .. فهى النبوّة والفهم ، والإصابة فى الأمور.

وأما فصل الخطاب : فعلم الحكم ، والنظر فى القضاء.

قال ابن مسعود : كان لا يتتعتع فى القضاء بين الناس ، يعنى إصابة القضاء وفهمه. ففصل الخطاب ـ الذى أكرمه الله به : هو الكلام البيّن الواضح ، الذى يفهمه كل من يخاطب به. وأضاف القرطبى : البيان الفاصل بين الحق والباطل (١).

__________________

(١) الجامع للأحكام ج ١٥ ص ١٦٢

٣٠٨

وقد ذكر المفسرون والمؤرخون : أن ملك داود كان قويا عزيزا ، لأنه كان يسوسه بالحكمة والقوة معا ، ويقطع ويجزم برأى لا تردّد فيه ، وفى ذلك يقول الحق سبحانه : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أى قويناه.

قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطانا ، وكان يحرس محرابه كل ليله ثلاثة وثلاثون ألف رجل.

روى عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من بنى إسرائيل تعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا على داود ـ عليه‌السلام ـ فقال المعتدى : إن هذا قد غصبنى بقرتى ، فسأل داوود الرجل عن ذلك فجحد ـ أى أنكر ، وسأل الآخر البينة ، فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر فى أمركما ، فقاما من عنده ، فأوحى الله تعالى إليه فى منامه .. أن يقتل الرجل الذى تعدى ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتبين ، فأوحى الله تعالى إليه مرة أخرى أن يقتله ، فقال : هذه رؤيا ، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله ، فأرسل داود إلى الرجل ، فقال له : إن الله تعالى قد أوحى إلى أن أقتلك ، فقال له الرجل : تقتلنى بغير ذنب؟ ولا بيّنة؟ فقال داود : نعم ، والله لأنفذن أمر الله فيك. فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال : لا تعجل علىّ حتى أخبرك ، إنى والله ما أخذت بهذا الذنب ، ولكنى كنت اغتلت ولد هذا فقتلته ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بنى إسرائيل عند ذلك لداود ، واشتد له ملكه. فذلك قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ)(١) فعظم أمر داوود فى بنى إسرائيل جدا ، وخضعوا له خضوعا عظيما.

٢ ـ ويتصل بفصل الخطاب ، تأييد الله له بالسّلسلة. تلك التى أعطاها الله تعالى له ، ليعرف المحقّ من المبطل فى المحاكمة إليه.

__________________

(١) العرائس : للثعالبى ص ٣٠٨ نشر مكتبة الجمهورية بمصر.

٣٠٩

روى الضحاك عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : «إن الله ـ تعالى ـ أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ، ورأسها عند محراب داود ـ عليه‌السلام ـ حيث يتحاكم الناس إليه ، وكانت قوتها قوة الحديد ، ولونها لون النار ، وحلقتها مستديرة ، مفصلة بالجوهر ، ومدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرطب ، فلا يحدث فى السماء حادث إلّا صلصلت السلسلة ، فيعلم داود ذلك الحادث ، ولا يمسها ذو عاهة إلّا برأ ، وكان علامة دخول قومه فى الدين أن يمسوها بأيديهم ، ثم يمسحوا بأكفهم على صدورهم ، وكانوا يتحاكمون إليها ، فمن اعتدى على صاحبه وأنكر ماله من حق أتى السلسلة ، فمن كان صادقا محقا مدّ يده إلى السلسلة فينالها ، ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها.

وقال وهب بن منبه : لما كثر الشر وشهادات الزور فى بنى إسرائيل ، أعطى داود سلسلة لفصل الخطاب ، فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس ، وكانت من ذهب ، فإذا تشاجر الرجلان فى حق ، فأيهما كان محقا نالها ، والآخر لا يصل إليها ، فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه ، وأخذ عكازا وأودعها فيه ، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعى ، فلما قيل للآخر خذها بيدك ، عمد إلى العكاز فأعطاه المدعى ، وفيه تلك اللؤلؤة ، وقال : اللهم إنك تعلم أنى دفعتها إليه ، ثم تناول السلسلة فنالها ، فأشكل أمرها على بنى إسرائيل ، ثم رفعت سريعا من بينهم. (١)

٣ ـ واختصه الله ـ عزوجل ـ بالقوة فى العبادة ، وشدة الاجتهاد.

كما قال سبحانه : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [سورة ص ١٧] يعنى القوة فى العبادة (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعنى توّاب مسبح مطيع ، كان يصوم يوما ، ويفطر يوما.

__________________

(١) ابن كثير : قصص الأنبياء ٤٨٨

٣١٠

قال ابن عباس : (الأيد) قوة فى الطاعة ، يعنى ذا قوة فى العبادة والعمل الصالح.

وقال قتادة : أعطى قوة فى العبادة وفقها فى الدين. وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ، ويصوم نصف الدهر. وقد ثبت فى الصحيحين : أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال :

«أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داوود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ، ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى».

٤ ـ واختصه الله ـ جل جلاله ـ بنزول كتابه «الزّبور»

أنزله الله على داود بالعبرانية ، مائة وخمسون سورة ، فى خمسين منها ذكر ما يكون من بختنصّر وأهل بابل ، وفى خمسين منها ذكر ما يلقون من الروم من أهل إيران ، وفى خمسين منها موعظة وحكمة ، ولم يكن فيها حلال ولا حرام ، فذلك قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء : ١٦٣]

٥ ـ واختصه الله ـ عز شأنه ـ بالصوت الطيب ، والنغمة اللذيذة ، والترجيع والألحان.

ولم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته ، كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا ، بحيث يعرق المحموم ، ويفيق المغمى عليه ، وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرية ، فيقوم وتقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه ، وتقوم الناس خلف العلماء ، وتقوم الجن خلف الناس ، وتقوم الشياطين خلف الجن ، وتدنو الوحوش والسباع ، ويؤخذ بأعناقها ، وتظله الطيور مضحية ، ويركد الماء الجارى ، ويسكن الريح ، وما صنعت المزامير والبرابط والصنوج إلّا على صوته. وتسخر معه الجبال. وذلك قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [سورة ص : ١٨ ، ١٩]

٣١١

كما قال عز شأنه : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠]

قال ابن عباس ـ فى تفسير هذه الآية (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أى عند آخر النهار وأوله ، أو عند الغروب والشروق ، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد ، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير فى الهواء يرجّع بترجيعه ، وتسبح بتسبيحه ، وكذلك الجبال تجيبه ، وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا.

وقال الأوزاعى : بإسناده ـ أعطى داود من حسن الصوت مالم يعط أحد قط ، حتى أن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشا وجوعا ، وحتى أن الأنهار لتقف.

وقال وهب بن منبه : كان لا يسمعه أحد إلّا حجل كهيئة الرقص ، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله ، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته ، حتى يهلك بعضها جوعا.

روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صوت أبى موسى الأشعرى ، وهو يقرأ فقال : «لقد أوتى أبو موسى من مزامير آل داود» وفى رواية : «لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود (١)

٦ ـ واختصه الله بالقوة الجسدية والعضلية ، التى يسّرت له إلانة الحديد.

قال الحق ـ تبارك وتعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ١٠ ، ١١] أعانه الله ـ سبحانه ـ على عمل الدروع من الحديد ،

__________________

(١) رواه أحمد.

٣١٢

ليحصن المقاتلة من الأعداء ، وأرشده إلى صنعها وكيفيتها ، فقال : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أى لا يجعل المسامير دقاقا فتفلق ، ولا غلاظا فتكسر الحلق.

وكان سبب ذلك ما روى فى الأخبار : (١)

«أن داود ـ عليه‌السلام ـ لما ملك بنى إسرائيل ، كان من عادته أن يخرج إلى الناس متنكرا ، فإذا رأى رجلا لا يعرفه ، تقدم إليه فيسأله عن داود ، فيقول له : ما تقول فى داود واليكم؟ فيثنى عليه ، ويقول خيرا ، فبينما هو كذلك يوما من الأيام إذ قيض الله له ملكا فى صورة الآدميين ، فلما رآه تقدم داود على عادته فسأله ، فقال له الملك : نعم الرجل هو .. لولا خصلة فيه. فراع داود ، فقال : ما هى يا عبد الله؟ فقال : إن داوود يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبّه لذلك ، وسأل الله تعالى ، أن يسبب له سببا يستغنى به عن بيت المال ، فينفق ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد ، فصار فى يده مثل الشمع والعجين ، والطين المبلول.

قال الحسن البصرى : كان يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ، ولا ضرب بحديد ، أى دون حاجة إلى تسخين ولا مطرقة.

وقال الحق سبحانه : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء : ٨٠]

أى وعلمه الله ـ تعالى ـ صنعة الدروع ، فكان يتخذ الدروع ، وهو أول من عملها من زرد ، وكانت قبل ذلك صفائح ، فيقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربع آلاف درهم ، فيأكل ويطعم عياله ، ويتصدق على الفقراء والمساكين.

__________________

(١) ابن كثير : قصص الانبياء ٤٨٩.

٣١٣

وقد ثبت فى الصحيح : «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وأن نبى الله داود كان يأكل من كسب يده».

٧ ـ هذا إلى جانب ما وهبه الله من جمال الخلق والخلق ، فقد كان داود أزرق العينين ، «وزرقة العينين يمن» ـ كما قال الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .. أحمر الوجه ، دقيق الساقين ، سبط الشعر ، أبيض الجسم ، طويل اللحية فيها جعودة ، حسن الخلق ، طاهر القلب نقيه.

ذلك هو نبى الله ، وخليفته ، داود بن إيشا ، بن عويد ، بن عابر سلمون ، بن يخشون ، بن عوينادب ، بن ارم ، بن حصرون ، بن فرص ، بن يهوذا ، ابن يعقوب ، بن إسحاق ، بن إبراهيم الخليل ، عبد الله ونبيه ، وخليفته فى أرض بيت المقدس (٢).

هذا النبى الكريم ، الذى اختصه الله بهذه الهبات ، وجمع له بين الدين والدنيا ، بين النبوة والملك ، تعرض لامتحان رهيب ، أورد العلماء أخباره ، وإن اختلفوا فى كنهه وأسبابه ..

فقال قوم : كان سبب ذلك ، أنه تمنى يوما من الأيام على ربه ـ تعالى ـ منزلة آبائه ، إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وسأله أن يمتحنه بمثل الذى كان يمتحنهم ، ويعطيه من الفضل مثل الذى أعطاهم ، فروى السدى ، والكلبى ، ومقاتل عن أشياخهم فقالوا :

«كان داود ـ عليه‌السلام ـ قد قسم الدهر ثلاثة أيام ، يوما يقضى فيه بين الناس ، ويوما يخلو فيه بنسائه ، ويوما لعبادة ربه ، وقراءة الكتب ، وكان يجد

__________________

(١) صحيح البخارى ، ورواه أبو هريرة.

(٢) ابن كثير : قصص الأنبياء ص ٤٨٨

٣١٤

فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب عليهم‌السلام ، فيقول : يا رب .. أرى الخير قد ذهب به آبائى ، الذين كانوا قبلى .. فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها أحد ، فصبروا عليها .. ابتلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بنار النمروذ ، وبذبح ولده ، وابتلى يعقوب بالحزن وذهاب بصره على يوسف ، وإنك لم تبتل بشىء من ذلك».

فقال داود ـ عليه‌السلام ـ يا رب فابتلينى كما ابتليتهم ، وأعطنى كما أعطيتهم ..

فأوحى الله تعالى إليه : إنك مبتلى فى شهر كذا .. فى يوم كذا ، فاحترس على الصبر ..

فلما كان اليوم الذى وعده الله ، دخل داود محرابه ، وأغلق بابه ، وجعل يصلى ، ويقرأ الزبور ، استعدادا للأمر.

ـ فماذا كان نوع الابتلاء العظيم .. والامتحان الرهيب؟

ذكر ابن جرير ، وابن أبى حاتم ، والبغوى ، والسيوطى (١) ، من الأخبار والوقائع ما تقشعر منه الأبدان.

قالوا : «بينما داود فى محرابه يصلى ، إذ جاءه الشيطان ، وتمثل فى صورة حمامة من ذهب ، فيها من كل لون حسن ، فوقعت بين يديه ، فمدّ يده ليأخذها ـ وفى بعض الروايات : ليدفعها إلى ابن له صغير ، فلما أهوى إليها ، طارت غير بعيد ، من غير أن تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها ، فتنحّت فتبعها ، فطارت فوقعت فى كوّة المحراب ، فذهب ليأخذها ، فطارت من الكوة ، فنظر داود أين تقع ، فيبعث إليها من يصيدها ، فإذا هو بامرأة فى بستان على شط بركة تغتسل. هذا قول الكلبى.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٣٠٠

٣١٥

قال السدى : رآها تغتسل على سطح لها ، فرآها من أحسن النساء خلقا ، فتعجب داود من حسنها ، وحانت منها التفاتة ، فأبصرت المرأة ظل داود ـ عليه‌السلام ـ فنشرت شعرها ، فغطى بدنها كله ، فزاد بذلك إعجابا بها ، فسأل عنها ، فقيل له :

هى سابع بنت شائع ، امرأة أورياء بن حنان ، وزوجها فى غزاة البلقاء مع أيوب بن صوريا ، ابن أخت داود.

فكتب داود إلى ابن أخته أيوب ، صاحب بعثة بلقاء ، أن أبعث أورياء إلى موضع كذا وكذا ، وقدّمه على التابوت ـ وهو صندوق فيه بعض مخلفات أنبياء بنى إسرائيل ، فكانوا يقدمونه بين يدى الجيش ، كى ينصروا ، وكان المقدم على التابوت لا يحل له أن يتقهقر إلى ورائه ، حتى يفتح الله على يديه ، أو يستشهد ، فبعث به ففتح له ، فكتب إلى داود بذلك ، فكتب إليه داود أيضا .. أن ابعثه إلى غزوة كذا ، وكان رئيسها أشد منه بأسا ، فبعثه فقتل فى المرة الثانية .. فلما انقضت عدّتها ، تزوجها داود ، فهى أم سليمان ـ عليه‌السلام (١).

فلما دخل داوود بامرأة أورياء ، لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين فى صورة رجلين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه فى يوم عبادته ، فمنعهما الحراس أن يدخلا عليه ، فتسوّرا المحراب وهو يصلى ، فما شعر إلّا وهما بين يديه جالسان ، فذلك قوله تعالى :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) [سورة ص ٢١ ، ٢٢] ففزع منهم حين هجما عليه فى محرابه بغير

__________________

(١) قصص الأنبياء للثعالبى ٣١٠ ، والدر المنثور للسيوطى ج ٥ ص ٣٠٠ ، وقصص الأنبياء لابن كثير ٤٩٠

٣١٦

إذنه ، لأنه كان فى محرابه ، وهو أشرف مكان فى داره ، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم ، فلم يشعر إلّا بشخصين قد تسوّرا عليه المحراب ، أى احتاطا به يسألانه عن شأنهما.

(قالُوا : لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ)

أى لا تخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدّى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالعدل ، ولا تجر ، ولا تفرط ، ولا تظلم فى الحكم (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أى وأرشدنا إلى وسط الطريق ، يعنى إلى الطريق الحق ، المستقيم الواضح.

وهنا نكون قد وصلنا إلى موضوع القضية .. بداية قصة الخصمين المتخاصمين ..

قال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [سورة ص : ٢٣]

قال بعض المفسرين : وهذا من أحسن التعريض ، حيث كنّى بالنعاج عن النساء. والعرب تفعل ذلك كثيرا ، تورّى عن النساء ، وتكنى عنها بألقاب كالظباء ، والنعاج ، والبقر ، وهو كثير فاشى فى أشعارهم. فقد يكون هذا كناية عن النساء ، فيكون الغرض : إن عنده تسعا وتسعين امرأة ، وعندى امرأة واحدة.

فقال : (أَكْفِلْنِيها) أى اعطنيها ، وتحول لى عنها ، ملّكنى إياها ، واجعلها تحت كفالتى.

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى غلبنى فى الخصومة ، وكان أفصح منّى ، وشدّد علىّ فى القول وأغلظ ، وإن حارب كان أبطش منى.

٣١٧

فقال داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أى لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة.

قال السدّى ـ باسناده ـ إن أحدهما لما قال : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) قال داود للآخر : ما تقول؟. قال : إن لى تسعا وتسعين نعجة ، وله نعجة واحدة ، فأريد أن آخذها منه ، وأكمل نعاجى مائة ، قال : وهو كاره؟ .. قال : نعم.

قال داود : إذا لا ندعك ، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، يعنى طرف الأنف ، وأصل الجبهة.

فقال الرجل : يا داود .. أنت أحق بضرب هذا منى ، حيث كان لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأورياء إلا امرأة واحدة ، فلم تزل تعرضه للقتال حتى قتل ، وتزوجت امرأته.

فهذا هو وجه الآية .. وقصة الإمتحان ، إلّا أن داود حكم قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر.

ل : ثم إن داود نظر فلم ير أحدا ، فعرف ما قد وقع فيه ، فذلك قوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) [سورة ص ٢٤] أى ابتليناه ، أى علم وأيقن إنما اختبرناه بهذه الحادثة ، وتلك الحكومة.

قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنة داود النظر ، ولم يتعمد داوود ـ عليه‌السلام ـ النظر إلى المرأة ، ولكنه أعاد النظر إليها ، فصارت عليه وبالا. لذلك حث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على عدم تعدد النظر ، فقال : «لا تتبع النظرة ، فإن لك الأولى ، وعليك الآخرة».

٣١٨

هذه القضية ـ قضية الابتلاء ، بهذه الأحداث والوقائع ، كانت مثار نقاش كبير ، وجدل كثير ، منذ قديم الزمان ، وخبّ فيها ووضع القصّاص ونقلة الأخبار والرواة الكثير من الأقوال. وقد ساعدهم على ذلك ، أن فى التوراة والانجيل ، ما يثبت لبعض الأنبياء كداود ، ما يترفع عنه عامة الناس ، فكيف الحال مع الأنبياء والمرسلين؟

ونحن المسلمين ، المتمسكين بالكتاب والسنة ، نقول بعصمة الأنبياء ، وترفعهم عن الدنايا والسقطات ، وبعدهم عن سفاسف الأمور قولا وعملا ، فإننا نرى أن زعماء الإصلاح ، على مر الدهور ، قوم غير عاديين ، يكونون غالبا بعيدين عن الدنيا ، والأنبياء ـ عليهم رضوان الله وسلامه ـ أولى بذلك منهم ، لأنهم قوم اصطفاهم الله ، واختارهم ، وصنعهم على يده ، فأرواحهم طاهرة ، ونفوسهم عالية ، يستحيل عليهم ما ذكره أحبار اليهود فى حقّهم ، ونقله بعض علماء المسلمين ، ورووه على ألسنتهم ، ودونوه فى كتبهم بحسن نية.

ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة والتابعين ـ من أمثال ابن عباس ، وابن مسعود ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، والسدّى ، وغيرهم .. بل جاء بعضها مرفوعا إلى النبى المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال السيوطى ـ فى الدر المنثور (١) ، وأخرج الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول ، وابن جرير بسنده ، عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه قال : «سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «إن داوود ـ عليه‌السلام ـ حين نظر إلى المرأة ، قطع على بنى إسرائيل ، وأوصى صاحب الجيش ، فقال : إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدى التابوت ، وكان التابوت فى ذلك الزمان يستنصر به ،

__________________

(١) ج ٥ ص ٣٠٠

٣١٩

من قدم بين يدى التابوت لم يرجع حتى يقتل ، أو ينهزم معه الجيش ، فقتل ، وتزوج المرأة ، ونزل الملكان على داود ـ عليه‌السلام ـ فسجد ، فمكث أربعين ليلة ساجدا ، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه ، فأكلت الأرض جبينه ، وهو يقول فى سجوده :

«ذل داود ذلة هى أبعد مما بين المشرق والمغرب ، ربّ إن لم ترحم ضعف داود ، وتغفر له ذنبه ، جعلت ذنبه حديثا فى الخلائق من بعده ، فجاء جبريل ـ عليه‌السلام ـ بعد أربعين ليلة ، فقال : يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم ، الذى هممت به ، فقال داود : قد علمت أن الله قادر على أن يغفر الهمّ الذى هممت به» ..

وقوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [سورة ص : ٢٤] ـ أى طلب المغفرة من الله ، وخر ساجدا لله تعالى ، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه ، فاستغفر ربه مما ألم به ، وتاب ، وخر راكعا ، وصلى لله قائما وساجدا ، وأناب ، وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين يوما.

* وروى عن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه ، وغيرهما ، قالوا جميعا :

«إن داود ـ عليه‌السلام ـ لما دخل عليه الملكان ، وقضى على نفسه ، تحوّلا فى صورتهما فعرجا ، وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ، وعلم داود أنما فتناه ، فخرّ ساجدا أربعين يوما ، لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها ، أو صلاة مكتوبة ، ثم يعود فيسجد .. لا يأكل ولا يشرب ، وهو يبكى حتى نبت العشب حول رأسه ، وهو ينادى ربه تعالى ، ويسأله التوبة ، وكان يقول فى سجوده :

سبحان الملك الأعظم ، الذى يبتلى الخلائق بما يشاء.

سبحان خالق النور ، سبحان الحائل بين القلوب ، إلهى .. خليت بينى وبين عدوى إبليس فلم أتنبه لفتنة إذ زلّ بى قدمى.

٣٢٠