دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

الدكتور أحمد جمال العمري

دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني

المؤلف:

الدكتور أحمد جمال العمري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوّل ، فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم (١). فنزل قول الحق سبحانه :

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ٩ ـ ١٢]

فهذا إخبار من المولى عزوجل عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك ، يقول تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ) يا محمد (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أى ليس أمرهم عجيبا فى قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ، ولا يعجزه شىء ، أعجب من أخبار أصحاب الكهف.

قال مجاهد : أى قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.

وقال ابن عباس : الذى آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.

والرقيم .. هو الحجر الذى رقّم عليه أنه رمز لمأواهم ، ليكونوا عبرة ، وليكونوا دليلا ناطقا على الإيمان بالبعث والنشور ، وإن الذين يجحدون بهما يرونهما عيانا فيهم ، إذ بعثهم الله سبحانه وتعالى ، وقد حسبوا أنهم مضى عليهم يوم أو بعض يوم.

__________________

(١) انظر السيرة النبوية ، وابن كثير فى تفسيره لسورة الكهف ، وانظر تفسير الطبرى فى تفسير السورة.

٣٦١

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً)

يخبر تعالى عن أولئك الفتية ، الذين فرّوا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فهربوا منهم فلجئوا إلى غار فى جبل ، ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم .. (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أى هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا.

(وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أى وقدّر لنا من أمرنا هذا رشدا ، أى اجعل عاقبتنا رشدا.

كما جاء فى قول النبى المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا» وكان صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربّه : «اللهم أحسن عاقبتنا فى الأمور كلّها وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة».

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أى ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشترى لهم بها طعاما يأكلونه ، ولهذا قال : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أى المختلفين فيهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أى عددا وغاية.

هذا إجمال القصة كما لخّصها القرآن الكريم. ثم شرع القرآن فى بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا : رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [الكهف : ١٣ ـ ١٦]

٣٦٢

يقول : إنهم فتية وهم الشباب ، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ ، الذين قد عتوا وانغمسوا فى دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل.

وهكذا أخبر الله عن أصحاب الكهف ، أنهم كانوا فتية شبابا ، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم ، فآمنوا بربهم ، واعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلّا هو.

(وَزِدْناهُمْ هُدىً ..) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة ـ كالبخارى ـ ممّن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ، ولهذا قال سبحانه (وَزِدْناهُمْ هُدىً) كما قال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)

وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم. والظاهر أنهم كانوا قبل ملّة النصرانية بالكلية ، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم ، لمخالفتهم لهم. وقد ذكرنا ـ من قبل ـ أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثوا إليه أن يسألوه عن أمور ثلاثة ، من بينها خبر هؤلاء الفتية ، فدلّ هذا على أن هذا أمر محفوظ فى كتب اليهود ، وأنه مقدم على دين النصرانية ، والله أعلم. (١)

وقوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٣ / ٧٤

٣٦٣

أى وصبّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد ، والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين ، أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما فى بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع فى السنة يجتمعون فيه فى ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبّار عنيد يقال له «دقيانوس» ، وكان يأمر الناس بذلك ، ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذى يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم ، والذبح لها لا ينبغى إلّا لله ، الذى خلق السموات والأرض ، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه ، وينحاز منهم ، ويبتعد عنهم من ناحية ، فكان أول من جلس منهم أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس إليها عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر .. وجاء الآخر ـ ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذى جمع قلوبهم على الإيمان ـ كما جاء فى الحديث الذى روته أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها : قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف».

والغرض .. أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفا منهم ، ولا يدرى أنهم مثله ، حتى قال أحدهم : تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم ، وأفردكم عنهم إلا شىء ، فليظهر كل واحد منكم بأمره ، فقال آخر : أما أنا فإنى والله رأيت ما قومى عليه فعرفت أنه باطل ، وإنما الذى يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا هو «الله» الذى خلق السموات والأرض وما بينهما.

وقال الآخر : وأنا والله وقع لى كذلك ، وقال الآخر : كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدا واحدة ، وإخوان صدق ، فاتخذوا

٣٦٤

لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه ، فسألهم عن أمرهم ، وما هم عليه فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عزوجل ، ولهذا أخبر تعالى بقوله :

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أى لا يقع منا هذا أبدا ، لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ، ولهذا قال عنهم (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أى باطلا وكذبا وبهتانا.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أى هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يقولون بل هم ظالمون كاذبون فى قولهم ذلك ...

فيقال : إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم ، وتهدّدهم وتوعّدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم ، الذى كان عليهم من زينة قومهم ، وأجّلهم لينظروا فى أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذى كانوا عليه .. وكان هذا من لطف الله بهم. فإنهم فى تلك الفترة توصّلوا إلى الهرب منه ، والفرار بدينهم من الفتنة ..

وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن فى الناس ، أن يفر العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء فى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» ففى هذه الحال يشرع العزلة عن الناس.

فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك ، وأخبر عنهم بذلك فى قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أى وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانهم فى عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضا بأبدانكم. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أى يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أى أمرا ترتفقون به.

٣٦٥

فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف ، فآووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم ، وتطلّبهم الملك فلم يظفر بهم ، وعمّى الله عليه خبرهم ـ كما فعل بنبيّه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصاحبه الصدّيق حين لجآ إلى غار «ثور» ، وجاء المشركون من قريش فى طلبهم ، فلم يهتدوا إليه ، مع أنهم يمرّون عليه ، وعندها قال النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين رأى جزع الصدّيق فى قوله : يا رسول الله : لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدميه لأبصرنا .. فقال : يا أبا بكر .. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟.

وقد قال الله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠]

* فقصة غار ثور أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة غار أصحاب الكهف المسمى (حيزم)

وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ، ووقفوا على باب الغار الذى دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم ، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ، ففعلوا ذلك.

ويبدو أن ذلك ليس صحيحا ، لأن القرآن الكريم قد أخبر أن الشمس كانت تدخل عليهم فى الكهف بكرة وعشيّا.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ ، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧]

٣٦٦

فهذا فيه دليل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، لأن الله تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) أى يتقلص الفىء يمنة ، كما قال ابن عباس (تزاور) أى تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت فى الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شىء عند الزوال فى مثل ذلك المكان. ولهذا قال سبحانه : (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أى تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه.

وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.

وبيان ذلك : أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شىء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شىء عند الطلوع ، ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفىء ـ أى مال ـ يمينا وشمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ، ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعيّن ما ذكرناه (١) وهنا مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها ...

* أين مكان هذا الكهف .. ولماذا لم يحدد القرآن مكانه؟

* لم يخبرنا الحق سبحانه بمكان هذا الكهف فى أى البلاد من الأرض ـ إذ لا فائدة لنا فيه ، ولا قصد شرعى. ولو كان لنا فيه مصلحة دينية ، لأرشدنا الله تعالى ، ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليه ، فقد قال النبى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تركت شيئا يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النّار إلّا وقد أعلمتكم به».

__________________

(١) ابن كثير ٣ / ٧٤

٣٦٧

فأعلمنا الله سبحانه وتعالى بصفة الكهف ولم يعلمنا بمكانه ، فقال سبحانه :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) أى تميل (ذاتَ الْيَمِينِ ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أى تتركهم (ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أى فى متسع منه داخلا بحيث لا تصيبهم ، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) حيث أرشدهم إلى هذا الغار ، الذى جعلهم فيه أحياء ، والشمس والريح تدخل عليهم لتبقى أبدانهم ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) ثم قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ..) الآية .. أى هو الذى أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادى له.

هذا وقد تكلّف بعض المفسرين ، فذكروا أقوالا عن مكان الكهف ..

فقد قيل : إنه قريب من أيلة ، وقيل : هو عند نينوى ، وقيل : فى بلاد الروم ، وقيل : ببلاد البلقاء ، والله أعلم بأى بلاد الله هو.

* لماذا لم تبل أجسامهم وعيونهم؟

ذكر بعض أهل العلم أنه لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ، ولهذا قال سبحانه (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)

وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه ، وهو راقد ، كما قال الشاعر :

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى

بأخرى الرّزايا فهو يقظان نائم

٣٦٨

وقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) قال بعض السلف : يقلبون فى العام مرتين ، لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.

وقوله (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) قال ابن عباس : الوصيد : الفناء وهو الباب ، أى ربض كلبهم على الباب ، كما جرت به عادة الكلاب.

قال ابن جريج : يحرس عليهم الباب ، وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم وكان جلوسه خارج الباب ، لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ـ كما ورد فى الصحيح ـ ولا صورة ولا جنب ولا كافر. وشملت بركتهم كلبهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.

وقد قيل إنه كان كلب صيد لأحدهم ـ وهو الأشبه ـ وقيل كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه.

ويذكر المفسرون للكلب إسما ..

فقد روى عن الحسن البصرى أنه قال : «كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام «جرير» واسم هدهد سليمان عليه‌السلام «عنفر» واسم عجل بنى إسرائيل الذى عبدوه «يهموث» ، واسم كلب أصحاب الكهف «قطمير» وقد سماه شعيب الجبائى «حمران».

واختلفوا فى لونه على أقوال .. لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ، ولا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ، بل هى مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب.

* لماذا ألقى الله المهابة عليهم؟

إن الحق سبحانه وتعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليه إلّا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد ، ولا تمسهم يد لامس حتى

٣٦٩

يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضى رقدتهم التى شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له فى ذلك من الحكمة والحجة البالغة ، والرحمة الواسعة. وفى ذلك يقول سبحانه : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) [الكهف : ١٨]

ثم كان مبعثهم على صورتهم الحقيقية كما كانوا؟

يقول تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أى كما أرقدناهم بعثناهم ، صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم ، لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئا ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، ولهذا تساءلوا بينهم (كَمْ لَبِثْتُمْ) أى كم رقدتم ، (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنه كان دخولهم إلى الكهف فى أول نهار ، واستيقاظهم كان فى آخر نهار ، ولهذا استدركوا فقالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ـ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أى الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تردد فى كثرة نومهم.

* ثم عدلوا إلى الأهم فى أمرهم : إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف : ١٩]

أى فابعثوا أحدكم بنقودكم الفضية هذه ، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدّقوا منها ، وبقى منها ، فلهذا قالوا (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أى مدينتكم التى خرجتم منها ـ والألف واللآم للعهد ـ (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أى أطيب طعاما.

(وَلْيَتَلَطَّفْ) أى فى خروجه وذهابه وشرائه وإيابه ، يقولون وليختف كل ما يقدر عليه

٣٧٠

(وَلا يُشْعِرَنَ) أى ولا يعلمن (بِكُمْ أَحَداً ، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) [الكهف : ٢٠]

أى إن علموا بمكانكم (يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يعنون أصحاب «دقيانوس» ، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم فى ملتهم ، التى هم عليها ، أو يموتوا ـ وإن وافقتموهم على العود فى الدين فلا فلاح لكم فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ولهذا قال (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً.)

والسؤال الآن : ما الحكمة فى أن الحق سبحانه بعثهم على هذه الحالة؟

يجيب سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أى أطلعنا عليهم الناس ليعلموا أن البعث حق ، والنشور حق ، والحساب حق ، وأن القيامة لا ريب فيها ، ذكر بعض السلف : أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك فى البعث ، وفى أمر القيامة ، وكان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فبعث الله أهل الكهف ـ بأرواحهم وأجسادهم ، حجة ودلالة وآية على ذلك.

ذكروا .. أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة فى شراء شىء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشى فى غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها (أفسوس) وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التى يعرفها ، ولا يعرف أحدا من أهلها ـ لا خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحيّر فى نفسه ، ويقول لعل بى جنونا أو مسّا أو أنا حالم ، ويقول :

والله ما بى شىء من ذلك ، وإن عهدى بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة ، ثم قال : إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لى ، ثم عمد إلى

٣٧١

رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النقود ، وسأله أن يبيعه بها طعاما ، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها ، وأنكر ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ، ويقولون .. لعل هذا وجد كنزا ، فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النقود ، لعله وجدها من كنز ، وممن أنت؟ .. فجعل يقول : أنا من أهل هذه البلدة ، وعهدى بها عشية أمس ، وفيها دقيانوس ، فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى ولىّ أمرهم ، فسأله عن شأنه ، وخبره ، حتى أخبره بأمره ، وهو متحيّر فى حاله ، وما هو فيه.

فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال لهم دعونى حتى أتقدمكم فى الدخول لأعلم أصحابى ، فدخل ، فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره.

ويقال : بل دخلوا عليهم ورأوهم ، وسلم عليهم الملك ، واعتنقهم ـ وكان مسلما فيما قيل ، واسمه «تندوسيس» ففرحوا به وآنسوا بالكلام ، ثم ودّعوه وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله عزوجل.

فقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ..) الآية ـ أى كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ، إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) فى أمر القيامة ، فمن مثبت لها ، ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أى سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم.

٣٧٢

* ما عددهم؟

يقول الحق سبحانه مخبرا عن اختلاف الناس فى عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، فدلّ على أنه لا قائل برابع .. (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢]

ولما ضعّف القولين الأولين بقوله عزوجل (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أى قول بلا علم ، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب ، وإن أصاب فبلا قصد.

ثم حكى القول الثالث ، وسكت عليه وقرره بقوله (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فدل على صحته ، وأنه هو الواقع فى نفس الأمر.

ذكروا أن المعاصرين للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اختلفوا فى عددهم ، فقال جماعة : هم ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقالت جماعة أخرى هم خمسة سادسهم كلبهم ، وهم فى هذا يقذفون بالغيب على غير هدى ظنّا منهم لا يقين معه ، وقال جماعة (سبعة وثامنهم كلبهم) قل يا محمد لهم : ربى أعلم بعددهم لا يعلمه إلا القليل ، وأكثر علم أهل الكتاب على ظن وتخمين.

قال الزمخشرى فى كشافه : (فما هذه (الواو) الداخلة على الجملة الثالثة (سبعة وثامنهم كلبهم) ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ الجواب : هى الواو التى تدخل لتأكيد إتصال ما بعدها بما قبلها ، وللدلالة على أن الذين قالوا (سبعة وثامنهم كلبهم) قالوه عن ثبات وعلم وطمأنينة ، لم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم. وأصحاب هذا الرأى مؤمنون ، قالوه مستندين إلى الوحى بدليل عدم سلكه فى سلك الرجم بالغيب ، وتغير النظم بزيادة الواو.

٣٧٣

وقوله عزوجل (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٢٢]

فهذا إرشاد إلى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض فى مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به ، وإلّا وقفنا.

وقوله (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أى من الناس ، فما تمار فيهم ، ولا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا لا عمق فيه ، ولا تستفت فى شأنهم أحدا منهم ، ولا تقولن لأجل شىء تعزم على فعله إنى فاعله غدا ، لا تقولن ذلك فى حال من الأحوال ، إلا فى حال ملابسته بمشيئة الله تعالى على الوجه المعتاد ـ على معنى سأفعل ذلك غدا ـ إن شاء الله.

* وسؤال أخير : كم لبثوا فى كهفهم هذا؟

أجاب الحق سبحانه بقوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف : ٢٥] أى أنهم لبثوا فى كهفهم ، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم أحياء ، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان أعواما مقدارها (ثلاثمائة سنة) تزيد (تسع سنين) بالهلالية ـ أى القمرية ، وهى ثلاثمائة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال سبحانه بعد الثلثمائة (وَازْدَادُوا تِسْعاً) ـ ثم قال سبحانه : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أى إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم فى ذلك وتوقيف من الله تعالى ، فلا تتقدم فيه بشىء ، بل قل فى مثل هذا (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ـ لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى لا يعلم ذلك إلّا هو أو من أطلعه عليه من خلقه.

* فهذه قصة فريدة من نوعها فى التاريخ ، أراد القرآن منها تجسيد التجربة الإيمانية فى الفتية ، الذين فروا بإيمانهم إلى الكهف ، ولبثوا فيه مئات السنين ،

٣٧٤

وكانوا دليل التجربة للآخرين ـ إذ بعثهم الله من مرقدهم على خلاف العادة ، والطبيعة الإنسانية ، فلم يسبق أن نهض أحد من مرقده بعد سنوات معدودات ، فكيف بمئات السنين ، ليؤكد الحق سبحانه قضية البعث والنشور.

إن الباحث المتأمل فى كتاب الله الكريم ـ يجد لهذه القصة المثيرة مشاهد تذكر وكأنها ترى وكأن الإنسان يعاين وقائعها ، فى أسلوب قرآنى قصصى ، تؤخذ منه مغزى القصة فى غير التباس ولا ارتياب.

* المشهد الأول : إيواء فتية آمنوا بربهم ، وزادهم الله تعالى هدى ، وقد فروا من الوثنية إلى الوحدانية ، ومن الوثنيين إلى جوار ربهم ، وقد ربط الله على قلوبهم ، فاستمسكوا بإيمانهم ، واعتصموا بربهم ، وكان الإيمان قد سكن وعاء القلوب ، فربط الله تعالى بالصبر حتى لا يخرج من وعائه الذى استقر فيه ، واطمأن ، فلا يتشعع أمام أى حادث ، وإن الإيمان إذا سكن ، واطمأنوا ، كانت رحمة الله تعالى أن ضرب على آذانهم ، بمعنى أنه خيّم عليها ، فأصبحت لا تسمع لغو الحديث ، وإنهم إذ آووا إلى الكهف ، قطعهم الله تعالى عن لغو الوثنية ، وظلم أهلها ، فاجتمع لهم الإنزواء عن الناس ، والبعد عنهم بالحسّ ، فلا يرون الناس ، ولا يسمعون عنهم ، وصاروا فى غيبوبة كأنهم الموتى ، وليسوا أمواتا ، قال فيهم الحق سبحانه : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ.) وكل ذلك فى تصوير قصصى ، كأن التالى للقرآن يراهم ، وهم يهرعون إلى الكهف ، يأوون راجين الرحمة والرشاد ، مبتعدين عن الآثام ، وما فى الدنيا ، وقد زادهم الله تعالى فجعلهم رقودا.

وهنا نجد الصورة واضحة .. أن أناسا يظن أنهم أيقاظ ، وهم رقود ، وقد بقوا على ذلك سنين عددا تجاوزت الثلاثمائة .. هذا عن المشهد الأول.

٣٧٥

* أما المشهد الثانى : فهو بعثهم أحياء ، وقد اختلف الناس فى أمر المدة التى استمروها فى الكهف ، وقد مرت الأجيال ، وهم يحسبون أنهم أيقاظ ، فقد استمروا كما ذكر القرآن (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.)

ويجيىء بعد البعث الكلام فى المدة التى مكثوها ، والسبب فى اختيارهم مأواهم. فقصّ الله خبرهم بالحق تفصيلا ، بعد أن ذكره إجمالا ، لقد قاموا من نومهم ، وهم يرددون إيمانهم بالله تعالى ، واعتراضهم على أقوامهم ، ويحكون ما كان منهم مع أقوامهم : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ،) وأن قومهم اعتزلوهم ، وهم لا يعبدون إلّا الله تعالى.

ونرى الصورة القصصية واضحة بيّنة ، هادية مرشدة ، تصور الملاحاة بينهم وبين أقوامهم ، حتى اعتزلوهم معتصمين بربهم مؤمنين به ، وهذا المشهد كل أجزائه واضحة ، حتى إنه يصور الكهف ومن فيه ، وخرجوا منه فى مشهد واضح بيّن ، هو كالعيان بتصوير القرآن الكريم.

* والمشهد الثالث : هو منظرهم داخل الكهف ، وهم رقود ، وحال الكهف وصورته ..

فهم فى فجوة منه ، يتجهون فيه إلى الشمال والشمس تخرج لهم من الشرق يمينا ، وتودع الكون فى غربهم ، فالشمس والهواء يحيطان بهم ، وذلك أصلح مكان ، إذ يستقبل الشمس فى غدوها طالعة وفى غروبها رائحة ، والهواء من البحر يجيىء إليهم فينعشهم نسيمه العليل.

فأسباب الحياة الطيبة قائمة ومهيأة لهم وهم رقود ، وإن كان الرائى يحسبهم أيقاظا. والوصف القصصى مصورا للمكان ، كأن القارىء للقرآن يراه ، وهو يتلو كتاب الله تعالى.

٣٧٦

ثم إنهم فى هذه المنامة يتقلّبون كالأيقاظ الأحياء ، بإرادة الله تعالى ، وأمره الكونى.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ.)

ولا يترك القرآن العظيم من الصور المكانية شيئا إلّا بيّنه وصوّره ، فيذكرهم وكلبهم يحرسهم ، وهو بالوصيد ، وهى فجوة بالجبل الذى فيه الكهف.

فالتصوير القرآنى لهذا المشهد .. كامل ، يرى فيه القارىء صورة للمكان ، وكأنها مصورة بصورة باهرة ، وليست كلاما متلو ، ولكنه كلام الله العزيز الحكيم. وإن المكان فيه رهبة ، وحالهم فيه هيبة (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)

* أما المشهد الرابع والأخير ـ الذى تصوره القصة ، وقصص القرآن كله حق لا ريب فيه ، فهو مشهد التيقظ بعد الرقدة ، مشهدهم وقد رأوا الحياة اللآغبة التى كانوا عنها غافلين ، وكانوا فيها راقدين ، وأول سؤال توجهوا به ـ سألوا به أنفسهم ، كم لبثوا فى منامهم؟ وقد سألهم هذا السؤال واحد منهم ، فقالوا كأنهم مجمعون ـ لبثوا (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ولكنهم كشأنهم لم يتخبطوا ، ولعلهم ظنوا أن المدة أطول من ذلك ، ولذلك قالوا (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ)

وهنا نجدهم يتجهون إلى الحياة ، يطلبون رزقهم ، ومعهم نقود فضية ، قد ضربت منذ تسع وثلاثمائة سنة ، تكشف للناس عن أمرهم ، وكانوا ككل أهل الإيمان أهل تسامح ، فقد طلبوا من مبعوثهم أن يتلطف ، وألا يشعر بهم أحدا ، حتى لا يكون منهم أذى. ويظهر أنهم بهذه النقود عثر الناس على أمرهم ، وعرفوا حقيقتهم ، وكان إلهام الله بذلك ، ليعرف الناس حقيقتهم ، وتكون حياتهم فى الكهف ، ورقدتهم فيه ، دليلا محسوسا على أن وعد الله بالقيامة حق ، وهذه كلها مشاهد فى القصة تعاين فيه أحداثها فى قصص محكم.

٣٧٧

أن قصة أصحاب الكهف فريدة فى نوعها ـ فى تاريخ العقيدة ، سجلها القرآن ، إثباتا للبعث والنشور .. وأنه حق .. بعث بالأجسام والأرواح .. وكان أصحاب الكهف هم البرهان الأكيد على أن الله يبعث من فى القبور.

بقى أن نقول إن السورة التى احتفلت بقصة أصحاب الكهف ، قد سميت باسمهم تكريما وتخليدا ، وقد فضلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال فى فضلها ـ فيما رواه عنه ابن عمر : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت أقدامه إلى عنان السماء ، يضيىء له يوم القيامة ، وغفر له ما بين الجمعتين». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه عنه أبو سعيد الخدرى : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق».

٣٧٨

الفصل الرابع عشر

رسول الله .. ورسالته .. فى القرآن

جرت سنّة الله تعالى فى خلقه ، أن يبعث رسله حين تشتد حاجة البشرية إليهم ، وحين يضلّ الناس عن سبيل الله ، وعن صراطه المستقيم ، الذى يصلهم بربهم ، ويعرفهم ما ينجيهم فى دنياهم وأخراهم .. فإنهم لا يهتدون إلى ما يفيدهم فيهما ، وهى مغيّبة عنهم إلا برسول ، كما لا يهتدون فى الدنيا إلى ما ينجيهم من سمومها إلا بطبيب.

وجريا على هذه السنة ، أرسل الحق سبحانه رسوله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى العالم كله ، وإلى الناس كافة ، بعد أن فسدوا وضلّوا ، واختلفوا وتقاطعوا وتخاصموا ، وبعد أن اشتدت الحاجة إلى رسالة تصلح العقائد ، وتداوى النفوس ، وتؤلف بين القلوب ، وتربط الناس بعضهم ببعض ، وتوجههم جميعا فى وحدة منسجمة متآلفة إلى بارئهم ، وخالقهم ، ليقوموا بواجب الشكر له على ما أنعم به عليهم ، وأسداه إليهم ، وما أرسل به رسوله من عقائد صافية ، وعبادات هادية ، ومعاملات حكيمة ، وأخلاق كريمة ، وتشاريع قويمة ، تقوم على أساس من الحق والخير والفضيلة.

ومنذ بداية البعثة المحمدية .. إلتزم القرآن العظيم بالتحدث عن شخصية هذا الرسول ، المبعوث رحمة للعالمين ، والتعريف به ، وبمهمته ، وبرسالته ، حتى لقد كان الرسول جزءا لا يتجزأ من الرسالة ، والرسالة صورة ناصعة لما أهّل الله به رسوله النبى الأمىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٧٩

* ارتبط التعريف برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأمور :

ارتبط أولا : بنوعية القوم الذين يتحدث إليهم القرآن.

وارتبط ثانيا : بموقفهم من دعوته ، ومبلغ تصديقهم أو تكذيبهم برسالته.

وارتبط ثالثا : بمبلغ ما يذيعونه ويفترونه لتشويه الدعوة ، وإثارة الشكوك فى نفوس الناس.

ـ فنقطة البداية .. التعريف بالرسول فى نطاق الصراع العقيدى مع القوم الذين بعث إليهم ، وهم أبناء عشيرته الأقربون. لذلك جاء التعريف ليس لمجرد الذكر ، وإنما لهدف أسمى وهو : تأييد الدعوة ، وتأكيد الرسالة .. وإظهار الحجة :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨]

فالآية الكريمة تقرب الرسول محمدا من المخاطبين ، فتقول إنه من أنفسكم ، ثم تجمع بينه وبينهم فى هذا الجانب العاطفى ، من أنه يخشى عليكم العنت ، ويحرص عليكم ، ويرأف بالمؤمنين برسالته الجديدة ويرحمهم ، وهذه السمات المميزة لا تراد لذاتها ـ كما هو واضح ـ ولكنها لتمكين الدعوة من نفوس المخاطبين.

ويقدم القرآن صورة واضحة عن مهمته ورسالته :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : ٢].

إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الأميين أنفسهم ، ميزته أنه يتلو عليهم آيات الله ، ويزكهم ويعلمهم القرآن والسنة ، لأنهم كانوا فى ضلال.

٣٨٠